المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

‌البيع بالتقسيط

المحور الثاني

توثيق الدين في الفقه الإسلامي

إعداد

الدكتور نزيه كمال حماد

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

لا يخفى أن الالتزام بالدين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعقود والمعاملات المالية التي يبرمها الأفراد والهيئات ويتفقون عليها، ويترتب على كثير منها، وينشأ عنها

ومن هنا كانت دراسة " توثيق الدين " في الفقه الإسلامي من أهم الأمور المتعلقة بمداينات الناس وعقودهم التي تتضمن ثبوت الدين في ذمة أحد العاقدين أو تُسَبِّبُهُ.. لأن غرض التوثيق ومقصده أن يحفظ لصاحب الدين حقه، وأن يمكنه من بلوغه والحصول عليه، وأن يدفع عنه مفسدة تواهه وضياعه، أو جحوده، وإنكاره، أو العجز عن إثباته واستيفائه..

وسنتناول في هذه الدارسة طرق توثيق الدين الشرعية في أربعة فصول، يسبقها تمهيد في معنى توثيق الدين وحقيقته.

والله المسؤول أن يجعله لوجهه خالصًا، وينفع به مؤلفه وقارئه في الدنيا والآخرة، إنه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، منه سبحانه الاستمداد، وعليه وحده التوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 660

تمهيد

معنى توثيق الدين:

(أ) في اللغة:

1 – التوثيق في اللغة: معناه الإحكام، من وَثَّقْتُ الشيءَ توثيقًا فهو مُوَثَّقٌ: أي أحكمته (1)، قال ابن فارس: في " معجم مقاييس اللغة ": " الواو والثاء والقاف كلمة تدل على عقد وإحكام "(2) ، ومن هنا سمي العهد ميثاقًا وموثقًا لما فيه الإحكام والثبوت، وقال ابن القطاع: وثقت بالشيء، أي اعتمدت عليه (3) .

والأمر الوثيق: هو الثابت المحكم، ووثقت به أثق ثقة ووثوقًا: ائتمنته (4) والوثيقة في الأمر: إحكامه والأخذ بالثقة. والجمع الوثائق (5) .

(ب) في الاصطلاح الفقهي:

2 – ذكر الإمام إلكيا الهراسي في كتابه " أحكام القرآن " أن معنى الوثيقة في الديون " ما يزداد بها الدين وكادة "(6) .. ثم إننا بعد تتبع استعمال الفقهاء لمصطلح " توثيق الدين " وجدنا أنهم يطلقونه على أمرين:

(أحدهما) تقوية وتأكيد حق الدائن فيما يكون له في ذمة المدين من مال بشيء يعتمد عليه – كالكتابة أو الشهادة – لمنع المدين من الإنكار وتذكيره عند النسيان، وللحيلولة دون ادعائه أقل من الدين أو ادعاء الدائن أكثر منه أو حلوله أو انقضاء الأجل ونحو ذلك، بحيث إذا حصل نزاع أو خلاف بين المتعاملين، فيعتبر هذا التوثيق وسيلة قوية يحتج بها لإثبات الدين المتنازع فيه أمام القضاء (7) .

(1) لسان العرب: 10/371؛ معجم مقاييس اللغة: 6/85؛ وطلبة الطلبة: ص140.

(2)

معجم مقاييس اللغة: 6/85.

(3)

المطلع للبعلي: ص247.

(4)

المصباح المنير: 2/802؛ والمغرب، للمطرزي: ص476.

(5)

لسان العرب: 10/371.

(6)

أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/421.

(7)

انظر وسائل الإثبات، للدكتور محمد الزحيلي: ص31.

ص: 661

بين التوثيق والإثبات:

3 – ويلاحظ من مفهوم " توثيق الدين " هذا وجود علاقة بينه وبين " إثبات الدين " وذلك لأن فائدة التوثيق الأساسية هي إثبات الحق المتنازع فيه أمام القضاء، ولأن التوثيق ليس إلا إعدادًا مقدمًا للإثبات، ولأن التوثيق والإثبات كلاهما يهدف إلى غاية واحدة ويرمي إلى مقصد واحد، وهو حماية الحقوق، ومنع التلاعب بها، والقضاء بها لأصحابها، وقطع دابر المنازعة والخصومة بين الناس.. غير أن بينهما فرقين مهمين:

أحدهما: أن التوثيق يعتبر مقدمة للإثبات حيث إنه يوجد عند إنشاء التصرف المقتضي ثبوت الدين في الذمة ولهذا فهو يسبق الإثبات بينما يكون الإثبات لاحقًا به، وقائمًا عليه، ومرتكزًا على أساسه، ومترتبًا على وجوده.

والثاني: أن توثيق الدين بالطرق التي تقوِّيه وتؤكده وتحكمه يمثل بعض وسائل إثبات الدين لا كلها، حيث إن للإثبات، طرقًا أخرى تعتبر حججًا معتبرة يحكم بموجبها في القضاء.

وعلى هذا فيعتبر " توثيق الدين " حادثًا سببًا مولدًا للإثبات المعتمد عليه فحسب، وبينه وبين الإثبات الحاصل به ما بين المؤثر والأثر من العلاقة واختلاف المفهوم.

(والأمر الثاني) تثبيت حق الدائن فيما يكون له في ذمة المدين من مال وإحكامه بحيث يتمكن عند امتناع المدين عن الوفاء – لأي سبب من الأسباب – من استيفاء دينه من شخص ثالث يكفل المدين بماله أو من عين مالية يتعلق بها حق الدائن وتكون رهينة بدينه.

ويلاحظ من مفهوم التوثيق هذا أن تقوية وتأكيد حق الدائن في دينه لا يرجع إلى اعتماده على وسيلة إثبات يحتج بها أمام القضاء للوصول إلى حقه كما هو الشأن في الإطلاق الأول، ولكنه يرجع إلى اعتماده على وثيقة تضمن حق الدائن ويستطيع استيفاءه منها، وهي الكفيل أو الرهن.

ص: 662

موقع توثيق الدين بين مقاصد الشريعة:

4 – لقد ثبت بالاستقراء والتتبع للأحكام الشرعية وغاياتها أن المولى عز وجل قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات (1) .

وقد ذكر الإمام الشاطبي في " الموافقات " أن توثيق الدين يعد من قبيل التكملة والتتمة لمصلحة ضرورية أو حاجية، وذلك حسب اعتبار المعاملة المنشئة للدين المراد توثيقه وما تقتضيه.. فإن كانت داخلة تحت الضروريات لتوقف المحافظة على إحدى المصالح الضرورية – وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال – عليها، فإن توثيق الدين في هذه الحالة يعد من قبيل مكملات الضروريات.

أما إذا كانت تلك المعاملة المنشئة للدين معتبرة من قبيل الحاجيات، لكون المقصود بها دفع الحرج والعنت والمشقة عن المكلف وحسب، فإن توثيق الدين في هذه الحالة يعد من مكملات الحاجيات.

هذا، وحيث إن المجتهد قد يتردد في إلحاق بعض المعاملات بالمصالح الضرورية أو الحاجية، على حسب الأحوال والاعتبارات، فإنه تبعًا لذلك قد يتردد في اعتبار توثيق الدين مكملًا لمصلحة ضرورية أو مكملًا لمصلحة حاجية (2) .

طرق توثيق الدين:

5 – يحتاج الدائن في أكثر الظروف والأحوال إلى أن يستوثق لدينه، وذلك خوفًا من ضياعه أو جحوده أو نسيانه أو العجز عن استيفائه، وطرق توثيق الدين عند الفقهاء أربعة: البينة الخطية (الكتابة) ، والبينة الشخصية (الشهادة) ، والكفالة،والرهن (3) ، وسنتناول بالبيان كل واحد منها في فصل مستقل.

(1) الموافقات، للشاطبي 2/37.

(2)

الموافقات: 2/12، 13.

(3)

أحكام القرآن، لإليكا الهراسي: 1/387.

ص: 663

الفصل الأول

البينة الخطية (الكتابة)

وسنتكلم فيه عن مشروعيتها وحجتها وصور توثيق الدين بها، وحكمها.

(أ) مشروعيتها:

6 – قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (1) .

فقد دلت الآية الكريمة على مشروعية توثيق الدين بالكتابة المبينة له، المُعْرِبَةُ عنه، المعرفة للحكم بما يحكم عند الترافع إليه، وذلك في صك موضح للدين بجميع صفاته (2) ، وحكمة ذلك كما قال العلامة ابن العربي " ليستذكر به عند أجله، لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل، فالنسيان موكل بالإنسان، والشيطان ربما حمل على الإنكار، والعوارض من موت وغيره تطرأ، فيشرع الكتاب والإشهاد "(3) .

(ب) حجيتها:

7 – لقد اختلف الفقهاء في حجية الكتابة في توثيق الديون على قولين:

* فذهب الشافعي ومالك وأحمد في رواية عنه وجماعة من الفقهاء إلى أنه لا يعتمد على الخط المجرد إذا لم يُشْهَدْ عليه، لأن الخطوط تشتبه والتزوير فيها ممكن، وقد تكتب للتجربة أو اللهو.. ومع قيام هذه الاحتمالات والشبهات لا يبقى للخط المجرد حجة ولا يصلح للاعتماد عليه، أما إذا أشهد عليه، فيعتبر وثيقة وحجة، لأن الشهادة ترفع الشك وتزيل الاحتمال (4) .

* وذهب جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى صحة توثيق الدين بالكتابة، وأنها بينة معتبرة في الإثبات إذا كانت صحيحة النسبة إلى كاتبها (5) .

قال الجصاص في " شرح أدب القاضي ": " الأصل في هذا الباب أن الكتاب يقوم مقام عبارة المكتوب من جهته وخطابه "(6) .

(1) الآية 282 من سورة البقرة.

(2)

أحكام القرآن، لابن العربي: 1/248.

(3)

أحكام القرآن، لابن العربي: 1/247.

(4)

طرح التثريب: 6/191، لأبي علي؛ وصحيح مسلم: 4/338؛ وأدب القاضي، للماوردي: 2/98؛ وأصول السرخسي: 1/358؛ وكشف الأسرار على أصول البزدوي: 3/52؛ والمهذب: 2/305؛ ورد المحتار: 4/352؛ وتكملة رد المحتار: 1/59؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص217؛ ومعين الحكام: ص125؛ والطرق الحكمية: ص204 وما بعدها، مرقاة المفاتيج:3/397؛ والإشراف على مسائل الخلاف:2/280؛ وكشاف القناع 4/373؛ وشرح منتهى الإرادات2/539؛ والطريقة المرضية لجعيط ص186؛ ومجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة للقاري م (2280) .

(5)

الطرق الحكمية، لابن القيم: ص205؛ وكشاف القناع: 4/373؛ وشرح منتهى الإرادات 2/539؛ وكشف الأسرار على أصول البزدوي: 3/52، 53؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر: 4/137؛ وتبصرة الحكام، لابن فرحون 1/363؛ ومعين الحكام: ص 125؛ وفتح العلي المالك: 2/311.

(6)

شرح أدب القاضي، للجصاص: ص 254.

ص: 664

وقال ابن تيمية: " والعمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف "(1) .

وقال ابن فرحون في " تبصرة الحكام ": " وإن قال لفلان عندي أو قلبي كذا وكذا بخط يده قضي عليه به؛ لأنه خرج مخرج الإقرار بالحقوق "(2) .

وجاء في " كشاف القناع " للبهوتي: " قال في الاختيارات " وتنفذ الوصية بالخط المعروف، وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب الإمام أحمد " (3) .

وقال صديق حسن خان: " قد ثبت العمل بالخط بالأدلة المتكاثرة من الكتاب والسنة والإجماع.. ومن الحاكين لإجماع الصحابة على العمل بالخط الرازي في المحصول: وأما من يعد الصحابة فيدل عليه إجماعهم الفعلي على الاحتجاج بذلك والعمل به في معاملاتهم وفي المصنفات "(4) .

وعلى هذا جرت مجلة الأحكام العدلية، فاعتبرت كتابة الدين حجة في توثيقه وبينة لإثباته، لأن المرء مؤاخذ بإقراره الواقع بالكتابة كما هو مؤاخذ على إقراره الواقع بلسانه سواء حصل الإقرار من الناطق أو الأخرس، وسواء كان بطلب الدائن أو من غير طلبه (5) .. وجاء في م (1606) : منها: " الإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان ".

(1) مختصر الفتاوى المصرية: ص601.

(2)

تبصرة الحكام: 1/363.

(3)

كشاف القناع: 4/373؛ وانظر الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: ص190.

(4)

ظفر اللاضي فيما يجب في القضاء على القاضي: ص130، 131.

(5)

دور الحكام: 4/137.

ص: 665

8 – وهذا الرأى هو الأرجح والأولى بالاعتبار

والدليل على ذلك: (أولًا) ما روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده ومالك في الموطأ وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه قال: ((ما حق امرء مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)) (1)

فقد اعتمد عليه الصلاة والسلام الكتابة من غير زيادة عليها، فدل على الاكتفاء بها وحجية الخط المجرد، إذ لو لم يكن كذلك، لما كان لكتابة وصيته فائدة (2) .

(ثانيًا) إجماع أهل الحديث على صحة اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عندهم وجواز التحديث به، ولو لم يعتمد على ذلك لضاعت أكثر الأحاديث النبوية وغالب الأحكام الفقهية؛ لأن وسيلة حفظها وتناقلها بين أهل العلم النسخ المكتوبة (3)

(ثالثًا) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم، وتقوم بها حجته، ولم يكن يشافه رسوله بمضمون كتابه، بل كان يدفعه معه مختومًا ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، ثم إن الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال درجوا على اعتماد كتب بعضهم إلى بعض دون أن يشهدوا حاملها على ما فيها أو يقرؤوه عليه، وعلى ذلك عمل الناس من زمن نبيهم إلى يومنا هذا (4) .

(رابعًا) إن الكتابة تدل على المقصود وتنبئ عنه، والخط كاللفظ في تبيين المراد والتعبير عن الإرادة، وقديمًا قالت العرب:" الخط أحد اللسانين، وحسنه إحدى الفصاحتين"، بل إن الكتابة قد تمتاز على اللفظ بالثبات والضبط، ولله در القائل:" الخط رسول الضمير، ودليل الإدارة، والمعبر عما في النفوس، والمخبر عن الخواطر، وله فضيلة بارعة ليست للَّفظ، فهو ينوب عنه في الإفصاح في المشهد، ويفضله في المغيب، إذ الخط يقرأ في الأماكن المتباينة والبلدان المتفرقة، ويُدرس في كل عصر وزمان "(5) .

فمن أجل ذلك اعتبرت الكتابة وثيقة وحجة على صاحبها بما يحتويه مضمونها (6) .

(1) انظر صحيح البخاري: 3/186؛ وصحيح مسلم: 3/1249؛ وبذلك المجهود: 13/114؛ وعارضة الأحوذي: 8/273؛ وسنن النسائي: 6/199؛ وسنن ابن ماجه 2 م 901؛ وسنن الدارقطني: 4/150؛ والموطأ: 2/761؛ ومسند الإمام أحمد: 2/10، 34، 50، 57. .

(2)

كشاف القناع: 4/373؛ والطرق الحكمية: ص206؛ وطرح التثريب: 6/191.

(3)

الطرق الحكمية: ص205. .

(4)

الطرق الحكمية: ص205، 207.

(5)

الرسالة العذراء، لإبراهيم بن المدير: ص41، 42 (بتصرف) .

(6)

أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، للدكتور محمد الزحيلي: ص194؛ والطرق الحكمية: ص206، 207.

ص: 666

(خامسًا) إن حاجة الناس إلى توثيق ديونهم بالكتابة قائمة لرفع الحرج والمشقة منهم، خصوصًا في هذا العصر حيث كثرت المعاملات المالية بين الناس وتشعبت صورها وحالاتها وتجاوزت حدود الدولة الواحدة إلى البلدان المختلفة والقارات المتباعدة، وانتشر التزام الدين فيها

فلو لم يتكن الكتابة معتمدة في توثيق الديون لتعطلت مصالح الناس، وضاع الكثير من حقوقهم وأموالهم لعدم توفر الشهود دائمًا عند كل تعامل بالدين، وحتى لو وجدوا عند المعاملة، فقد يغيبون عند التنازع والخصومة أمام القضاء أو ينسون أو يموتون قبل ذلك (1) . ولا ريب أن رفع الحرب والمشقة عن العباد من المقاصد الحاجية التي جاءت الشريعة لإيجادها وتثبيت أركانها وصونها عن كل ما يؤدي إلى الإخلال بها أو تضييعها.

ثم إن حاجة المتعاملين بالدين إلى اعتماد الكتابة في توثيق الديون تعتبر من قبيل الحاجة الخاصة التي تنزل منزلة الضرورة، حيث جاء في القواعد الفقهية الكلية "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة "(2) .

(سادسًا) إن ما استدل به المانعون من الاعتماد على الكتابة – من أن الخطوط تتشابه، وقد يدخلها التزوير والمحاكاة، وقد تكتب للتجربة أو اللهو، فلذلك لا تفيد الطمأنينة على حقيقة ما تضمنته – غير مسلم؛ إذ يرد عليه أمران:

(أ) أن الاعتماد على الكتابة لا يجري مع قيام تلك الشبهات والاحتمالات أصلًا، يقول ابن القيم:" فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه. فإذا عرف ذلك وتيقن، كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يقرض من اشتباه الصور والأصوات، وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته "(3) .

(1) أصول المحاكمات الشرعية والمدنية: ص194.

(2)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 88 و 32 من مجلة الأحكام العدلية؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص100.

(3)

الطرق الحكمية: ص207.

ص: 667

وذكر العلامة على حيدر في " درر الحكام " أن مسألة الاحتجاج بالكتابة في توثيق الدين تدور بين أصلين.

الأصل الأول: أنه لا يعتمد على الخط الذي فيه شائبة تزوير، ولا يتخذ ذلك الخط مدارًا للحكم عند المنازعة، لأنه يمكن تصنيع وتزوير الخط.

والأصل الثاني: أنه يعمل ويحتج بالخط البريء من شائبة التزوير والتصنيع، لأن أكثر معاملات الناس تحصل بلا شهود، فإن لم يعمل بالخط فإن ذلك يستلزم ضياع أموال الناس (1) .

وجاء في م (1736) من " مجلة الأحكام العدلية ": " لا يعمل بالخط والخاتم فقط، أما إذا كان سالمًا من شبهة التزوير والتصنيع، فيكون معمولًا به، أي يكون مدارًا للحكم، ولا يحتاج للإثبات بوجه آخر ".

(ب) إنهم لم يعتبروا الخط المجرد بَيّنة إذا لم يشهد عليه، مع أن التزوير قد يكون في الشهادة كما يكون في الكتابة، وربما كان في الشهادة أكثر وقوعًا.. إذ الكشف عن المحاكاة والتزوير في الخط أيسر وأسهل من الكشف عنه في شهادة الزور، وطرق مضاهاة الخطوط التي عرفها الخبراء وأتقنوها ووسائل كشف تزوير الوثائق التي أصبحت علمًا مستقلًّا وفنًّا متقدمًا يمكنها أن تنفي احتمال التزوير عن الوثائق الصادقة وتفضح الخطوط المزورة.. والمطلوب للقاضي هو ظهور الحق ولو بغلبة الظن، فمتى وجد ذلك بطريق ما وجب عليه الحكم به، وكان حكمه نافذًا مقبولًا يقول ابن القيم:" قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له "(2) .

(1) دور الحكام شرح مجلة الأحكام: 4/137.

(2)

الطرق الحكمية: ص14.

ص: 668

(ج) صور التوثيق بالكتابة:

لقد ذكر الفقهاء صورًا شتى لتوثيق الدين بالكتابة، وتلك الصور وإن كانت أمثلة على الأصل المعتبر والمبدأ المعتمد، وهو حجية الخط المجرد في توثيق الديون وإثباتها، إلا أنها تعتبر قواعد للتوثيق بالكتابة وضوابط تبين متى يكون الخط وثيقة صحيحة بالدين، ومتى لا يكون كذلك.. وبيانها فيما يلي:

الصور الأولي:

9 – إذا أَمَرَ شخص آخر بأن يكتب إقراره، فيكون ذلك الأمر إقرارًا حكمًا ولا يخفى أن الأمر إنشاء، والإقرار إخبار، وليسا بمتحدين حقيقة، فمن أجل ذلك لم يسم أمره إقرارًا حقيقة، ولكنه لما كان الإقرار حاصلًا في أمره بكتابته سمي الأمر إقرارًا حكمًا (1) .

جاء في " الدر المختار " للحصكفي: " الأمر بكتابة الإقرار، إقرار، حكمًا، فإنه كما يكون باللسان يكون بالبنان، فلو قال للصكاك: اكتب خط إقراري بألف عَلَيَّ، أو اكتب بيع داري أو طلاق امرأتي صَحَّ "(2) .

وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1607) منها: " أمر أحد بأن يكتب إقراره هو إقرار حكمًا، بناءً عليه: لو أَمَرَ أحد كاتبًا بقوله: اكتب لي سندًا يحتوي أني مدين لفلان بكذا دراهم، ووقع عليه بإمضائه أو ختمه يكون من قبيل الإقرار بالكتابة، كالسند الذي كتبه بخط يده ".

الصورة الثانية:

10 – إن قيود التجار – كالصراف والبياع والسمسار – التي تكون في دفاترهم المعتد بها، وتبين ما عليهم من ديون، تعتبر حجة عليهم ولو لم تكن في شكل صك أو سند رسمي، وذلك لأن العادة جرت أن التجار يكتب دينه ومطلوبه في دفتره صيانة له من النسيان، ولا يكتبه للهو واللعب، أما ما يكتب فيها من ديون لهم على الناس، فلا يعتبر وثيقة وحجة، ويحتاج في إثباتها إلى بيِّنة أخرى (3) .

وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1608) منها: " القيود التي هي في دفاتر التجار المعتد بها هي من قبيل الإقرار بالكتابة أيضًا، مثلًا، لو قَيَّدَ أحد التجار في دفتره أنه مدين لفلان بمقدار كذا يكون قد أَقَرَّ بدين مقدار ذلك، ويكون معتبرًا ومرعيًّا كإقراره الشفاهي عند الحاجة ".

(1) قرة عيون الأخيار: 2/97؛ ودرر الحكام: 4/138؛ والفتاوى الهندية: 4/167.

(2)

رد المحتار على الدر المختار:4/455.

(3)

درر الحكام: 4/138؛ وفتح العلي، المالك: 2/311؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص218؛ ونشر العرب (المطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين) : 2/144؛ ومعين الحكام: ص126؛ وقرة عيون الأخبار: 1/60؛ والفتاوى الهندية: 4/167؛ وأصول المحاكمات، للدكتور محمد الزحيلي: ص199.

ص: 669

وجاء في " خزانة الأكمل ": " صرَّاف كتب على نفسه بمال معلوم، وخطة معلوم بين التجار وأهل البلد، ثم مات فجاء غريم يطلب المال من الورثة، وعرض خط الميت بحيث عرف الناس خطه، يحكم بذلك في تركته إن ثبت أنه خطه. وقد جرت العادة بين الناس بمثله حجة "(1)

ثم عَلَّقَ ابن عابدين على ذلك فقال: " اعلم أن هذا كله فيما يكتبه على نفسه – كما قيده بعض المتأخرين، وهو ظاهر – بخلاف ما يكتبه لنفسه، فإنه لو ادَّعاه بلسانه صريحًا لا يؤخذ خصمه به، فكيف إذا كتبه!! ولذلك قيده في " الخزانة " بقوله: كَتَبَ على نفسه "(2) .

وجاء في " قرة عيون الأخيار ": " وكذلك ما يكتب الناس فيما بينهم على أنفسهم في دفاترهم المحفوظة عندهم بخطهم المعلوم بين التجار وأهل البلد، فهو حجة عليهم ولو بعد موتهم "(3) .

ويلاحظ في هذه المسألة: أن الفقهاء قيَّدوا ذلك الحكم بأن ترد الكتابة في دفاتر التجار المعتد بها. أما الدفاتر التي لا يعتدون بها، فلا تعتبر قيودها حجة على أصحابها، لاحتمال ورود التزوير فيها. وأن تكون الكتابة بخط التاجر في دفتره المحفوظ عنده، لنفي شبهة التلاعب فيها.

قال ابن عابدين في " رد المحتار " ويجب تقييده أيضًا بما إذا كان دفتره محفوظًا عنده. فلو كانت كتابته فيما عليه في دفتر خصمه، فالظاهرة أنه لا يعمل به، لأن الخط مما يزور، وكذا لو كان له كاتب، والدفتر عند الكاتب، لاحتمال كون الكاتب كتب ذلك عليه بلا علمه، فلا يكون حجة عليه إذا أنكره، أو أظهر ذلك بعد موته وأنكرته الورثة (4) .

وضابط المسألة ما حرَّرَهُ ابن عابدين في رسالته " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على " العُرف " حيث قال: " فالحاصل أن المدار على انتفاء الشبهة ظاهر. وعليه؛ فما يوجد في دفاتر التجار في زماننا إذا مات أحدهم، وقد كتب بخطه ما عليه في دفتره – الذي يقرب من اليقين أنه لا يكتب فيه على سبيل التجربة والهزل – يعمل به، والعرف جار بينهم بذلك. فلو لم يعمل به، يلزم ضياع أموال الناس، إذ غالب بياعاتهم بلا شهود، خصوصًا ما يرسلونه إلى شركائهم وأمنائهم في البلاد، لتعذر الإشهاد في مثله، فيكتفون بالمكتوب في كتاب أو دفتر، ويجعلونه فيما بينهم حجة عند تحقق الخط أو الختم " (5) .

(1) رد المحتار: 4/353؛ورسائل ابن عابدين (نشر العرف) : 2/143؛ وقرة عيون الأخيار: 1/59. .

(2)

رد المحتار: 4/354.

(3)

قرة عيون الأخيار: 2/97.

(4)

رد المحتار: 4/354.

(5)

رسائل ابن عابدين: 2/144؛ وانظر: قرة عيون الأخيار: 1/60.

ص: 670

الصورة الثالثة:

11-

السندات والوصولات الرسمية تعتبر حججًا معتمدة في توثيق الدين وإثباته (1) .

جاء في " فتاوى قارئ الهداية ": " إذا كتب على وجه الصكوك؛ يلزمه المال. وهو أن يكتب: يقول فلان الفلاني إن في ذمتي لفلان الفلاني كذا وكذا، فهو إقرار ملزم "(2) .

وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1609) منها: " إذا كتب أحدٌ سندًا أو استكتبه من كاتب، وأعطاه لآخر موقعًا بإمضائه أو مختومًا، فإذا كان مرسومًا– أي حرر موافقًا للرسم والعادة – فيكون إقرارًا بالكتابة، ويكون معتبرًا ومرعيًّا كتقريره الشفاهي. والوصلات المعتاد إعطاؤها هي من هذا القبيل ".

وقال العلامة علي حيدر في شرح هذه المادة: أي إن السند المحرر به اسم الدائن، وشهرته، ومقدار الدين، والتاريخ، والحاوي لإمضاء المدين أو ختمه في ذيله، يعتبر في زماننا موافقًا للرسم والعادة (3) .

ثم ذكر أن لسند الدين أربع صور:

الأولى: أن يكون متن سند الدين بخط المدين، وتوقيعه بخطه أيضًا.

الثانية: أن يكون متن السند بخط غير المدين، وأن يكون التوقيع بخط المدين.

الثالثة: أن يكون متن السند بخط المدين، وأن يكون السند مختومًا بختم المدين بدون توقيعه.

ففي هذه الصور الثلاث يعمل بمضمون السند إذ لا يوجد شائبة تزوير.

الرابعة: أن يكون متن السند بخط غير المدين، وأن يكون محل التوقيع مختومًا بختم المدين فقط.

وفي هذه الصورة لا يحتج بهذا السند، لخلوه بالكلية من خط المدين وكتابته، ووجود شائبة التزوير فيه.. لأن من الممكن تصنيع الختم وتزويره، كما أن من المحتمل استعمال الغير للختم بدون علم صاحبه، لأن صاحب الختم لا يبقي ختمه دائمًا في صحبته، بل يتركه في بيته أو في مقر عمله أو يسلمه لأمينه ومعتمده.. كما أن من المحتمل أن يختم صانع الختم بضع سندات به قبل أن يسلمه لصاحبه.. ومع قيام تلك الاحتمالات بهذا السند يرتفع به الاحتجاج والاستدلال (4) .

(1) رد المحتار: 4/354.

(2)

رد المحتار: 4/353

(3)

درر الحكام: 4/139.

(4)

درر الحكام: 4/140.

ص: 671

الصورة الرابعة:

12 – إذا أنكر من كتب أو استكتب سندًا رسميًّا ممضيًّا بإمضائه أو ختومًا بختمه الدين الذي يحتويه ذلك السند، مع اعترافه بخطه وختمه، فلا يعتبر إنكاره، ويلزمه أداء ذلك الدين دون حاجة إلى إثبات بوجه آخر (1) .

جاء في " فتاوى قارئ الهداية ": " سئل إذا كتب شخص ورقة بخطه أن في ذمته لشخص كذا، ثم ادعي عليه، فجحد المبلغ، واعترف بخطه، ولم يشهد عليه؟ أجاب: إذا كتب على رسم الصكوك يلزم المال، وهو أن يكتب: يقول فلان بن فلان الفلاني أن في ذمته لفلان بن فلان الفلاني كذا وكذا، فهو إقرار يلزم به. وإن لم يكتب على هذا الرسم، فالقول قوله مع يمينه "(2) .

وقد أخذت بذلك " مجلة الأحكام العديلة " حيث جاء في م (1610) منها: " إذا أنكر من كتب أو استكتب سندًا مرسومًا على الوجه المحرر أعلاه، وأعطاه لآخر ممضيًّا أو مختومًا الدين الذي يحتويه ذلك السند مع اعترافه بكون السند له، فلا يعتبر إنكاره ويلزمه أداء ذلك الدين ".

أما إذا أنكر خط السند الذي أعطاه مرسومًا أيضًا، وقال: إنه ليس خطي، فينظر: فإن كان خطه مشهورًا ومتعارفًا بين التجار وأهل البلد، وثبت أنه خطه، فلا يعتبر إنكاره، ويعمل بذلك السند بدون حاجة لإثبات مضمونه ومندرجاته بوجه آخر.

جاء في " رد المحتار ": " فإذا كتب وصولًا أو صكًّا بدين عليه وختمه بخاتمه المعروف، فإنه في العادة يكون حجة عليه، بحيث لا يمكنه إنكاره، ولو أنكره يعد بين الناس مكابرًا. فإذا اعترف بكونه خطه وختمه، وكان مصدرًا معنونًا، فينبغي القول بأنه يلزمه، وإن لم يعترف به أو وجد بعد موته فمقتضى ما في " المجتبى " أنه يلزمه أيضًا، عملًا بالعرف "(3) .

أما إذا لم يكن خطه مشهورًا ومتعارفًا فيستكتب، ويعرض خطه على الخبراء، فإذا أفادوا أن الخطين لشخص واحد، فيؤمر ذلك الشخص بأداء الدين المذكور، وإلا فلا (4)

جاء في " معين الحكام ": " ذكر أبو الليث في نوازله: لو ادعى على آخر مالًا، وأخرج بذلك خطًّا بخط يده على إقراره بذلك المال، فأنكر المدعى عليه أنه خطه، فاستكتب فكتب، فكان بين الخطين مشابهة ظاهرة دالة على أنهما خط كاتب واحد، قال أئمة بخارى، إنه حجة يقضي بها "(5) .

(1) رد المحتار: 4/354؛ ودرر الحكام: 4/141.

(2)

قرة عيون الأخيار: 1/59؛ ورد المحتار: 4/374.

(3)

رد المحتار: 4/354.

(4)

درر الحكام: 4/141، 142؛ وقرة عيون الأخيار: 2/97، 98. .

(5)

معين الحكام للطرابلسي: ص125.

ص: 672

وقال ابن فرحون: " إذا ادعى رجل على رجل بمال فجحده، فأخرج المدعي صحيفة مكتوبًا فيها خط المدعى عليه وإقراره بما ادعى عليه، وزعم المدعي أنها بخط المدعى عليه، فأنكر المدعي عليه ذلك، وليس بينهما بينة، فطلب المدعي أن يجبر المدعى عليه على أن يكتب بحضرة العدول، ويقابل ما كتبه بما أظهره المدعي. فأفتى أبو الحسن اللخمي بأنه يجبر على ذلك، وعلى أن يطول فيما يكتب تطويلًا لا يمكن معه أن يستعمل خطًّا غير خطه. وأفتى عبد الحميد الصائغ بأن ذلك لا يلزمه، إذا لا يلزمه إحضار بينة تشهد عليه، وفرَّق اللخمي بينهما بأن المدعى عليه يقطع بتكذيب البينة التي تشهد عليه فلا يلزمه أن يسعى في أمر يقطع ببطلانه. وأما خطه، فإنه صادر عنه بإقراره، والعدول يقابلون ما يكتبه الآن بما أحضره المدعي، ويشهدون بموافقته له أو مخالفته. وَرَجَّحَ أكثر الشيوخ ما أَفْتَى به اللخمي "(1) .

وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1610) منها: " وأما إذا أنكر كون السند له، فلا يعتبر إنكاره إذا كان خطه وختمه مشهورًا ومتعارفًا ويعمل بذلك السند. أما إذا كان خطه وختمه غير مشهور ومتعارف، يستكتب ويعرض خطه على أهل الخبرة، فإن أخبروا بأنهما كتابة شخص واحد يؤمر ذلك الشخص بإعطاء الدين المذكور ".

ولا يخفى أن سائر هذه الأحوال التي يعتمد فيها على السند ويحكم بموجب ما جاء فيه يشترط فيها سلامة السند من شبهة التزوير، وعلى هذا نَصَّت المجلة في م (1610) بعد ذكر هذه الأحوال وبيانها:" والحاصل: يعمل بالسند إذا كان بريئًا من شائبة التزوير وشبهة التصنيع ". أما إذا كان في السند شبهة تزوير – بأن كان بغير خط المدين، وعليه ختمه دون توقيعه مثلًا – وأنكر المدين أن السند سنده، كما أنكر أصل الدين، فلا يكون السند مدارًا للحكم (2) .

وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في آخر م (1610) منها: " أما إذا لم يكن السند بريئًا من الشبهة، وأنكر المدين كون السند له، وأنكر أصل الدين أيضًا، فيحلَّف بطلب المدعي على كونه ليس مدينًا للمدعي، وعلى أن السند ليس له ".

(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: 1/363.

(2)

درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 4/142.

ص: 673

الصورة الخامسة:

13 – إذا أعطى شخص لآخر سندًا رسميًّا يفيد أنه مدين له بمبلغ من المال، ثم تُوِفِّيَ، فيلزم ورثته بإيفائه من التركة إذا اعترفوا بكون السند للمتوفَّى، ولو أنكروا الدين. أما إذا أنكروا السند، فينظر: إن كان خط المتوفى وختمه مشهورًا ومتعارفًا، وثبت أن الخط خطه والختم ختمه، فيجب عليهم أداء الدين من التركة، ولا عبرة لإنكارهم (1) . وإن كان خلاف ذلك، فلا يُعمل بالسند، لوجود شبهة التزوير فيه.

وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1611) منها:

" إذا أعطى أحد سند دين حال كونه مرسومًا على الوجه المبين أعلاه، ثم توفي، يُلزم ورثته بإيفائه من التركة إذا كانوا معترفين بكون السند للمتوفَّى. وأما إذا كانوا منكرين بأن ذلك السند للمتوفى، فيُعمل بذلك السند إذا كان خط وختم المتوفى مشهورًا ومتعارفًا ".

الصورة السادسة:

14 – إذا وجد الوارث خطًّا لمورثه، يفيد أن عليه دينًا قدره كذا وكذا لفلان، فيجب على الوارث العمل بخط مورثه ودفع الدين إلى من هو مكتوب باسمه من التركة (2) .

جاء في " الإفصاح " لابن هبيرة: إذا وُجِدَ للرجل بعد موته في دفتر حسابه بخطه أن لفلان بن فلان عندي وديعة أو عَلَيَّ كذا وكذا.. فقال أحمد وبعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة: يجب دفع ذلك، كما لو أقرَّ به في حياته " (3) .

وقال في " كشاف القناع ": " وإن وجد وارث خطه، أي خط مورثه بدين عليه لمعين، عمل الوارث به وجوبًا، ودفع الدين إلى من هو مكتوب باسمه "(4)

ومثل ذلك ما لو وُجِدَ في تركة متوفى صندوق أو كتاب أو كيس فيه نقود كتب عليه بخط المتوفَّى أنه وديعة لفلان أو هذا لفلان، فيجب على الوارث العمل بخط مورثة، ولا يحتاج إلى إثبات بوجه آخر (5) .

قال البهوتي في " شرح منتهى الإرادات ": " ويعمل وارث وجوبًا بخط مورثه على كيس ونحوه كصندوق أو كتاب: هذا وديعة، أو هذا لفلان نصًّا "(6) .

وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1612) منها:

" إذا ظهر كيس مملوء بالنقود في تركة متوفٍ، ملصق عليه بطاقة، محرر فيها بخط المتوفى أن هذا الكيس مال فلان، وهو عندي أمانة، يأخذه ذلك الرجل من التركة، ولا يحتاج إلى إثبات بوجه آخر ".

(1) درر الحكام: 4/142، وما بعدها؛ ورد المحتار: 4/354.

(2)

شرح منتهى الإرادات: 2/457؛ ورد المحتار: 4/354؛ وانظر م (2281) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة، للقاري؛ ومختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية: ص417.

(3)

الإفصاح عن معاني الصحاح: 2/27.

(4)

كشاف القناع: 4/203. .

(5)

رد المحتار: 4/354؛ وكشاف القناع: 4/203؛ والإفصاح، لابن هبيرة: 2/27؛ ومختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية ص608؛ ودرر الحكام: 4/143؛ ومجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة، للقاري م (2281) .

(6)

شرح منتهى الإرادات: 2/457.

ص: 674

(د) حكم التوثيق بالكتابة:

15 – لقد اختلف الفقهاء في حكم توثيق الدين بالكتابة على قولين:

(أحدهما) لابن جرير الطبري والظاهرية وبعض السلف، وهو أن كتابة الدين واجبة لقوله تعالى:{فَاكْتُبُوهُ} إذ الأصل في الأمر إفادة الوجوب. ومما يؤيد دلالة هذا الأمر على الوجوب اهتمام الآية ببيان من له حق الإملاء، وصفة الكاتب، وحثه على الاستجابة إذا طلب منه ذلك، والحث على كتابة القليل والكثير، ثم التعبير عن عدم وجوب الكتابة في المبادلات الناجزة بنفي الجناح {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} حيث إنه يشعر بلوم من ترك الكتابة عند تعامله بالدين (1)

(والثاني) لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وهو أن كتابة الدين ليست بواجبة، إذ الأمر في الآية على سبيل الإرشاد لمن يخشى ضياع دينه بالنسيان أو الإنكار، حيث لا يكون المدين موضع ثقة كاملة من دائنة. يدل على ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}

وهو يفيد أن الكتابة غير مطلوبة إذا توافرت الأمانة والثقة بين المتعاملين.

قال الإمام الشافعي: " فلما أَمَرَ إذا لم يجدوا كاتبًا بالرهن، ثم أباح ترك الرهن، وقال، {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} .

فدل على أن الأمر الأول دلالة على الخط، لا فرض فيه، يَعْصِي من تركه " (2) .

ويؤيد هذا أن صاحب الدين يستطيع أن يتنزل عنه ويسقطه عن المدين، فله بالأولى أن يترك توثيقه بالكتابة. وقد دَرَجَ الناس من عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا على عدم كتابة الديون ما دامت الثقة قائمة بين المتداينين، ولم ينقل عن فقهائهم نكير عليهم مع اشتهار ذلك (3) .

(1) المحلى، لابن حزم: 8/80؛ والولاية على المال والتعامل بالدين للأستاذ علي حسب الله: ص103؛ وتفسير الطبري: 3/77، 79؛ وتفسير القرطبي: 3/383. .

(2)

أحكام القرآن الشافعي 2/127.

(3)

أحكام القرآن، للجصاص: 1/482؛ والمحصول، للرازي:/ ج 1 ق 2/58؛ والأم، للشافعي: 3/89 وما بعدها، الولاية على المال والتعامل بالدين: ص 103؛ والمغني، لابن قدامة: 4/362؛ وتفسير الطبري: 3/77؛ وتفسير النيسابوري: 3/97؛ والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 3/383.

ص: 675

الفصل الثاني

البينة الشخصية (الشهادة)

وسنتكلم عن مشروعيتها وحكمها ونصابها.

(أ) مشروعيتها:

16 – قال الله تعالى في آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) .

فقد دَلَّتْ الآية على مشروعية توثيق الدين بالشهادة. وأنها وثيقة واحتياط للدائن، لأن استشهاد الشهود أنفى للريب وأبقى للحق وأدعى إلى رفع التنازع والاختلاف، وفي ذلك صلاح الدين والدنيا معًا.

وإنما قيَّد الله سبحانه الاستشهاد بـ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} .

وقصر الشهادة على من يرتضى لها خاصة من أهل العدالة والفطنة، لأنها ولاية عظيمة تقتضي تنفيذ القول على الغير بدون رضاه

ولهذا وجب أن يكون لصاحبها شمائل ينفرد بها، وفضائل يتحلَّى بها، حتى يكون له على غيره مزية توجب له رتبة الاختصاص بقبول قوله على غيره، والحكم بشغل ذمة المطلوب بالدين بشهادته عليه، وتغليب قول الطالب على قول المطلوب بتصديقه له في دعواه (2) .

(1) الآية 282 من البقرة.

(2)

أحكام القرآن، لابن العربي: 1/254.

ص: 676

(ب) حكمها:

17 – اختلف الفقهاء في حم توثيق الدين بالشهادة علن قولين:

(أحدهما) للظاهرية وبعض السلف، وهو أن الإشهاد على الدين واجب لقوله تعالى في آية الدين:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية (1) .

(والثاني) لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وهو أن الإشهاد على الدين ليس بواجب إذا الأمر به إرشاد إلى الأوثق والأحوط، لقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .

قال العلامة ابن العربي: معناه أنه أسقط الكتاب والإشهاد والرهن، وعوَّل على أمانة المعامل.. ولو كان الإشهاد واجبًا لما جاز إسقاطه.. وجملة الأمر أن الإشهاد حزم والائتمان وثيقة بالله من المدين ومروءة من المداين (2) .

وقال أبو بكر الرازي الجصاص: " ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جمعيه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئًا من غير واجب. وقد نقلت الأمة خلفًا عن سلف عقود المدينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبًا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبًا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا "(3) .

وقال إلكيا الهراسي في " أحكام القرآن ": " إن الأمر بالإشهاد ندب لا واجب، والذي يزيده وضوحًا أنه قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . ومعلوم أن الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم لا على وجه الحقيقة وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع فإنها لو كانت لحق الشرع لما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} . فلا ثقة بأمن العباد، إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة، فالشهادة متى شرعت في النكاح لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضًا، فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة. ولأن الله تعالى جعل لتوثيق الديون طرقًا؛ منها الكتابة ومنها الرهن ومنها الإشهاد، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد "(4) .

وقال القاضي ابن العربي: " والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبًا، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثُّق والمصلحة، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية، توثقًا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب "(5) .

(1) المحلى: 8/80، وقد روي عن أبي موسى الأشعري، أنه قال:" ثلاثة يدعون فلا يستجيب لهم: رجل كانت لهم امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهًا وقد قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} ورجل له على رجل دين ولم يُشهد عليه "، وقد روي هذا الحديث مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن الضحاك أنه قال: إن ذهب حقه لم يُؤْجَرْ وإن دعا عليه لم يجب، لأنه ترك حق الله وأمره. وقد أجاب الجصاص عما روي عن أبي موسى بأنه لا دلالة فيه على أنه رآه واجبًا، ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها وإنما دل هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص. (انظر أحكام القرآن، للجصاص: 1/481، 482) .

(2)

أحكام القرآن، لابن العربي: 1/262.

(3)

أحكام القرآن، للجصاص: 1/482.

(4)

أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي:1/365؛ وانظر: الأم، للشافعي: 3/89 وما بعدها.

(5)

أحكام القرآن، لابن العربي: 1/258.

ص: 677

18 – هذا، وقد نَصَّ جماهير الأصوليين على أن الأمر في قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، لا يراد به الوجوب، وإنما هو للإرشاد (1) .

قال الفخر الرازي: " فإنه لا ينقص الثواب بترك الإشهاد في المداينات، ولا يزيد بفعله "(2) . وقال الآمدي: " وهو قريب من الندب لاشتراكهما في طلب تحصيل المصلحة غير أن الندب لمصلحة أُخْرويَّة، والإرشاد لمصلحة دنيوية "(3) .

وقد أورد التاج السبكي في المسألة تفصيلًا حسنًا وأَتَى فيها بتحقيق فريد حيث قال: "والفرق بين الندب والإرشاد: أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، ولا يتعلق به ثواب البتة، لأنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه. وقد يقال: إنه يُثاب عليه لكونه ممتثلًا، ولكن يكون ثوابه أنقص ثواب الندب لأن امتثاله مشوب بحظ نفسه. ويكون الفارق إذًا بين الندب والإرشاد إنما هو مجرد أنَّ أحدهما مطلوب لثواب الآخرة، والآخر لمنافع الدنيا.

والتحقيق: أن الذي فعل ما أمر به إرشادًا؛ إن أتى به لمجرد غرضه فلا ثواب له، وإن أتى به لمجرد الامتثال غير ناظر إلى مصلحته ولا قاصد سوى مجرد الانقياد لأمر ربه فيثاب، إن قصد الأمرين أثيب على أحدهما دون الآخر، ولكن ثوابًا أنقص من ثواب من لم يقصد غير مجرد الامتثال " (4) .

(1) انظر: الفصول في الأصول، للجصاص: 2/78؛ والتلويح على التوضيح: 1/282؛ فواتح الرحموت: 1/372؛ والمحلى على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه: 1/469؛ وشرح الكوكب المنير: 3/20؛ ونهاية السول: 2/10؛ والمحصول ج 1 ق 2/58؛ والأحكام للآمدي: 2/207؛ والإبهاج: 2/17؛ والمدخل إلى مذهب أحمد ابن حنبل: ص102.

(2)

المحصول: ج 1 ق 2/58.

(3)

الأحكام في أصول الأحكام: 2/207.

(4)

الإبهاج في شرح المنهاج: 2/17، 18.

ص: 678

(ج) نصابها:

19 – لقد بينت آية الدين أن نصاب الشهادة على الدين هو: إما رجلان، أو رجل وامرأتان ممن يرتضى من العدول الثقات، فإذا تحقق ذلك كان وثيقة معتبرة وحجة شرعية في إثبات الدين، وبينة قوية يعتمد عليها القاضي في الحكم به لطالبه.

ولا يخفى أن شهادة الرجلين بينة كاملة، يقع بها الإثبات في جميع الحقوق والديون والجنايات سوى حد الزنا عند سائر الفقهاء. قال الإمام القرافي:(ما علمت عندنا ولا عند غيرنا خلافًا في قبول شهادة شاهدين مسلمين عدلين في الدماء والديون)(1) .

أما شهادة الرجل مع المرأتين، فقد اتفق الفقهاء على أنه يثبت الدين بها أمام القضاء، وأنها وثيقة معتبرة لحفظه بنص الآية (2) ، وإنما شرطت كون الرجل معهن، لئلا يكونه لهن رتبة الاستقلال (3) .

قال إلكيا الهراسي: (اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن تكون شهادة النساء شهادة ضرورة معدولًا بها عن أصل الشهادة، فإنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} ، فاقتضى الظاهر عدم القدرة على الرجلين، إلا أنه جُوِّزَ على خلاف الظاهرة للإجماع " (4) .

وقال القاضي ابن العربي: (قال علماؤنا: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} من ألفاظ الأبدال، فكان ظاهره يقتضي ألا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم شهادة الرجال كحكم سائر أبدال الشريعة مع مبدلاتها، وهذا ليس كما زعمه. ولو أراد ربنا ذلك لقال: (فإن لم يوجد رجلان فرجل) فأما وقد قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم) . (5) .

أى إنه يكون على سبيل التخيير.

وقد أشارت الآية إلى أن الحكمة في جعل المرأتين بمنزلة الرجل الواحد في الشهادة، هي أن المرأة يغلب عليه النسيان والخطاء، وأن حفظها وضبطها – بحسب فطرتها وما جُبِلَت عليه – دون حفظ الرجال وضبطهم، فقال تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} . فَدَلت الآية على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لتنبيه أحدهما الآخرى إذا غفلت وإذكارها إذا نَسِيَتْ (6) .

قال ابن العربي: (فإن قيل: فهلَّا كان امرأة واحدة مع رجل، فيذكرها الرجل الذي معها إذا نسيت، فما الحكمة فيه؟!

فالجواب فيه: أن الله سبحانه شرع ما أراد، وهو أعلم بالحكمة وأوفى بالمصلحة، وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح في الأحكام. وقد أشار علماؤنا أنه لوذَكَّرَهَا إذا نسيت لكانت شهادة واحدة، فإذا كانت امراتين وذكرت إحدها الأخرى، كانت امرأتين وذكرت إحداهما الأخرى، كانت شهادتهما شهادة رجل واحد كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكر) (7) .

(1) الفروق، للقرافي: 4/86.

(2)

المغني، لابن قدامة: 9/151.

(3)

أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/387؛ والأم، للشافعي: 7/85.

(4)

أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/386.

(5)

أحكام القرآن، لابن العربي: 1/252. وانظر: أحكام القرآن، للجصاص: 1/501.

(6)

الطرق الحكمية: ص105.

(7)

أحكام القرآن لابن العربي: 1/255.

ص: 679

الفصل الثالث

الرهن

20– وهو (المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه)(1) .وبهذه الوثيقة يصير المرتهن أحق بالرهن من سائر الغرماء، فإذا كان على الراهن ديون أخرى لا تفي بها أمواله، وبيع الرهن لسداد ما عليه، كان للمرتهن أن يستوفي دينه من ثمنه أولًا، فإذا بقي شيء فهو لسائر الغرماء (2) .

جاء في " كشف الأسرار " للبخاري (لا خلاف أن الرهن عقد وثيقة لجانب الاستيفاء، حتى لا يصح رهن ما لا يصح للاستيفاء كالخمر وأم الولد)(3) . ثم نقل عن " الوسيط " أن حقيقة الرهن توثيق الدين بتعليقه بالعين، ليسلم المرتهن به عن مزاحمة الغرماء عند الإفلاس، ويتم ذلك بالقبض ليحفظ محل حقه ليوم حاجته، ويثبت للمرتهن في الحال استحقاق اليد على المرهون، وفي ثاني الحال استحقاق البيع في قضاء حقه إذا لم يوفه الراهن من مال آخر (4) . ثم قال:(فإن قيل: ما معنى الوثيقة في هذه اليد، ومن أي وجه جعلت وثيقة؟ قلنا معنى الوثيقة في إثبات شيء زائد هو من الجنس الأصل، مع بقاء الأول على ما مكان، فإذا احتبس عنده حقيقة، يصير هذا الاحتباس وسيلة إلى النقد من محل آخر، وهذا هو المتعاهد فيما بين الناس أن ملك الإنسان متى صار محبوسًا عنه بدين يتسارع إلى فكاكه بإيفاء الدين)(5) .

وسنتكلم في هذا الفصل عن مشروعية الرهن وحكمه وما يشترط لصحة التوثيق به.

(1) المغني: 4/361، وانظر رد المحتار: 5/307؛ وشرح منتى الإرادات: 2/288؛ والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: ص 1217؛ وتعريفات الجرجاني: ص60؛ والمصباح المنير: 1/287؛ وم (701) من مجلة الأحكام العدلية وم (975) من مرشد الحيران.

(2)

أحكام القرآن للجصاص: 1/523؛ الولاية على المال والتعامل بالدين: ص104.

(3)

كشف الأسرار عن أصول البزدوي: 3/398.

(4)

كشف الأسرار عن أصول البزدوى: 3/398.

(5)

كشف الأسرار: 3/399.

ص: 680

(أ) مشروعيته:

21 – لقد ثبتت مشروعية توثيق الدين بالرهن بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

أما الكتاب: فقوله تعالى في آية الدين: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) .

وقد فهم مجاهد من الآية أن الرهن لا يجوز إلا في السفر (2) . وليس بسديد لأن ذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، حيث إن فقد الكاتب والشاهدين والموثوق بهما يكون فيه غالبًا، ومذهب جماهير العلماء عدم صحة العمل بمفهوم المخالفة فيما يخرج مخرج الغالب من الألفاظ (3) . ولأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه أشترى من يهودي طعام ورهنه درعه وكانا بالمدينة، فثبت جواز الرهن في الحضر بفعله صلى الله عيه وسلم، ولأن الرهن وثيقة بالدين، فإذا جازت في السفر جازت في الحضر كالضمان، من أجل ذلك ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الرهن في السفر والحضر، مع وجود الكاتب وعدمه (4) .

وأما السنة: فما روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا إلى أجل ورهنه درعه "(5) .وما روى البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الظهر يركب إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يُشربُ بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) (6) .

(1) الآية 283 من سورة البقرة.

(2)

المغني: 4/362؛ والمحلى: 8/78؛ وأحكام القرآن لإليكا الهراسي: 1/314؛ وأحكام القرآن لابن العربي: 1/260.

(3)

انظرالبرهان، للزركشي: 3/39؛ والبرهان للجويني: 1/477؛ وحاشية البناني: 1/246؛ وإرشاد الفحول: ص 180؛ ومناهج العقول: 1/315؛ وشرح العضد: 2/174؛ والأحكام الآمدي: 3/100، والمسودة: ص362.

(4)

المهذب: 1/312؛ وأحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/413؛ وأحكام القرآن للجصاص: 1/523؛ والمغني: 4/362؛ وأحكام القرآن، لابن العربي: 1/260؛ والأم، للشافعي: 3/139؛ وكشاف القناع: 3/107؛ والإشراف على مسائل خلاف: 2/2.

(5)

صحيح البخاري: 3/115؛ وصحيح مسلم: 3/1226؛ وسنن ابن ماجه: 2/815.

(6)

صحيح البخاري: 3/116؛ وبذل المجهود: 15/207؛ وعارضة الأحوذي: 6/10؛ وسنن ابن ماجه: 2/816؛ وسنن الدارقطني: 3/34.

ص: 681

وأما الإجماع:فقد أجمع سائر أهل العلم على جواز توثيق الدين بالرهن (1) .

وأما المعقول: فلأن الرهن وثيقة في جانب الاستيفاء، فيجوز كأن تجوز الوثيقة في جانب الوجوب. وبيان ذلك أن الدين له طرفان: طرف الوجوب، وطرف الاستيفاء، لأنه يجب أولًا في الذمة، ثم يستوفى المال بعد ذلك والوثيقة بطرف الوجوب الذي يختص بالذمة- وهي الكفالة – جائزة، فكانت الوثيقة التي بطرف الاستيفاء الذي يختص بالمال جائزة أيضًا، اعتبارًا بالطرف الأول، لأن الاستيفاء مقصودٌ، والوجوب وسيلة لهذا المقصود، فلما شرعت الوثيقة في حق الوسيلة، فلأن تشرع في حق المقصود أولى.. ولأن الحاجة إلى الوثيقة ماسة من الجانبين، فالدائن يأمن بالرهن على ماله من التوى بالجحود أو الإفلاس، والمستدين قد لا يجد من يدينه بلا رهن، فكان فيه نفع لهما – كما في الكفالة والحوالة – فشرع (2) .

(ب) حكمه:

22 – ذهب جماهير الفقهاء إلى أن توثيق الدين بالرهن غير واجب وأن الأمر به في الآية على سبيل الإرشاد (3) .

قال ابن قدامة: (والرهن غير واجب، لا نعلم فيه مخالفًا، لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب، كالضمان والكتابة. وقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} إرشاد لنا لا إيجاب علينا، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذا بدلها)(4) .

(1) المغني: 4/362؛ وفتح العزيز: 10/2، ورد المحتار: 5/307؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/228.

(2)

تبيين الحقائق، للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 6/62 وما بعدها.

(3)

أحكام القرآن، للجصاص: 1/482؛ وأحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/365؛ والبرهان، للزركشي: 3/39؛ والأم: 3/138؛ المحلى: 8/80؛ وكشاف القناع: 3/307.

(4)

المغني: 4/362.

ص: 682

(ج) ما يشترط لصحة التوثيق به:

23 – لقد دل قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} على اشترط القبض لصحة التوثيق في الرهن، لأن معنى الوثيقة لا يحصل إلا به. قال الإمام الشافعي (فلما كان معقولًا أن الرهن غير مملوك للمرتهن ملك البيع ولا مملوك المنفعة له ملك الإجارة لم يجز أن يكون رهنًا إلَّا بما أجازة الله عز وجل به أن يكون مقبوضًا)(1) . من أجل ذلك ذهب سائر الفقهاء إلى اشتراط قبض المرهون، غير أنهم اختلفوا في نوع هذا الشرط على ثلاثة أقوال:

1 – فذهب الظاهرية (2) . والجصاص من الحنفية إلى أنه يشترط لصحة الرهن قبض العين المرهونة. قال الجصاص: " وقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضًا من وجهين:

أحدهما: أنه عطف على ما تقدم من قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبًا، وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة، فلا يصح إلَّا عليها، كما لا تصح شهادة الشهود إلَّا على الأوصاف المذكورة، إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب.

والوجه الثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من الآية، والآية إنما أجازته بهذه الصفة، فغير جائز إجازته على غيرها، إذ ليس ههنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية، ويدل على أنه لا يصح إلَّا مقبوضًا أنه معلوم أنه وثيقة للمرتهن بدينه، ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة، وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها. وإنما جعل وثيقة له، ليكون محبوسًا في يده بدينه، فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من سائر الغرماء. ومتى لم يكن في يده كان لغوًا لا معنى فيه، وهو وسائر الغرماء فيه سواء، ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسًا بالثمن ما دام في يد البائع، فإن هو سلَّمَه إلى المشتري سقط حقه، وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه) (3) .

(1) الأم: 3/139.

(2)

المحلى: 8/88.

(3)

أحكام القرآن للجصاص:1/523.

ص: 683

2 – وذهب الحنفية (1) والشافعية (2) والحنابلة على الراجح (3) عندهم إلى أنه يشترط القبض في لزم الرهن. وعلى ذلك يكون للراهن قبل القبض أن يرجع عنه أو يسلمه.

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} حيث إن المصدر المقرون بحرف الفاء في جواب الشرط يراد به الأمر، والأمر بالشيء الموصوف يقتضي أن يكون ذلك الوصف شرطًا فيه، إذ المشروط بصفة لا يوجد بدون تلك الصفة. ولأن الرهن عقد تبرع، إذ لا يستوجب الراهن بمقابلته على المرتهن شيئًا، ولهذا لا يجبر عليه، فلابد من الإمضاء بعدم الرجوع، والإمضاء يكون بالقبض.

3 – وذهب المالكية إلى أن الرهن يلزم بالعقد، لكنه لا يتم إلا بالقبض، وللمرتهن حق المطالبة بالإقباض ويجبر الراهن عليه أما لزومه بالعقد، فلأن قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أثبتها رهانًا قبل القبض. وأما إلزام الرهن بالإقباض فلأن قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} (4) . دليل على إلزام الراهن بتسليم المرهون وفاء بالعقد. (5)

وبالنظرفي هذه المذاهب وأدلتها نجد أن كل مذهب منها اعتمد على قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، احتجَّ به على رأية ومقولته، مع أن الآية إنما وصفت الرهن بكونه مقبوضًا وحسب، وذلك يقتضي أن يكون القبض شرطًا فيه، وليس في الآية ما يدل على كونه شرط صحة أو شرط لزوم أو شرط تمام، حتى يترجح بدلالتها أحد هذه المذاهب على غيره.. لذا وجب البحث عن مرجح آخر. وإننا لو نظرنا إلى طبيعة عقد الرهن، لوجدنا أن معنى الإرفاق والمعونة عليه غالب، لأن الراهن لا يستوجب بمقابلته على المرتهن شيئًا. وهذا المعنى قد يرجح كون حكم القبض فيه مماثلًا لحكمه في عقود الإرفاق الأخرى – كالقرض والهبة والصدقة – وهو أنه شرط لزوم فيها على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.

(1) رد المحتار: 5/308؛ وروضة القضاة للسمناني: 1/418؛ وانظر: م (706) من المجلة العدلية وم (978) من مرشد الحيران، وتبيين الحقائق للزيلعي: 6/63.

(2)

مغني المحتاج: 2/128؛ والمهذب: 1/312؛ والتنبيه للشيرازي: ص70؛ والروضة: 4/65؛ وكفاية الأخيار: 1/143؛ وفتح العزيز: 10/62؛ والأم 3/ 139؛ والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص280.

(3)

المغني: 4/364؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/232؛ والمحرر: 1/335؛ وكشاف القناع:3/317؛ وانظر: م (996) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة للقاري.

(4)

الآية الأولى من المائدة.

(5)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/231؛ والقوانين الفقهية: ص352؛ والإشراف على مسائل الخلاف: 2/2؛ والمنتقى، للباجي: 5/248، كفاية الطالب الرباني: 2/216؛ وشرح التاودي على التحفة: 1/168؛ وبداية المجتهد: 2/230؛ والتسهيل لابن جزي: 1/97.

ص: 684

24 – هذا ما يتعلق باشتراط قبض الرهن ابتداءً، أما حكم استدامة قبضه، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:

1 – فذهب الحنفية (1) والشافعية (2) . إلى أنه لا يشترط استدامة القبض في الرهن فلو استرجعه الراهن بعارية أو وديعة صح؛ لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة. وللمرتهن الحق في استرداده متى شاء.

2 – وذهب المالكية إلى أنه يشترط في صحة الرهن استدامة القبض، فإذا قبض المرتهن الرهن، ثم رده إلى الراهن بعارية أووديعة أو كراء، بطل الرهن، لأن المعنى الذي لأجله اشترط قبض المرهون في الابتداء هو أن يحصل وثيقة للمرتهن بقبضه إياه، وهذا المعنى يحتاج إليه في كل حال كان فيها رهنا، فكانت استدامة القبض شرطًا فيه (3) .

3 – وذهب الحنابلة إلى أنه يشترط في لزوم الرهن استدامة قبض المرهون، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الراهن أو غيره زال لزوم الرهن، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض، سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أوغير ذلك. فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق، ولا يحتاج إلى تجديد عقد، لأن العقد الأول لم يطرأ عليه ما يبطله، أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد. وإن أزيلت يد المرتهن عنه بغير حق كالغصب والسرقة وإباق العبد وضياع المتاع ونحوه، فلزوم العقد باق، لأن يده ثابتة عليه حكمًا، فكأنها لم تزل.

واستدلوا على ذلك بأن الرهن يراد للوثيقة، ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه فإذا لم يدم في يده، زال ذلك المعنى، فكان بقاء اللزوم مرهونًا بدوام القبض (4) .

(1) ردالمحتار:5/329، وانظر: م (1004) من مرشد الحيران وم (749) من مجلة الأحكام العدلية، درر الحكام: 2/161.

(2)

الأم، للشافعي: 3/140؛ والمغني: 4/367.

(3)

الإشراف، للقاضي عبد الوهاب: 2/2؛ القوانين الفقهية: ص352؛ وبداية المجتهد: 2/230

(4)

شرح منتهى الإرادات: 2/233؛ وكشاف القناع: 3/320؛ والمغني: 4/367؛ والمحرر: 1/335.

ص: 685

الدين الذي يصح الارتهان به:

25 –لا خلاف بين الفقهاء في أن عقد الرهن إنما شرع لتوثيق الديون في الذمم، غير أنهم اختلفوا في شروط الدين الذي يصح الارتهان به على أربعة أقوال:

(أحدهما) للحنفية: وهو أنه يشترط أن يكون ذلك الدين ثابتًا في الذمة وقت الرهن (1) . أو موعودًا به، بأن رهن شيئًا ليقرضه ألفًا مثلًا، فالرهن صحيح (2) .

قال الزيلعي: (لأن الموعود جعل كالموجود باعتبار الحاجة، بل جعل موجودًا اقتضاء، لأن الرهن استيفاء، والاستيفاء لا يسبق الوجوب؛ بل يتلوه فلا بد من سبق الوجوب ليكون الاستيفاء مبنيًا عليه. ولأنه مقبوض بجهة الرهن الذي يصح على اعتبار وجوده فيعطى له حكم المقبوض على سوم الشراء)(3) .

(والثاني) للحنابلة: وهوأنه يشترط في الدين المرهون به أن يكون واجبًا في الذمة وقت الرهن – كبدل قرض وثمن مبيع وقيمة متلف – أو مآله إلى الوجوب، كثمن في مدة خيار (4) . ذلك أن الرهن لا يخلو من ثلاثة أحوال:

(أ) أن يقع بعد وجوب الدين في الذمة، ولا خلاف في جوازه. قال ابن قدامة: (لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجازأخذهما به كالضمان. ولأن الله تعالى قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .

فجعله بدلًا عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلها بعد وجوب الحق، وفي الآية ما يدل على ذلك، وهو قوله:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فجعله جزاء للمداينة مذكورًا بعدها بفاء التعقيب) (5) .

(ب) أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدين، مثل أن يقول: بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهرعلى أن ترهنني بها دابتك هذه فيقول: قبلت ذلك. وهو صحيح أيضًا. قال ابن قدامة: (لأن الحاجة داعية إلى ثبوته، فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترط فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله، فتفوت الوثيقة بالحق)(6) .

(1) سواء أكان واجبًا ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا فقط كثمن خل وُجد خمرًا، وثمن ذبيحة وجدت ميتة، وبدل صلح عن إنكار ثم تصادقا على أن لا دين، فإن الدين وجب ظاهرًا حين الرهن، وهو كاف لصحته، فالرهن به مضمون على المختار (شرح المجلة، للأتاسي: 3/143، وانظر: مجمع الأنهر: 2/594؛ وتبيين الحقائق: 6/71؛ وم (977) من مرشد الحيران) . وعلى ذلك يصح الرهن برأس مال السلم وثمن الصرف والمسلم فيه خلافًا لزفر: (تبيين الحقائق: 6/72) .

(2)

وعلى ذلك، فلو هلك هذا الرهن كان مضمونًا عليه بما وعد من الدين، حيث إنه يعد مقبوضًا على سوم الرهن (انظر: تفصيل أحكامه في تبيين الحقائق: 6/71؛ ومجمع الأنهر: 2/594؛ وشرح المجلة، للأتاسي:3/144؛ ودرر الحكام، لعلي حيدر: 2/89) .

(3)

تبيين الحقائق: 6/71.

(4)

أمَّا إذا لم يكن واجبًا أو آيلًا للوجوب في الذمة، فلا يصح الرهن به، وعلى ذلك قال الحنابلة لا يصح أخذ الرهن بالدية على عاقلة قبل مضيِّ حول، ولا بجُعل في جعالة قبل العمل، لعدم وجوب كل من الدينين وعدم تحقق مآلهما إليه، بخلاف الرهن بالدية على العاقلة بعد الحول، وبالجعل بعد العمل، فإنه يصح لاستقرار الدينين في الذمة (انظر: شرح منتهى الإرادات: 2/131، 132؛ وكشاف القناع: 3/311؛ وم (954)(955)(957)(958) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد؛ والمبدع؛ 4/215) .

(5)

المغني، لابن قدامة: 4/363؛ وانظر: المبدع: 4/214.

(6)

المغني: 4/363؛ وانظر المبدع: 4/214.

ص: 686

(ج) أن يرهنه قبل ثبوت الدين في الذمة، كأن يقول: رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها، وهو غير صحيح على المعتمد في المذهب:(لأنه وثيقة بحق، فلم يجز قبل ثبوته كالشهادة، ولأن الرهن أيضًا تابع للحق، فلا يسبقه، كالثمن لا يتقدم البيع)(1)

(والثالث) للشافعية: وهوأنه يشترط في الدين المرهون به ثلاثة شروط (2) .

(أ) أن يكون ثابتًا في الذمة وقت الرهن، فلو رهن شيئًا بثمن ما سيشتريه أو بما يقرضه، فلا يصح، لأنه وثيقة حق فلا تقدم عليه كالشهادة وعلى ذك فلو ارتهن شيئًا قبل ثبوت الحق وقبضه، كان مأخوذًا على جهة سوم الرهن، فإذا اشترى أو استقرض منه لم يصر رهنًا إلَّا بعقد جديد.

ثم قالوا: غيرأنه يصح مزج الرهن بسبب ثبوت الدين تأخر طرفي الرهن، كما إذا قال بعتك هذا بكذا أو أقرضتك كذا وارتهنت به دابتك هذه، فقال الآخر: ابتعت أو اقترضت ورهنت. وذلك لأن شرط الرهن فيهما جائز، فمزجه أولى: لأن التوثق فيه آكد، لأنه قد لا يفي بالشرط، واغتفر تقدم أحد طرفيه على ثبوت الدين لحاجة التوثق.

(1) المبدع: 4/214؛ وانظر المغني: 4/363 واختار أبو الحطاب جوازه قبل الحق، فمتى قال: رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضينها غدًا، وسلمه إليه، ثم أقرضه الدراهم لزم الرهن، لأنه وثيقة بحق فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان، أو فجاز انعقادها على شيء يحدث في المستقبل كضمان الدرك (انظر المرجعين السابقين) .

(2)

أسنى المطالب: ص150، 151؛ وروضة الطالبين: 4/53، 54؛ ونهاية المحتاج: 4/243 وما بعدها؛ والمهذب: 1/312.

ص: 687

قال القاضي في صورة البيع: ويقدر وجوب الثمن، وانعقاد الرهن عقبه، كما لو قال: اعتق عبدك عني على كذا، فأعتقه عنه: فإنه يقدرالملك له، ثم يعتق عليه، لاقتضاء العتق تقدم الملك.

وإنما اشترط تأخر طرفي الرهن عما ذكر بالمعنى المذكور ليتحقق سبب ثبوت الدين من كل من العاقدين، فلو انتفى ذلك لم يصح العقد.

(ب) أن يكون لا زمًا (1) ، فلا يصح بدين كتابة، لأن الرهن للتوثق، والمكاتب متمكن من إسقاط النجم متى شاء، فلا معنى لتوثيقه. ولا يصح أيضًا بدين جعالة قبل الشروع أو بعده إذا كان قبل الفراغ من العمل؛ لأن لعاقديها فسخها، فيسقط به الجعل. أما بعد الفراغ، فيصح للزوم الدين.

غير أنه يصح الرهن بالأجرة قبل الانتفاع في إجارة الأعيان وبالصداق قبل الدخول، وإن كان هذان الدينان غير مستقرين وبالثمن قبل قبض المبيع وبه في مدة الخيار، وإن كان الدين غير مستقر، لأن أصل هذه العقود اللزوم.

(ج) أن يكون معلومًا لهما. فلو جهلاه أو أحدهما، لم يصح، كما في الضمان (2) .

(والرابع) للمالكية، وهو أنه يشترط في الدين المرهون به أن يكون لازمًا؛ كثمن مبيع أو أجرة عين، أو آيلًا إلى اللزوم كالجعل في الجعالة بعد الشروع في العمل ويجوز أن يتقدم الرهن الدين (3) .

(1) قال الأسنوي وغيره: ولا يغني عن الثابت اللازم، لأن الثبوت معناه الوجود في الحال، واللزوم عدمه صفة للدين في نفسه، لا يتوقف صدقه على وجود الدين، كما يقال: دين القرض لازم ودين الكتابة غير لازم. فلو اقتصر على الدين اللازم لو ردَّ عليه ما سيقترضه ونحوه مما لم يثبت. (أسنى المطالب: 2/151) .

(2)

ذكره المتولي وغيره، وجزم به في الأنوار، ونص الأم يشهد له. (أسنى المطالب وحاشية الرملي عليه: 2/151) ، ثم قال الشهاب الرملي: ويشترط أيضًا أن يمكن استيفاؤه من عين الرهن، واحترز به عن العمل في الإجارة إذا شرط أن يعمل بنفسه، فإنه كالعين، لا يجوز الرهن به وانظر: نهاية المحتاج وحاشية الشمس الرملي عليه: 4/243 وما بعدها.

(3)

الزرقاني على خليل: 5/247؛ ومواهب الجليل:5/16؛ والخرشي: 5/249؛ الكافي لابن عبد البر: ص410.

ص: 688

قال ابن الحاجب: شرط المرهون به أن يكون دينًا في الذمة لا زمًا أو صائرًا إلى اللزوم. قال: ويجوز – أي الرهن - على أن يقرضه أو يبيعه أو يعمل له، ويكون بقبضه الأول رهنًا. وعبارة ابن شاس: ليس من شرط الدين أن يكون ثابتًا قبل الرهن. بل لو قال: رهنت عندك عبدي هذا على أن تقرضني غدًا ألف درهم، أو على أن تبيعني هذا الثوب، ثم استقرض أو ابتاع منه، فإن الرهن يلزم، ويجب تسليمه إليه، وإن كان قد أقبضه إياه؛ صار بذلك القبض رهنًا (1) وإن امتنع عن البيع أو الإقراض بطل الرهن. (2)

وفي " بداية المجتهد ": " أصل مذهب مالك في المرهون فيه، أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلَّا الصرف ورأس المال في في السلم (3) المتعلق بالذمة؛ وذلك لأن الصرف من شرطه التقابض، فلا يجوز فيه عقدة الرهن، وكذلك رأس المال السلم، وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى.

فعلى مذهب مالك: يجوز أخذ الرهن في المسلم فيه، وفي القرض،وفي الغصب، وفي قيم المتلفات؛ وفي أروش الجنايات في الأموال، وفي جراح العمد الذي لا قَوَدَ فيه كالمأمومة (4) والجائفة (5) . وأما قتل العمد والجراح التي يقاد فيها، فيتخرج في جواز أخذ الرهن في الدية فيها إذا عفا الولي قولان:(أحدهما) أن ذلك يجوز. وذلك على القول بأن الولي مخير في العمد بين الدية والقود.

(والقول الثاني) أن ذلك لا يجوز. وذلك أيضًا مبني على أن ليس للولي إلا القود فقط إذا أبى الجاني من إعطاء الدية.

ويجوز في قتل أخذ الرهن ممن يتعين من العاقلة، وذلك بعد الحول. ويجوز أخذه في الإجارات، ويجوز في الجعل بعد العمل ولا يجوز قبله. ويجوز الرهن في المهر ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة، وبالجملة فيما لا تصح فيه الكفالة " (6) .

(1) شرح المواق على مختصر خليل: 5/16.

(2)

حاشية العدوي على شرح الخرشي 5/249

(3)

ومثل ذلك قال ابن جزي في القوانين الفقهية: ص328 (طبعة الدار العربية للكتاب) .

(4)

المأمومة: الشجاع الذي يصل إلى أم الدماغ. (المصباح المنير: 1/31)

(5)

الجائفة: الجراحة التي تصل إلى الجوف. (المصباح المنير 1/140) .

(6)

بداية المجتهد ونهاية المقتصد (المطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) 8/29.

ص: 689

الفصل الرابع

الكفالة (الضمان)

وسنتكلم في هذا الفصل عن معنى كفالة الدين ومشروعيتها وركنها.

(أ) معني كفالة الدين:

26– لقد اختلف الفقهاء في تعريف كفالة الدين على أربعة أقوال:

(1)

فذهب الشافعية (1) والحنابلة (2) إلى أنها "ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين، فيثبت في ذمتهما جميعًا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما ".

فإن قيل: الشيء الواحد لا يشغل محلين، فكيف يصح أن يشغل الدين الواحد ذمتين؟!

فالوجواب: أن إشغاله على سبيل التعلق والاستيثاق، كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن (3) ، وأنه كفرض الكفاية، يتعلق بالكل ويسقط بفعل البعض. وتعلقه هذا لا يعني تعدده، لأنه في الحقيقة واحد.. وما التعدد إلَّا بالنسبة لمن تعلق بهم فقط (4) . وعلى هذا فلا زيادة في الدين، لأن الاستيفاء لا يكون إلا من واحد منهما، كما في غاصب الغاصب، كلاهما ضامن لقيمة المغصوب، وليس للمالك إلَّا قيمة واحدة (5) .

(2)

وذهب المالكية إلى أنها " ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين ". إلَّا أنهم قالوا: ليس للمكفول له أن يطالب الكفيل بالدين إلا إذا تعذرعليه الاسيفاء من الأصيل، لأن الضمان وثيقة، فلا يستوفى الحق منها إلا عند العجز عن استيفائه من المدين كالرهن (6) .

(1) الأم: 3/229؛ والمهذب: 1/348؛ ونهاية المحتاج: 4/443.

(2)

المغني: 4/590؛ والشرح الكبير: 5/70؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/245؛ وكشاف القناع: 3/350 وما بعدها.

(3)

شرح منتهى الإرادات: 2/246.

(4)

نهاية المحتاج: 4/444.

(5)

الولاية على المال والتعامل بالدين ص106؛ وتبيين الحقائق، للزيلعي: 4/146.

(6)

الخرشي على خليل وحاشية العدوي عليه: 6/21، 28؛ والقوانين الفقهية: ص354؛ والزرقاني على خليل: 6/22، 29 ومنح الجليل: 3/243، 258؛ التزام التبرعات، للشيخ أحمد إبراهيم: ص235.

ص: 690

(3)

وذهب الحنفية إلى أنها ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في وجوب الأداء لا في وجوب الدين، لأن ثبوت الدين في الذمة اعتبار شرعي لايكون إلا بدليل، ولا دليل على ثبوته في ذمة الكفيل، لأن التوثيق يحصل بالمشاركة في وجوب الأداء من غير حاجة إلى إيجاب الدين في الذمة، كالوكيل بالشراء يطالب بالثمن، والثمن في ذمة الموكل وحده. وعلى هذا عرفوها بأنها " ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة "(1) .

(4)

وذهب ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود الظاهري وأبو ثور وأحمد في رواية عنه إلى أن الدين ينتقل بالكفالة إلى ذمة الكفيل- كما في الحوالة – فلا يكون للدائن أن يطالب الأصيل (2) .

27-

وعلى أية حال، فسواء كانت كفالة الدين تعني ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين أو في المطالبة فقط، أو تعني انتقال الدين من ذمة المكفول إلى ذمة الكفيل.. فإنها تقضي باتفاق الفقهاء التزام الكفيل بأداء الدين إلى الدائن إذا تعذر عليه استيفاؤه من الأصيل، وذلك هو معنى التوثيق وفائدته وثمرته.

(1) رد المحتار: 4/249؛ وتبيين الحقائق، للزيلعي:4/146؛ والمغرب: ص412؛ والتعريفات، للجرجاني: ص98؛ التزام التبرعات، لأحمد إبراهيم ص235؛ وانظر: م (839) من مرشد الحريران، وم (612) من مجلة الأحكام العدلية.

(2)

الشرح الكبير على المقنع: 5/71؛ والمحلى: 8/111.

ص: 691

(ب) مشروعيتها:

28– لقد ثبتت مشروعية الكفالة بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1)

قال ابن عباس: الزعيم هو الكفيل.

ووجه الاستدلال بالآية أن المنادي لم يكن مالكًا، إنما كان نائبًا عن يوسف ورسولًا له، فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع، ثم ضمن الحمل عنه لمن ردها. (2) .

وقد اعترض على هذا الاستدلال بأن ما جاء في الآية هو شرع من قبلنا!! والجواب على ذلك: أن شرع من قبلنا إذا أقره الإسلام ولم ينكره، فهو شرع لنا، وهذا حاصل في الكفالة.

وأما السنة: فما روى أبو داود والترمذي وأحمد والدارقطني والطيالسي وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبو يعلى عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((الزعيم غارم)) (3) .

وما روى البخاري والبيهقي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأبو داود والترمذي والنسائي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة ليصلي عليها فقال: هل ترك شيئًا؟ قالوا: لا. قال: فهل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير. قال: صلُّوا على صاحبكم.

فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يارسول الله وعليَّ دينه. فصلى عليه (4) .

وما روى أبو داود وابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلًا لزم غريمًا له بعشرة " دنانير، فقال: والله ما أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل. قال: فتحمل بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن، قال: لا حاجة لنا فيها، ليس فيها خير. فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .

وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الكفالة في الجملة، وإن اختلفوا في أحكام بعض فروعها (6) .

ولا يخفى أن حكمة مشروعية الكفالة هي كونها صورة من صور التعاون على الخير الذي حث الله تعالى عليه بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (7) .

ووجه التعاون فيها أنها تسهيل لعقود الناس ومدايناتهم التي يحتاجون إليها، ورفع لخوف الدائن على ماله بتوثيقه وحفظه له من التوى والضياع، وإزالة لخوف المدين على نفسه من العجز عن الوفاء. ومن هنا كانت عونًا للدائن والمدين معًا. يقول الزاهر البخاري:" وأما الحسن في الكفالة: فإن فيها إظهار الشفقة ومراعاة الأخوة ببذل الذمة ليضمها إلى الذمة، فيتفسح وجه المطالبة ويسكن قلب المطالب بسبب السعة "(8) .

(1) الآية 72 من سورة يوسف.

(2)

أحكام القرآن، لابن العربي: 3/1097؛ والتسهيل، لابن جزي الكلبي: 2/124.

(3)

سنن الدارقطني: 3/41؛ والدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/163؛ ومسند الإمام أحمد: 5/267؛ وبذل المجهود: 15/243؛ وعارضة الأحوذي: 6/21؛ وسنن ابن ماجه: 2/804؛ وسنن البيهقي: 6/72.

(4)

صحيح البخاري: 3/56؛ وسنن البيهقي: 6/72؛ وسنن ابن ماجه: 2/804؛ وبذل المجهود: 14/307؛ وسنن النسائي:4/65، 66؛ وعارضة الأحوذي: 4/290.

(5)

وبذل المجهود: 14/289؛ وسنن ابن ماجه: 2/804؛ وسنن البيهقي: 6/74.

(6)

المغني: 4/591.

(7)

الآية 2 من سورة المائدة.

(8)

محاسب الإسلام، للزاهد البخاري: ص94.

ص: 692

(ج) ركنها:

29– لا خلاف بين الفقهاء على أنه يشترط رضا الكفيل لصحة الكفالة (1) . كما أنه لا خلاف بينهم في عدم اشتراط رضا الأصيل (المضمون عنه) لتمامها (2) . قال ابن قدامة: " ولا بد من رضى الضامن. فإن أكره على الضمان لم يصح، ولا يعتبر رضى المضمون عنه، لا نعلم فيه خلافًا، لأنه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح، فكذلك إذا ضمن عنه (3) .

30– أما رضا الدائن المكفول له، فقد اختلف الفقهاء في اشتراطه على قولين:

(أحدهما) : للشافعية في الأصح والمالكية والحنابلة وأبي يوسف في قوله الثاني: وهو أنه لا يشترط رضى المكفول له، فتصح الكفالة بإرادة الكفيل والتزامه وحده، لأنها وثيقة لا يعتبر لها قبض، فلم يعتبر لها رضى كالشهادة، ولأنها مجرد التزام وهو يتم بعبارة الملتزم وحده وإرادته المنفردة (4) .

على أن فقهاء الحنفية اختلفوا في حمل وتوجيه رأى أبي يوسف هذا على قولين (5) :

أحدهما: أن الكفالة تنعقد بإيجاب الكفيل فقط، ولكنها تكون موقوفة على إجازة المكفول له، فإن أجازها نفذت، وإن ردها أو مات قبل الإجازة بطلت.

والثاني أنها تنعقد بإيجاب الكفيل فقط، وتنفذ أيضًا، ولا تكون موقوفة على إجازة المكفول له، ولكنها ترتد برده لأن الكفالة التزام، فيستبد به الملتزم ولا ضرر في ذلك على المكفول له لأنه لو ردها ارتدت كالإبراء. وهذا التوجيه هو الأصح كما ذكر العلامة ابن عابدين في " رد المحتار"(6) ، وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية، حيث جاء في م (621) منها:" تنعقد الكفالة وتنفذ بإيجاب الكفيل وحده، ولكن إن شاء المكفول له ردها فله ذلك، وتبقى الكفالة ما لم يردها المكفول له. وعلى هذا لو كفل أحد في غياب المكفول له بدين له على أحد، ومات المكفول له قبل أن يصل إليه خبر الكفالة، يطالب الكفيل بكفالته هذه ويؤاخذ بها ".

(1) المغني 4/591؛ الشرح الكبيرعلى المقنع: 5/78.

(2)

المحلى: 8/111؛ ومنح الجليل: 3/252؛ والشرح الكبير على المقنع: 5/78؛ وشرح الخرشي: 6/25؛ والزرقاني على خليل: 6/26؛ ونهاية المحتاج: 4/424؛ والمهذب: 1/347؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/247؛ وفتح العزيز: 10/358؛ ودرر الحكام: 1/627.

(3)

المغني: 4/591.

(4)

شرح منتهى الإرادات:2/248؛ والمغني: 4/591؛ والشرح الكبير على المقنع: 5/78؛ وفتح العزيز 10/359؛ ونهاية المحتاج: 4/424؛ والمهذب: 1/347؛ تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب (مطبوع ضمن فتاوى عليش) : 1/218؛ وردالمحتار: 4/269.

(5)

رد المحتار: 4/251؛ ودرر الحكام: 1/628؛ والتزام التبرعات: ص232.

(6)

رد المحتار: 4/251.

ص: 693

(والثاني) للشافعية في غير الأصح وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف في قوله الأول وهو المفتى به عند أكثرالحنفية: وهو أن ركن الكفالة الذي تنعقد به هو الإيجاب من الكفيل والقبول من المكفول له، لأن في عقد الكفالة معنى التمليك، وهو تمليك المطابقة من المكفول له، فلا يتم بعد الإيجاب إلَّا بقبوله، والموجود بإيجاب الكفيل شطر العقد، فلا بد لتمامه من القبول في المجلس (1) .

31– ويلوح لي أن أرجح القولين وأولاهما بالاعتبار قول جمهورالفقهاء بعدم اشتراط قبول المكفول له ورضاه لتمام الكفالة، وذلك لقوة ما استدلُّوا به، ولحديث سلمة بن الأكوع الآنف الذكر وحديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل، ويسأل عنه دينه، فإن قيل: عليه دين، كفَّ عن الصلاة عليه. وإن قيل: ليس عليه دين، صلَّى عليه، فأتي بجنازة، فلما قام ليكبر سأل أصحابه: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: عليه ديناران. فعدل رسول الله صلى عليه وسلم عنه وقال: صلُّوا على صاحبكم. فقال عليٌّ رضي الله عنه: هما عليَّ، برئ منهما، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه، ثم قال لعليٍّ: جزاك الله خيرًا، فكَّ الله رهانك كما فككت رهان أخيك، إنه ليس من ميت يموت وعليه دين إلَّا وهو مرتهن بدينه، فمن فكَّ رهان ميت فكَّ الله رهانه يوم القيامة. فقال بعضهم: هذا لعليٍّ خاصة أم للمسلمين عامة؟! فقال: لا بل للمسلمين عامة. رواه الدارقطني والبيهقي (2) .

فدلَّ هذان الحديثان على أن الكفالة تتم بالتزام الضامن وحده، ولا تتوقف على رضى المضمون له.

(د) الدين الذي تصح الكفالة به:

32– اختلف الفقهاء في شروط الدين الذي تصح الكفالة به على أربعة أقوال:

(أحدها) للمالكية والحنابلة، وهو أنه يشترط في الدين المكفول به أن يكون واجبًا في الذمة أو آيلًا للوجوب فيها، سواء أكان مجهولًا أو معلومًا.

فيصح الضمان بما يثبت على فلان، أو بما يقر به، أو بما يخرج بعد الحساب عليه، أو بما يداينه فلان، ونحو ذلك. ويكون للضامن إبطال الكفالة بما يؤول للوجوب قبل وجوبه، لعدم اشتغال ذمته به (3) .

(1) فتح العزيز: 10/359؛ والمهذب: 1/347؛ ورد المحتار: 4/269؛ وتبيين الحقائق، للزيلعي:4/159، والتزام التبرعات: ص233؛ وانظر: م (840) من مرشد الحيران، نهاية المحتاج: 4/424.

(2)

سنن الدارالقطني: 3/47؛ سنن البيهقي: 6/73.

(3)

كشاف القناع: 3/354 وما بعدها، شرح منتهى الإرادات:2/248؛ والمبدع: 4/252 وما بعدها، والمغني:4/592؛ وانظر م (1083/1092/1093) . من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد للقاري، الكافي لابن عبد البر: ص398؛ والقوانين الفقهية (طبعة الدار العربية للكتاب) : ص330؛ والزرقاني على خليل: 6/24 وما بعدها؛ والتفريع، لابن الجلاب: 2/285؛ ومواهب الجليل للحطاب: 5/99 وما بعدها، والتاج والإكليل، للمواق: 5/98 – 100؛ والخرشي: 6/24؛ وبداية المجتهد (المطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) : 8/108؛ وإرشادالسالك، لابن عسكر المالكي: ص133.

ص: 694

واستدلُّوا على عدم اعتبار كون الدين معلومًا لصحة الكفالة به بقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1) ، حيث أجاز المولى سبحانه الكفالة بحمل البعير، وهو غير معلوم، لأنه يختلف باختلاف المحمول عليه، فيحتمل الزيادة والنقصان بحسب قوة وضعف المحمول عليه قالوا: ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالإقرار والنذر. ولأنه يصح تعليقه بغرر وخطر – وهو ضمان العهدة – إذا قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ ضمانه. أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا الرفاء، وعليَّ ضمانها، فيصح في المجهول، كالطلاق والعتاق.

واحتجُّوا لصحة ضمان ما لم يجب إذا آل الوجوب بالآية الآنفة الذكر، حيث دلت على ضمان حمل البعير، مع أنه لم يكن واجب. قالوا: فإن قيل الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين، فإذا لم يكن على المضمون عنه حق فلا ضم فيه، فلا يكون ضمانًا؟! أجيب: بأنه قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه، ويثبت في ذمته ما يثبت فيها، وهذا كافٍ.

(والثاني) للحنفية، وهو أنه يشترط في الدين المكفول به أن يكون صحيحًا ثابتًا في الذمة، سواء أكان معلومًا أو مجهولًا. ومرادهم بالدين الصحيح " ما لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء ".

قالوا: وإنما صحت الكفالة مع جهالة المال، لا بتنائها على التوسع، فإنها تبرع ابتداء، فيتحمل فيها جهالة المال المتعارفة.

وعلى ذلك نصوا على عدم صحة الكفالة عن المكاتب لمولاه ببدل الكتابة، لأنه ليس دينًا صحيحًا، لأن المكاتب يملك إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز.

كما نصُّوا على أن من الدين الضعيف الذي يسقط بدون الأداء أو الإبراء:

دين الزكاة، فلا تصح الكفالة به عندهم، لأنه يسقط بالموت وبهلاك المال (2) .

(1) الآية 72 من سورة يوسف.

(2)

رد المحتار: 4/263، وما بعدها؛ وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 4/152 وما بعدها؛ وبدائع الصنائع: 6/8؛ وتحفة الفقهاء: 3/400؛ ومجمع الأنهر والدر المنتقى: 2/130؛ وقد جاء في م (852) من مرشد الحيران " تصح الكفالة بالمال، سواء أكان معلومًا أو مجهولًا، وإنما تصح بالدين الصحيح الثابت في الذمة، وهو ما لا يسقط إلَّا بالأداء أو الإبراء ". وجاء في م (853) منه أيضًا: " لا تصح الكفالة بالدين غيرالصحيح إلَّا بدين النفقة المقدرة للزوجة بالتراضي أو بأمر القاضي ". وعلَّلوا هذا الاستثناء بأنه استحسان للحاجة. انظر م (631) من مجلة الأحكام العدلية، وشرح المجلة، للأتاسي: 3/24 وما بعدها.

ص: 695

(والثالث) للظاهرية، وهو أنه يشترط في الدين المكفول به أن يكون ثابتًا في الذمة وقت إنشاء عقد الكفالة، وأن يكون معلومًا (1) .

وعلى ذلك، فلا يصح ضمان المجهول، مثل أن يقول له: أنا أضمن عنك ما لفلان عليك. قال ابن حزم: " لقول الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) . ولإخباره صلى الله عليه وسلم " أنه لا يحل مال ملسم إلَّا بطيب من نفسه " (3) ، والتراضي وطيب النفس لا يكون إلَّا على معلوم القدر، وهذا أمر يعلم بالحس والمشاهدة "(4) .

وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب بعد، كمن قال لآخر: أنا أضمن عنك ما تستقرضه من فلان. أو قال له: اقترض عن فلان دينارًا، وأنا أضمنه عنك. أو قال له: أقرض فلانًا دينارًا، وأنا أضمنه لك، قال ابن حزم:" لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل، فهو باطل. ولأن الضمان عقد واجب، ولا يجوز الواجب في غير واجب، وهو التزام ما لم يلزم بعد، وهذا محال، وقول فاسد وكل عقد لم يلزم حين التزامه، فلا يجوز أن يلزم في ثان وفي حين لم يلتزم فيه، فقد لا يقرضه ما قال له، وقد يموت القائل لذلك قبل أن يقرضه ما أمره بإقراضه، فصح بكل هذا أنه لا يلزم ذلك القول "(5) .

(1) المحلى: 8/117.

(2)

الآية 29 من سورة النساء.

(3)

أخرجه البيهقي والدارقطني، وأبو يعلى من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعًا:(انظر: السنن الكبرى، للبيهقي: 6/100؛ وسنن الدارقطني: 3/26؛ ومسند أبي يعلى: 3/140) .

(4)

المحلي، لابن حزم: 8/ 117.

(5)

المحلى، لابن حزم: 8/117.

ص: 696

(والرابع) للشافعية، وهو أنه يشترط في الدين المضمون ثلاث صفات: أن يكون ثابتًا وقت الضمان، وأن يكون لازمًا (1) . أو آيلًا للِّزوم، وأن يكون معلومًا للضامن جنسًا وقدرًا وصفة.

وعلى ذلك، فلا يصح ضمان دين لم يجب، كدين قرض أو بيع سيقع؛ لأنه وثيقة بحق، فلا يتقدم ثبوت الحق كالشهادة (2) . كما لا يصح ضمان المجهول ولاغير المعين كأحد الدينين؛ لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، فلم يصح مع الجهل، كالثمن في البيع. ويصح الضمان بالثمن قبل قبض المبيع، ولو في مدة الخيار، لأنه بعدها لازم، وقبلها آيل إلى اللزوم بنفسه عن قرب، فاحتيج فيه إلى التوثيق. كما يصح بالصداق قبل الدخول للزومه وإن لم يكن مستقرًّا (3)

33 – وبالنظر في هذه الأقوال الأربعة يبدو جليًّا أن اختلاف الفقهاء في شروط الدين المكفول به هو نفسه – في الجملة – في شروط الدين المرهون به، وذلك لأن الأصل عند سائر الفقهاء " أن ما جاز أخذ الرهن به جاز ضمانه، وكذا عكسه "(4) . ولا يخفى أن هذه القاعدة أغلبية، ليست مطردة في كل الأحوال (5) . والله سبحانه وتعالى أعلم.

وآخردعونا أن الحمد لله رب العالمين

الدكتور نزيه كمال حماد

(1) ولو غير مستقر، قال الشمس الرملي: والمراد باللازم ما لا يتسلط على فسخه من غير سبب، ولو باعتبار وضعه: وقد علق الشبراملسي على ذلك، فقال: دفع به ما يقال لا حاجة للجمع بين قوله لازمًا وقوله ثابتًا، إذ اللازم لا يكون إلَّا ثابتًا!! وحاصل الجواب: أن اللازم قد يطلق باعتبار ما وضعه ذلك، فثمن المبيع يقال له لازم باعتبار أن وضعه ذلك، ولو قبل قبض المبيع، مع أنه ليس بثابت، فأحدهما لا يغني عن الآخر (نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه: 4/427) .

(2)

ويستثنى من ذلك ضمان العهدة، وهو ضمان الدرك، فإنه يجوز وإن لم يكن بحق ثابت لمسيس الحاجة إليه. (نهاية المحتاج: 4/425؛ وأسنى المطالب: 2/238)

(3)

انظر: أسنى المطالب: 2/237 –240؛ وروضة الطالبين: 4/244 - 252؛ ونهاية المحتاج: 4/424 وما بعدها؛ والمهذب: 1/347 وما بعدها.

(4)

كشاف القناع: 3/356؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/248؛ وبداية المجتهد (المطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) : 8/30؛ وأسنى المطالب: 2/151؛ وقد جاء في م (1083) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد: " كل ما صح أخذ الرهن به من الحقوق، صحَّ الضمان به ".

(5)

انظر: روضة الطالبين:4/55؛ وأسنى المطالب: 2/151؛ ويقول صاحب الدر المنتقى شرح الملتقى: (2/130) : " وتجويز الزيلعي الرهن في كل ما تجوز الكفالة به بجامع التوثيق منقوض بالدرك، لجواز الكفالة به دون الرهن ".

ص: 697

المناقشة

البيع بالتقسيط

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أمامنا الآن موضوع " البيع بالتقسيط " والعارض له فضيلة الشيخ القاضي محمد تقي العثماني والمقرر فضيلة الشيخ نزيه كمال حماد.

القاضي محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

أود قبل أن أدخل في عرض البحوث المقدمة في موضوع البيع بالتقسيط في هذه الدورة، أود أن أشير إلى أن هذا الموضوع " البيع بالتقسيط " قد سبق أن درس في الدورة الماضية السادسة لهذا المجمع، ولكن رأى المجلس بعد المناقشات والمداولات أن هناك جوانب مختلفة لهذا الموضوع تحتاج إلى مزيد من الدراسة، فاتَّخذَ القرار في بعض المسائل وأَرجأَ اتخاذ القرار في بعض المسائل الأخرى، فيكون من المناسب أن أقرأ في بداية عرضي القرار الذي اتخذ في الدورة السادسة لئلا نقع في التكرار ولئلا نقع في مناقشة المسائل التي قد سبق أن قررت في هذا المجمع، والقرار هذا أقرؤه عليكم:

ص: 698

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع البيع بالتقسيط، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر:

أولًا: تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه بالأقساط لمدد معلومة، ولا يصح البيع إلَّا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد فهو غير جائز شرعا.

ثانيًا: لا يجوز شرعا في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة.

ثالثا: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.

رابعا: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.

خامسًا: يجوز شرعا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.

سادسًا: لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.

هذه ستة قرارات قد اتخذت في موضع البيع بالتقسيط، ثم إن هناك توصية في هذا القرار بدراسة بعض المسائل المتصلة ببيع التقسيط للبتِّ فيها إلى ما بعد إعداد دراسات وأبحاث كافية فيها، ومنها:

ص: 699

أولًا: خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى البنوك.

ثانيًا: تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه وهي مسألة " ضع وتعجل ".

ثالثًا: أثر الموت في حلول الأقساط المؤجلة.

إذن فمهمتنا اليوم في هذه الدورة هي دراسة هذه الموضوعات الثلاثة التي أوصت الدورة السادسة بدراستها دراسة كافية، والموضوعات التي اتخذ القرار فيها لا حاجة لنا إلى البحث فيها في هذه الدورة، وبالرغم من أن البحوث التي قدمت لهذه الدورة قد تناول بعضها بعض هذه المسائل التي سبق أن قررت في الدورة السادسة، فإني في عرضي الآن أقتصر على هذه المسائل الثلاثة وعلى ما أضيف إليها من قبل الأمانة العامة من موضوع توثيق الدين وصوره المختلفة، فموضوع عرضي الآن هو مسائل أربع: الأول خصم الكمبيالة، والثاني تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه يعني مسألة ضع وتعجل، والثالث أثر الموت أو خراب الذمة في حلول الأقساط وفي حلول الدين، والرابع طرق توثيق الدين، والبحوث التي عرضت في هذه المواضيع الأربعة هي بحوث أربعة: بحث سيادة الدكتور رفيق يونس المصري، وبحث للدكتور محمد عطا السيد، وبحث الدكتور نزيه كمال حماد، وبحث لهذا العبد الضعيف.

فأشرع بمسألة توثيق الدين وأنواعه أولًا، وهي الموضوع الرابع من هذه الموضوعات الأربعة التي اتخذت لهذه الدورة، وبما أن الثمن في البيع المؤجل يصير دينًا على المشتري فور تمام العقد، فإنه يجوز للبائع أن يطالبه بتوثيق لهذا الدين، أو بضمان للتسديد عند حلول الأجل، أما ضمان التسديد فيمكن بطريق الرهن أو بكفالة من الطرف الثالث، وفي الصورة الأولى يرهن المشتري شيئا من ممتلكاته لدى البائع، ويحق للبائع أن يمسكه كضمان للتسديد، فهذا شيءٌ معروف في الفقه الإسلامي ولا أريد أن أدخل في تفاصيل الرهن، فإنها معروفة، ولكن هناك مسألة رهن قد استحدثت وهي رهن السائل الذي هو نوع مستحدث من الرهن قد تكلمت فيه في الصفحة العاشرة من بحثي، وهو أنه في قوانين كثير من البلاد الإسلامية لا يقبض فيه المرتهن على الشيء المرهون، وإنما يبقى بيد الراهن، ولكن يحق للدائن إذا قصر المدين في الأداء أن يطالب ببيعه وتسديد دينه من حصيلة بيعه، وهذا النوع من الرهن يسمَّى أحيانا الرهن الساذج وباللغة الإنجليزية (Simple mortgage) ، وأحيانًا الذمة السائلة وباللغة الإنجليزية (Floating charge) ، وهذا مثل أن يرهن المدين سيارته لدى الدائن، ولكن تبقى السيارة بيد المدين الراهن يستعملها لصالحه كيف يشاء، ولكن لا يجوز له نقل ملكيتها إلى شخص ثالث حتى يفتك الرهن السائل بتسديد الدين، ويثبت للدائن الورتهن حق بيعها إذا قصر صاحبها في أداء دينه، وأن هذا الحقَّ يُسمَّى "الذمة السائلة"(Floating Charge) فهل يجوز شرعًا توثيق الدين بهذا النوع من الرهن؟

ص: 700

وربما يقع الإشكال في جوازه من الناحية الفقهية، أن معظم الفقهاء قد اشترطوا قبض المرتهن لصحة عقد الرهن أو لتمامه على أساس قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، وفي الرهن السائل لا يقبض المرتهن على الشيء المرهون، فينبغي أن لا يصح هذا الرهن.

والواقع أن الفقهاء، وإن اشترطوا قبض المرتهن للشيء المرهون، ولكنهم في الوقت نفسه أجازوا بعد ذلك للراهن أن يستعير ذلك الشيء منه، وينتفع به لصالحه، ولا يفسد بذلك الراهن، بل يحق للمرتهن أن يسترده متى شاء، ولئن هلك الشيء المرهون عند الراهن، فإنما يهلك على ملكه، ويحق للمرتهن أن يبيعه لتسديد دينه عند حلول الأجل، ولا يكون فيه أسوة لسائر الغرماء عند إفلاس الراهن أو موته، وهذا مصرح به في عدة كتب من الفقه وقد نقلت بعض العبارات من الهداية ومن فتح القدير ورد المحتار.

ولكن هذا إذا تم عقد الرهن بقبض المرتهن مرة، ثم أعاره المرتهن للراهن، أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن أصلًا، فهل يثبت حكم الإعارة في تلك الصورة أيضًا؟ الظاهر من عبارات الفقهاء أنه لا يثبت ذلك في تلك الصورة بناء على اشتراط القبض لصحة الرهن، ولكن ههنا ملاحظات أذكرها لتأمل الفقهاء المعاصرين وهي ما يلي:

أولًا: إن المرتهن في الرهن السائل، وإن كان لا يقبض الشيء المرهون، ولكنه في عموم الأحوال يقبض على مستندات ملكيته، فيحتمل أن يقال: إن الرهن قد تم بقبض المستندات، ثم صار الشيء المرهون كالعارية في يد الراهن.

ص: 701

وثانيًا: إن علة اشتراط القبض في الرهن، كما ذكره الفقهاء، هو تمكن المرتهن من تسديد دينه ببيع ذلك الشيء عند الحاجة، وإن هذا المقصود حاصل في الرهن السائل على أساس شروط الاتفاقية المعترف بها قانونًا فيحتمل أن يكون القبض الحسي غير لازم في الصورة المذكورة لحصول المقصود في هذه الشروط المقررة.

ثالثًا: المقصود من الرهن هو توثيق الدين وقد أجازت الشريعة لحصول هذا المقصود أن يحبس الدائن ملك المديون ويمنعه من التصرف فيه إلى أن يتم تسديد الدين، فإن رضي الدائن بحصول مقصوده بأقل من ذلك، وهو أن يبقى العين المرهونة بيد الراهن، ويبقى للمرتهن حق التسديد فقط، فلا يرى في ذلك أي محظور شرعي.

رابعًا: إن الرهن السائل فيه مصلحة للجانبين، أما مصلحة الراهن فظاهرة، من حيث إنه لا يحرم من الانتفاع بملكه، وأما مصلحة المرتهن، فمن حيث إنه يحتفظ بحق التسديد دون أن يضمن الشيء المرهون عند الهلاك، غاية الأمر أنه ربما يتضرر به الغرماء الآخرون عند إفلاس الراهن، فإن المرتهن يكون أحق بذلك الشيء ممن سواه من الغرماء، ولكن ضررهم هذا لم يعتبر شرعًا فيما إذا كان الرهن مقبوضًا للمرتهن، وفيما إذا قبضه المرتهن، ثم استعاره الراهن منه، كما تقدم، فتبين أن مجرد هذا الضرر لا يفسد الرهن.

خامسًا: إن القبض على الشيء المرهون ربما يكون متعذرًا في التجارة الدولية، التي يكون البائع فيه ببلد، والمشتري ببلد آخر، والشيء المرهون يتطلب مؤونة كبيرة ونفقات باهظة لتحويله من محل إلى آخر، ولا سبيل لتوثيق الدين في مثل هذه الصورة إلا بالرهن السائل.

وإن هذه الملاحظات الخمس قد تجعلني أميل إلى جواز الرهن السائل، والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها، والله سبحانه أعلم،

ثم هناك طريق آخر للتوثيق، وهو الكفالة من طرف ثالث، وهذه المسألة أيضًا لا أحتاج إلى الإطالة فيها لأن موضوع الكفالة واضح ومذكور في كتب الفقه، والبحث لديكم، وما أثيرت فيه من مسائل قد سبق أن قرر فيه المجمع في دورته السابقة، فلا أريد أن أطيل في هذا الموضوع.

ص: 702

ثم المسألة الثانية، وهي مسألة توثيق الدين بالكمبيالة ومدى شرعية خصم الكمبيالة، وقد تكلمت فيه وتكلم فيه الباحثون الآخرون، وكلهم متفقون على أن توثيق الدين بالكمبيالة، لا مانع منه شرعًا، ولكن خصم الكمبيالة كما يقع في البنوك فإنه ربا ولا سبيل إلى القول بجوازه، إما لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، وقد تحدَّث عنه أخونا الدكتور نزيه حماد في بحثه بتفصيل: أن بيع الدين من غير من عليه الدين يجوز عند بعض الفقهاء ولا يجوز عند أكثرهم.

فخصم الكمبيالة هو بيع الدين من غير من عليه الدين، إما أن نقول بمنعه من هذه الجهة أو لأنه من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة مؤجلًا، وحرمته منصوصة في أحاديث ربا الفضل، فالباحثون كلهم الذين قدموا أبحاثًا في هذا الموضوع متفقون على منع خصم الكمبيالة وعلى أنه ربا ممنوع شرعًا.

ولكن هذه المعاملة يمكن تصحيحها بتغيير طريقها، وذلك أن يوكل صاحب الكمبيالة البنك باستيفاء دينه من المشتري (وهو مصدر الكمبيالة) ويدفع إليه أجرة على ذلك (أجرة على استيفاء الدين) ثم يستقرض منه بعقد آخر منفصل مبلغ الكمبيالة، ويأذن له أن يستوفي هذا القرض مما يقبض من المشتري بعد نضج الكمبيالة، فتكون هناك معاملتان مستقلتان كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى، الأولى معاملة باستيفاء الدين بالأجرة المعينة والثانية معاملة الاستقراض من البنك بدون فائدة، والإذن باستيفاء القرض من الدين المرجو حصوله بعد نضج الكمبيالة، فتصح كلتا المعاملتين على أسس شرعية. أما الأولى فلكونها توكيلًا بالأجرة وذلك جائز، وأما الثانية فلكونها استقراضًا غير شرط زيادة، وهو جائز أيضًا.

ثم المسألة الثانية المعروضة في هذه الدورة، هي مسألة إسقاط الدين مقابل التعجيل وهي مسألة " ضع وتعجل " وربما يعبر عنها بالصلح بالحطيطة، وقد تكلم عن هذه المسألة أكثر الباحثين الذين قدموا أبحاثًا في هذا الموضوع. وكما تعرفون أن هذا الموضوع " ضع وتعجل " لم يزل موضع خلاف بين الفقهاء منذ القديم، وقد ذكر الباحثون مواقف مختلفة للفقهاء وذكرت أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من الصحابة وإبراهيم النخعي من التباعين وزفر بن الهذيل من الحنفية وأبو ثور من الشافعية، ذهبوا إلى جواز ضع وتعجل. ولكن روي عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت من الصحابة رضي الله عنهم، وعن محمد بن سيرين والحسن البصري وابن المسيب والحكم بن عتيبة والشعبي رحمهم الله من التباعين، عدم جواز ذلك، وهو قول الأئمة الأربعة.

ص: 703

فالبحوث التي وصلت إلينا في هذا الموضوع، الدكتور رفيق المصري مال إلى جواز ضع وتعجل واستدل بقصة بني النضير كما سيأتي إن شاء الله، وأما الدكتور نزيه كمال حماد فقد ذكر مذاهب الفقهاء ولم يبت فيه بالأخذ بأحد هذه الأقوال. والأصل أن هناك حديثين مرفوعين متعارضين وفي إسناد كل واحد منهما ضعف.

أما الحديث الأول، فقد أخرجه البيهقي بإسناده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناس منهم فقالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ضعوا وتعجلوا)) .

وهذا الحديث يدل على الجواز، ويعارضه ما أخرجه البيهقي في الباب اللاحق عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: أسلفت رجلًا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عجل لي تسعين دينارًا وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" أكلت ربا يا مقداد وأطعمته؟ ".

وقد صرح الإمام البيهقي رحمه الله تعالى، بأن كل واحد من الحديثين ضعيف من جهة الإسناد، فلا تقوم أي منهما حجة. ورجح جمهور الفقهاء جانب الرحمة، لأن زيادة الدين في مقابلة التأجيل ربا صراح، فكذلك الحط من الدين بإزاء التعجيل في معناه.

أما قصة بني النضير، ليس فيه حجة، أما أولًا فلأن إسنادها ضعيف، وأما ثانيًا فلأنه لو ثبتت هذه القصة من جهة الإسناد، فيمكن أن يقال: إن قصة إجلاء بني النضير وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل نزول حرمة الربا.

وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه القصة في شرح السير الكبير، واستدل بها على مذهبه المعروف على أنه لا ربا بين المسلم والحربي. قال: ولما أجلي بنو النضير قالوا: إن لنا ديونًا على الناس، فقال: ضعوا وتعجلوا، ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لا يجوز بين المسلمين، فإن من كان له على غيره دين إلى أجل، فوضع عنه بعضه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز.

ص: 704

وحاصل هذا الجواب أن المسلمين كانوا في حالة الحرب مع بني النضير، فكان يجوز لهم أن يقبضوا جميع أموالهم في تلك الحالة فلو استوضعوا بعض الديون، جاز ذلك من باب أولى.

والوجه الرابع في الاعتذار عن قصة بني النضير أن اليهود كانوا يداينون الناس على أساس الربا والذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه، هو الربا الزائد على رأس المال، ولم يأمرهم بالوضع في رأس المال نفسه، ويؤيده أن الواقدي ذكر هذه القصة في سيره، فقال: فأجلاهم (أي بني النضير) رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وولى إخراجهم محمد بن مسلمة، فقالوا: إن لنا ديونًا على الناس إلى آجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تعجلوا وضعوا ". فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارًا، وأبطل ما فضل.

فهذه الرواية تكاد تكون صريحة على أن ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القبض الزائد على رأس المال، ولم يأمر بالوضع من رأس المال نفسه، ولكن كما تعرفون هذه رواية الواقدي، والواقدي روايته غير مقبولة في الأحكام، ولكن ما دمنا نستدل بقصة بني النضير وإسنادها ضعيف، فلو جئنا بما يشرحه بطريق ضعيف، فهذا لا مانع منه، فهذه رواية صريحة بأن الموضوع كان هو الربا لا حصة من رأس المال، ومن هنا ذهب جمهور العلماء بالقول بتحريم ضع وتعجل، وذكرت نصوص الفقهاء في هذا الصدد ولا حاجة إلى قراءتها، فإنه بين أيديكم في البحث.

ص: 705

ولكن الذي يبدو أن حكم المنع هذا، يعني حكم ضع وتعجل يختص بالديون المؤجلة، أما الديون الحالة التي لا يكون الأجل فيها مشروطًا في العقد، وإنما بتأخر المدين في الأداء لسبب أو آخر، فالظاهر أنه لا بأس بالصلح على إسقاط بعض الدين بشرط أن يؤدي المديون الدين المتبقي معجلًا، وهذا قد صرح به علماء المالكية، جاء في المدونة الكبرى: قلت أرأيت لو أن لي على رجل ألف درهم قد حلت، فقلت: أشهدوا إن أعطاني مائة درهم عند رأس الشهر، فتسعمائة درهم له، وإن لم يعطني فالألف كلها عليه، قال مالك: لا بأس بهذا، وقد صرح به علماء المالكية الآخرون أيضًا وقد نقلت عباراتهم.

ويبدو أن مذهب غيرهم من الفقهاء موافق لهم في ذلك، فإنهم حيث ذكروا حرمة ضع وتعجل، قيدوا ذلك بالديون المؤجلة، كما هو ظاهر من عبارة الإمام محمد بن حسن في موطأه ومن ترجمة الباب التي عقدها، كذلك قيد ابن قدامة هذه المسألة بالدين المؤجل.

ومما يجدر بالذكر هنا، أن عقد القرض الحسن لا يتأجل عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ويتأجل عند المالكية فقط كما هو معروف لدى الفقهاء فعلى قول من يقول: إن القرض لا يتأجل بالتأجيل، يجوز ضع وتعجل في القروض، لأنها من الديون الحالة التي يجوز فيها ضع وتعجل، والأصل فيه حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه كان له على عبد الله بن حدرد الأسلمي رضي الله عنه دين، فلقيه فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت الأصوات، فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب، وأشار بيده كأنه يقول: النصف، فأخذ نصف ما عليه وترك نصفًا.

وكذلك المنع من الوضع بالتعجيل في الديون المؤجلة إنما يكون إذا كان الوضع شرطًا للتعجيل، أما إذا عجل المديون من غير شرط، جاز للدائن أن يضع عنه بعض دينه تبرعًا.

ثم إن هنالك ناحية أخرى في هذه المسألة، تعرض لها فقهاء الحنفية، وهي ضع وتعجل، خصوصًا في عقود المرابحة المؤجلة، ما ذكرناه حتى الآن كان يتعلق بالبيوع المساومة يعني في البيوع المطلقة التي لا يعقدها البائع بطريق المرابحة، فيعقد البيع بدون ذكر قدر الربح الذي يريد أن يرابحه عليه، أما إذا كان البيع بطريقة المرابحة، وقد صرح فيه البائع بزيادة في الثمن من أجل الأجل، فقد أفتى بعض المتأخرين من الحنفية بأنه إذا قضى المديون الدين قبل حلول الأجل، أو مات قبله، فإن البائع لا يأخذ من الثمن إلا بمقدار ما مضى من الأيام، ويحط من دينه ما كان بإزاء المدة الباقية.

ص: 706

وهذه المسألة مذكورة في الدر المختار، وقد شرحها ابن عابدين، يقول: اشترى شيئًا بعشرة نقدًا وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشر أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أشهر أو مات بعدها، يأخذ خمسة ويترك خمسة. وإن هذه الفتوى من متأخري الحنفية تفرق بين بيوع المساومة وبيوع المرابحة التي يصرح فيها البائع بزيادة الثمن بسبب الأجل، فلا يجوز ضع وتعجل في بيوع المساومة كما أسلفنا، ويجوز في بيوع المرابحة، ولعلهم أفتوا بذلك على أساس أن الأجل وإن لم يكن صالحًا للاعتياض عنه على سبيل الاستقلال، ولكن يجوز أن يقع بإزائه شيء من الثمن ضمنًا وتبعا. فما لا يجوز بيعه مستقلًّا، قد يجوز الاعتياض عنه تبعًا. ولما كان أساس المرابحة المؤجلة على بيان قدر من الربح، جاز أن يكون شيء من الربح بإزاء الأجل، فصار الأجل كأنه وصف في المبيع فلما انتقص ذلك الوصف بأداء الدين قبل الحلول، أو سبب حلوله بموت المديون، انتقص الثمن بقدره. وإلى هذا المعنى أشار ابن عابدين في تعليل هذه المسألة.

وهذا التوجيه، وإن كان فيه شيء من الوزن، ولكنه مخالف للدلائل التي أسلفناها في منع ضع وتعجل، فإنها وردت في كل دين مؤجل، دون فرق بين المساومة والمرابحة، وإن العمل بهذه الفتوى قد يجعل المرابحة والبيع بالتقسيط أكثر مشابهة بالمعاملات الربوية، التي يتردد فيها القدر الواجب في الذمة ما بين القليل والكثير مرتبطًا بالآجال المختلفة للأداء، فلا أرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط، ولا في المرابحات التي تجريها المصارف الإسلامية اليوم.

الآن المسألة الرابعة المطروحة في هذه الدورة، هي مسألة خراب الذمة وأثر موت المديون في حلول الدين، وهذه المسألة مذكورة في الصفحة الثانية والأربعين من بحثي (1) . والمسألة: هل يبقى الدين بعد موت المدين مؤجلًا كما كان، أو يصير حالًّا، فيطالب الدائن الورثة بأدائه من تركة الميت فورًا، أو يطالبه بعد حلول الأجل؟. وقد اختلف في هذه المسألة أقوال الفقهاء، فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن الدين المؤجل يحل بموت المدين، وهو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أيضًا، ولكن المختار عند الحنابلة أن الورثة إن وثقوا الدين، فإنه لا يحل بموت المدين، و، إنما يبقى مؤجلًا كما كان، قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة، فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان: إحداهما لا تحل إذا وثق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد، وقال طاووس وأبو بكر بن محمد الزهري وسعيد بن إبراهيم: الدين إلى أجله، وحكي ذلك عن الحسن، والرواية الأخرى، أنه يحل بالموت، وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنه لا يخلو، إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة، أو يتعلق بالمال، ثم ذكر ابن قدامة رحمه الله ترجيحه لمذهب من يقول ببقاء الدين مؤجلًا، إذا وثقه الورثة بكفيل أو رهن، وذكر دلائله.

(1) راجع صفحة 63 من هذا الجزء

ص: 707

وأما الحنفية، فإنهم وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين على قول جمهور الفقهاء المتبوعين، ولكن المتأخرين منهم لم يفتهم النظر إلى أن في المرابحة المؤجلة تكون حصة من الثمن مقابلة للأجل، كما أسلفنا، فلو ألزمنا على تركة المشتري أن يؤخذ منها الثمن كاملًا في الحال قبل حلول الأجل، لصارت الحصة المقابلة للمدة الباقية بدون عوض، وفيه ضرر للمشتري الذي لم يرض بهذا القدر من الثمن إلَّا إذا كان مؤجلًا بأجل متفق عليه. وذلك أفتوا بأن المشتري لا يؤدي من ثمن المرابحة في هذه الصورة إلَّا بقدر ما مضى من الأيام.

والحاصل عندي في هذه المسألة أن جمهور الفقهاء المتبوعين، وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين، ولكن في عمليات البيع بالتقسيط والمرابحة المؤجلة التي يكون حصة من الثمن فيها مقابلة للأجل، لو أخذنا بمبدأ حلول الدين بكامله، لتضرر به ورثة المدين، فينبغي فيها الأخذ بأحد القولين: إما بقول المتأخرين من الحنفية بسقوط تلك الحصة من الدين التي تقابل المدة الباقية من الأجل المتفق عليه، فلا يؤخذ من التركة إلا بقدر ما مضى من الأيام، أو يؤخذ بقول الحنابلة من بقاء الدين مؤجلًا كما كان، بشرط أن يوثقه ورثة المدين بوثيقة معتمدة، ولعل الصورة الأخيرة أولى للبعد عن تذبذب الثمن بآجال مختلفة، الذي فيه مشابهة صورية للمعاملات الربوية.

وأما الأستاذ الدكتور رفيق المصري فإنه رجح إلى أنه يحل الدين بموت المدين.

فهذه خلاصة ما عرض في هذه الأبحاث التي قدمت في هذه الدورة في موضوع البيع بالتقسيط. وأكتفى بهذا القدر وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 708

الرئيس:

شكرًا للشيح تقي على هذا العرض الوافي، وبقي إضافة بسيطة فيما يتعلق بقوله " ضع وتعجل " وهو أن ما ذكرتموه أنه مذهب الجمهور صحيح، لكن في مذهب الإمام أحمد روايتان، الرواية الأخرى هي الجواز، وبها أخذ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية رحمهما الله تعالى، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بني النضير صححه الحاكم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو على شرط السنن، كما ذكر الشيخان ومداره على مسند ابن خالد، ومسند ابن خالد احتج به الشافعي ووثقه آخرون كذلك، فحديث بني النضير هو أقوى شأنا من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم.

لا شك في أن هذا البيان الضافي الذي أوضحه فضيلة القاضي العثماني محقق للغاية بالقدر الذي نتمكن فيه من إبداء الرأي حول بيع التقسيط، والذي يشتبه كثيرًا في أذهان العامة وعند الناس مع البيوع الربوية ويكادون لا يصدقون أن البيع بالتقسيط جائز علمًا إذا كان بسعر أكثر من السعر الحالي، وتثور مشكلات كثيرة في طريق إقناع هؤلاء بأن هناك فرقًا بين البيع بالتقسيط والبيوع الربوية. وكنت أود أن أسمع إجابة صريحة حول هذه الفروق إن لم تكن موجودة في البحث الذي لم يتعرض له التلخيص. كذلك منذ سنوات صدر بحث مطول لأخينا الدكتور محمد الأشقر في الكويت يحمل حملة شديدة على البيع بالتقسيط ولا يجيزه أيضًا كنت أود أن يتعرض الأستاذ العثماني لمثل هذه الشبهات ويفندها.

يا شيخ وهبة، البحث للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وأذكركم أن هذا الموضوع سبق أن بت فيه في الدورة السادسة لمجمع الفقه من حيث وجود مبدأ التقسيط وجوازه شرعًا، هذا سبق أن بت فيه وحصل التعرض للبحوث التي منعت من التقسيط، ومن تبني هذه الفكرة، وإنها صارت دفعة للبنوك الربوية، لأنه إذا سدت هذه المنافذ صار فيها دفع شديد للبنوك الربوية، فانتهى موضوع البيع بالتقسيط وقرأ القرار على مسامعكم الآن.

الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:

إذن الملاحظة الأخيرة، أنه بالرغم من سرده لوجهات النظر المختلف فيها حول خصم الكمبيالة والأمور التي تعرض لها، أيضًا كنا نود أن نسمع منه ترجيحًا واضحًا بين وجهات النظر التي ذكرها حيث إننا عشنا في جو كثير من الآراء والاختلافات، فنود أن يعطينا الرأي الحاسم حول هذه الخلافات، وشكرًا.

ص: 709

الدكتور علي محيي الدين القره داغي:

بسم الله الرحمن الرحيم.

تصحيح خصم الكمبيالة بالصورة التي ذكرها الأستاذ العثماني، هي إحدى الصورتين اللتين ذكرتا في الموسوعة وعليهما ملاحظات كثيرة للباحثين، وفيهما نوع كثير من التكلف، ولذلك لا نرجح هذا الاتجاه وهذا الجانب.

الجانب الآخر، إن واقع البنوك الربوية، هل يمكن تكييف هذا الواقع الربوي على قضية التوكيل، وهذا التكلف الكبير الذي ذكره الأستاذ الجليل تقي الدين العثماني. الواقع الذي يسير عليه البنوك الربوية أن البنوك الربوية تأخذ العمولة أولًا ثم بعد ذلك تأخذ النسبة المقدرة على المبلغ كاملة، ثم ترجع الباقي للشخص، فالقضية واضحة جدًّا بأنها قضية فائدة ربوية واضحة لا غبار عليها. أما إذا أردنا التكيف أو التكلف لهذه المسألة، فهذه مسألة ربما تكون شيئًا عمليًّا ونحن نعرض شيئًا نظريًّا ونحن هنا في مجمع الفقه نعالج أو نبحث عن الأمور والحلول الواقعية وليس في قضايا يمكن أن تكون خيالية أكثر من أن تكون واقعية. هذا في نظري بالنسبة لقضية التوكيل.

أيضًا بالنسبة لاستدلال بعض الباحثين بحديث ضعوا وتعجلوا، وتصحيح الحاكم له، معروف للجميع أن الإمام الحاكم رحمه الله معروف بتساهله، ولذلك الإمام الذهبي في تلخيصه لم يقره ولم يوافق على هذا التصحيح، وإنما ترك هذه المسألة، مما يدل على أن فيه شيئًا، وكما قال الأستاذ تقي الدين العثماني، أنَّ الإمام البهيقي حكم على الحديثين بالضعف وما وري عن ابن عباس رضي الله عنهما مروي عنه العكس أيضًا في مصنف عبد الرزاق حيث قال: إنما الربا أخر لي وأنا أزيدك. فإذن أعتقد أن الروايتين متعارضتان لا نستطيع أن نرجح إحداهما على الأخرى. قياس ضع وتعجل على الحطيطة أو إدخال ضع وتعجل على الحطيطة – في نظري وقد أكون مخطئًا – غير دقيق لأن الحطيطة في البيوع، عندما يبيع الإنسان أو يشتري الإنسان شيئًا ثم ينزل من ثمنه، أما هذه القضية فهي في الدين وبيع الدين بالدين معروف كما ذكره الباحثون الأجلاء من أنه لا يجوز إلا من الدائن نفسه أو من المدين نفسه. فالقضية هنا ليست لا من الدائن ولا من المدين وإنما من طرف ثالث وهو البنك الربوي.

ص: 710

اعتبار البعض – في التدخل – خصم الكمبيالة بيعًا، يمكن اعتباره بيعًا لكن بيع الدين بالدين وليس بيع سلعة بسلعة، وهذه الورقة ليست في الواقع سلعة وإنما هي نقد كما يقول الاقتصاديون، فالنقد ليس الدراهم والدنانير فقط، وإنما كلُّ ورقة كخصم الكمبيالة والشيكات وكل هذا يدخل ضمن النقود، والغريب أن صاحب هذه الفكرة اشترط شرطين، فقال: أن لا يكون ذلك في النقود وأن لا يكون مكيلًا وموزونًا. إذن هذه الصورة إذا لم تكن في النقود ولم تكن في المكيل والموزون خرجت هذه الصورة عن الصورة التي نبحثها وهي قضية خصم الكمبيالة. الصورة التي أمامنا خصم الكمبيالة هي قضية دين مؤجل وهذه الورقة توثيق لهذا الدين لا أكثر من ذلك، لا سلعة ولا بضاعة لا أي شيء، وإنما مجرد توثيق بهذا المبلغ، فلا يمكن اعتبار هذه الكمبيالة أننا نبيع الورقة، هذه الورقة لو بدونها لا تساوي فلسًا واحدًا وحتى لا يمكن الكتابة عليه لأنه لا فائدة فيها، وإنما الفائدة في أنها تمثل دينًا عشرة آلاف كذا وهذا في الذمة، فالصورة التي تفضل بها أخونا الكريم، صورة بعيدة عن واقع الكمبيالات التي تجري في البنوك إلا إذا كان القبض سلعة أو حيوانًا فهذا شيء آخر، وحينئذ نبيع هذا في الذمة، والمسألة تبقى بيع الدين بالدين ولذلك لا يمكن اعتبار هذه

المسألة، يعني هذان الشرطان يردان أو يرجعان على أصل المسألة وبالتالي يقضيان على المسألة نفسها وتنتهي المسألة من أساسها.

الطريقة الثانية أيضًا، اعتبار أن بيع الكمبيالة أو خصم الكمبيالة أنها قيمة تجارية بنقد آخر، وهذا بيع غير المتجانسين، أليس ذلك يشترط التقابض فيما لو قلنا! أليس ذلك أيضًا وارد في هذه المسألة تنقيص في القيمة! يعني رجل عليه كمبيالة بعشرة آلاف أو مائة ألف ريال والبنك يعطي له حوالي ستين ألف ريال؛ لماذا هذا الفرق ثلاثين ألف ريال لأي شيء؟ أليس ذلك نوع من التحايل للخروج عن القضية! إضافة إلى أن بيع الدين لا يمكن، يخرج عن بيع الدين مهما حاولنا.

ص: 711

أيضًا الطريقة الثالثة التي ذكرها الأخ الكريم المتداخل، باعتبارها قرضًا وأننا نأخذ بعد ذلك الفوائد، كيف يجوز أن نأخذ الفوائد أو الزوائد التي تضاف إلى هذا القرض أو تخصم من هذا القرض؟ المسألة الحقيقية أنه مهما حاولنا أن نكيف خصم الكمبيالة لا نجد له وجهًا شرعيًّا أو عقدًا شرعيًّا، ممكن أن نقول إنه عقد جديد لكن هذا العقد الجديد فيه مشكلة، أنه فيه ربا، فيه نقص في مقابل الأجل، وهذا النقص في مقابل الأجل واضح، فإذا نحن خرجنا عن هذا الواقع، حينئذ نحن نبحث عن مسألة أخرى ونأتي بمصطلح آخر غير مصطلح خصم الكمبيالة ونناقشه، أما الكمبيالات التي تجري في وقتنا الحاضر، فالقضية واضحة فيها بأن البنك يخصم مبلغًا معينًا حسب الفوائد الدولية أو الفوائد التي يأخذها هذا البنك.

قضية الإبراء، لماذا يبرء الرجل الدائن صاحب الكمبيالة، الدائن دفع المال وأخذ في مقابل ماله هذه الكمبيالة، لماذا يبرء؟ لو كان لله فعلى العين والرأس، ولذلك فأنا في اعتقادي أن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وما ذكره ابن قدامة محمول على هذا المحمل من النية الطيبة، فيما لو كان شخص الدائن يتنازل عن بعض دينه لله سبحانه وتعالى أو لأي سبيل من السبل، وهذا ما ذهب إليه المالكية عند حلول الأجل وغير ذلك، أما أن يكون واضحًا أن الرجل محتاج عنده مبلغ خصم كمبيالة بمائة ألف ريال وليس هناك شخص يأخذه بهذا المبلغ والبنك يفرض عليه فرضًا، يقول: خذ ستين ألف ريال، ويقول أنا أبرأت ذمتك، فهل يمكن أن نعتبر هذا وسيلة مشروعة ووسيلة شرعية تقرر في هذا المجمع الموقر؟.

جانب آخر، أن خصم الكمبيالة أساسًا لا يدخل لا في الإبراء ولا في ضع وتعجل، لماذا؟ لأنه ليس بين الدائن والمدين، خصم الكمبيالة بين الدائن وبين شخص ثالث أو طرف ثالث أو شخصية معنوية ثالثة وهي البنك، فلذلك ليس فيها لا إبراء ولا ضع وتعجل فلا يمكن تكييف خصم الكمبيالة لا على الإبراء ولا على نظرة إلى ميسرة ولا قضية وضع وأنه يكون له الأجر، وإنما في مسألة أن رجلًا يأخذ النسبة المحددة على هذا الدين، هذا ما أردت أن أذكره لحضراتكم، وجزاكم الله خيرًا، وشكرًا.

الرئيس:

أحب أن أسأل الشيخ محيي الدين. هل تعرف أحدًا صحح حديث المقداد؟ أنت ذكرت أنه يتعذر الجمع بين حديث المقداد وحديث ابن عباس، فهل تذكر لنا أحدًا صحح حديث المقداد؟

الدكتور علي محيي الدين القره داغي:

في المذهب الصحيح، لا أعرف

الرئيس:

إذن طالما أنك لا تعرف أحدًا صحح حديث المقداد، فالعلماء فيما نعلم في حكم المتفقين على تضعيفه، فمعناه لا تعارض.

ص: 712

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أقدر لفضيلة الشيخ القاضي تقي الدين العثماني هذا التقديم الجيد الممتاز، والذي كان فيه أمينًا في نقل ما جاء به من أفكار إخواننا الذين كتبوا في هذا الموضوع، وأردت أن أضيف إضافات:

أولًا: ما عبر عنه الرهن بالذمة السائلة، نعود إلى أصل الرهن ولماذا الرهن؟ الرهن هو: توثق الدائن بأن المدين يدفع له عند الأجل ما هو بذمته وهذا التوثق قد كان لا يحصل إلا بالقبض الفعلي وأنه إذا خرج القبض الفعلي استطاع المدين أن يفوت في الرهن دون أن يعلم الدائن، تطور حضاري دخل للعالم كله أثره، هو أنه أصبح الإنسان قبضه للشيء في كثير من الأشياء لا يمكنه من التفويت فيها، فالإنسان يسكن دارًا ولا يستطيع أن يفوت فيها لأن التفويت في البيت إنما يقع بواسطة العقد، السيارة لا يستطيع أن يبيعها لأن السيارة لا تباع إلا بعقد، إلا بوثيقة، فأصبح المهم الذي يوثق هو العقد، ولذلك يقع الرهن على العقد ويقع التسجيل على البطاقة الرمادية للسيارة أنها لا تباع، وهذا ما وضحه مولانا الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه في تفسير التحرير والتنوير، إن الناس اليوم يستعيضون عن القرض بقوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أو أن القبض في وقتنا هو القبض للوثائق الملفتة للملكية، هذا هو تأكيد لأنه الأولى لكل ما هو موثق بوثيقة.

أنا علقت تعليقًا بسيطًا على قصة أبي حدرد لمَّا قال صلى الله عليه وسلم وأشار بأن ضع وتعجل في أن اختياره كحجة خاصة على قضية خاصة فيه مقال، وأعتقد أنه على أصل الصلح لأنه لم يرد في الحديث التفصيلات الكافية حتى نقيس، وهذا لا أعلمه من أي وجه للقياس التي يمكن الاعتماد عليها.

ثالثًا، كفاني الأستاذ القره داغي الكثير مما كنت أريد أن أقول، لكن بقيت أشياء لابد من الزيادة أو الإضافة فيها، لابد من التفرقة بين الشرط وبين الطوع، فما كان شرطًا فمعنى ذلك فيه مباحة من الطرفين وأنه هناك فرض إرادة من طرف على طرف آخر، وما كان طوعًا فإنه يجوز لأن لكل شخص أن يتطوع، وهذا مما يفضي إلى زيادة الالتحام بين المؤمنين بينما الشرط هو دائمًا وأبدًا يمضي بالعكس لأن كل شخص يريد أن يحقق رغبته وينفذ إرادته، فقياس ما كان شيئًا شرطيًّا على ما كان طوعيًّا ما أدري كيف يمكن للقائس أن يقيس الأشياء المتناقضة؟

ص: 713

الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم

أوافق الأستاذ القاضي تقي العثماني على كل ما جاء في ورقته القيمة، ولكن لي بعض الملاحظات وعدم موافقة واحدة في جزئية وسأبدأ بالموضوعات التي ذكرها وحددها وهي موضوعات أربعة:

أولًا: الرهن السائل، أوافقه في جوازه، وهو معروف عندنا في السودان لكن لا نسميه بهذا الاسم، فالبنوك عندما تبيع سيارة مثلًا أو منزلًا لشخص آخر إلى أجل بالتقسيط، ترهن هذه السيارة أو المنزل، ويسجل على أنه رهن لصالح البنك مع وجود السيارة في يد المشتري ووجود المنزل في يد المشتري أيضًا ينتفع به، وهذا التسجيل يكفي ويعتبر قبضًا وقد أذن البنك الدائن للمدين بالانتفاع بهذا الرهن، فهذا أمر عملي وواقع، لكن لي بعض الملاحظات في الاستدلال، وهو ما جاء عند الكلام عن الرهن كأداة من أدوات التوثيق، فهو كما يقول الأستاذ العثماني: وإن إمساك المبيع في يد البائع يمكن أن يتصور بطريقتين: الأول، أن يكون على أساس حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وهذه استبعدها وأنا معه في هذا واضح، والثاني، أن يكون بطريق الرهن، وقال: والفرق بين الصورتين أن المبيع المحبوس عند البائع مضمون عليه بالثمن، وهذا لا خلاف فيه، فلو هلك المبيع وهو محبوس عنده ينفسخ البيع – هذا على حسب أنه يقرر مذهب الحنفية في هذا – ولا يكون مضمونًا عليه في قيمته السوقية، أما في الرهن، وهذا موضع مخالفتي، لو هلك عند البائع من غير تعد منه لا ينفسخ البيع بل يهلك من مال المشتري – وهو يقرر في مذهب الحنفية – هذا مخالف لقواعد مذهب الحنفية في الرهن، الرهن إذا هلك في يد الدائن يهلك بالأقل من قيمته ومن الدين، وهذه قاعدة معروفة، وعلى الرغم من أن الأستاذ العثماني أتى بنقل عن ابن عابدين، وقد يفهم منه هذا الفهم، ولكني أيضًا توقفت فيه، لأنه مخالف للقاعدة المعروفة وهي قاعدة مشهورة، فهو لا يهلك بالثمن عند الحنفية مطلقًا ما دام اعتبرناه رهنًا، وكون المرهون هو المبيع، هذا لا يغير من الأمر شيئًا فهذه نقطة تحتاج إلى تحقيق.

ص: 714

الموضوع الثاني: وهو خصم الكمبيالة، أيضًا، أوافقه في القول بالمنع، وهذا واضح، ولي تعليقان على هذا: أولًا، في قوله: وإن خصم الكمبيالة بهذا الشكل غير جائز شرعًا، وهذا لا كلام فيه، الكلام هنا في التعليق، إما لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين أو لأنه من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة ومؤجلة. التعليل الثاني مقبول وهو من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة، لأنه يبيع المائة بثمانين على أن يقبضها مائة عند حلول الأجل، وهذا يكفي للمنع، أما العبارة الأولى، لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، هذه تحتاج إلى تفصيل. الكمبيالة هي تدخل في بيع الدين من غير من عليه الدين بالنقد، لأن بيع الدين إما أن يكون بالدين، وإما أن يكون بالنقد، وفي الحالين إما أن يكون ممن عليه الدين أو يكون من غير من عليه الدين.

فالصورة التي أمامنا هي من قبيل بيع الدين بالنقد لغير من عليه الدين، لأنه يبيع المائة وهذه المائة دين عليه هو يبيعها بثمانين للبنك وهو غير من عليه الدين، فالموضوع فيه إشكال في الواقع ليس واضحًا في هذه الجزئية، ولعل هذا ما حمل الأستاذ الزرقا على طلب الكلمة، ففي رأيي هذا التعليل الأخير هو الواضح وينطبق على هذه المسألة لأن صاحب الكمبيالة يبيع المائة للبنك بثمانين على أن يقبضها مائة عند حلول الأجل.

النقطة المهمة في هذا هو المخرج الذي قدمه لنا الأستاذ العثماني، وأنا أخالفه فيه كل المخالفة، وهذه حيلة لخصم الكمبيالة، وحتى لو نظرنا فيها فهي لا تجوز، والأستاذ جعلها إجارة وكالة بأجر يعني إجارة وقرض، وقال: إن هذين العقدين كل واحد منهما جائز، فإذا اجتمعا جازا، لا، أولًا اجتماع الأجر والقرض لا يجوز بنص الحديث " لا يصح سلف وبيع " ومثل البيع الإجارة فلا يصح أن يجتمع هذان العقدان.

ص: 715

نأتي إلى الموضوع الثالث وهو " ضع وتعجل " أما هذا فأنا مع الأستاذ العثماني في كل ما قاله، وعلى الرغم مما سمعناه من تجويز بعض أئمة الحديث لحديث " ضع وتعجل " فإن رأيي لم يتغير في هذا الموضوع فهو لا يزال محل شك، صححه بعضهم وضعفه بعضهم، وأريد أن أضيف إلى الدليل الذي ذكره الأستاذ العثماني من رواية الإمام مالك حيث قال: قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا – والمكروه هنا معناه ممنوع – أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب. قال مالك: وذلك عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب في حقه، قال: هذا الربا بعينه لا شك فيه. هذه الرواية تعجل هذا من قبيل إجماع أهل المدينة. هذا التعبير عند الإمام مالك: الأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا، وإجماع أهل المدينة يلحقه بعضهم بالحديث، بل يجعله أقوى من حديث الآحاد " ألف عن ألف خير من واحد عن واحد "، فهذا يقوي رأي من يقول: وهو نص على أن المعقول أيضًا يؤيد المنع. وقد أعجبني ما قدم به الشيخ العثماني حديثه من أنه لا يرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط ولا في المرابحات التي تجريها البنوك الإسلامية، وهذا ما أفتت به هيئة الرقابة الشرعية في السودان، فلو أبحنا لهم هذا فقد يتخذوه ذريعة للوصول إلى الممنوع. البنوك ممنوعون من أن يتعاقدوا إلى أجل، فإذا حل الأجل ليس لهم بعد ذلك أن يؤخروا ويزيدوا، فإذا علموا أن لهم أن يعجلوا ويحطوا، قد يتفقون مع الزبائن بدل ما يؤجل إلى سنة يؤجل إلى سنتين وسيضاعف الربح إن كان عشرة في المائة إلى سنة سيجعله عشرين في المائة إلى سنتين ويقول له: إذا جئت في أي وقت أحط عنك، فهذا يؤول إلى أنه وصل إلى الزيادة بعد حلول الأجل بطريق آخر، ولذلك أنا أرى مع الأستاذ العثماني ألَّا نفتح هذا الباب خصوصًا في بيع المرابحة، وبيع المرابحة تعرفون ما فيه حتى من غير هذا الباب، فينبغي أن يقفل قفلًا محكمًا.

ص: 716

الموضوع الأخير، موضوع أثر موت المدين في الدين، وموضوع خراب الذمة. أنا في رأيي أن هذا الموضوع ليس من قبيل خراب الذمة، هذا الموضوع يتعلق بالميراث، الحقوق التي تورث، والحقوق التي لا تورث، الحقوق الشخصية هذه لاتورث، الحقوق المالية وأوضح مثال لها الذي يذكره الفقهاء، هو هذا: حق المدين في تأجيل الدين، فبعضهم اعتبره حقًّا شخصيًّا يعني اعتبروا هذا فيه الشبهين، هو صحيح فيه الشبهان: حقٌّ شخصي لأن الإنسان لا يقرض بأجل أو لا يبيع بأجل لكل شخص لأنه ينتقي مهما كان، فهذا الشبه الشخصي، والشبه المالي أن البيع بأجل فيه زيادة، فالذين غلبوا جانب الخط الشخصي قالوا يحل بموت المدين، لأن الدائن إنما أجله من أجل هذا المدين ولو كان الورثة هم الذين جاءوا أول مرة لكي يشتروا منه لم يبع لهم بالتأجيل، الحنابلة هم الذين راعوا أنه حق مالي، قالوا: يورث بدون قيد أو شرط. فرأي الحنابلة هو الرأي المقبول عندي لأنه راعى الحالتين: راعى الجانب الشخصي، وراعى الجانب المالي، فقال: إن هذا الحق يورث إذا وثق برهن أو كفيل، وهذا هو ما يطلبه الدائن، الدائن قد يكون وثق في ذمة المدين، والمدين مات، فالآن حل محله أناس آخرون لا يثق في ذمتهم، إذا وثقوه برهن أو كفيل فقد انتفى المحذور فلا يحل وينتظر إلى الأجل لأنه كان مراعى فيه الثمن، إذا لم يوثقوه يحل. وهذا ما أردت قوله وشكرًا.

ص: 717

الدكتور سامي حسن حمود:

بسم الله الرحمن الرحيم.

موضوع التقسيط كان بسيطًا فأصبح مبسوطًا، فالبيع بالتقسيط تعاملنا به من قبل قرار المجمع، وقرار المجمع واضح ونتعامل به في حياتنا اليومية باستمرار، ولكن يبدو لي أن الهوامش التي أثيرت على جانب هذا البيع المعتبر أكثر حاجة إلى التعليق من ذات العقد.

بيع التقسيط في فلسفته الاقتصادية من الناحية العقلية، والعقل عندما يكون مستنيرًا بنور الله يصل إلى عتبات الشرع ويلتقي مع الشرع. التقسيط هو: بيع زاد فيه هامش الربح باعتبار أن الثمن مؤجل بحيث أنه لو كان الثمن نقدًا فباستطاعة التاجر " البائع " بهذا الثمن المقبوض أن يشتري السلعة ويعيد بيعها مرات ومرات، فتأجيل الثمن أدى إلى زيادة هامش الربح، وهذا سعر مقابل سلعة، ولا حاجة لمزيد بعد ذلك، أما ربطه في موضوع خصم الكمبيالات فالأمر يختلف لأن الكمبيالة في تعريفها القانوني: تعهد المدين للدائن بدفع مبلغ معين في تاريخ محدد. فموضوعنا هنا نقد يشترى بقيته سواء قلنا بشراء الدين أو بإقراض مقابله بقيمة أقل فهو نقد بنقد ليس فيه مساواة مماثلة ولا يدًا بيد فخرج عن القبول الشرعي وأصبح من الربا، وهذا أيضًا أمر واضح، ولكن المؤسف أن موضوع بيع الدين فيه مداخل، يقال بيع الدين عنوان، فيقال: إن كل بيع جائز أن يجري عليه البيع {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، ولكن ما هو الدين؟ الدين الذي يباع هو الدين الذي تنطبق عليه شروط البيع إطلاقًا، أما القول بالنقد بأنه يباع ليس لأنه من النقدين ذهبًا وفضة أو لأنه ليس مكيلًا أو موزونًا فإن هذا الرأي موجود في الفقه الحنفي قديمًا وفي فقه الإمامية أيضا بأن شرط تحقق الربا هو في المكيل والموزون والذهب والفضة باعتبارها من الموزونات، ولذلك قيل قديمًا حتَّى عند الحنفية إن المعدودات لا تعتبر من الربا، فلما ظهر النقد وأصبح يُعدُّ عدًّا ولا يوزن وزنًا ظهرت بعض الآراء تقول بأن الدينار أو الريال المعدود بالريالين ليس من الربا ونقض ذلك رأسًا باعتبار أن الأصل هو في موضوع النقود ليست شكلها وإنما معيار الثمنية فيها، وهذا ما أوضحه بشكل جلي مذهب الإمام مالك، وإن كان الرأي الضعيف، ولكن اعتبار الثمنية باصطلاح الناس، فهذا الورق الذي اصطلحوا عليه أن يحل محل الذهب والفضة هو معتبر، وهو كذلك رأي عند الإمام أحمد في مذهب الإمام أحمد.

ص: 718

بالنسبة لأهل الفقه الإمامي تمسك بعضهم في صلب المذهب بأنه ليس مكيلًا أو موزونًا ومن ذلك ما ذكره الإمام محمد باقر الصدر رحمه الله تعالى في كتابه " البنك اللاربوي في الإسلام " فقال: لو أنا أعطينا مائة دينار عراقي بمائة وعشرين لأجل لمدة شهرين فإن هذا يعتبر بيعًا لأنه ليس مكيلًا ولا موزونًا. رحمه الله هذا رأيه ولكن هناك لم تخف المسألة على الإمامية أيضًا، فقد ذكر الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه " فقه الإمام جعفر الصادق " ما يرد على هذا الرأي ويقول: إذا لم تكن هذه النقود التي تناولها هي النقود بمعناها الشرعي، فكيف تستحل بها الفروج ونحن ندفعها مهورًا في زواجنا؟ وكيف ندفع عنها الزكاة، وهي أموال؟ فهذه آراء يجب – ونحن الآن في طور التجمع والتلاقي الفكري – أن نحكم منطق الشرع وروحه ولا نعود لآراء انتفى عهد الاختلاف على الأقل فيها.

من هذه الشبهات كذلك، في الباكستان عندما أرادوا تحديث أو أسلمة المعاملات المصرفية أخذوا قياسات غريبة، وأقولها للعلم، مثلًا قالوا في المرابحة: زيادة هامش الربح يسمى زيادة فوقية (MARK AAP) فلماذا لا يكون بعد أن يتم البيع، في بيع التقسيط، ويحرر بثمنه كمبيالة طالما أن أصل العملية بيع فنعمل بها حطيطة أو تنزيلًا (MARK DAOIN) لكن الحطيطة في التنازل في الديون إذا كان الدائن يسامح المدين من حقه أن يبرئه بكل الدين والمسامح كريم، أو بجزء منه ولو كان منظورًا فيه أن هذه المسامحة ما كانت لتكون لولا أن المدين قام بدفع الدين قبل موعد الاستحقاق، طالما العلاقة ثنائية، ولكن عندما تصبح العلاقة ثلاثية هنا يدخل الربا الحرام، عندما يأتي البنك يأخذ الكمبيالة بقيمتها الاسمية المائة ويدفع بها لصاحب الاستحقاق فيها تسعين فهو يشتري المائة بتسعين ثم يعود على المدين بالمائة كاملة ليس فيها إبراء وليس فيها تنازل ولكنها فيها تجارة بالحرام، تجارة بشراء المائة بتسعين وهذا هو الربا المنهي عنه.

هناك نقطة في بيع التقسيط تشتبه على بعض ما سمعته من تعليقات بالخلط، لا أقصد الخلط بمعنى الخلط الفكري، إنما خلط المصطلحات بمعنى البيع بالتقسيط أن أبيع وآخذ الثمن أقساطًا، فالملكية للمبيع انتقلت من البائع إلى المشتري وأصبح مالكًا وبين ما يسمى في الاصطلاح الغربي الشراء الإيجاري (HIRPIR TSHIZ) أنه هو يبرأ وكأنه أخذ السلعة كمستأجر لها فإذا سدد الأقساط المتفق عليها في الموعد فإنه يصبح مالكًا في النتيجة. هذا أمر آخر كالسيارة مثلًا يأخذها إيجارًا ابتداء فإذا استعملها مدة وأعادها ولم يتم دفع الأقساط فيحسب عليه أجرة الاستعمال خلال فترة الاستعمال، هذا عقد جدير بالتمييز والنظر فيه ولا اعتراض عليه في نظري المتواضع من الناحية الشرعية لكن ينظر إليه بمقياس الإيجار الذي فيه مواعدة على التمليك في نهاية مدة العقد، وشكرًا لكم.

ص: 719

الدكتور علي أحمد السالوس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.

إن عملية خصم الكمبيالة تخضع لقانون، لا بد عند الحكم الشرعي، أن ينظر إلى القانون الذي يسير عليه البنك حتى نستطيع أن نعطي الحكم الشرعي. فخصم الكمبيالة كما بينه العلامة الدكتور السنهوري في الوسيط قرض بفائدة مع رهن الورقة التجارية. إذن الورقة التجارية هذه بمثابة رهن، ولذلك البنك بعد أن تظهر له الكمبيالة إذا حل الموعد ولم يحصل الكمبيالة عاد مرة أخرى على من ظهر له الكمبيالة وطالبه بالمبلغ كاملًا وبما يأتي من فوائد جديدة، بمعنى أن من باع هذه الكمبيالة وأعطى هذه الكمبيالة إذا تأخر في السداد مدة أخرى زادت الفوائد المركبة. إذن هنا لا يمكن إطلاقًا تصحيح خصم الكمبيالة.

ما تفضل به فضيلة الشيخ تقي، هذا يمكن بالنسبة لتحصيل الكمبيالة لو وجدنا بنكًا يحصل الكمبيالة ويأخذ أجرًا مقابل التحصيل ثم يقرض قرضًا حسنًا، وهذا لا يكون إلا إذا حدث في بنوك إسلامية، إنما البنوك الربوية لا تفعل هذا ولا تستطيع أن تفعل هذا لأنها محددة بفوائد قانونية يحميها القانون، وفي كثير من البلاد يلزمها القانون إذن خصم الكمبيالة: قرض ربوي برهن هذه الورقة التجارية ولا يمكن تخريجها أي تخريج آخر.

نرجو بالنسبة لما ننتهي إليه في المجمع ألا نعود بإبطاله مرة أخرى لأن معنى هذا أننا سنعود للمناقشة من جديد، مثال هذا ما انتهينا إليه هنا من أن الأوراق النقدية نقد قائم بذاته، له ما للذهب والفضة من الأحكام، وأنه لا يجوز التفاضل بين هذه النقود مع الجنس الواحد، ولا يجوز عدم التقابض، وأن أي عدم تقابض يعتبر من ربا النسيئة. فإثارة هذا الموضوع والقول بأن الخصم يجوز ما دام ليس ذهبًا ولا فضة وإنما نقود ورقية وأنه يمكن أن نبيع نقدًا بنقد آخر وهذا فيه أجل لأن الكمبيالة مؤجلة والنقد الآخر حال، إذن ليس فيه تقابض لذلك ما أشار إليه بعض الإخوة من أن النقود كذا وكذا

هذا تحدثنا عنه طويلًا في جلسات سابقة، فلسنا في حاجة إلى أن نعود مرة أخرى إلى الحديث عن هذه الموضوع، وإنما نقول هنا: استقر رأي المجمع على كذا، إذن هذا لا ينقض.

ص: 720

الآمر الآخر، بالنسبة " لضع وتعجل " أحب أن أضيف للذين بينوا في حديث " ضعوا وتعجلوا " إلى جانب الذهبي أيضًا الحافظ ابن كثير، ثم الاحتجاج ليس بالحديث الضعيف الآخر، وإنما الاحتجاج بأنه هذا له حقه فإذا لم يكن متنازلًا وإما أجبر على هذا حتى يأخذ حقه، فكيف يجوز هذا؟ ثم وجدنا الذين بينوا مثل ابن قدامة يقول: ما الفرق بين أن أقول أخر ولك كذا أو قدم وخذ كذا. إذن معنى هذا أن ربط الزمن في النقود أخذًا وعطاءً اعتبره سادتنا الفقهاء غير جائز كما بين فضيلة الشيخ الأستاذ الصديق الضرير، ما قاله الإمام مالك والخبر الذي قال بأن الإمام الشافعي وافق الراوي الذي ضعفه غيره، الإمام الشافعي لم يأخذ بالخبر، والإمام الشافعي لا يبيح ضع وتعجل، توثيقه لا يعني تصحيح الحديث، وفتح باب ضع وتعجل كما بين الشيخ الصديق الضرير سيفتح بابًا كبيرًا وبالذات في مجال البنوك الإسلامية.

نقطة مهمة، أرجو أن ننظر إلى الواقع العملي وهو حلول الدين بالأجل، فقهاؤنا السابقون عندما تحدثوا عن حلول الدين لم يكن عندهم بيوت تباع لمدة عشرين أو ثلاثين سنة، بيت يساوي مائة ألف يباع بثلاثمائة ألف لأنه على عشرين سنة، لم يكن هذا موجودًا من قبل، وإنما كان تأجيل لفترات قصيرة، البيت الآن عندما مات صاحبه وهو مؤجر وأجرته تكفي بالأقساط المطلوبة وزيادة، لو جئنا الآن وطالبنا بالمبلغ كاملًا لاضطررنا إلى بيع البيت وفعلًا وجدت في بعض العقود بأنه إذا مات المتعاقد فيحل الدين فيباع البيت وإن لم يكف البيت يعود البنك على ورثته فيأخذ من التركة. إذن هنا بيت قائم والمقصود هنا هو ضمان الحق، فضمان الحق برهن قليل أو كثير هذا موجود والعين نفسها موجودة والورثة يسكنون في البيت ويؤجرون جزءًا منه، والإيجار يكفي لدفع الأقساط، فنقول لهم لا، لابد أن نبيع البيت، والبيت لا يكفي فنأخذ من باقي التركة. هذه النقطة أرجو أن ننظر إليها في الواقع العملي، ولا شك أن رأى الحنابلة – ولم يكن في وقتهم ما هو في وقتنا – لعله أرجح الآراء التي نأخذ بها.

وأكتفي بهذا القدر. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ص: 721

الشيخ أحمد بزيع الياسين:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،

الواضح من إجراء معاملات خصم الكمبيالات في البنوك بأنها من قبيل القرض بفائدة وأن الكمبيالة عندما يضعها البنك في صندوقه أو في خزينته يعتبرها كرهن بدليل إذا استحقت ولم يدفع المدين يعيد البنك قيد المبلغ على من خصم الكمبيالة لديه وتبقى الفائدة التي خصمها على الدائن كما هي، فهو في الحقيقة قرض بفائدة.

بالنسبة لضع وتعجل، هناك إذا لم يشترط المدين بالوفاء، إذا أوفى كامل القيمة ولم يشترط بأن يضع الدائن عنه من دينه، السؤال هنا هل يجوز للدائن من تلقاء نفسه أن يضع شيئًا من الدين له؟ هذا السؤال أوجهه إلى فضيلة الشيخ تقي الدين العثماني.

وشكرًا.

حجة الإسلام محمد علي التسخيري:

بسم الله الرحمن الرحيم

أرجو أن يصبر عَلَيَّ السيد الرئيس قليلًا لأني لم أتحدث البارحة تمامًا هناك نقاط أرجو أن أركز عليها أو يلاحظها المجمع في مسيرته، بعضها منهجي وبعضها يتعلق بالموضوع بخصوصه.

الرئيس:

فضيلة الشيخ، مع المعذرة، أي شيء يتعلق بخطوات المجمع المنهجية وما إلى ذلك، قصدي أن الأمانة العامة موجودة على مدار العام فأنا الذي أرجو أن تعرفوا أننا جميعًا إخوة متلاحمون بعضنا مكمل للآخر، وأي إنسان عنده رأي أو وجهة نظر، نحن لا نمانع منها ولكنه يجب عليه أن يقدمها مكتوبة إلى الأمانة العامة للمجمع. والذي أرجوه من أصحاب الفضيلة الذين يطلبون الكلمة أن تكون في صلب الموضوع وألَّا تخرج عنه وأن نختصر عنه وأن نختصر بقدر الإمكان حتى نتمكن من استيعاب جميع الطالبين للكلمة، وأرجو أن يكون هذا الطلب محل قبول.

ص: 722

حجة الإسلام محمد علي التسخيري:

أمر السيد الرئيس في أعناقنا، أنا لا أريد أن أتحدث عن منهج الأمانة ولا منهج المجمع، نحن نتحدث عن منهج إسلامي في مسائلنا. نحن بالخصوص، في هذه المسألة وفي المسائل السابقة التي مضت بنينا أحكامًا على قواعد وأصول أرى أنه لم ينقح معناها بعد، ومن الطبيعي أنه في أي نقاش أن تنقح الأصول المشتركة فيها والمعنى. أضرب مثالًا فقط ثم أعبر من قبيل لا تبع ما ليس عندك، هل هذا النهي عن كل ما لا يقع تحت الملكية؟ أو هو نهي عن بيع الأعيان الشخصية المملوكة للآخرين فلا يشمل مثلًا البيع بالصفر، الكلي في الذمة هو البيع في الصفر، أبيعك كليًّا في ذمتي على أن أحقق لك مصداقة بعد ذلك، هل هذا النهي نهي معلل حتى إذا اطمأننا من عدم ترتب المحذور ارتفع النهي وعاد نهيًا تنزيهيًّا كما يقول العلامة ابن رشد وأشار له الشيخ عبد الله بن بيه وكذلك من قبيل مسألة النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، هل نستند إلى هذا النص رغم ضعف سنده؟ هل يجبره عمل الأصحاب؟ هل نفسره بالمنع من بيع الدين بالدين؟ هذه أصول يجب أن توضح لدينا حتى نبني عليها أحكامنا. إذا كان كذلك فما معنى بيع الدين بالدين؟ هل المراد منه هو بيع دين قائم بدين قائم، ولا يشمل بيع دين بشيء حال يبدأ من الآن بدين يبدأ من الآن، أو لا بيع دينين، دين على هذا ودين على هذا؟ هل يمكن مسألة دفع الثمن نقدًا في بيع السلم؟ هل يمكن تأخيره إلى ثلاثة أيام عند الاشتراط وإلى أكثر من هذا إذا لم يشترط؟. ثم إن حصر البيع بالنسيئة والسلم والنقدي أو هناك شق رابع في هذا المعنى؟.

هذه أصول يبدو أنها لم تتوضح لدينا حتى نبني عليها بناءات أخرى. أعتقد أن هناك الكثير من الأمثلة التي يمكننا أن نذكرها. ينبغي إما لكل باحث أو للمجمع أن ينقح المقصود من هذه الأصول لأننا نمثل بها في طول مسيرتنا. يجب أن تتوضح حتى لا نعود للنقاش من جديد في مفهوم هذه الأصول.

ص: 723

شيء آخر أقوله بكل إخلاص يا سيدي الرئيس، الحقيقة نحن هنا نريد أن نصل إلى الإفتاء وإلى الدليل الشرعي، ألاحظ فيما نستند، يكفينا أن يكون هناك إمام قال بهذا الرأي يكفينا أن يكون هناك رأي للحنفية أو رأي للإمامية ولا أريد أن أفرق، ليس هذا هو الأمر الصحيح، الصحيح أن نرجع إلى أصولنا ثم نقوي آراءنا بالكتاب والسنة الشريفة ثم نقوي آراءنا برأي هذا العالم ورأي هذا الإمام ورأي هذا الاتجاه الواسع من العلماء، هذا هو الصحيح حتى نستطيع أن نصل، أما أن نقبل رأيًا، وأرجو أن يعفوني الأستاذ السيد الرئيس لكل فقيه أن يقول وصلت إلى هذا الاطمئنان، والاطمئنان حجة ممن قول العالم الفلاني، لكن نحن لانتحدث عن الاطمئنان الشخصي، هناك اطمئنان جماعي نريد من هذا المجمع، هذا الاطمئنان لا يتم إلَّا عبر المنهج الذي يفرض نفسه على الجميع، وهو الرجوع إلى الأصول الأولى، ونتقوى بآراء المذاهب، نتقوى بآراء العلماء ولهم احترامهم وهم جميعًا على رؤوسنا، هذه نقطة.

مسألة قياس ضع وتعجل على الربا، أعتقد أنه قياس مع الفارق. أولًا ليست لدينا قاعدة وأن لا نستطيع أن نقول هناك خبر أو هناك نص يرفض أن يعوض الزمن بأي حال من الأحوال، ليس لدينا نص حتى نستيطع أن نقول كل مصداق لهذا العام يجب أن يرفض، نعم يمكننا أن نقيس حط وتعجل على الربا، لا يشمله مفهوم الربا كما هو الواضح في المسألة العرفية، الربا فيه زيادة ولا يشمل هذا المعنى، الأصل فيه أن يكون مباحًا لأنه حالة طبيعية يتنازل فيها دائن عن شيء لقاء حصوله على شيء آخر. هل هناك مانع من هذا التنازل؟ لا أجد مانعًا، على الأقل الحديثان متعارضان وإن كنتم رجحتم حديث ابن عباس، فإذا كان ليس هناك مانع من تحقق الأصل لدينا، لماذا نغلق هذا الباب؟ إن كانت هناك تطبيقات خاطئة، وما أكثر التطبيقات الخاطئة، هناك الكثيرون ادعوا الألوهية، هناك الكثير ادعوا النبوة، التطبيقات الخاطئة لا تمنعنا من قول الحق ومن الاتجاه إلى القول الحق.

ص: 724

مسألة مهمة، مسألة أشرتم لها وهي مسألة الإمام الصادق، وأنتم أردتم أن تشيروا لهذا المعنى بكل وضوح. الحقيقة، يا سيدي الرئيس، في قلب نزف من دم، أنا أرى أن النقص والعيب في الفريقين معًا، يعني أعتقد أن على كل فقهاء الشيعة عندما يستنبطون أن يلاحظوا كل الأحاديث الواردة من غير كتبهم، فإذا ثبت لهم سند طبق معاييرهم في ثبوت السند، ولهم معايير دقيقة يا سيدي الرئيس وقوية وأذكر بأن كتاب " الكافي " الذي ينسبه البعض إلى الشيعة بأنه كل أحاديثه صحيحة رد عليه بعض علمائنا أكثر من ثلثي أحاديثه. إذن علينا، على علماء الشيعة، أن يدرسوه، وعلى علماء السنة أن يدرسوا أحاديث أهل البيت، فإذا ثبت لديهم السند ورأوا أناسًا في الطريق صادقين وحقيقيين، لماذا لا يعملون برأي الإمام الصادق الذي يقول: أنا أنقل عن أبي وأبي عن جدي وجدي عن رسول الله. هذه القطيعة الحديثية يجب أن تنتهي حتى نستطيع أن نصل إلى لغة مشتركة.

شيء آخر ألاحظه – طبعًا هذه أمور سريعة في الموضوع – مسألة اشتراط المقرض على المقترض أن يبقي عنده مبلغًا لمدة معينة أن يقرضه. أقرضك شيئًا على أن تقرضني شيئًا. أراه رغم أنها مخالفة لأستاذي الكبير الشهيد الصادق أراها مشمولة لقاعدة كل قرض جر نفعًا فهو ربا ولذلك لا أستطيع أن أقبل هذا الحل في مسألة البنوك الإسلامية رغم احترامي الكبير لهذا الرجل الكبير.

الشيء الآخر، مسألة الرهن السائل، الحقيقة الرهن السائل يحقق مقصوده كما أشار شيخنا الضرير باعتبار أن وثائقه مرهونة، ليكن البيت عند هذا الصاحب، لتكن السيارة عند هذا الرجل، لكن وثائقه مرهونة أما إذا انتفت هذه الوثائق المرهونة، فالرهن هنا لا يؤدي دورًا ولذلك ربما وقع الإشكال في هذا المعنى، ليس الأمر يتعلق بالاتفاق بين شخص وشخص، إذا كان الاتفاق شخصيًّا فمعناه أن الرهن انتفى، وهو يسلمه هذه السيارة بيده، انتفت مسألة الوثائقية.

بقيت نقطة واحدة، هي مسألة خصم الكمبيالة، صحيح أن الواقع الذي جرى اليوم واقع ربوي، لا أريد أن أبرره مطلقًا وأرفضه مطلقًا، ولكن نحن نريد أن نقول لبنك إسلامي يريد أن يعمل في الساحة: يمكنك أن تقدم الخدمات التالية فتوازي بها البنوك الربوية، وخصم الكمبيالة نوجهه بشكل طبيعي شرعي يمكنه أني يؤدي به هذه الخدمة، لماذا نغلق الباب تمامًا؟ وشكرًا جزيلًا.

ص: 725

الرئيس:

ترفع الجلسة لاستراحة عشرين دقيقة ثم نعود إن شاء الله تعالى.

(بعد الاستراحة)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نعود إلى موضوعنا " البيع بالتقسيط " – بعد هذه الاستراحة القصيرة – وأعطي الكلمة للشيخ محمد سالم.

الشيخ محمد سالم عبد الودود:

بسم الله الرحمن الرحيم

كنت أريد أن أزيد إيضاحات قليلة حول بعض الموضوعات التي تعرض لها العارض وبعض من عارضه، منها: إنهم يقولون إن بيع الدين من غير من هو عليه لا يجوز، وإطلاق هذا الموضوع مخالف لما عندنا من أنه يجوز بيع الدين من غير من هو عليه ولكن بشروط: أولًا: أن يكون الدين مما يباع قبل قبضه بخلاف طعام المعاوضة، وأن يكون القصد من البيع ليس إعنات المدين فلا يباع دين على رجل ممن بينه وبينه عداوة أو شحناء. ثانيًا: ألَّا يكون العوضان مما يمنع بينهما الفضل أو النساء فلا يباع دين النقد بالنقد ولا يباع الربوي مطلقًا بالربوي متفاضلًا أو نسيئة. ثالثًا: أن يكون المدين حاضرًا مقرًّا فلا يباع دين على غائب لأننا لا نعرف حال ذمته ولا يباع دين على منكر لأنه بيع ما فيه خصومة ففيه نوع من الغرر. هذه إيضاحات حول شروط بيع الدين من غير من هو عليه.

عندنا قضية ضع وتعجل، هذه عند المالكية من قبيل سلف بزيادة لأن المعجل لما في الذمة مسلف وكذلك المؤخر بما في الذمة مسلف، فإذا كان لرجل على آخر مائة دينار حالة لا بأس أن يضع من هذا، هذا حسن اقتضاء، أما إذا كانت مؤجلة فإذا وضع من هذا إنه قد يكون أسلفه خمسين على أن يقبض بدلها مائة في المستقبل من نفسه ويقابله عندنا ما يسمى بحط الضمان وأزيدك لأن المؤخر بما في ذمتي مسلف، وعندنا قبض الرهن وعدم قبض الرهن إنما يؤثر في حال موت الراهن أو فلسه، ما دام الراهن موجودًا حيًّا عامر الذمة فإن عدم قبض الرهن لا يؤثر على صحة العلاقة بين الدائن والمدين. وعندنا مسألة خراب الذمة بالموت هذه كنت أود أن أتحدث عنها ولكن الإخوان كفوني مؤنة الحديث عنها بما في المذهب الحنبلي من أن الذمة إذا خربت وخلفتها ذمة عامرة برهن ثقة أو بحميل ثقة فإن حق المدين يبقى موفورًا محميًّا. وهذا قد يعوض عمارة ذمة المدين المتوفى بما يكفل حق الدائن. هذه أمور تكميلية فقط. وأما قضية دين كعب بن مالك على عبد الله بن أبي حدرد، هذه ليست من قضية ضع وتعجل لأن الدين كان حالًّا. كعب بن مالك استقضى دينه من ابن أبي حدرد بعد الحلول، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بما يفهم منه أنه يحط النصف ويقضيه ابن أبي حدرد، قال: قم فاقضيه، فهذا ليس من مقولة ضع وتعجل لأن الدين حال، وهو صلح وهو حسن قضاء وهو حسن اقتضاء من ابن أبي حدرد ولا يمكن أن يدرج في مفهوم قضية ضع وتعجل. شكرًا.

ص: 726

الدكتور سعود بن مسعد الثبتي:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

لا يتجاوز كلامي الآن أن يكون تثنية على كلمات سبقت من الإخوة الأجلاء والعلماء الفضلاء، ولذلك وبناء على توجيه المجمع الاختصار قدر الإمكان، أحب أن ألخص الكليمات فيما سأقوله في نقاط محدودة.

أولًا: تعجيل الدين: تعجيل الدين إما أن يكون من المدين إلى الدائن، وهذا يظهر أن فيه أدلة خاصة كما أن فيه القياس على زيادة الثمن لأجل التأخير، أو لزيادة الثمن لأجل المدة الزمنية الزائدة والفرق بين الثمن الحال والثمن المؤجل، فكذلك إذا أراد أن يؤدي شيئًا من الدين الذي ثبت في ذمته جزءًا منه فلا أرى في ذلك بأسًا أخذا بمقتضى القياس في ذلك.

أما ما يتعلق بخصم الكمبيالة، في الحقيقة هذا يعتبر لشخص ثالث، فإما أن يكون خصم الكمبيالة بنفس جنس الدين، وهذا يجتمع فيه ربا الفضل وربا النسيئة، وإما أن يكون – كما اقترح بعض الإخوة – بغير الجنس، وهذا فيه ربا النسيئة، وهذا يسمَّى احتيالًا على الربا المحرم شرعًا.

أما فيما يتعلق بقبض المرهون، ففي الحقيقة أن القول الذي طرح ويتفق مع مذهب المالكية وسمي بالرهن السائل، هذا لا شك في صحته، إن شاء الله، لأنه ينطبق على اصطلاح أو على قاعدة القبض الحكمي. والقبض الحكمي قد اتخذ المجمع في دورات سابقة قرارًا بجوازه حتى في الأشياء الربوية بالنقد. بيع النقد بالنقد إذا حصل القبض الحكمي بالشيك أو بالقيد في الحساب، فقد اتخذ الجمع الموقر قرارًا سابقًا في هذا، ولا يرى في ذلك بأسًا. لكن يبقى قضية ما يتعلق بتسجيل الرهن. ذكر الإخوة أن تسجيل الرهن يعتبر قبضًا حكميًا، وهذا إن شاء الله يتماشى مع القواعد الصحيحة ومع فتوى المجمع السابقة في اعتبار القبض الحكمي في هذا، لكن يوجد من البيوع ومن الأعيان ما ليس له تسجيل في المحاكم الشرعية أو في وثائق رسمية فمثلًا بعض البيوت عندنا في المملكة وفي غيرها تباع وتشترى وليست لها صكوك شرعية ولا وثائق رسمية يمكن أن تسجل عليها، كما أن رهن الأعيان الأخرى كالأدوات أو بعض الأشياء التي لا يجري التعامل فيها بالقيد في وثائق رسمية، هذه تحتاج إلى اتخاذ قرار خاص فيها يتعلق بكيفية قبضها حكميًّا في الرهن.

أما حلول الدين وما يتعلق بخراب الذمة، فيظهر أن الإخوة سبقوني في الكلام عن هذا الموضوع وإن الذمة لا تخرب وإنما ذكر كثير من الفقهاء أنها تتلاشى شيئًا فشيئًا ويتعلق بها الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.

وكما تفضل الدكتور على السالوس، واقع المعاصرة الآن أن الثمن قد يزاد ضعف إلى ضعفين على الثمن حالًّا فلو خربت الذمة أو قلنا بخراب الذمة وأن الدين يحل بهذا لأصبح الذي يطلب من الأشخاص المدينين أو من انتقل إليهم الملك يتجاوز الثمن الفعلي بأضعاف كثيرة، وقد لا يستطيعون أن يسددوا هذا الدين. وجزاكم الله خيرًا. وشكرًا.

ص: 727

الدكتور عبد الله محمد عبد الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

شكرًا سيادة الرئيس. في الواقع، في البحث الذي تقدم به القاضي تقي العثماني لفت نظري أنه تكلم في مسألة وإن كانت ليست من صلب مسألة البيع بالتقسيط، وإنما هي من توابعها، كمسائل كثيرة ذكرت تبعًا للمسألة الأصلية " بيع التقسيط: وهي مسألة التعويض عن ضرر المطل، واستغرق في البحث من صفحة 31 إلى 42 وعرض حلولًا، من هذه الحلول التي جاءت في أول كلامه وهي معاقبة هذا المماطل، ونقصد بالمماطل هنا المماطل الموسر لا المعسر، هي معاقبته بمنع التسهيلات المصرفية في المستقبل عنه، والعقوبة الأخرى هي التعزير لبعض العقوبات، ثم استبعد هاتين العقوبتين. أما العقوبة الأولى بقوله: إن المصارف لا تتبع أسلوبًا معينًا واحدًا، وأما التعزيرات فقال: إنها تحتاج إلى محاكم سريعة وهي غير موجودة. ثم ناقش فكرة بعض العلماء الذين قالوا بإلزام المماطل بأداء عوض مالي عن الضرر الفعلي، ثم ناقش هذا الرأي ورد عليه واستبعده، ثم انتهى في النهاية إلى اقتراح قال: إنه قد يصلح لأن يكون حلًّا لهذه المعضلة، وهي أن تلزم المصارف عند القرض بإلزامه بأن يلتزم بأداء مبلغ يتبرع به إلى الجهات الخيرية. وأعتقد أن هذا الأخير أبعد عن الواقع لأنه إذا كان مماطلًا في أداء الدين الذي عليه فكيف يلتزم بأداء تبرعات، ثم من يكون له حق المطالبة بأداء هذا التبرع؟ وما صفة البنك في المطالبة بأداء هذا التبرع إذا كان لجهة خيرية أخرى؟. ولهذا أرى أن الاقتراح الذي اقترحه في أول كلامه، وهو كما جاء في الحديث الصحيح " ليُّ الواجد ظلم يحل عقوبته وماله" فهذه العقوبة تشمل فيما تشمل العقوبة المالية، وهو قد استبعد فكرة العقوبة المالية بقوله: بأنه لم يجد أن المماطلين الذين وجدوا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا عوقبوا ماليًّا ولم يقل أحد من العلماء بعقوبتهم ماليًّا، العقوبة المالية موجودة وأنا قرأت في كتب الفقه حرمان القاتل من الميراث، هذا الحرمان هو عقوبة مالية، وإنما الخلاف هل يجوز للمبلغ المقضي به على هذا المماطل أن يدفع إلى صاحب الدين أم لا؟ هذه مسألة استنبطتها من حرمان القاتل من الميراث ثم صرف نصيبه من الميراث إلى ورثته بأنه يجوز أن يصرف هذا المبلغ إلى صاحب الدين. وشكرًا.

ص: 728

الدكتور حسن عبد الله الأمين:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الهدى وخاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد،

لا بد لي أن أثني كل الثناء على العرض الممتاز والسرد الجميل الذي طرح به الأخ الفاضل الأستاذ القاضي تقي العثماني هذا الموضوع الهام. ولي على هذا الأمر حديث في نقطتين: الأولى تتعلق بتخريج الكمبيالة على أساس أنها مركبة من عمليتين مختلفتين كل منهما جائزة كما شرح الأخ، الأولى أنها وكالة بأجر، والثانية أنها قرض حسن للمستفيد من الكمبيالة الذي وكل البنك على التحصيل بالأجر. والواقع أن هذا التكييف الذي يبدو في الظاهر مقبولًا، هو في الواقع لا يمثل حقيقة القضية، إذ أن الأمر الثاني الذي هو قضية القرض الحسن يتوقف على عملية الوكالة بالأجر ويرتبط بها ارتباطًا عضويًّا. فالمعاملتان تمثِّلان معاملة واحدة لا تنفك أحدهما عن الأخرى، صحيح أننا لو نظرنا لكل عملية منفصلة عن الأخرى فهي سليمة لكن هذا الترابط وهذا التداخل وهذا التوظف من إحدى العمليتين على الأخرى لا يجعلهما منفصلتين ولكن يجعلهما عملية واحدة، فهذه العملية الواحدة لا تغير من الأمر، أمر أن هذه المسألة وهي تحصيل الكمبيالة أو خصم الكمبيالة على الأصح عملية قرض بفائدة.

النقطة الثانية: الحقيقة سبقني إلى الحديث عنها الأخ الشيخ التسخيري فيما يتعلق بالحبوة التي ذكرها السيد الصادق في كتابه " البنك اللاربوي " هذه المسألة مسألة أنه يأتي بمقدار الفائدة مبلغًا يوضع لدى البنك فترة من الزمن يستفيد منه فائدة تساوي مقدار هذه الفائدة التي كان يخصمها مباشرة هي عملية واضحة في أنها نفي ويمثل زيادة على القرض الذي أقرضه إياه، فهو قرض جر نفعًا، وهو قرض يمثل زيادة على أصل المبلغ، وهو ربا في نفس الوقت. ومن هذا يتضح أن العملية في المسألتين لا تخرج عن كونها قرضًا بفائدة ربوية محرمة. وشكرًا جزيلًا.

ص: 729

الدكتور عبد السلام داود العبادي:

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا سمح لي الإخوة الكرام، لي بعض التعليقات البسيطة فيما يتعلق بموضوع الرهن وبالذات ما سمي بالرهن السائل أو الرهن الثابت. حقيقة هذا الموضوع تمت معالجته في القانون المدني الأردني المأخوذ من مبادئ الفقه الإسلامي والتي تبنته عدد من الدول العربية والإسلامية تحت عنوان " الرهن التأميني " وميز بين رهنين: الرهن التأميني والرهن الحيازي. الرهن الحيازي الذي يكون فيه قبض، والرهن التأميني هو الذي يغني عن القبض فيه واعتبر حكميًّا كما عبر بعض الإخوة بوضع إشارة على سجل أمور محددة وهي الآن لا تعدو أن تكون: العقارات والسيارات لأن هذه فيها عند السلطة التنفيذية لها سجلات موجودة محفوظة معرفة فيها الأرض والسيارة بكامل تفصيلاتها. فبدلًا أن تتم عملية التخلية بالنسبة للعقار يسجل على صفحة العقار في دائرة السجل العقاري أن هذه الأرض مرهونة ضمانًا لحق فلان، وتفصيلات الدين وكل ما يتعلق بها موجودة على ظهر السجل لهذا العقار. فلذلك لا مجال في الواقع للوقوف عند هذه القضية ومحاولة معالجتها لأنها قضية واضحة وهي عبارة عن تطوير في عملية القبض. لذلك حتى تعبير الثابت هنا والسائل وقع هذا نموًّا في أدوات التوثيق بعد أن أصبح لهذه الأشياء سجلات خاصة، فبدل أن نقوم بعملية القبض الفعلي أو القبض الحكمي القائم على التخلية، أصبح تسجيلًا أن هذا رهن، خاصة أن السلطة التنفيذية بالتعاون مع السلطة القضائية هي التي تنفذ في النهاية عملية البيع لسداد الدين فيما إذا عجز المدين عن السداد. فلذلك – في ظني – أن هذه القضية يحسن أن لا نقف عندها طويلًا لأنها من الوضوح بمكان.

فيما يتعلق بموضوع خصم الكمبيالة، أنا في رأيي، أنها من هذا القبيل. القضية بتت وقتلت بحثًا والذين يتبنون مثل هذه العمليات هم يقولون أنها قرض، فنحن يمكن أن نبحث في وسيلة المعالجة وليس في إعادة تكييف العملية، وسيلة المعالجة لا يمكن معالجتها ما دام أننا في إطار القرض إلا أن نقول بالقرض الحسن، لكن مقابل قيام البنك بجهد في التحصيل فليستحق أجرة على هذا الجهد، ليس مبلغًا منسوبًا لقيمة الكمبيالة، لأن الجهد الذي يبذل لتحصيل ألف هو نفس الجهد الذي يبذل لتحصيل عشرة آلاف وخمسة وعشرين ألفًا وهكذا. فلذلك البنوك الإسلامية التي لجأت إلى خصم الكمبيالات أخذتها على أسلوب القرض الحسن وتأخذ أجرة تحصيل مبلغًا مقطوعًا كخدمة للزبائن لا تختلف باختلاف المبالغ المرصودة في هذه الكمبيالة.

ص: 730

الأمر الثالث فيما يتعلق بضع وتعجل. أرجو أن ننتبه باستمرار لعملية التطور والمدخلات الجديدة التي تدخل على الوقائع والتي تقتضي إعادة النظر فيما صدر من فتاوى على ضوء ما حدث من مستجدات، يعني هل غيرت طبيعة الواقعة أم ما زالت الواقعة هي هي حتى يظل الحكم هو هو؟ في ظني أن موضوع الفقهاء الذين قالوا بضع وتعجل جوازًا الأمر بات الآن في هذه الظروف المعاصرة هناك نقطة يجب أن نلحظها، الذين قالوا بذلك لم يشيروا إلى أن العملية مشروطة مسبقًا، يعني هذه عملية لاحقة عندما يريد أن يسدد يمكن أن تكون هنالك عملية تنزيل جزء من الدين وعلى أساس أن يسدد كامل الدين، فهي اتفاق تم في فترة لاحقة. مشكلتنا الآن بعد استشراء عمليات البيوع بالتقسيط وقيام بيوع المرابحة في البنوك الإسلامية. إذا أصبحت هذه قاعدة مسلمة معروفة أنه إذا سدد مبكرًا خصم له جزء من العملية رسخنا مفهوم الفائدة الربوية، هذا الذي يجب أن ننتبه إليه. لذلك فقهاؤنا المعاصرون إذا أراد البنك دون اشتراط مسبق ودون أن يكون معروفًا عرفًا مستقرًّا، لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، جاءه أحد المدينين وقال له أنا ظروفي الاقتصادية لا تسمح بأن أدفع كامل المبلغ، خذ هذا المبلغ الآن وأعجل لك في ما في ذمتي من ديون وتنزل لي جزءًا منه وفعل ذلك البنك، لا حرج في هذا ويكون ضمن قاعدة ضع وتعجل، لكن أن يصبح هذا تقليدًا راسخًا وثابتًا في المؤسسة المصرفية الإسلامية بحيث أن أي شخص يقوم بالدفع المبكر تنزل عنه كل النسب التي أضيفت على المدة سابقًا، فنحن قد دخلنا في دائرة الحرام. لذلك يجب أن نأخذ بقاعدة ضع وتعجل ونرجح رأي الفقهاء، لكن على ألا يكون ذلك التزامًا معروفًا مستقرًّا، وتحديدًا مسبقًا يعرفه المدينون باستمرار، لأنه لم يقل أحد من الفقهاء أن ضع هنا لها نسبة، لكن نخشى إذا أطلقنا القول، أن ضع هنا ستصبح لها نسبة، وهي نسبة الزيادة التي تمت على المبلغ ملاحظة للمدة. شكرًا.

ص: 731

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الذمة عرفها ابن عاصم في بيت وفق فيه فقال:

والشرح للذمة وصف قاما

يقبل الالتزام والإلزاما

فالذمة وهو وصف قدره الشارع حقيقي وهو ليس ذاتًا يقبل الالتزام يلتزم ويلزمه غيره، ولذلك لا يتعلق المعين المحدد ذات هذه القضية بالذمة ولكن يتعلق بها المحددات ولا تتعلق بها الكليات لأن الكليات اعتبارية، وعندما فهمت مما فهمت، فالكلي حسب ما يعرفه أهل صناعته هو ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، ولما أخذت الكلي وقلت إن هذا هو مذهب أفلاطوني لأن أفلاطون هو الذي يرى أن الحقائق هي للكليات الذهنية وليست للجزئيات الواقعة في الخارج، ومذهبه تبين تساقطه وعدم صحته، وما استطاع العالم أن يتقدم إلا بعد أن تخلى عن قضية الكلي واعتنى بالجزئي واعتنى بالواقع الذي هو أساس الفلسفة الإسلامية من أنها فلسفة واقعية، لأن الكليات معروفة وهي الجنس والنوع والخاصة والفصل، وما تقع ذمة في الجنس والنوع والخاصة والفصل وإنما هي تقع في شيء محدد يضبطه الطرفان فيلزم به أحدهما الآخر.

الأمر الثاني، ونحن دائمًا وأبدًا مع الذمة لما كانت الوصف قام: يقبل الالتزام والإلزام وتترتب عليه أحكام شرعية، أي أن لإنسان إذا كانت في ذمته دين فهو ملزم بقضائه، وإذا لم يقضه فإنه قد وقع في حرام إذا كان موسرًا، فوجود الذمة هي يتبعها أحكام شرعية معروفة، فإذا قلنا إنها تتعلق بالميت فأنا لم أستطع أن أفهم كيف تكون الذمة وأن تكون للميت ذمة، وما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم:" نفس المؤمن معلقة بدينه " ومن عدم صلاته صلى الله عليه وسلم على من كان عليه دين، هذه قضايا أخروية وليست هي قضايا دنيوية، ونحن نتحدث ها هنا في مجمعنا هذا عن القضايا وعن الحقوق ونظرة إلى الشرع الإسلامي لهذه الحقوق، أما الحديث المروي على ما فيه من صحة سنده " ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " لم يرد فيما أعلم " ليُّ الواجد يحل عرضه وماله" فكلمة مال ما علمت وما وجدت، قد يكون موجودًا ولكن لا أعرفها. ثم ما وقع من قياس حرمان القاتل إلزام بالدفع على حرمان القاتل، القياس معروف أنواعه، فهذا لا يصير حتى من قياس الشبه، هو أبعد من قياس الشبه، وهو عودة إلى المناسب المرسل، والمناسب المرسل لابد أن يكون ظاهرًا منضبطًا، وها هنا ليس له ظهور ولا انضباط، ووقع حرمان القاتل، لأن الذي أعلم به الفقهاء: من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، هذه علة من العلل، فإذا أخذنا أن هذه العلة هي التي تستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم:((القاتل لا يرث)) فهي ثابتة إذن هي العقوبة المالية، فأعتقد أن هذا القياس هو قياس، في نظري، غير مقبول شرعًا، وهو أن يقاس الإلزام بالدفع على حرمان القاتل من الميراث، شكرًا.

ص: 732

القاضي محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الواقع أن النقاط التي أثيرت في هذا النقاش كنت أريد أن أتحدث عن كثير منها ولكن حفاظًا على الوقت أقتصر على نقاط ثلاث.

أولًا، فقد ذكر كثير من الإخوة ومنهم الأستاذ القره داغي والشيخ حسن عبد الله الأمين وغيرهما أني كيَّفت خصم الكمبيالة على أساس معاملتين مستقلتين، ولعله وقع هناك بعض الإساءة في التعبير مني في البحث، والحقيقة أن ما ذكرته من معاملتين مستقلتين ليس تكييفًا لما يقع في البنوك الربوية اليوم، وإني قد صرحت بكل صراحة أن خصم الكمبيالة على ما يجري في البنوك والمصارف الربوية اليوم هو حرام لا سبيل إلى القول بجوازه، ولكني أتيت بتكييف آخر كبديل، يعني إذا أرادت المصارف الإسلامية والبنوك الإسلامية أن تأخذ بديلًا عن هذه المعاملة فيمكن تغيير هذه المعاملة إلى هذا الشكل، فأما ما يقع اليوم فهو حرام لا شبهة فيه وأنه ربا لا شبهة فيه، وقد ذكرت ذلك غير مرة، فمن نسب إليَّ أني أتيت بتكييف جديد لخصم الكمبيالة فهو غير ما قصدته وأردته ولعل ذلك وقع من سوء التعبير، وسأصلح ذلك التعبير إن شاء الله. والمراد ما هو بديل خصم الكمبيالة، فأردت لذلك الآتي: أن تكون عن طريق معاملتين مستقلتين. أما ما ذكره بعض الإخوة أن هاتين المعاملتين ليستا مستقلتين ومنفصلتين عن الآخر وأنهما حيلة لجواز خصم الكمبيالة، أفلا ترون أن المرابحة للآمر بالشراء وأن التأجير المنتهي بالتمليك. جميع هذه العقود ينطبق عليها هذا الاعتراض تمامًا، وهذه حيل شرعية ولكن ما دامت في حدود شرعية وفي حدود الفقه الإسلامي فإنها اعتبرت واتخذت كبديل للمعاملات الربوية، وإن التأجير المنتهي بالتمليك قد أقره المجمع مع أن هناك معاملتين: معاملة تأجير، ومعاملة هبة، ولكنه أقره المجمع وأقره فضيلة الشيخ الصديق الضرير حفظه الله تعالى وجميع الإخوة الذين تكلموا حول هذا البديل.

ص: 733

النقطة الثانية تتعلق بمسألة ضع وتعجل، وقد ذكر أن مسألة ضع وتعجل في حديث بني النضير قد صححه الحاكم وأنه قد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى صحيح ولكني تحدثت عن ناحية أخرى وهي أننا لو سلمنا بصحة هذا الحديث ولا شك أن واقعة بني النضير وقعت حينما وقعت في السنة الثانية من الهجرة وأن الربا لم يحرم في ذلك الزمان فكانت تلك الواقعة قبل تحريم الربا.

وهناك ناحية أخرى ذكرتها وهي ولإن سُلِّم بصحة هذا الحديث فإن هناك احتمالًا وهو أن ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من رأس المال إنما وضع القدر الزائد من رأس المال وقد أيدته بروايات للواقدي.

كما أن هناك ناحية أخرى ذكرتها وقد نبه عليها الدكتور عبد السلام العبادي وهو أننا متى استخدمنا مبدأ ضع وتعجل في البنوك الإسلامية لم يبق هناك أي فارق بين المعاملات الربوية وبين المرابحات والبيوع المؤجلة التي تجريها المصارف الإسلامية، فينبغي أن نبعد هذا الموضوع كل الإبعاد عن المصارف الإسلامية لتضمن صحة المعاملة.

والنقطة الأخيرة أثارها الشيخ عبد الله حفظ الله في مسألة التعويض، وقد ذكرت في مقدمة كلامي أن مسألة التعويض قد فرغ منها في الدورة السابقة فلا مجال للنقاش فيها من جديد فإنها قد أقرت وقد اتخذ فيها القرار، وأما ما جئت به كبديل فهو أنه يمكن أن يلتزم بالتبرع وأن الالتزام بالتبرع عن المماطل – كما اعترض عليه الشيخ عبد الله – كيف يلتزم بالتبرع وهو مماطل؟ فنفس الاعتراض يعود على التعويض ولكن إذا كان هذا الالتزام ملزمًا قضائيًا كما اقترحته وأتيت له بشواهد من مذهب الإمام مالك رحمه الله، فحينئذ يلزم قضاء بهذا التبرع. وأرجو أن تكون في هذه النقاط الثلاثة كفاية عن معظم ما قيل من قبل الإخوان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 734

الرئيس:

نعتذر عن بقية الكلمات نظرًا لتجاوز الوقت.

بسم الله الرحمن الرحيم

في هذا الموضوع " بيع التقسيط " الذي حصل البحث فيه في محاوره الأربعة: مسألة توثيق الدين، ومسألة ضع وتعجل، ومسألة حلول الدين بوفاة المدين، وحسم الكمبيالات. وسمعتم ما دار فيها من مداولات وهي بحمد الله متقاربة والتفاوت في أجزاء يسيرة منها، وقد ترون مناسبًا أن تتألف اللجنة من المشايخ: الشيخ نزيه، والشيخ محيي الدين، والشيخ سعود الثبيتي، والأستاذ رفيق المصري، والأستاذ أنس الزرقاء.

وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 735

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 66/2/7

بشأن

البيع بالتقسيط

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 مايو 1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجممع بخصوص موضوع: " البيع بالتقسيط ".

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.

قرر:

1-

البيع بالتقسيط جحائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل.

2-

الأوراق التجارية (الشيكات – السندات لأمر – سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة.

3-

إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعًا، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم.

4-

الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين، (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق. وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية. فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذٍ حكم حسم الأوراق التجارية.

5-

يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرًا.

6-

إذا اعتبر الدين حالًّا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي.

7-

ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألَّا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً.

والله أعلم.

ص: 736