المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

‌الاستصناع ودوره في

العمليات التمويلية المعاصرة

إعداد

الدكتور عبد السلام العبادي

ممثل المملكة الأردنية الهاشمية في المجمع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة بالناس أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اتبعه وسار على دربه إلى يوم الدين، وبعد ....

1-

فهذه ورقة علمية حول عقد الاستصناع ودوره في العمليات التمويلية المعاصرة، وبخاصة في البنوك والمؤسسات التمويلية الإسلامية، أقدمها لمجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة في جدة في الفترة من 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ وفق 9 – 14 مايو 1992م راجيًا أن تحظى بالمناقشة على ضوء ما قدم للمجلس من بحوث وأوراق عن عقد الاستصناع.

2-

لذا لا تهتم هذه الورقة باستعراض مباحث عقد الاستصناع الاستعراض الفقهي المعهود من حيث التعريف في اللغة والفقه وبيان أركانه وشروط انعقاده وشروط صحته واختلافات الفقهاء في مسائله، فهذا يمكن معرفته بسهولة بالعودة لما كتب عن هذا العقد في الكتب الفقهية قديمًا وحديثًا – ولكنني – أريد أن أعرض لبعض من المشكلات التمويلية التي نريد حلها في الواقع الاقتصادي المعاصر على ضوء قواعد الاقتصاد الإسلامي .... وبعد عرض طرف من هذه المشكلات ننظر إلى عقد الاستصناع لنعرف هل يمكنه حل هذه المشكلات أو المساعدة في حلها بصورة مقبولة، ولو على أساس بعض المذاهب الفقهية المعتبرة فيه

أو أنه لا يمكنه ذلك، وبالتالي فلنبحث عوضًا من ضالتنا في عقود أخرى أو لنتوجه إلى استحداث عقود جديدة نلتزم فيها بالقواعد الشرعية المقررة، بحيث لا نحل حراما ولا نحرم حلالا دون تقيد بما قرره الفقهاء من عقود في السابق من منطلق أن الأصل في ذلك الإباحة ما دام لم يمنع منه مانع شرعي.

ص: 866

3-

وواضح أن المقصود هنا بالمشكلات التمويلية التي نريد حلها ليس المشكلات التمويلية بمعناها الواسع وبأبعادها كلها فكثير من هذه المشكلات بمعناها الواسع لها حلول مستقرة واضحة في الفقه الإسلامي قديما وحديثا

فهناك عقود معروفة تعمل في هذا المجال، وبشكل مباشر منذ نشأة الفقه الإسلامي مثل عقد المضاربة وهنالك عقود جديدة تم استحداثها مع نشأة البنوك ومؤسسات التمويل الإسلامية مثل عقد المرابحة للأمر بالشراء، وعقد المشاركة المتناقصة، وسندات المقارضة فالذي نريده هنا المشكلات التمويلية، التي يمكن معالجتها على أساس عقد الاستصناع، فمن المعلوم أن كثيرًا من الناس يحتاجون إلى سلع متنوعة تدخلها الصنعة الإنسانية، وهي ذات أثمان ليست متاحة للراغبين في الحصول عليها باستمرار، لأنهم لا يملكون أثمان هذه المصنوعات، والصانع يرغب في الحصول على ثمن ما يصنع كله أو جزء كبير منه ليتمكن من مواصلة عمله، وصناعة أشياء أخرى وهنالك جهات أخرى تملك المال ويمكنها أن تدفع للصانع ثمن ما يصنع عن الراغب في الشراء ثم تسترد ما دفعت مع زيادة مناسبة. وهذا الدفع يكون في البنوك التجارية العادية، على سبيل الإقراض مقابل فائدة ربوية

والبنوك الإسلامية لا يمكنها أن تدفع ذلك على سبيل الإقراض الربوي، فهل يمكن أن يساعد عقد الاستصناع في ذلك. وكيف؟

4-

قد يقول قائل أليس في عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء حلًّا لهذه المشكلة؟ .... نعم، لقد حل عقد المرابحة للآمر بالشراء جزءًا كبيرًا من المشكلة على أساس أن تقوم البنوك الإسلامية بشراء السلعة المصنعة ومن ثم بيعها بربح للمحتاج لمثل هذه السلعة والطالب لشرائها

ولكن ما زالت جوانب مهمة من هذه المشكلة بحاجة إلى حل .... فعقد المرابحة لا بد أن يكون قائما على أساس شراء سلع ومواد فحسب فهو لا يلبي دفع الأجور المكلف بها طالب التمويل لأنها ستكون عند ذلك قرضا ربويا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن من شروط عقد المرابحة أن يمتلك البنك أو المؤسسة المالية السلع المشتراة ويتسلمها، وبالتالي يتحمل تبعة هلاكها ....فإذا كانت الأشياء المصنعة لا يمكن للبنك أن يتسلمها قبل تسلم طالب الشراء فهي تصنع وتركب مباشرة في حوزة المرابح، مثل تصنيع الحجر الذي تكسى به وجوه الجدران الخارجية في البنايات، وتصنيع الخشب للأبواب والحديد أو الألمنيوم للشبابيك، ومثل تصنيع المصاعد للبنايات .... ففي هذه الأشياء وأمثالها لا يعتبر التسليم إلَّا على الراكب، كما يقال في اصطلاح أهل هذه الحرف، ومن المعلوم فقها أن التسليم في كل شيء بحسبه

ومعنى ذلك أن التسليم المعتبر في شراء هذه السلع لا يمكن أن يتم إلا بعد تركيبها، والتركيب يعني أن المرابح قد تسلمها قبل تسلم البنك، فكيف يبيعها البنك الإسلامي أو المؤسسة التمويلية الإسلامية له بعد ذلك إذا كان الأمر قد تم وفق عقد المرابحة للأمر بالشراء؟! فهذا لا يجوز كما هو واضح.

ص: 867

5-

وبعد تفكير وجدت أن عقد الاستصناع يحل هذه المشكلة التمويلية حلًّا جذريًّا على أساس أن يجري اتفاق بين طالب الاستصناع والبنك أو المؤسسة التمويلية الإسلامية يلتزم فيه البنك أو المؤسسة بتصنيع شيء معين بسعر معين يتفق على تقسيطه الفترة التي يراها المتعاقدان مناسبة

وواضح أن البنك أو المؤسسة سوف يحسب بهذا الثمن ما سوف يدفعه حقيقة عند اتفاقه مع صانع لهذه الأشياء مضافا إليه الربح الذي يراه مناسبا .... وبعد ذلك يجري البنك أو المؤسسة اتفاقا منفصلا مع صانع أو جهة يختارها لتصنيع هذه الأشياء وفق المواصفات التي ضمنت العقد الأول وبحيث يدفع الثمن فورا أو بعد التسليم وعلى أن تركب الأشياء المصنعة وتسلم في المكان المحدد في العقد أيًّا كان هذا المكان، وواضح أنه لا إشكال في أن يكون هذا المكان البناية التي يقوم طالب الاستصناع في العقد الأول ببنائها، ويقوم البنك أو المؤسسة بعد ذلك بالتأكد من أن هذه الأشياء قد تم تصنيعها وفق المواصفات ومن حق طالب الاستصناع في العقد الأول – صاحب البناية – التأكد أيضا إن ما ركب قد تم وفق المواصفات التي طلبها

ويجب أن نشير هنا إلى الانفصال الكامل بين العلاقة الحقوقية وتحمل الالتزامات في العقد الأول عنه في العقد الثاني، بحيث لا يكون هنالك أي علاقة حقوقية والتزامات مالية بين طالب الاستصناع في العقد الأول – صاحب البناية – والصانع الذي كلفه البنك .... وإذا حدث خلاف من حيث المواصفات ومواعيد التسليم وغيرها فهو يحل في ظل كل عقد على حده وفق الشروط الواردة فيه.

6-

وبناء على هذا الفهم أشرفت على وضع عقود استصناع في مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام التي أعمل مديرا عاما لها وهي مؤسسة مالية عامة في المملكة الأردنية تعمل وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي لتنمية أموال الأيتام واستثمارها، بحيث تحول لها جميع الأموال المنقولة التي يمتلكها كل من لم يبلغ سن الرشد في المملكة ليتم تنميتها بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم تعاد إلى أصحابها بعد بلوغ سن الرشد هي والأرباح التي تحققت خلال فترة وجودها في المؤسسة، وذلك على أساس أنها وصي عام على مال القاصرين، وفق إجراءات وشروط حددها القانون، ليس هنا مجال الحديث عنها .... وألحق بهذه الورقة صورا عن بعض العقود التي تعاملت بها المؤسسة في مجال عقد الاستصناع.

وواضح أن هذا الفهم والتوجه يتيح استصناع أمور أخرى أكثر أهمية مثل بناء بناية كاملة وفق مواصفات محددة، أو بناء مصنع، أو سفينة كبرى أو طائرة، مما يعني أن عقد الاستصناع بهذا الفهم قد يشارك مشاركة فاعلة في تحقيق التنمية الاقتصادية في مجالات الإسكان والصناعة والنقل وغيرها من الحالات المشابهة.

ص: 868

7-

ومن المعلوم فقها أن الاستفادة من عقد الاستصناع على هذه الصورة لا تقره جميع المذاهب الفقهية

فعقد الاستصناع بصورته المعروفة كان محل خلاف بين الفقهاء فالحنفية نظروا إليه عقدا مستقلا بشروط خاصة به فهو عقد بيع، فقد عرفه السمرقندي في تحفة الفقهاء بأنه (عقد على مبيع في الذمة وشروط عمله على الصانع (1) ، وعرفه ابن عابدين بأنه (طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص)(2) ، وذكر السرخسي أن بيع عين شرط فيه العمل هو الاستصناع (3) .

واشترطوا أن يبين في عقد الاستصناع نوع ما سيعمل وقدره وصفته كما ذكر الكاساني في البدائع أن يكون موصوفا (يوصف ويعرف على وجه لا يبقى بعد الوصف جهالة مفضية إلى المنازعة، لأن الفساد (أي فساد العقد) للجهالة فإذا صار معلوما بالوصف جاز) (4) .

كما اشترطوا أن يكون المراد وصفه مما يجري فيه التعامل بين الناس (5) ، وقد نص فقهاء الحنفية على أن هذا العقد يجب أن تكون فيه العين والعمل من جهة الصانع أما إذا كانت العين من المستصنع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعا وكذلك إذا لم يشترط العمل على جهة الصانع، فإنه لا يكون استصناعا بل سلما أو سلفا فالاستصناع عند الحنفية غير الإجارة وغير السلم والذي هو بيع آجل بعاجل أي بيع ما ليس عند الإنسان بثمن حال

على أن يكون البيع موصوفًا محددًا وأجل تسليمه محددًا أيضًا، فلا بد من تعجيل الثمن أما الاستصناع فلا يشترط فيه تعجيل الثمن عند الحنفية .... كما لا يشترط أن يخلو من أجل التسليم في رأي أبي يوسف ومحمد على خلاف رأي أبي حنيفة.

والأصل في المذهب الحنفي أن عقد الاستصناع ليس لازما إلا ما نقل عن أبي يوسف وقد ذهبت مجلة الأحكام العدلية المبنية على المذهب الحنفي إلى لزوم هذا العقد منذ انعقاده فجاء في المادة (392)(إذا انعقد الاستصناع، فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرا)

والواقع أن المجلة قد تبنت هذا الموقف على أساس التوسع في رأي أبي يوسف، فقد نقل عنه أن المستصنع بالخيار إذا جاء المصنوع مغايرا للأوصاف المشروطة، وأنه جاء متفقا مع الأوصاف المشروطة فلا خيار له في ذلك ولا يندرج هذا الأمر في حالات خيار الرؤية، ولم ينقل عنه ما يتعلق بلزوم العقد قبل العمل من الصانع، فكونه لم ينص على عدم اللزوم إلا في حالة مخالفة المواصفات يدل على أنه يذهب إلى اللزوم قاعدة عامة باستثناء ما ذكر فيه عدم اللزوم، ولذا نصت كثير من البحوث المعاصرة على أن المجلة قد تبنت في هذه المسألة رأي أبي يوسف. والواقع أن القول بعدم لزوم عقد الاستصناع بعد التوسع في مجالات عمله مع نمو الصناعات وتطورها يؤدي إلى الإخلال بمصالح مهمة لا يجوز التفريط بها

مما يقتضي الترجيح للقول باللزوم.

8-

أما المالكية والشافعية والحنابلة فلم يذهبوا إلى أن الاستصناع عقد مستقل إنما عالجوا المسألة من خلال عقد المسلم أو الدفع على أساس المسائل التي تندرج تحت ما يسمى بالسلم في الصناعات، فاشترطوا الالتزام فيها بالشروط المقررة لعقد السلم عندهم (6) وأهم هذه الشروط أن يقوم المسلم وهو طالب الاستصناع هنا بتعجيل الثمن، وأنه لابد من بيان مدة الصنع النهائي، ووقت التسلم وأن يكون المصنوع مما يوجد في الأسواق

وعلى هذا الفهم لطبيعة هذه المعاملة وتكييفها فإنها لا تقدم معالجة للمشكلة المطروحة للبحث. لذا فإن ترجيح ما ذهب إليه أئمة الحنفية وبخاصة الإمام أبي يوسف بخصوص عقد السلم هو المناسب والمحقق للمصلحة الشرعية المعتبرة.

الدكتور عبد السلام العبادي

(1) تحفة الفقهاء، السمرقندي:2/538

(2)

حاشية ابن عابدين: 5/223

(3)

المبسوط، السرخسي: 15/84

(4)

بدائع الصانع، الكاساني: 5/209

(5)

فتح القدير، الكمال بن الهمام: 6/262

(6)

انظر: مواهب الجليل شرح مختصر خليل: 4/538، والمهذب، للشيرازي: 1/296، كشف القناع على متن الإقناع، للبهوتي: 3/133

ص: 869

ملحق بأمثلة على عقود استصناع تمويلية

بسم الله الرحمن الرحيم

عقد استصناع أبواب حديد

بعون الله تم الاتفاق بين:

الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام.

الفريق الثاني: ....................................

1-

بالمتر المربع: تقديم وتركيب أبواب حديد بلجيكي ومشابك من تيوبات عرض 6 سم وقضبان 20/5 والنهايات الملتوية 20/5 ولا تزيد المساحة بين القضبان عن 15 سم والسعر يشمل الخردوات اللازمة والمفصلات والأيدي مع تقديم وتركيب الرسمات الجاهزة من الحديد كما هو بالرسم المرفق والسعر لا يشمل الزرفيل والزجاج والدهان والكيل الهندسي صافي للفتحة الإنشائية.

2-

يجب على الفريق الثاني تزويد الفريق الأول بالمخططات اللازمة والتفصيلية لأعمال الأبواب الحديدية المراد تركيبها بالمشروع والموقعة من قبل الفريق الثاني.

3-

يلتزم الفريق الأول بإتمام الأعمال الموكلة إليه خلال خمسة وخمسين يوما (من تاريخ أمر المباشرة بالعمل الصادر من الفريق الثاني خطيًّا) .

4-

على الفريق الثاني وبشكل فوري إعلام الفريق الأول خطيًّا (خلال مدة تنفيذ متعهد الأبواب الحديدية لأعماله عن أية أضرار يحدثها أو يتسبب بها بالمشروع.

ص: 870

5-

يتم قيد قيمة أعمال الأبواب الحديدية المنفذة على حساب الفريق الثاني وبالسعر المحدد بهذه الاتفاقية وتعتبر هذه الاتفاقية من أصل قيمة عقد بيع المرابحة بين الفريقين.

6-

إن أي خلاف أو نزاع ينجم عن هذه الاتفاقية يتم البت فيه عن طريق التحكيم بموجب قانون التحكيم الأردني الساري المفعول.

7-

يعتبر هذا العقد بكافة بنوده جزءًا لا يتجزأُ من الاتفاقية العامة المعقودة ما بين الفريق الأول والفريق الثاني للشروط العامة للتعامل وعقود المرابحة الموقعة بين الطرفين.

8-

تكون الأسعار للأبواب الحديدية حسب الشروط والمواصفات المذكورة بالبند رقم (1) ثمانية وستين دينارًا (للمتر المربع الواحد شاملًا الخردوات اللازمة والمفصلات، شَبَك حماية سعر المتر الواحد تسعة عشر دينارًا) ........، م مع مبسط 20/5.

9-

تكال أعمال الأبواب على الراكب بالمتر المربع لمساحة الباب على أن يتم الكيل من السلاح إلى السلاح ومن العتبة أو البرطاش إلى القمط أو صندوق الأباجورات ولا يؤخذ أي عرف آخر بالكيل.

10-

في حالة تأخر أو تعثر أو إخلال المتعهد الرئيسي في إنهاء أعمال تجهيز الفتحات المعمارية والمعين من قبل الفريق الثاني وفي حالة تأدية هذا التأخير أو الإخلال بأي شكل من الأشكال التي ترتب المسؤولية على الفريق الأول تجاه متعهد الأبواب الحديدية فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه متعهد الأبواب الحديدية.

11-

عند استلام الأبواب الحديدية من قبل لجنة المؤسسة من الصانع حسب المواصفات الموضحة في البند الأول من هذه الاتفاقية يتم دفع القيمة المستحقة للصانع دون الحاجة إلى موافقة الطرف الثاني في هذه الاتفاقية على دفع القيمة للصانع ولا يحق للطرف الثاني الاعتراض.

12-

يقر الفريق الثاني بأن دفاتر الفريق الأول وحساباته تعتبر بنية قاطعة لإثبات أية مبالغ ناشئة ومتعلقة بهذا العقد وتطبيقاته مهما كانت مع ما يلحقها من مصاريف سواء أكانت للفريق الأول أم للغير. ويصرح بأن قيود الفريق الأول وحساباته تعتبر نهائية وصحيحة بالنسبة له ولا يحق له الاعتراض عليها، كما أنه يتنازل مقدما عن أي حق قانوني يجيز له طلب تدقيق حسابات الفريق الأول وقيوده من قبل أي محكمة أو إبراز دفاتره وقيوده، وتعتمد في ذلك الكشوفات المنسوخة عن تلك الدفاتر والحسابات والتي يصادق المفوضون بالتوقيع عن الفريق الأول على مطابقتها للأصل.

13-

القيمة التقديرية لأعمال الأبواب الحديدية تقدر.

14-

وقعت هذه الاتفاقية من قبل الطرفين بتاريخ / / 199م.

الفريق الثاني الفريق الأول

ص: 871

بسم الله الرحمن الرحيم

عقد استصناع أبواب حديد

بعون الله تم الاتفاق بين:

الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام.

الفريق الثاني: ..................................

يلتزم الفريق الثاني بتقديم وتركيب أبواب حديد للمشروع المقام على قطعة الأرض في وذلك حسب الشروط التالية:

1-

بالمتر المربع: تقديم وتركيب أبواب حديد بلجيكي ومشابك من تيوبات عرض 6 سم وقضبان 20/5 والنهايات الملتوية 20/5 ولا تزيد المساحة بين القضبان عن 15 سم والسعر يشمل الخردوات اللازمة والمفصلات والأيدي مع تقديم وتركيب الرسمات الجاهزة من الحديد كما هو بالرسم المرفق والسعر لا يشمل الزرفيل والزجاج والدهان والكيل هندسي صافي للفتحة الإنشائية.

2-

يلتزم الفريق الثاني بإتمام الأعمال الموكلة إليه خلال أربعين يوما من تاريخ أمر المباشرة بالعمل الصادر من الفريق الأول خطيًّا باستثناء الدرابزين حيث يتم تركيبه بعد إنجاز أعمال البلاط.

3-

يلتزم الفريق الثاني بأن يقوم بجميع الأعمال بواسطة عمال أكفاء من ذوي السمعة الحسنة ويتحمل مسؤولية عمله وعماله طيلة فترة العمل ويحق للفريق الأول رفض أي عامل دون اعتراض من الفريق الثاني.

4-

على الفريق الثاني أن يقوم بحماية أعمال الأبواب الحديدية المركبة كافة من أي تلف أو خدش وعليه أن يستبدل وعلى نفقته الخاصة القطع التي يلحق بها الضرر نتيجة لعدم تقيده بهذا الشرط.

ص: 872

5-

على الفريق الثاني أن يتحمل أية أضرار تلحق بالمشروع قد تنجم للفريق الأول أثناء تنفيذ الفريق الثاني للأعمال الموكلة إليه.

6-

يلتزم الفريق الثاني بعدم تأخير تقديم وتركيب الأبواب الحديدية للمشروع وحسب طلب الفريق الأول وضمن المواصفات والشروط المذكورة وبعكس ذلك فإنه يتحمل غرامة مقدارها خمسة وعشرون دينارا عن كل يوم تأخير.

7-

في حال إخلال الفريق الثاني بإحكام البند الثاني من هذه الاتفاقية وفي حال تأدية هذا الإخلال بأي شكل من الأشكال إلى ترتب مسؤولية على الفريق الأول تجاه الغير فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه الغير دون أن يكون للفريق الثاني حق الاعتراض على ذلك.

8-

يلتزم الفريق الثاني بالعمل حسب المخططات والمواصفات المذكورة بالبند رقم (1) .

9-

إذا حصل أي تقصير من الفريق الثاني عندها يقوم الفريق الأول بتكملة العمل على حساب الفريق الثاني مهما بلغت التكاليف.

10-

تكون الأسعار للأبواب الحديدية حسب الشروط والمواصفات المذكورة بالبند رقم (1) ، خمسون دينارًا للمتر المربع الواحد شاملا الخردوات اللازمة والمفصلات، شبك حماية سعر المتر 14 دينار.

11-

تكال أعمال الأبواب على الراكب بالمتر المربع لمساحة الباب على أن يتم الكيل من السلاح إلى السلاح ومن العتبة أو البرطاش أو القمط أو صندوق الأباجورات والكيل هندسي ولا يؤخذ أي عرف آخر بالكيل.

12-

تقدر أعمال الأبواب الحديدية بحوالي ألفين ومائتي دينار تسدد للفريق الثاني على الوجه الآتي:

(أ) يدفع الفريق الأول للفريق الثاني 90 % من العمل المنجز بموجب تقديم فاتورة بالجزء المنجز.

(ب) يتم تنظيم فاتورة نهائية للفريق الثاني بعد أن يتم استلام الأعمال استلاما نهائيا من قبل مهندسي المؤسسة.

13-

لا يحق للفريق الثاني إحالة الاتفاقية بمجموعها أو مجزأة إلى أي فريق آخر إلَّا بموافقة الفريق الأول.

14-

وقعت هذه الاتفاقية من قبل الطرفين بتاريخ / / 199م.

الفريق الثاني الفريق الأول

ص: 873

بسم الله الرحمن الرحيم

عقد استصناع أبواب خشبية

بعون الله تم الاتفاق بين:

الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام ممثله بمديرها العام.

الفريق الثاني: ........................

1-

يلتزم الفريق الأول بتقديم وتركيب أبواب خشبية للمشروع المقام على قطعة الأرض رقم حوض وفق المواصفات والشروط التالية:

بالمتر المربع تقديم وتركيب أبواب منجور داخلية كبس على خشب أبيض 7.5 – 3.4 وتركيب قشاط سويد على الباب من جميع حوافه سماكة 4.4- 2.5 والمعاكس 5 ملم أكومية وعرض خشب الحلق 13.5 إلى 14 سم بزيادة 2سم تقريبا للقصارة والبلاط الصيني يكون الحلق – 16.0 سم تضاف الزيادة في الحلق على مربع الباب والكشفات خشب سويد 7 سم والسماكة 1 سم والكيل من طرف الكشفة إلى طرف الكشفة وكل زيادة على عرض الحلق بعد 13.5 تضاف مع كيبل الباب والمفصلات عدد (3) زر صيني مع ستوب كاوتشوك والسعر لا يشمل الدهان ولا الزجاج ولا الزرفيل مع التزام الطرف الثاني بتركيب الزرفيل والتزام الطرف الأول بتقديم الزرفيل.

2-

يقوم الفريق الثاني بتزويد الفريق الأول بأية مخططات تفصيلية لأعمال الأبواب الخشبية المراد تركيبها بمشروع الفريق الثاني إذا طلب منه ذلك.

ص: 874

3-

يلتزم الفريق الأول بإتمام الأعمال الموكلة إليه خلال خمسة وأربعين يوما على النحو التالي:

(أ) المرحلة الأولى تقديم وتركيب حلوق الأبواب بعد دهنها بدهان أساس (زيت) وقبل أعمال القصارة أخشنه للجدران خلال مدة سبعة أيام من تاريخ أمر المباشرة الأول والصادر من قبل الفريق الثاني خطيا.

(ب) المرحلة الثانية تقديم وتركيب الأبواب الداخلية بعد الانتهاء من أعمال تبليط البلاط الأرضي والبلاط الصيني لجدران الحمامات والمطبخ وذلك خلال مدة ثمانية وثلاثين يوما من تاريخ أمر المباشرة الثاني والصادر من قبل الفريق الثاني.

4-

على الفريق الثاني إعلام الفريق الأول خطيا خلال مدة تنفيذ متعهد المنجور عن أية أضرار يحدثها أو يتسبب بها بالمشروع.

5-

تكال أعمال الأبواب الخشبية على الراكب بالمتر المربع لمساحة الباب على أن يتم الكيل من الكشفة للكشفة للبلاط والكيل هندسي.

6-

إن أي خلاف أو نزاع ينجم عن هذه الاتفاقية يتم البت فيه عن طريق التحكيم بموجب قانون التحكيم الأردني الساري المفعول.

7-

عند استلام الأبواب الخشبية من قبل لجنة المؤسسة من الصانع حسب المواصفات الموضحة في البند الأول من هذه الاتفاقية يتم دفع القيمة المستحقة للصانع دون الحاجة إلى موافقة الطرف الثاني في هذه الاتفاقية على دفع القيمة للصانع ولا يحق للطرف الثاني الاعتراض.

8-

يقر الفريق الثاني بأن دفاتر الفريق الأول وحساباته تعتبر بنية قاطعة لإثبات أية مبالغ ناشئة ومتعلقة بهذا العقد وتطبيقاته مهما كانت مع ما يلحقها من مصاريف سواء أكانت للفريق الأول أم للغير. ويصرح بأن قيود الفريق الأول وحساباته تعتبر نهائية وصحيحة بالنسبة له ولا يحق له الاعتراض عليها، كما أنه يتنازل مقدما عن أي حق قانوني يجيز له طلب تدقيق حسابات الفريق الأول وقيوده من قبل أية محكمة أو إبراز دفاتره وقيوده، وتعتمد في ذلك الكشوفات المنسوخة عن تلك الدفاتر والحسابات والتي يصادق المفوضون بالتوقيع عن الفريق الأول على مطابقتها للأصل.

9-

يلتزم الفريق الأول بمتابعة تنفيذ هذه الاتفاقية وبذل كل جهد لتنفيذ كل ما ورد فيها من بنود وذلك وفق ما يراه مناسبا من إجراءات.

ص: 875

10-

يتم قيد قيمة أعمال الأبواب الخشبية المنفذة على حساب الفريق الثاني وبالسعر المحدد بهذه الاتفاقية، وتعتبر هذه الاتفاقية من أصل قيمة عقد بيع المرابحة بين الفريقين.

11-

يعتبر هذا العقد بكافة بنوده جزءًا لا يتجزأ من الاتفاقية العامة المعقودة ما بين الفريق الأول والفريق الثاني للشروط العامة للتعامل وعقود المرابحة الموقعة بين الطرفين.

12-

على الفريق الثاني أن يعلم وبشكل فوري الفريق الأول عن أي تأخير يحدث من قبل أي مقاول فرعي (عينه الفريق الثاني) وأدى هذا التأخير إلى تأخير التوريد من قبل متعهد أعمال المنجور (والمعين من قبل الفريق الأول) لتقديم وتركيب أعمال الأبواب الخشبية الخاصة بمشروع الفريق الثاني.

13-

يكون سعر المتر المربع للأبواب الخشبية حسب الشروط والمواصفات المذكورة أعلاه.

14-

لا يحق للفريق الثاني إلغاء أو إضافة أية كمية من الأعمال المتفق عليها دون أخذ الموافقة الخطية من الفريق الأول.

15-

في حالة تأخر أو تعثر أو إخلال المتعهد الرئيسي في إنهاء أعمال تجهيز الفتحات المعمارية والمعين من قبل الفريق الثاني وفي حالة تأدية هذا التأخر أو الإخلال بأي شكل من الأشكال إلى ترتب المسؤولية على الفريق الأول تجاه متعهد أعمال المنجور والمعين من قبل الفريق الأول، فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه المتعهد.

16-

وقعت هذه الاتفاقية من قبل الطرفين بتاريخ / / 199م ،

الفريق الثاني الفريق الأول.

ص: 876

بسم الله الرحمن الرحيم

عقد استصناع أبواب خشبية

وأعمال منجور

بعون الله تم الاتفاق بين:

الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام ممثلة بمديرها العام.

الفريق الثاني: ..............................................

يلتزم الفريق الثاني بتقديم وتركيب أبواب خشبية للمشروع المقام على قطعة الأرض حوض وقد قام الفريق الثاني بزيارة الموقع والاطلاع على المخططات الهندسية الخاصة بالمشروع وقام بدراستها ووافق على تقديم وتركيب أبواب خشبية وفق المواصفات والشروط التالية:

1-

بالمتر المربع:

- الأبواب الداخلية:

تقديم وتركيب أبواب خشب كبس سمك صافي 4.5 سم مع معاكس 5 ملم على الوجهين والحلق من خشب سويد بمقطع صافي 14×4.5 سم مثبت بمرابط حديد مجلفن والإطارات من خشب سويد بمقطع 10×4.5 سم والحشوات من خشب أبيض 3.5×3.5 سم مثبتة على بعد 7 سم من المحاور.

والوقافات والمفصلات عدد (3) صيني والزجاج والبراويز من خشب سويد 7×2 مثبتة على دفائن خشبية سمك 3 سم بواسطة براغي مع تأسيس الحلق بالزيت الحار قبل التركيب وهذه المواصفات للأبواب الداخلية والحمامات والمطابخ والسعر لا يشمل الزرافيل.

- الأبواب الخارجية:

تقديم وتركيب أبواب خارجية خشب مرنتي سمك 4.5 سم مع معاكس من الداخل ميجانو 3 ملم، والحلق مرنتي بمقطع 14×4.5 سم وما زاد عن ذلك يضاف إلى طول وعرض الباب. والمفصلات عدد (3) للباب الواحد من نوع صيني، مع تأسيس الحلق بالزيت الحار قبل التركيب والسعر لا يشمل الزرافيل.

ص: 877

2-

يلتزم الفريق الثاني بإتمام الأعمال الموكلة إليه على النحو التالي:

(أ) تركيب الحلوق: خلال شهر واحد من تاريخ توقيع هذا العقد.

(ب) إنجاز الأبواب الداخلية والخارجية والمطابخ وجميع الأعمال الواردة في هذا العقد بالكامل خلال ثلاثة أشهر من أمر المباشرة الصادر من الطرف الأول إلى الطرف الثاني.

3-

يلتزم الفريق الثاني بأن يقوم بجميع الأعمال بواسطة عمال أكفاء من ذوي السمعة الحسنة ويتحمل مسؤولية عمله وعماله طيلة فترة العمل ويحق للفريق الأول رفض أي عامل دون إبداء الأسباب ودون اعتراض من الفريق الثاني.

4-

على الفريق الثاني أن يتحمل أية أضرار تلحق بالمشروع قد تنجم للفريق الأول أثناء تنفيذ الفريق الثاني الأعمال الموكلة إليه.

5-

يلتزم الفريق الثاني بعدم تأخير تقديم وتركيب الأبواب الخشبية للمشروع وحسب طلب الفريق الأول وضمن المواصفات والشروط المذكورة وبعكس ذلك فإنه يتحمل غرامة مقدارها 20 عشرون دينارا عن كل يوم تأخير.

6-

في حال إخلال الفريق الثاني بأحكام البند الثالث من هذه الاتفاقية وفي حالة تأدية هذا الإخلال بأي شكل من الأشكال إلى ترتب مسؤولية على الفريق الأول تجاه الغير فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه الغير دون أن يكون للفريق الثاني حق الاعتراض على ذلك.

ص: 878

7-

إذا حصل أي تقصير من الفريق الثاني عندها يقوم الفريق الأول بتكملة العمل على حساب الفريق الثاني مهما بلغت التكاليف ويعود بفرق السعر على الفريق الثاني.

8-

يكون سعر المتر المربع الواحد كما يلي:

- الأبواب الداخلية والمطابخ 32 دينارا للمتر المربع الواحد.

- الأبواب الخارجية: 55 دينارا للمتر المربع الواحد.

- صناديق الإباجورات: 14 دينارا للمتر المربع الواحد.

وذلك حسب المواصفات المذكورة في البند الأول دون علاوات أو إضافات والسعر لا يشمل الزرافيل.

9-

تكال الأبواب على الراكب بالمتر المربع من الكشفة للكشفة، ومن الكشفة للبلاط والكيل هندسي.

10-

تقدر أعمال الأبواب الخشبية بحوالي عشرة آلاف دينار تدفع للفريق الثاني على الوجه التالي:

(أ) 35 % من القيمة الإجمالية عند الانتهاء من تركيب الحلوق وصناديق الأباجورات.

(ب) يتم تسليم الجزء الثاني على دفعتين:

- الجزء الأول من الدفعة الثانية بعد تسلم أعمال المنجور في الطابق الأرضي والأول بكامله.

- الجزء الثاني من الدفعة الثانية بعد تسلم أعمال المنجور في الطابق الثاني والرووف كاملة.

(ج) يقدم الطرف الثاني شيك تأمين 10 % من القيمة الإجمالية كفالة حسن الأداء، ويقدم مع توقيع هذا العقد.

11-

لا يحق للفريق الثاني إحالة الاتفاقية أو أي جزء منها إلى أي فريق آخر إلَّا بموافقة الفريق الأول.

12-

وقعت هذه الاتفاقية من قبل الفريقين بتاريخ / / 199م.

الفريق الثاني الفريق الأول

ص: 879

الاستصناع وموقف الفقه الإسلامي منه

في

صورة عقد استصناع " أو عقد السلم "

إعداد

أ. د. حسن علي الشاذلي

أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن

بالمعهد العالي للقضاء

بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نهج نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن نعم الله تعالى على الإنسان كثيرة، ولا يحصيها عد، قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (1) .، ولا يلم بأطرافها ومداها فكر، ولا يحيط بأسرارها عقل، إلَّا من أذن الله له، وشاءت إرادته أن يمنحه شيئا من أسرارها.

قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) .

ولما كان الإنسان محتاجا في مسيرته الحياتية إلى أن ينال من نعم الله، وينعم بما تفضل الله به عليه من حوله من نعم ميسورة التحصيل، ظاهرة الأسباب، تحصيلها ميسور لكل الخلق على السواء، كذلك فإنه محتاج إلى نعم أخرى تحتاج في كسبها وتحصيلها، وصياغتها وتوطئة أكنافها واستخراجها إلى جهد – يقل ويكثر – وإلى عقل وفكر – يثابر أو يقصر – ولكل قدر من الفكر والجهد والتدبر نتيجته التي ترضي، وتسد حاجات للناس، وبقدر ما يعلو الفكر والجهد بقدر ما تكون النتائج عالية والمصالح مجلوبة، والقوة محققه، وهذا ما يدعو إليه الإٍسلام {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} .

(1) الآية 18 من سورة النحل

(2)

الآية 255 من سورة البقرة

ص: 880

وقال عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير

)) الحديث.

ومن هنا جاء توجيه الله تعالى للمؤمنين وتفكيرهم، وأمرهم بالنظر والتدبر في هذا الكون ومن احتواه، لمعرفة القدرة القادرة والقوة القاهرة، التي خلقت وأوجدت، وسخرت ويسرت، ووهبت وأعطت، منة منه جل شأنه وفضلًا، فبقدر أعمال العقل – هبة الله إلى الإنسان - في العلو والبحث والتدبر، بقدر ما تكون المعرفة، ويكون الإيمان ويكون القرب، ويكون الخضوع والتذلل، ومن ثم يكون للائتمار بما أمر حلاوة، ويكون للانتهاء عما نهى طلاوة، وفي كل ذلك شفاء وسعادة للروح وللجسم، للفرد وللمجتمع، للدولة وللدول وللعالم بأسره.

والآيات في هذا المضمار كثيرة ....

قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (1) .

وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (2) .

وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (3) .

* وبقدر الامتثال والائتمار، والاستشفاف والتشبع، والسلوك والاستيعاب كان أهل العلم لهم منزلتهم ....

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) .

ولقد كان من آيات ذلك التوجيه الرباني للعلم منذ آدم عليه السلام، قال تعالى:{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (5) .

إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (6) .

وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (7) . وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (8) .

(1)[الآيات من 20-23 من سورة الذاريات]

(2)

[الآيات من 24-32 من سورة عبس]

(3)

الآيات من 17-26 من سورة الغاشية

(4)

[الآية 9 من سورة الزمر]

(5)

[الآية 31 من سورة البقرة]

(6)

[الآية من 1-5 من سورة العلق]

(7)

[الآية 113 من سورة النساء]

(8)

[الآية 114 من سورة طه]

ص: 881

* كان من آيات هذا التوجيه الرباني إلى العلم أن يتنوع العلم ويزكو، وينبعث من شجرته فروع كثيرة، بقدر ما كان استيعابها لأمة من الأمم بقدر ما كان تقدمها ورقيها، ومن هنا انطلق العالم في حرب شعواء لاكتساب ضروب العلم وتسخيرها لخدمة كل شعب ظفر من هذه الشجرة بما يحقق له علوا، ونصرا، وسيادة، وبات الناكص والخامل في هذا الدرب كسيف البال، عالة على أولئك المثابرين في رحابه والمتفانين في معرفة ضروبه ودروبه.

ولقد وجدنا فقهاء الأمة الإسلامية، يعكسون من أنوار التشريع الإسلامي ما يفتح الباب دائما، إلى نيل ضروب المعرفة، وتحصيل كل سبل العلم، مدرسة بعد مدرسة وفنا إثر فن، وصنعة إثر صنعة.

ما أغلقوا بابا فتحه الله، ولا ضيقوا طريقا وسعه الله على خلقه، بل كان همهم تطبيق شريعة الله تعالى، التي وسعت كل شيء بحكمة بالغة، وإعجاز معجز، استمر طيلة القرون، بل ويستمر – بمشيئة الله تعالى – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولقد كان الفقه الإسلامي حريصا كل الحرص، وهو يوضح ويبين شريعة الله تعالى أن يبرز أحكام العقود والتصرفات التي تتم بين الناس – ما شرع منها وما لم يشرع، ما صح منها وما لم يصح – توجيها لمسيرة الناس إلى ما فيه خيرهم وتحقيقا لمصالحهم، وتحديدا لعلاقات الناس في معاملاتهم، منعا من الظلم والتظالم، ودفعا للشحناء، وإيضاحًا للآفاق التي من خلالها يرى كل إنسان ما يحقق له مصلحته فيسير فيه، وما يجلب له مضرة فيبتعد عنه.

ولقد كان للصناعة أثرها في الماضي والحاضر، وكان لها دورها في رقي الأمم ومكانتها في سد حاجات الناس المتجددة، ورغباتهم المتنامية تجدد الليل والنهار ونمو المسيرة الإنسانية عبر القرون والأزمان.

وكان دور الفقه الإسلامي أن يبين للناس – إذا ما أرادوا أن يصنع الإنسان لغيره شيئا – حقيقة العقد المنظم لهذه العلاقة – وهو الذي أطلق عليه بعض الفقهاء (الحنفية)" عقد الاستصناع " – ومشروعيته، وحكمه وآثاره، وعالجه فقهاء المذاهب (المالكية والشافعية والحنابلة) عن طريق عقد السلم.

ولما كان إبراز المنهج الذي عالج به كل مذهب (الاستصناع) أهميته البالغة، التي تظهر لنا بوضوح، إحاطتهم لهذه العقود بما يدرأ عنها المضرة لأي من المتعاقدين ويجلب لكل منهما ويحقق له المصلحة التي ابتغاها من وراء هذا العقد....

ص: 882

كان تناولي لهذا العقد حسب المنهج التالي:

المبحث الأول: عقد الاستصناع عند الحنفية، ويشمل:

تعريفه، وحكمه ومشروعيته، وتكييفه، وأركانه وشروط جوازه وصفته، آثاره.

المبحث الثاني: الاستصناع عند المالكية، ويشمل:

رأي المالكية في عقد الاستصناع، ورأيهم في بعض الاستصناع – حسب اصطلاح الحنفية – ثم عرض رأيهم في " السلم " في أشياء تصنع، وشروط هذا العقد، ومتابعة صور السلم في الصناعات وبيان حكمها.

المبحث الثالث: الاستصناع عند الشافعية، ويشمل:

رأي الشافعية في عقد الاستصناع، ثم رأيهم في (السلم) في أشياء تصنع، سواء صنعت من مادة واحدة، أو من أكثر من مادة خلقة، أو صنعة (ويمكن ضبط أجزائها، أو لا يمكن، يقصد كل جزء منها أو لا يقصد)

المبحث الرابع: الاستصناع عند الحنابلة، ويشمل: رأي المذهب الحنبلي في عقد الاستصناع، ثم رأيهم في التعاقد على أشياء تصنع .....

* وبعرض ذلك – بمشيئة الله تعالى وتوفيقه – ينكشف لنا حقيقة كل من عقدي "الاستصناع" و "السلم" ووجه الالتقاء، والتباعد، وشروط كل من العقدين ....

وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا الجهد خالصا لوجهه الكريم، وأن يغفر لنا زلاتنا، وقصورنا.

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1) .

(1) من الآية 286 آخر سورة البقرة

ص: 883

المبحث الأول

رأي المذهب الحنفي في عقد الاستصناع

يلزمنا أولا أن نبين حقيقة هذا العقد، ثم حكمه، وتكييفه، وشروط صحته وأركانه، وما يشترط في المعقود عليه، ثم صفة هذا العقد، وآثاره، وانتهاءه.

تعريف الاستصناع، لغة، واصطلاحا:

(أ) تعريفه لغةً:

الاستصناع مصدر للفعل استصنع واستصنع الشيء: أي دعا إلى صنعه، ويقال: اصطنع فلان بابا: إذا سأل رجلا أن يصنع له بابا، كما يقال: اكتتب: أي أمر أن يكتب له.

فمعناه لغة: طلب الصنعة، وفي القاموس: الصناعة ككتابة حرفة الصانع وعمله الصنعة، فعلى هذا الاستصناع لغة طلب عمل الصانع.

(ب) تعريف الاستصناع اصطلاحا:

عرف الحنفية عقد الاستصناع بتعريفات متعددة نورد منها ما يلي:

عرفه الكاساني بقوله: الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل (1)، وعرفه ابن عابدين بقوله:" الاستصناع هو طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص يعلم مما يأتي .... "(2) .

وعرفه البابرتي بقوله: " الاستصناع أن يجئ إنسان إلى صانع فيقول:

اصنع لي شيئا صورته كذا، وقدره كذا بكذا درهما، ويسلم إليه جميع الدراهم، أو بعضها أو لا يسلم " (3) .

ومثله تعريف الكمال بن الهمام: "الاستصناع طلب الصنعة وهو أن يقول لصانع خف أو مكعب أو أواني الصفر: اصنع لي خفا طوله كذا وسعته كذا أو دستا – أي برمة – تسع كذا، ووزنها كذا على هيئة كذا بكذا، ويعطى الثمن، أو لا يعطى شيئا، فيعقد الآخر معه (4) وعرفه ابن نجيم بقوله: الاستصناع أن يقول لصاحب خف أو مكعب أو صفار اصنع لي خفا طوله كذا أو سعته كذا، أو دستا - أي برمة - تسع كذا ووزنها كذا على هيئة كذا بكذا، ويعطى الثمن المسمى، أو لا يعطى شيئا، فيقبل الآخر منه. (5) .

وعرفه في مجلة الأحكام العدلية في المادة (124) :

" الاستصناع عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئا، فالعامل صانع، والمشتري مستصنع والشيء مصنوع.

ويتضح من تعريف الاستصناع عند الحنفية ما يأتي:

(أ) أنه تعاقد بين: صاحب صنعة – وهو الصانع – وآخر هو " المستصنع ".

(ب) أن المبيع (الشيء المصنوع) هو مبيع في الذمة، شرط فيه العمل – وحددت أوصافه المميزة له عن غيره من وزن وهيئة وغير ذلك.

(ج) أن الثمن معلوم ومحدد، ويصح أن يعطيه المستصنع للصانع مقدما عند التعاقد، ويصح أن يعطيه قدرا منه والباقي عند استلام " الشيء المصنوع " ويصح أن يؤخره إلى أنه يتسلم " المصنوع ".

(1) بدائع الصنائع: 5/2،3،4

(2)

حاشية رد المحتار: 5/223

(3)

شرح فتح القدير: 5/354

(4)

شرح فتح القدير 5/354.

(5)

البحر الرائق كنز الدقائق: 6/185

ص: 884

مشروعية عقد الاستصناع:

اختلف الفقهاء في جواز عقد الاستصناع إلى رأيين:

الرأي الأول:

يرى أنه لا يجوز عقد الاستصناع، وهو قول زفر من الحنفية وكذا المالكية والشافعية والحنابلة (مع إيجاد بديل لهذا العقد في المذاهب الثلاثة) كما سيأتي بيانه:

إن القياس يقتضي عدم جواز عقد الاستصناع، وذلك لأنه لا يمكن أن يكون عقد إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لا يجوز، كما لو قال شخص لآخر: أحمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا، أو قال له: أصبغ ثوبك أحمر بكذا، فإنه لا يصح.

وكذلك لا يمكن أن يكون عقد الاستصناع " عقد بيع " باعتبار أن " المستصنع " فيه مبيع لأنه بيع معدوم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان أي أن بيع ما يكون موجودا مملوكا لغير العاقد لا يجوز للنهي عنه، والصنعة المطلوبة – حال العقد – هي معدومة وغير موجودة فتكون أولى بعدم الجواز.

وأيضا فإنه لا يمكن أن يكون (سلما)(1) لأن هذا ليس بسلم، لأنه لم يضرب له أجل، ومن شروط صحة السلم أن يكون المعقود عليه وهو (المسلم فيه) مؤجلا (2) ، وذلك عند الحنفية والمالكية والحنابلة خلافا للشافعية (3) .

(1) عرف الحنفية السلم بقولهم: " بيع الدين بالعين " فإن السلم فيه مبيع، وهو دين، ورأس المال قد يكون عينا وقد يكون دينا، ولكن قبضه شرط قبل افتراق العاقدين بأنفسهما، فيصير عينا. اهـ. في حاشية أحمد الشلبي هامش تبيين الحقائق: 4/110. * وعرفه المالكية بـ " عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة، غير متماثل العوضين ". قال ابن عرفة: الحطاب: 4/514. * وعرفه الشافعية بـ " بيع موصوف في الذمة

". قال الشارح هذه خاصته المتفق عليها. مغني المحتاج: 2/102. وعرفه الحنابلة بـ " عقد على شيء يصح بيعه " موصوف في الذمة، مؤجل – أي الموصوف – بثمن مقبوض في مجلس العقد. قال في المبدع: واعترض بأن قبض الثمن شرط من شروطه، لا أنه داخل في حقيقته فالأولى أنه " بيع موصوف في الذمة إلى أجل " وأجمعوا على جوازه. كشف القناع: 3/289

(2)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " متفق عليه. وبهذا أخذ جمهور الفقهاء

(3)

جاء في مغني المحتاج: 2/105، " ويصح السلم حالا ومؤجلا

وإنما يصح حالا إذا كان المسلم فيه موجودا عند العقد، وإلا اشترط فيه الأجل

"

ص: 885

الرأي الثاني:

يرى جواز عقد الاستصناع استحسانا وهو رأي الحنفية غير زفر، والمالكية في بعض الصور ووجه الاستحسان ما يلي:

1-

أن التعامل بالاستصناع يرجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من غير نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تجتمع أمتي على ضلالة "، ولقوله صلى الله عليه وسلم:" ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ".

2-

وقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما: " واستصنع منبرا "(1) .

3-

وقد احتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام. مع أن مقدار عمل الحجامة، وعدد كرات وضع المحاجم، ومصها، غير لازم عند أحد ومثله شرب الماء من السقاء.

* وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجود الحمَّام، فأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطا وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين (رضوان الله عليهم) على هذا الوجه إلى الآن، وهو لا يذكر عدد ما يصبه من ملء الطاسة ونحوها، فقصرناه على ما جرى به التعامل.

* ومن ثم قصر الحنفية جواز عقد الاستصناع على ما فيه تعامل، وأما ما لا تعامل فيه فقد رجعوا فيه إلى القياس، فقالوا بعدم جوازه، كأن يستصنع حائكا أو خياطا لينسج له، أو يخيط قميصا بغزل نفسه " (2) .

* وقال المالكية في بعض الصور بذلك – كما سيأتي، وهو ما سمي بـ " بيعة أهل المدينة "(3) على تفصيل وضوابط سيأتي بيانها.

(1) شرح فتح القدير: 5/355، وتبيين الحقائق: 4/123

(2)

تبيين الحقائق: 4/123

(3)

يراجع ص28

ص: 886

تكييف عقد الاستصناع:

* وبناء على القول بجواز عقد الاستصناع عند الحنفية، فما تكييفه؟

اختلف علماء الحنفية في تكييف عقد الاستصناع إلى رأيين:

الرأي الأول:

يرى أن عقد الاستصناع هو مواعدة " وهو رأي عند الحنفية حكي عن الحاكم الشهيد والصفار، ومحمد بن سلمة، وصاحب المنثور "

" وإنما ينعقد العقد بيعا بالتعاطي إذا جاء به مفروغا عنه "، أي قد أتم صنعه، والدليل على أنه مواعدة: أن للصانع ألا يعمل، إذ ليس هو عقدا لازما (1) ، وأنه لا يجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به الصانع، ويرجع عنه، ولا تلزم "المعاملة" وكذا " المزارعة " على قول أبي حنيفة لفسادهما مع التعامل، لثبوت الخلاف فيهما في الصدر الأول، وهذا كان على الاتفاق (2) .

أو نقول: " أن ثبوت الخيار لكل واحد منهما فيه دليل على أنه مواعدة وليس عقد بيع وإنما ينعقد بالتعاطي، أي بعد أن يتم الصنع، يعطى هذا الشيء المصنوع ويعطى الآخر الثمن "(3) .

الرأي الثاني: في عقد الاستصناع:

يرى أنه ينعقد بيعا.

وهو الرأي الصحيح في مذهب الحنفية.

وهو مذهب عامة مشايخ الحنفية جاء في شرح فتح القدير: " والصحيح من المذهب جوازه بيعا، لأن محمدا رضي الله عنه ذكر فيه القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل "، ولو كان مواعدة جاز في الكل، وسماه (أي محمد بن الحسن) شراء، فقال إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كانت مواعدة لم يملكها، وإثبات أبي اليسر الخيار لكل واحد منهما لا يدل على أنه غير بيع، ألا ترى أن في بيع المقايضة (4) لو لم ير كل منهما عين الآخر كان لكل منهما الخيار، وحين لزم جوازه علمنا أن الشارع اعتبر فيه المعدوم موجودا، وفي الشرع كثير كذلك، كطهارة المستحاضة، وتسمية الذبائح إذا نسيها، والرهن بالدين الموعود، وقراءة المأموم. كل ذلك اعتبر فيه الشرع المعدوم موجودا.

(1) تبيين الحقائق: 4/123، وشرح فتح القدير: 5/355

(2)

شرح فتح القدير: 5/355، والمبسوط: 12/139

(3)

والوعد غير ملزم عند الحنفية

(4)

بيع المقايضة هو "بيع العين بالعين - كبيع السلع بأنواعها، نحو بيع الثوب بالثوب وغيره" تبيين الحقائق: 4/110، حاشية أحمد شلبي.

ص: 887

شروط صحة عقد الاستصناع عند الحنفية:

نعرض فيما يلي الشروط التي يلزم توافرها لجواز عقد الاستصناع عند الحنفية – مع إيراد آراء المخالفين في اشتراط أي من هذه الشروط إذا وجد اختلاف.

الشرط الأول:

أن يكون المصنوع معلوما.

وذلك بأن يبين جنس المصنوع، ونوعه، وصفته، وقدره، لأنه لا يصير معلوما بدونه فإذا جهل شيء من ذلك يفسد العقد، لجهالة المعقود عليه، إذ هو مبيع.

الشرط الثاني:

(أن يكون المصنوع مما يجري فيه التعامل بين الناس) وقد ضرب علماء المذهب أمثلة لذلك:

فقالوا: (مثل أواني الحديد والنحاس والرصاص، والزجاج وكذا الخفاف، والنعال، ولجم الحديد للدواب، ونصول السيوف، والسكاكين، والقسي، والنبل، والسلاح كله والطشت والقمقمة ونحو ذلك – قال الكاساني.

ثم قال:

(ولا يجوز في الثياب، لأن القياس يأبى جواز الاستصناع، وإنما جوازه استحسانا لتعامل الناس، ولا تعامل في الثياب)(1) .

* وإذا نظرنا إلى الأمثلة التي أجازوا فيها الاستصناع وجدناها تشمل ما يأتي:

- الأواني المنزلية جميعها.

- والأحذية.

- والأسلحة جميعها.

- والمصنوعات الحديدية لاستعمال الدواب.

كما أننا إذا نظرنا إلى دليل جوازها وجدناه (تعامل الناس في هذه الأشياء) وهو عرف مدعم بالنصوص التي أوردناها فيما تقدم، ومن ثم يمكن أن يقال بناء على رأي الحنفية أن كل مصنوع جرى فيه التعامل بين الناس اليوم – مما يبيحه الشرع – يكون جائزا.

* ومن ثم جاء نص المادة (389) من مجلة الأحكام العدلية مقررا ذلك ونصها: (كل شيء تعومل استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلما، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضا.

(1) بدائع الصنائع: 5/2-5

ص: 888

أثر اشتراط الأجل في عقد الاستصناع:

فإذا ضرب للاستصناع أجل، وقد اختلف في اعتباره استصناعا إلى رأييين عند الحنفية:

الرأي الأول: رأي أبي حنيفة.

(يرى الإمام أبو حنيفة أنه إذا ضرب المتعاقد للاستصناع أجلا صار سلما، حتى يعتبر فيه شرائط السلم، وهو قبض البدل في المجلس ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم.

أما عقد الاستصناع فقد ثبت فيه خيار الرؤية، فإذا رآه المستصنع فهو بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، لأنه اشترى ما لم يره – خلافا لأبي يوسف – ومن هنا افترقا.

ووجه قول أبي حنيفة:

أنه إذا ضرب أجلا في الاستصناع فقد أتي بمعنى السلم (إذ السلم عقد على مبيع في الذمة مؤجلا)(1) والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ فيها، ألا ترى أن البيع ينعقد بلفظ التمليك، وكذا الإجارة، وكذا النكاح على أصلنا، ولهذا صار سلما فيما لا يحتمل الاستصناع، وهو ما لم يجر التعامل فيه وكذا هذا الذي ضرب فيه أجلا.

- ولأن التأجيل يختص بالديون، لأنه وضع لتأخير المطالبة، وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة، وليس ذلك إلا السلم إذ لا دين في الاستصناع، ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع من العمل قبل بالاتفاق، ثم إذا صار سلما يراعى فيه شرائط السلم، فإن وجدت صح سلما، وإلا لم يصح.

(1) قد سبق تعريف السلم ص434

ص: 889

الرأي الثاني: رأي أبي يوسف ومحمد:

يرى الصاحبان أنه لا يشترط (ألا يكون في عقد الاستصناع أجل) وأنه يكون عقد استصناع على كل حال بدون هذا الشرط، فسواء أضرب فيه أجل أم لم يضرب فيه أجل هو عقد استصناع ما دام الشيء المستصنع مما يجوز فيه الاستصناع. فإن كان مما لا يجوز فيه الاستصناع (كالثياب ونحوها) فضرب أجلا للاستصناع فيها ينقلب عقد الاستصناع سلما في قول أبي حنيفة وقول الصاحبين بالاتفاق.

ووجه قول أبي يوسف ومحمد في أن هذا ليس بشرط: أن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع، وإنما يقصد به تعجيل العمل، لا تأخير المطالبة، فلا يخرج بالأجل عن كونه استصناعا.

- أو يقال: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة، وقد يقصد به تعجيل العمل فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال، بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع، لأن ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل، فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين، وذلك بالسلم. أو يقال أن اللفظ حقيقة في الاستصناع وتقريره أن ذكر الاستصناع يقتضي ألا يكون سلما، لأن اللفظ حقيقة وهو ممكن العمل، وذكر الأجل يقتضي أن يكون سلما لكنه ليس بمحكم فيه بل يحتمل أن يكون للتعجيل وإذا كان كذلك فقد اجتمع المحكم والمحتمل فيحمل الثاني على الأول.

ويحكى عن الهندواني: أن ذكر المدة إن كان من قبل المستصنع فهو للاستعجال، فلا يصير به سلما، وإن كان من قبل الصانع فهو سلم لأنه يذكره على سبيل الاستمهال، وفيما إذا صار سلما يعتبر شرائط السلم المذكورة.

الترجيح:

أرى أن قول الصاحبين – أبي يوسف ومحمد – في الهدف من ذكر الأجل في عقد الاستصناع وهو أن يقصد المستصنع بذكره والنص عليه تعجيل العمل، وتقديم الشيء والمصنوع في موعد ملائم لمصلحة المستصنع بل والصانع، هو قصد معتبر لا غنى عنه في مثل هذه العقود ضمانا للوفاء بالشيء المستصنع في وقت الحاجة إليه، إذ لو فات هذا الوقت ومضى لأمكن أن تكسد السلعة ولا تتحقق المصلحة من ورائها.

وبخاصة أن عقد الاستصناع عقد غير لازم من الطرفين قبل الصنع بالاتفاق بين علماء المذهب الحنفي، فمن مصلحة المستصنع أن يقدر الأجل الذي يمكنه فيه أن يحصل على الشيء المستصنع تحقيقا لغرضه، وضمانا لعدم تسرب الزمن منه، وإعذارا للصانع حتى لا يكون انصرافه عنه ورجوعه عن الوفاء دون سبب ظاهر وفيه أيضا مصلحة للصانع، إذ أنه بالأجل يحثه على الإنجاز وإتمام العمل في الوقت المطلوب، وتقديمه إلى المستصنع في موعده المحدد، وبعد ذلك يتفرغ لغيره من الأعمال.

ص: 890

أركان عقد الاستصناع:

الركن الأول: الصيغة – وما يشترط فيها.

ويشترط في صيغة العقد ما يشترط في صيغة عقد البيع ولا نرى الحاجة في الإفاضة في ذلك.

الركن الثاني: العاقدان.

ويشترط فيهما ما يشترط في العاقدين في عقد البيع، ولا نرى الإفاضة في ذلك (1) .

الركن الثالث: المعقود عليه في عقد الاستصناع وما يشترط فيه.

وهذا الركن أرى بسط الحديث فيه إذ هو يتميز بميزات خاصة جعلته يصدق عليه هذا الاسم، وهو (الاستصناع) ، فأبين حقيقة المعقود عليه في عقد الاستصناع ثم ما يشترط في المعقود عليه لكي يصح عقد الاستصناع عند علماء الحنفية.

أولا: حقيقة المعقود عليه في عقد الاستصناع.

اختلف فقهاء المذهب في حقيقة المعقود عليه في هذا العقد إلى رأيين:

الرأي الأول: لأبي سعيد البردعي (2) ،

يرى أبو سعيد البردعي أن المعقود عليه في عقد الاستصناع هو العمل لأن الاستصناع استفعال من صنع أي طلب الصنع، وهو العمل، فتسمية العقد به دليل على أن المعقود عليه هو العمل، والأديم فيه والصرم بمنزلة الصيغ، أي بمنزلة الآلة للعمل. (3) ولهذا يبطل عقد الاستصناع بموت أحد المتعاقدين، كما تبطل الإجارة بذلك (عند المذهب الحنفي) .

الرأي الثاني: وهو رأي جمهور علماء المذهب (4)

يرى هؤلاء أن المعقود عليه هو العين وليس العمل، وذكر الصنعة لبيان الوصف وهذا هو الأصح في المذهب الحنفي، وقد قالوا في توجيه هذا الرأي: إن المعقود عليه هو العين (أي المستصنع فيه) لأن الصانع لو جاء بالمستصنع فيه مفروغا عنه، ولا من صنعته (بأن كان من صنع غيره) أو من صنعته قبل العقد، فأخذه المستصنع كان جائزًا، أي أنه لا يشترط أن يقوم الصانع بعمله في العين بعد العقد، حتى لو جاء به مفروغا، لا من صنعته، أو من صنعته قبل العقد، فأخذه المستصنع جاز.

(1) إذا سرنا على رأي الحنفية فالركن هو رضا المتعاقدين، ولكنه لا يقوم الرضا إلَّا بوجود عاقدين، ومعقود عليه، ومن ثم كان رأي غيرهم جعل هذه الثلاثة أركانا

(2)

أبو سعيد البردعي: هو أحمد بن الحسن – أبو سعيد – من الفقهاء الكبار، قتل في وقعة القرامطة مع الحاج سنة 317هـ سبع عشرة وثلاثمائة من الهجرة وتمام ترجمته في طبقات عبد القادر، وحاشية ابن عابدين: 5/225

(3)

تبيين الحقائق، للزيلعي: 4/124.

(4)

تبيين الحقائق، للزيلعي: 4/124.

ص: 891

وكذا لو عمل بعد العقد، وباعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز، ولو كان المعقود عليه العمل لما جاز، وكذا محمد رحمه الله قال: (إذا جاء به مفروغا فللمستصنع الخيار لأنه اشترى ما لم يره سماه شراء، وأثبت فيه خيار الرؤية، وهو لا يثبت إلا في العين.

ثم ردوا على ما قاله أبو سعيد البردعي من قوله: (إنه يبطل بموت أحدهما) فقالوا: إنما بطل بموت أحدهما، لأن للاستصناع شبها بالإجارة من حيث إن فيه طلب الصنع، فلشبهه بالإجارة قلنا يبطل بموت أحدهما. ولشبهه بالبيع، وهو المقصود بالعقد أجرينا فيه ما ذكرنا من أحكام البيع.

وقيل أن عقد الاستصناع ينعقد إجارة ابتداء وبيعا انتهاء قبيل التسليم، لأن البيع لا يبطل بموت أحدهما، بل يستوفى من تركته، والإجارة لا يثبت فيها ما ذكرنا من أحكام البيع، فجمعنا بينهما على التعاقب لتعذر جمعهما في حالة واحدة، كما قلنا في الهبة بشرط العوض إنها هبة ابتداء بيع انتهاء، والمعنى فيه أن المستصنع طلب منه العين والدين، فاعتبرناهما جميعا، توفيرًا على الأمرين حظهما.

فإن قيل: إذا اعتبرتهم فيه معنى الإجارة ومعنى البيع وجب أن يجبر كل واحد منهما على المضي (في العقد) ولا يخير (كما سبق القول) .

قلنا: الإجارة تفسخ بالأعذار (عند الحنفية) وهذا عذر (لأن الصانع يلزمه الضرر بقطع الصرم، فباعتباره كان للصانع فسخه (منعا للضرر به) .

وكذا البيع يثبت فيه خيار الرؤية، فباعتباره يكون للمستصنع الفسخ، لأنه اشترى ما لم يره – على قول من قال بالتخيير – ولأن الجواز للضرورة فيظهر في حقه، ولا ضرورة في حق اللزوم، فلا يظهر في حقه (1) .

(1) تبيين الحقائق: 4/124

ص: 892

صفة عقد الاستصناع:

يرى الحنفية: أنه لبيان صفة هذا العقد يلزم التفرقة بين احتمالات ثلاثة: حالة ما قبل العمل في السلعة المطلوب صنعها وحالة ما بعد العمل فيها، قبل رؤية المستصنع الشيء المصنوع وحالة ما بعد هذه الرؤية.

الحالة الأولى: حالته قبل العمل في الشيء المستصنع:

أما صفة عقد الاستصناع قبل العمل في الشيء المصنع: فهو عقد غير لازم في الجانبين، جانب الصانع، وجانب المستصنع، بلا خلاف عند الحنفية.

وبناء على ذلك يكون لكل واحد منهما خيار الامتناع عن العمل، كالبيع المشروط فيه الخيار للمتبايعين، ويكون لكل واحد منهما الفسخ، لأن القياس يقتضي ألا يجوز عقد الاستصناع – كما سبق ذكره – وإنما عرفنا جوازه استحسانا لتعامل الناس، فبقي اللزوم على أصل القياس.

أو نقول إن جواز عقد الاستصناع للحاجة، وهي في الجواز، لا اللزوم. ولذا قلنا إن للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع، لأن العقد غير لازم.

الحالة الثانية: حالته بعد العمل في الشيء المستصنع، وقبل رؤية المستصنع له:

أما صفة عقد الاستصناع بعد الفراغ من العمل في الشيء المستصنع، وقبل أن يراه المستصنع، فهو أيضا عقد غير لازم، لأنه لا يتعين إلا باعتبار المستصنع، حتى كان للصانع أن يبيعه ممن شاء (كذا ذكر في الأصل) لعدم تعينه، لأن العقد ما وقع على عين المعمول، بل على مثله في الذمة، لما ذكرنا من أنه لو اشترى المصنوع من مكان، وسلمه إليه، جاز، وهذا دليل على أنه يتعلق بالذمة (مثله) ولا يتعلق بالعين.

* وكذا لو باعه الصانع لغير المستصنع، وأراد المستصنع أن ينقض البيع ليس له ذلك، لأنه لا يتعين إلا باختيار المستصنع، ولم يختر، لكنه لم يره.

* ولو استهلك الصانع المصنوع قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع فهو كالبائع إذا استهلك المبيع قبل التسليم – كذا قال أبو يوسف – فإنه لا يجب شيء، إذ قد فات في مقابل الثمن، فلا يستحق البائع شيئا، ومثله هذا.

الحالة الثالثة: حالته بعد انتهاء العمل وإحضار المصنوع للمستصنع: إذ أحضر الصانع العين للمستصنع على الصفة المشروطة، ورآها، فقد اختلفت الرواية في اللزوم وعدمه بالنسبة لكل من الصانع والمستصنع إلى ثلاث روايات:

ص: 893

الرواية الأولى:

أنه إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة فقد سقط خيار الصانع، وللمستصنع الخيار أي أنه يكون العقد لازما بالنسبة للأول دون الثاني.

وذلك لأن الصانع بائع للمستصنع ما لم يره. فلا خيار له.

وأما المستصنع فمشتري ما لم يره، فكان له الخيار، إذا رآه.

وإنما كان كذلك، لأن المعقود عليه وإن كان معدوما حقيقة، فقد ألحق بالموجود ليمكن القول بجواز العقد، كما سبق بيانه.

ولأن الخيار كان ثابتا للصانع والمستصنع قبل الإحضار، لأن العقد غير لازم كما سبق القول – والصانع بإحضاره المصنوع أسقط خيار نفسه، فبقي خيار صاحبه (وهو المستصنع) على حاله، كالبيع الذي شرط فيه شرط الخيار للمتعاقدين، إذا أسقط أحدهما خياره أنه يبقى خيار الآخر، كذا هذا.

(هذا جواب ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنهم .

الرواية الثانية:

وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن لكل واحد منهما الخيار. أي أن العقد لا يكون لازما حتى بعد إحضار المصنوع ووجه هذه الرواية أن في تخيير كل واحد منهما دفع الضرر عنه، ودفع الضرر واجب.

الرواية الثالثة:

روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا خيار لهما، أي أن العقد يكون لازما وذلك لأن الصانع قد أفسد متاعه، وقطع جلده، وجاء بالعمل على الصفة المشروطة فلو كان للمستصنع الامتناع عن أخذه لكان فيه إضرار بالصانع.

بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل، فقال المستصنع: لا أريد، لأنا لا ندري أن العمل يقع على الصفة المشروطة، أو لا يقع، فلم يكن الامتناع مه إضرارا بصاحبه. فثبت الخيار.

ص: 894

* وقد رجح المذهب جواب ظاهر الرواية، فقال الكاساني هو الصحيح، لأن في إثبات الخيار للصانع ما شرع له الاستصناع، وهو دفع حاجة المستصنع، لأنه متى ثبت الخيار للصانع، فكل ما فرغ عنه يتبعه من غير المستصنع، فلا تندفع حاجة المستصنع.

* ورد على قول أبي يوسف بقوله:

وأما قول أبي يوسف أن الصانع يتضرر بإثبات الخيار للمستصنع مسلم، ولكن ضرر المستصنع بإبطال الخيار فوق ضرر الصانع بإثبات الخيار للمستصنع لأن المصنوع إذا لم يلائمه وطولب بثمنه لا يمكنه بيع المصنوع من غيره بقيمة مثله، ولا يتعذر ذلك على الصانع، لكثرة ممارسته وانتصابه لذلك.

ولأن المستصنع إذا غرم ثمنه، ولم تندفع حاجته لم يحصل ما شرع له الاستصناع وهو اندفاع حاجته، فلا بد من ثبوت الخيار للمستصنع، والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الموفق (1) .

فإن سلم إلى حداد حديدا ليعمل له إناء معلوما بأجر معلوم، أو جلدا إلى خفاف ليعمل له خفافًا معلومًا بأجر معلوم فذلك جائز، ولا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع بل هو استئجار، فكان جائزًا.

فإن عمل كما أمر استحق الأجر، وإن أفسد فله أن يضمنه حديدا مثله، لأنه لما أفسده، فكأنه أخذ حديدا له، واتخذ منه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع لأن المضمونات تملك بالضمان.

* وهذا غير ما نحن فيه، إذ ما نحن فيه (عقد الاستصناع) هو أن الشيء محل عقد الاستصناع يتكون من مادة وصنعة، وكلاهما من عند الصانع، ولذلك افترقا فهذا عقد استصناع وأما الآخر فعقد إجارة كما أسلفنا.

الترجيح:

وأرى رجحان ما انتهى إليه المذهب من أن خيار الصانع سقط بعد إحضار السلعة إلى المستصنع، وثبت خيار الرؤية للمستصنع، لأنه يشتري ما لم يره.

(1) بدائع الصانع: 5/2-4

ص: 895

آثار عقد الاستصناع:

وأما حكم عقد الاستصناع، أي الأثر المترتب على عقد الاستصناع فهو:

ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة.

وثبوت الملك للصانع في الثمن.

وكل ذلك على الوجه الذي بيناه فيما تقدم.

انتهاء عقد الاستصناع:

ينتهي عقد الاستصناع بما يلي:

1-

إتمام صنع الشيء، وتقديمه إلى المستصنع، وقبوله له فإذا تم ذلك ملك المستصنع الشيء المصنوع، وملك الصانع الثمن، فإن كان الثمن قد دفعه مقدما فيها، وإلا بأن كان مؤجلا كله أو بعضه فإنه يلزمه دفعه كله أو ما تبقى منه، فور قبوله الشيء – المصنوع.

2-

موت أحد العاقدين:

وذلك نظرا لأن لعقد الاستصناع شبها بالإجارة وشبها بالبيع، أو هو كما سبق أن بينا إجارة ابتداء بيع انتهاء.

وإذا كان لعقد الاستصناع شبها بالإجارة فإن الإجارة تنفسخ بموت أي العاقدين أو كليهما، وذلك لأن الإجارة عند الحنفية تنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة شيئا فشيئا، وإذا كان كذلك فما يحدث من المنافع في يد الوارث لم يملكها المورث لعدمها، والملك صفة الموجود لا المعدوم، فلا يملكها الوارث، إذ الوارث إنما يملك ما كان على ملك المورث، فما لم يملكه يستحيل وراثته.

وإذا كان عقد الاستصناع له شبه بالإجارة فيعطى حكمها، ومن ثم نص فقهاء المذهب على أنه إذا مات الصانع يبطل عقد الاستصناع ولا يستوفى المصنوع من تركته [ذكره محمد في كتاب البيوع فتح القدير: 5/356] ونص في الحموي على الأشباه على أنه (يبطل الاستصناع بوفاة الصانع أو المستصنع لمشابهته للإجارة، والإجارة تنفسخ بالموت) .

ص: 896

3-

وبناء على أن للاستصناع شبها بالإجارة، فإنه أيضا ينتهي عقد الاستصناع بهلاك العين التي تعينت لصنع الشيء المطلوب صنعه في عقد الاستصناع منها وذلك لوقوع اليأس من استيفاء المعقود عليه (المصنوع) حينئذ، أما إذا كان مثلها يوجد في الأسواق ويتمكن الصانع من الحصول عليه بيسر وسهولة فإنه لا ينتهي عقد الاستصناع لعدم اليأس من استيفاء المعقود عليه.

4-

نص المذهب الحنفي على أن الإجارة تنتهي بإنقضاء المدة إلا لعذر لأن الثابت إلى غاية ينتهي عند وجود هذه الغاية، إلا إذا كان ثمة عذر بأن انقضت المدة وفي الأرض زرع لم يستحصد فإنه يترك إلى أن يستحصد بأجر المثل.

ولما كان عقد الاستصناع له شبه الإجارة فإننا إذا طبقنا هذا الحكم عليه وأجزنا ذكر الأجل فيه على رأي أبي يوسف ومحمد – (كما سبق بيانه)(1) فإنه إذا انقضى الأجل دون أن يتم الانتهاء من الصنع، فإن عقد الاستصناع ينتهي بانقضاء المدة دون الانتهاء من الصنع وتقديم الشيء المصنوع إلى المستصنع على الصفة التي اتفقا عليها.

(1) ص440

ص: 897

رأي المذهب المالكي

في التعاقد (استصناعا) أو (سلما)

على الأشياء التي يراد تصنيعها

نوضح فيما يلي – بإذن الله تعالى وتوفيقه – رأي المالكية في عقد الاستصناع، الذي أجازه المذهب الحنفي، ثم رأيهم في عقد السلم الذي يرد على عين تصنع، ثم تسلم عند حلول الأجل الذي اتفق عليه العاقدان في عقد السلم إلى المسلم (المشتري) .

المطلب الأول

رأي المالكية في جواز عقد الاستصناع

يرى المالكية عدم جواز عقد الاستصناع، الذي بيناه آنفا في المذهب الحنفي، والذي يدور حول أن يتعاقد المستصنع مع الصانع على أن يصنع له من مادة مملوكة للصانع شيئا ما بثمن معين يدفعه عند تقديم الصانع الشيء المستصنع إلى المستصنع.

* وقد أثار علماء المذهب هنا صورتين جمع بينهما أن المعقود عليه يسلم في المستقبل وكذا الثمن، وقد اختلف الحكم فيهما:

الصورة الأولى: (الشراء من دائم العمل حقيقة أو حكما (1) – كالخباز والجزار والبقال واللبان – وحكمه أنه بيع في المذهب، وروي عن مالك عدم جوازه.

(أ) قال الحطاب: (هذه تسمى بيعة أهل المدينة) لاشتهارها بينهم، والمسألة في كتاب التجارة إلى أرض دار الحرب من المدونة، وفي أوائل السلم قال في كتاب التجارة، وقد كان الناس يتبايعون اللحم بسعر معلوم، يأخذ كل يوم شيئا معلوما، ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء، وكذلك كل ما يباع في الأسواق، ولا يكون إلا بأمر معلوم يسمى ما يأخذ كل يوم، وكان العطاء يومئذ مأمونا، ولم يروه دينا بدين واستخفوه انتهى. وقد ذكروا أنه يتأخر الشروع العشرة أيام ونحوها، وقال في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع، وحدثنا مالك عن عبد الرحمن بن المجمر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم نأخذ منه كل يوم رطلا، أو رطلين، أو ثلاثة، ويشترط عليهم أن يدفعوا الثمن من العطاء قال: وأنا أرى ذلك حسنا، قال مالك: ولا أرى به بأسا إذا كان العطاء مأمونا وكان الثمن إلى أجل، فلا أرى به بأسا، قال ابن رشد (كنا .... إلى آخره) يدل على أنه معلوم عندهم مشهور ولاشتهار ذلك من فعلهم سميت (بيعة أهل المدينة) ، وهذا أجازه مالك وأصحابه اتباعا لما جرى عليه العمل بالمدينة بشرطين، أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، وأن يكون أصله عند المسلم إليه، على ما قاله غير ابن القاسم في سماع سحنون من السلم والآجال.

(1) حقيقة ككون البائع من أهل حرفة هذا الشيء لتيسره عنده فأشبه المعقود عليه المعين، وحكما بأن يؤخر الشروع في الأخذ خمسة عشر يوما – الدسوقي: 3/216، والحطاب

ص: 898

وليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.

(ب) وقد روي عن مالك أنه لم يجز ذلك، ورآه دينا بدين. وقال تأويل حديث (مجمر) أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهذا تأويل سائغ في الحديث، لأنه إنما سمي فيه السوم وما يأخذ كل يوم، ولم يذكر عدد الأرطال التي اشترى منه فلم ينعقد بينهما بيع على عدد مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء، ولا يلزم واحدا منهما التمادي على ذلك إذا لم يعقدا بيعهما على عدد معلوم مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء، وإجازة ذلك مع تسمية الأرطال التي يأخذ منها في كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين هو المشهور في المذهب، وهو قوله في هذه الرواية: وأنا أراه حسنا، معناه: وأنا أجيز ذلك استحسانا، اتباعا لعمل أهل المدينة وإن كان القياس يخالفه انتهى.

هذه المسألة كما قررها علماء المذهب تحتوي على عناصر معينة.

1-

أن يتعاقد المشتري مع شخص دائم العمل حقيقة، أو حكما ككون البائع من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده، فأشبه المعقود عليه المعين. (قال اللخمي (السلم في الشيء لمن هو من أهل حرفته جائز على الحلول) .

فهو تعاقد مع أهل حرفة معينة، وضربوا له مثلا بالخباز، والجزار، واللبان والبقال ومثل ذلك كل ما يباع في الأسواق.

2-

أن المعقود عليه كله غير موجود وقت التعاقد، وأن مقتضى هذه المهنة أن يوجد مع البائع في كل يوم، وما على المشتري إلا أن يتقدم إليه لأخذ ما اتفقا عليه من المقدار في كل يوم.

3-

(أن الشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام – كقنطار بكذا كل يوم رطلين – أو يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددا معينا – وليس لأحدهما الفسخ في الصورة الأولى، أما الثانية فلأي منهما ذلك) الدسوقي: 3/216، ومسألتنا هي الأولى.

4-

أن مقدار ما يأخذه البائع في كل يوم معلوم.

5-

أن الثمن هنا في صورتنا مؤجل إلى أجل معلوم – وهو العطاء – وكان العطاء يومئذ مأمونا – ومنه يفهم أن الأجل معلوم لأن للعطاء أجلا معينا، وأن الوفاء بالثمن مطمئن إليه، لأن العطاء مأمون الوصول إلى مستحقه. فإذا حل الأجل سلمه جميع ثمن ما أخذه خلال المدة الماضية.

ص: 899

* هذا النوع من التعاقد يرجح المذهب المالكي أنه بيع، وليس سلما.

- أما أنه بيع، فقد تقدم لنا نص ما ورد في المدونة وهو يعبر عن كونه بيعا (قال في كتاب التجارة: وقد كان الناس يتبايعون اللحم بسعر معلوم

) .

وقد روي عن سالم بن عبد الله قوله: (كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم) قال الدسوقي: (ووجه كونه بيعا لا سلما أنهم نزلوا دوام العمل منزلة تعين المبيع والمسلم فيه لا يكون معينا) .

وقال ابن عرفة أنه: (يخالف السلم أيضا في عدم وجوب نقد رأس المال)(1)

ولكن اللخمي ورد عنه: (السلم في الشيء لمن هو من أهل حرفته جائز على الحلول)(2)

- وقد نقلنا آنفا أنه: ليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه.

ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.

وإذا لم يكن بيعا حقيقة ولا سلما محضا، فما هو؟

فهو عقد خاص جمع بين بعض خصائص البيع وبعض خصائص السلم وسموه (بيعة أهل المدينة) .

(1) المواق على الحطاب: 8/538

(2)

المواق على الحطاب: 8/538

ص: 900

حكم هذا النوع من التعاقد:

في المذهب رأيان:

الرأي الأول: وهو المشهور في المذهب – أنه يجوز هذا التعاقد ويصح – وقد أجازه مالك وأصحابه اتباعا لما جرى عليه عمل أهل المدينة، فقد اشتهر ذلك بينهم، ولاشتهار ذلك من فعلهم سميت (بيعة أهل المدينة) .

وقد اشترطوا لصحته شرطين:

الشرط الأول: أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، وقد ذكروا أنه يجوز أن يتأخر الشروع العشرة أيام ونحوها.

الشرط الثاني: أن يكون أصل المسلم فيه عند المسلم إليه، على ما قاله غير ابن القاسم في سماع سحنون من السلم والآجال، وليس ذلك محض سلم: ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.

* وكأني بالمذهب يريد أن يطمئن إلى أمرين: الأول: أن يكون أصل السلعة موجودا حتى لا يكون العقد دينا بدين، والثاني: أن يشرع في الأخذ فعلا، بأن قبض أوله، حتى لا يكون بيعا لشيء غير موجود عند التعاقد بثمن مؤجل، ويعتبر الشروع قائما إذا تم في مدة قريبة.

الرأي الثاني: ما نقلناه آنفا (أنه روي عن مالك أنه لم يجز هذا العقد، ورآه دينا بدين، وقال تأويل حديث مجمر، أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهذا تأويل سائغ في الحديث، لأنه إنما سمي فيه السوم وما يأخذ كل يوم، ولم يذكر عدد الأرطال التي اشترى منه، فلم ينعقد بينهما بيع على عدد مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء، ولا يلزم واحدا منهما التمادي على ذلك إذا لم يعقدا بيعهما على عدد مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء.

وإجازة ذلك مع تسمية الأرطال التي يأخذ منها في كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين هو المشهور في المذهب، وهو قوله في هذه الرواية: وأنا أراه حسنا، معناه: وأنا أجيز ذلك استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة، وإن كان القياس يخالفه.

إذن إجازة هذا النوع من التعاقد مبنية على الاستحسان الذي دليله عمل أهل المدينة، وحديث مجمر.

أما القياس فإنه لا يجيز هذا النوع من التعاقد.

ص: 901

الآفاق التي تمتد إليها هذه الصورة في عالمنا المعاصر:

على ضوء ما قرره علماء المالكية من جواز هذا النوع من العقد (على المشهور في المذهب) وعلى ضوء ما أحاطوا به العقد من شروط للقول بصحته وما يحيط به من خصائص لا تجعله سلما محضا، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، على الوجه الذي أوضحاناه تفصيلا فيما تقدم.

أستطع أن أقول:

إن المالكية فتحوا بابا للتعاقد مع أصحاب الحرف – ومنهم أصحاب الصناعات – على أن يقدموا لهم ما يحتاجون إليه من أشياء مصنعة، سواء أكانت خبزا، أو غيره من المصنوعات التي تنتجها المصانع بصفة مستمرة يوميا، ويحتاج إليها الناس في كل يوم من لحم، وخبز، أو لبن، أو مشروب مشروع، بل يمكن أن نعديه إلى ما ليس بمأكول، ومن أدوات التنظيف كالصابون بأنواعه للوجه أو للملابس أو للأرض .... وأدوات التطهير، وأدوات الخياطة من خيط وأزرار، وما شابه ذلك من كل ما يباع في الأسواق وما يعتاده الناس.

* علاقة هذا العقد بعقد التوريد:

إن عقد التوريد هو عقد يلتزم فيه المورد بتقديم سلعة معينة بثمن معين لجهة معينة في موعد معين.

إذا نظرنا إلى خصائص هذا العقد وجدناه يتفق مع عقد التوريد في هذه الخصائص ومن ثم يكون عقد التوريد عقدا صحيحا، إذا توافرت فيه جميع الشروط التي نص عليها الفقهاء في عقد البيع، بالإضافة إلى ما اشترطناه في هذا العقد الذي معنا.

ص: 902

صلة هذا العقد بعقد الاستصناع عند الحنفية:

(أ) واضح أن كلا المذهبين بنى رأيه في جواز العقد (عقد الاستصناع عند الحنفية) و (بيعة أهل المدينة) على الاستحسان، وقد سبق أن بينا أدلة كل مذهب للأخذ بالاستحسان.

أما القياس: فقد رأي المذهبان أنه لا يصح أي عقد من هذين العقدين لأنه بيع ما لم يوجد، وبيع ما لم يوجد منهي عنه بحديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم

إلى آخر ما ذكرناه في موطنه في بداية عقد الاستصناع.

(ب) وأن كلا المذهبين قد فتح بابا لسد حاجات الناس من السلع التي تحتاج إلى صناعة، والصناعة في كل عصر تحتاج إلى دراسات للسوق، ولحاجة الناس المتجددة، ولأغراضهم المختلفة، ولقدراتهم المادية ....، ولرغباتهم وغير ذلك من الدراسات، ومن ثم فتح الباب لتلبية هذه الحاجات بتقديم المنتج أو الشيء المصنع إلى من يطلبه مع بيان الجنس والنوع والصفة، والشكل والهيئة، والحجم، والمقدار .... وغير ذلك مما اتفق عليه المتعاقدان.

(ج) ويختلف العقدان من جوانب.

- أن عقد الاستصناع عقد جائز غير لازم عند الحنفية، قبل العمل، أما بعد العمل، وإحضاره فقد اختلف في لزومه – على ما سبق ذكره وإن كان أحد الآراء يجعله لازما إذا جاء على الصفة التي اتفق عليها، وهو رأي أبي يوسف (1) .

(1) يراجع رأي أبي يوسف في صفحة 446

ص: 903

أما المالكية: فيجعلونه لازما، إذ هو بيع كما صرح المذهب (والشراء من دائم العمل كالخباز وهو بيع .... ولا يكون إلا بأمر معلوم يسمى ما يأخذ كل يوم، ويشرع في الأخذ (ويجوز التأخر في الشروع لعشرة أيام) ويتأخر الثمن جميعه إلى العطاء) .

والقول باللزوم في عقود المعاوضات هو الذي أراه راجحا، منعا من النكوص عن الوفاء بما أوجبه العقد عند التغير الذي يحدث عادة في الأسواق من جراء رواج سلعة أو نفاذها، أو من تبدل الرغبات فيها أو من إغراق السوق ببديل أفضل أو ما إلى ذلك، مما يؤدي إلى الإضرار بأحد المتعاقدين عند التراجع عن العقد والعدول عن الصفقة.

الصورة الثانية:

الشراء من غير دائم العمل لسلعة تصنع هو سلم:

نص المذهب المالكي على أن شراء سلعة تصنع من غير دائم العمل هو سلم يأخذ. أحكامه فلا يعين العامل ولا المعمول منه، ويكون دينا في الذمة.

وقد مثلوا له بما إذا عقد على قنطار خبز يؤخذ من المسلم إليه بعد شهر قدره – وصفته كذا.

ثم أوضح الدسوقي أن غير دائم العمل هو من كان انقطاعه أكثر من عمله أو تساوى عمله وانقطاعه (1) .

وحكم هذه الصورة:

أن الشراء من غير دائم العمل جائز، وهو سلم يشترط فيه ما يشترط في السلم من تعجيل رأس المال، وضرب الأجل، وعدم تعيين العامل، والمعمول منه، فإن عُيِّنا أو أحدهما كان فاسدا.

وسيأتي لنا في الصور التالية رأي أشهب في جواز السلم إذا عين العامل والمعمول منه حيث قال: (وإن تعيين المعمول منه أو العامل لا يضر في السلم) .

وبناء على ذلك يصح شراء سلعة تصنع من غير دائم العمل، مطلقا سواء عين المعمول منه بأن قال من هذا النحاس بعينه – أو عين العامل – بأن قال من صنعة فلان من الناس أو عينهما.

(1) حاشية الدسوقي: 3/217

ص: 904

المطلب الثاني

في السلم في الصناعات

لقد نص علماء المالكية على أن استصناع شيء معين – كاستصناع سيف أو ركاب من حداد، أو سرج من سروجي، أو ثوب من حياك، أو باب من نجار – على صفة معلومة بثمن معلوم، وهو سلم تشترط فيه شروط السلم (1) على الوجه الذي سنبينه.

ويستوي في هذه الصورة أن يكون الصانع المعقود مع دائم العمل، أو غير دائم العمل (2) .

شروط صحة السلم في الصناعات:

بينَّا آنفا أن استصناع السيف والسرج ونحوهما سلم، سواءً كان الصانع المعقود معه دائم العمل أو غير دائم العمل، كأن تقول لإنسان اصنع لي سيفا أو سرجا صفته كذا بدينار، فقبل، فإنه يشترط لصحته تعجيل رأس المال، وضرب الأجل، وألا يعين العامل، ولا المعمول منه.

* أما فساد السلم بعدم تعجيل رأس المال، فذلك حتى لا يصير بيع كالئ بكالئ، وهو منهي عنه.

* أما فساده بعدم ضرب الأجل، فذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم "[رواه البخاري ومسلم] .

* وأما فساده بتعيين العامل والمعمول منه أو أحدهما فلاعتبارات نبينها فيما يأتي نظرًا لاختلاف الآراء في هذا الحكم في كل صورة منها، مما يقتضي منا فصل كل صورة عن الأخرى.

مع النص مقدما على أن الرأي السائد في المذهب هو فساد هذا السلم إذا عين العامل، أو المعمول منه، أو هما معا بالأولى، وصحته إذا لم يعينهما أو أحدهما وذلك أربعة أقسام نعرضها فيما يلي:

(1) وشروط السلم عند المالكية إجمالا هي: * الأول: تسليم رأس المال (حلوله)(ورأس المال هو الثمن أو السلم) للنهي عن الكالئ بالكالئ. * الثاني: أن يكون المسلم فيه (وهو السلعة المؤخرة – الثمن -) دينا. * الثالث: أن يكون المسلم فيه مؤجلا إلى أجل معلوم. * الرابع: أن يكون المسلم فيه مقدورا على تسليمه عند المحل. * الخامس: أن يكون المسلم فيه معلوم المقدار. * السادس: أن يكون المسلم فيه معلوم الأوصاف.

(2)

الدسوقي: 3/217

ص: 905

القسم الأول

حكم السلم في الصناعات إذا لم يعين العامل

ولا المعمول منه (الشيء المصنع)

في هذه الصورة يكون سلما يجري عليه حكمه، فلا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.

قال في المدونة: من استصنع طستا أو قلنسوة أو خفا أو غير ذلك مما يعمل في الأسواق بصفة معلومة، فإن كان مضمونا إلى مثل أجل السلم، ولم يشترط عمل رجل بعينه، ولا شيئا بعينه يعمله منه، جاز ذلك إذا قدم رأس المال مكانه، أو إلى يوم أو يومين، فإن ضرب لرأس المال (الثمن) أجلا بعيدا لم يجز، وصار دينا بدين.

القسم الثاني

حكم السلم في الصناعات

إذا عين الشيء المعمول منه والعامل

وقد ضرب المذهب أمثلة لهذا القسم بما إذا قال المستصنع للصانع اعمل من هذا الحديد بعينه، أو من هذا الخشب بعينه، أو من هذا الغزل بعينه، قوسا أو بابا صفته كذا

حكم هذا القسم:

(أ) يرى المذهب المالكي (خلافا لأِشهب) فساد السلم في هذا القسم لأن المعمول منه ليس دينا في الذمة، ومن شروط صحة السلم أن يكون المسلم فيه (المثمن) دينا في الذمة.

إذ السلم بالاتفاق (بيع شيء موصوف في الذمة) .

وإذا لم يكن سلما فإنه يكون من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع

فإن كان يعرف وجه خروج الشيء من العمل، أو تمكن إعادته للعمل (كالنحاس) " وعمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع في العمل بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام أو نحو ذلك

فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط

حتى يشرع في العمل.

فإن انتفى معرفة وجه خروج الشيء من العمل (صفته من كونه جيدا أو رديئا) أو إمكان إعادته فلا يجوز.

(ب) يرى أشهب جواز السلم إذا عين المعمول منه أو العامل حيث قال: (إن تعيين المعمول منه أو العامل لا يضر في السلم " (1) .

(1) حاشية الدسوقي: 3/217

ص: 906

القسم الثالث

حكم السلم في الصناعات

إذا عين المعمول منه دون العامل

(أ) يرى المذهب أنه إذا عين المسلم (المستصنع) المعمول منه، دون العامل فإنه لا يصح السلم عند المالكية أيضا (خلافا لأشهب) .

وذلك لأن المسلم فيه (المثمن) لا بد من أن يكون دينا في الذمة، ولا يصلح أن يكون معينا، فإذا عين كما في هذه الصورة فإنه لا يصح السلم.

وإذا لم يصح السلم فإنه يكون أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع – على الوجه الذي ذكرناه في القسم الثاني – إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام، بتعجيل النقد وتأخيره.

(ب) ويرى أشهب جواز السلم إذ أن تعيين المعمول منه، أو العامل لا يضر في السلم، وهنا عين المعمول منه، فلا يضر ذلك ويصح السلم فيه.

القسم الرابع

حكم السلم في الصناعات إذا عين العامل فقط

إذا عين المستصنع العامل فقط دون المعمول منه، كأن يقول له:

أن يكون الصانع فلانا من الناس، فقد اختلف في حكم هذه الصورة أيضا.

(أ) يرى المذهب المالكي: (خلافًا لأشهب) أنه لا يصح السلم إذا عين العامل. قال في المدونة: فإن شرط عمل رجل بعينه لم يجز، وإن نقده، لأنه لا يدري أيسلم ذلك الرجل إلى ذلك الأجل أم لا، فذلك غرر. اهـ. وعلى هذا درج ابن رشد.

وقال ابن رشد: لا يجوز ذلك لأنه يحتويه أصلان متناقضان:

لزوم النقد لكون ما يعمل منه مصوغا، وامتناعه لاشترط عمل المستعمل بعينه (1)

(ب) ويرى أشهب جواز السلم في هذه الصورة أيضا لأن تعيين العامل أو المعمول منه لا يضر في السلم عنده.

وقد جاء في المدونة – في موضع آخر – ما يقتضي جواز السلم إذا عين العامل فقط، لقولها: من استأجر من يبني له دارا، على أن الجص والآجر من عند الأجير جاز، وهو قول ابن بشير. اهـ موّاق.

وهذه الصورة الواردة في المدونة تفتح بابًا لجواز عقد المقاولة، والذي بمقتضاه يقوم المقاول بالقيام بالعمل ومادة العمل من عنده هو رأي المقاول – وما على الطرف الآخر إلا أن يتسلم المعقود عليه كاملا في مقابل ما دفعه من الثمن.

(1) المقدمات، لابن رشد: 2/159

ص: 907

المطلب الثالث

صور أخرى في هذا الموطن

أثار علماء المالكية عدة صور تتعلق بموضوع بحثنا بينوها ووضحوا حكمها، وهي:

الصورة الأولى: أن يجد صانعا يصنع شيئا من مادة يملكها، فقال له:(أكمله لي على صفة كذا بدينار) . وهي مسألة (وتور ليكمل)(1) .

ففي هذه الصورة:

نجد أن المادة المصنعة ملك للصانع.

وأن الصانع بدأ في تصنيعها.

وأن المشتري رأي ما يصنعه في المرحلة الأولى.

ثم طلب المشتري من البائع أن يكملها له، وحدد الصفة الخاصة التي يبتغيها، وحدد الثمن لهذا الشيء والمصنع.

ففي هذه الصورة وقع العقد على المصنوع على وجه السلم، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري.

حكمها:

يرى المالكية جواز هذا البيع، ولكن بشرط أن يشرع الصانع في تكميله بالفعل أو بعد أيام قلائل، كخمسة عشر يوما فأقل، وإن لم يشرع في تكميله خلال هذه المدة منع هذا البيع، لما فيه من بيع معين يتأخر قبضه.

وكذلك يشترط أن يكون عند الصانع نفس المادة المصنعة – كالنحاس مثلا – بحيث إذا لم يأت المصنوع على الصفة المطلوبة كسره وأعاده، وكمله مما عنده من النحاس، فإن كان الشيء لا يمكن إعادته كالثياب.

فقد قال اللخمي: في مسألة شراء الثوب على أن يتم له نسجه إن مثل ذلك الثوب يشترط صبغه، وشراء العود على أن يعمله له تابوتا، هذا كله لا يجوز، لأنه مما يختلف خروجه، ولا يمكن أن يعاد لهيئته الأولى.

قال: فأما إن كان هذا المشتري المعين إذا شط على بائعه أن يعمله لا يختلف صفته إذا صنع فإنه جائز، قال وذلك كالذي يشتري القمح على أن يطحنه بائعه والزيتون على أن يعصره فيأخذ منه كيلا معلوما، وكذلك الثوب على أن يخيطه فهذا كله جائز.

وقال: لو لم يسلم في الغزل على أن ينسج، واشتراه على أنه إن خرج على ما وصفه أخذه ونقد الثمن، وإن خرج على غير ذلك كان لبائعه جاز. اهـ.

انظر على هذا بالنسبة إلى الحرار يكون الثوب بيده يعمله فيشتريه منه التاجر على أن يكمله له على هذا المأخذ.

(1) حاشية الدسوقي: 3/215

ص: 908

تكييف المذهب لهذه الصورة:

اختلف علماء المذهب في تكييف هذه الصورة، هل هي من باب اجتماع البيع مع الإجارة – باعتبار أن المادة المصنعة من عند البائع – أو من باب السلم باعتبار عدم وجود الشيء المصنوع وقت التعاقد؟

فقد اختلف علماء المالكية في ذلك إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى أن هذه الصورة من باب اجتماع البيع والإجارة وذلك يجوز وهذا الرأي هو ما نص عليه في الشرح الكبير للدردير، تبعا لابن الحاجب والتوضيح (1) .

أما أنها من باب البيع، فلأن السلعة المطلوب تضيعها موجودة حال التعاقد، وقد تعاقد مع صاحبها على صنعها.

وأما أنها من باب الإجارة، فلأنه قد تعاقد مع صاحب السلعة على أن يتم تصنيعها شيئا معينا من هذه المادة.

فقد اجتمع في العقد بيع وإجارة، ويجوز عند المالكية اجتماع عقد البيع مع الإجارة.

الرأي الثاني: يرى أنها من باب السلم فتجوز أيضا:

وهذا الرأي يتمشى مع رأي أشهب الذي يجوز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع، وفي هذه الصورة عين المصنوع منه – فقط – أي المادة المصنعة التي اشتراها من البائع.

أما أنها من باب السلم، فلأنه (السلعة المصنعة) ، والتي جرى التعاقد عليها معدومة حال العقد، إذ الموجود فقط مادتها لدى البائع، ولكن ما جرى عليه التعاقد هو (إبريق أو طشت أو غيرهما) مما يصنع من هذه المادة، فالإبريق وما ماثله معدوم حال التعاقد.

يقول صاحب الشرح الكبير: " وإطلاق السلم على هذا الشراء مجاز وإنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما، فهو من أفراد " وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد وإنما يضمنه بائعة ضمان الصناع (2) .

وقد منع ابن القاسم: - في السلم تعيين المعمول منه لأن من شروط السلم أن يكون – المسلم فيه دينا (في الذمة) فإذا تعين المعمول منه، لا يكون حينئذ دينا، ومن ثم لا يصح سلما لعدم توافر شرطه وبناء على رأيه تكون بيعا أي مع إجارة – كما تقدم -.

(1) جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/215: " وقد جعل عج وعبق، وشارحنا هذه المسألة تبعا لابن الحاجب والتوضيح من باب اجتماع البيع والإجارة "، ثم قال وهو مغاير لأسلوب المصنف: ويصح أن يكون من باب السلم بناء على رأي: أشهب المجوز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع، وهنا عين المصنوع منه وهذه يمنعها ابن القاسم وأنت إذا أمعنت النظر وجدتها لها شبه بالسلم، نظرا للمعدوم في حال العقد، ولها شبه بالبيع نظرا للموجود، وليست من اجتماع البيع والإجارة، ولكن أقرب ما يتمشى عليه كلام المصنف قول أشهب الذي يجيز تعيين المعمول منه

(2)

حاشية الدسوقي: 3/216

ص: 909

النتيجة:

بناء على ما تقدم تكون هذه الصورة جائزة عند المالكية، سواء اعتبرت بيعا وإجارة، أو اعتبرت سلما .... وقد قدمنا الشروط اللازم توافرها.

الصورة الثانية:

أن يشتري المعمول منه من البائع، ثم يستأجره حال العقد على عمله أو صناعته شيئا معينا، آنيه أو سيوفا أو غيرهما ....

ففي هذه الصورة:

اشترى مادة معينة من صاحبها، وملكها. ثم استأجر المشتري البائع على صنعها شيئا معينا على أن يتم ذلك الاستئجار حال التعاقد على بيعها.

ففي هذه الصورة وقع العقد فيها على المعمول منه على وجه البيع، وملكه المشتري ثم استأجره حال العقد على عمله، وهذه الصورة فيها حالتان:

الأولى: أن يعين العامل.

الثانية: ألا يعين العامل.

حكم هاتين الصورتين:

نص المذهب على صحة العقد في الصورتين – بشرط أن يشرع في العمل، ولو حكما، كتأخيره نصف شهر. جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (وأما إن اشترى المعمول منه) وعينه، ودخل في ضمانه (واستأجره) بعد ذلك على عجلة (جاز، إن شرع) في العمل، ولو حكما، كتأخيره نصف شهر (عين العامل أم لا) .

قوله: (وإن اشترى المعمول منه ....) يعني أنه إذا اشترى منه حديدا

معينا، واستأجره على أن يعمل له منه سيفا بدينار، فإن ذلك جائز، سواء شرط تعجيل النقد أم لا، لأنه من باب اجتماع البيع والإجارة في الشيء، وهو جائز، وسواء كان العامل معينا أم لا، بشرط أن يشرع في العمل.

وفهم من قوله: (واستأجره) أنه لو استأجر غير البائع لجاز من غير قيد الشروع، قوله: (وإن اشترى المعمول منه

) إلخ، الفرق بين هذه والتي قلبها، وهو قوله (وتور ليكمل) أن العقد فيما قبلها وقع على المصنوع على وجه السلم، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري، وهذه وقع العقد فيها على المعمول منه على وجه البيع وملكه المشتري، ثم استأجره حال العقد على عمله، وهذه الثانية هي مسألة ابن رشد، والتي قبلها مسألة المدونة.

ففي الأولى أربعة أحوال وهي تعيين المعمول منه، والعامل وعدم تعيينهما، وتعيين الأول دون الثاني، والعكس، صحة العقد في حالة وفساده في ثلاث (1) .

وفي الثانية: حالتان فقط: أن يعين العامل أو لا يعين، والعقد صحيح فيهما)

(1) خلافا لأشهب كما سبق بيانه

ص: 910

رأي المذهب الشافعي

في التعاقد (استصناعا) أو سلما

على الأشياء التي يراد تصنيعها

نبين فيما يلي رأي المذهب الشافعي في هذا النوع من التعاقد، والذي يرد على سلعة – غير موجودة – وهي سلعة لا توجد إلا بصنعة يقوم بها البائع في العين التي تتخذ منها هذه السلعة.

وقد علم لدينا مما تقدم أن مذهب الحنفية يجيز عقد الاستصناع، ويلزمنا هنا أن نبين رأي المذهب الشافعي في هذا العقد.

كما أنه يلزمنا أن نبين رأي هذا المذهب في التعاقد عن طريق عقد السلم على عين تصنع، ثم تسلم عند حلول الأجل الذي اتفق المتعاقدان عليه في عقد السلم.

المطلب الأول

رأي المذهب الشافعي في عقد الاستصناع

نص المذهب الشافعي على أن " عقد الاستصناع " لا يجوز، لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم (عن بيع ما ليس عند الإنسان) .

وأيضا لأن هذا البيع هو في حكم بيع العين، ولو كان موجودا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه، فكذلك إذا كان معدوما بل أولى. وقد سبق إيضاح ذلك (1) .

وقد جاء في الأم، قال (الشافعي) .

((قال) ولو شرط أن يعمل له طستا من نحاس وحديد، أو نحاس ورصاص، لم يجز لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما، وليس هذا كالصبغ في الثوب، لأن الصبغ في ثوبه زينة، لا يغيره أن تضبط صفته، وهذا زيادة في نفس الشيء المصنوع. (قال) وهكذا كل ما استصنع) .

(1) ص434

ص: 911

المطلب الثاني

رأي المذهب الشافعي في

التعاقد (سلما) على أشياء تصنع

نظرا لأن عقد (الاستصناع) لا يجوز عند الشافعية، كما بينا آنفا، ونظرًا لأن بعض صور الاستصناع قد وردت عندهم في عقد السلم، مع الاختلاف بين العقدين في أحكامهما، فإنني أورد هذه الصور، وأبين حكمها عند الشافعية حتى تتضح رؤية المذهب في سد حاجات الناس فيما يرغبون التعاقد عليه من سلع يرغبون في صنعها لهم، مع النص مقدما على أنها تخضع لأحكام عقد السلم عندهم، صحة وفسادًا.

إذا تتبعنا ما ورد من الصور في المذهب الشافعي لبعض السلع التي يراد شراؤها إذا صنعت – عن طريق عقد السلم – نجد أنهم يفرقون في الحكم بين السلع التي تصنع من شيء واحد، وبين السلع التي تصنع من أكثر من شيء، وبين الأشياء المختلطة خلقة، وبين الأشياء المختلطة صنعة .... وأورد فيما يلي هذه الصورة وحكمها:

أولًا – الأشياء المصنعة من مادة واحدة.

في التعاقد سلما على شيء مصنع من مادة واحدة:

فرق المذهب في الحكم بين المصبوبة في قالب أو المضروبة، وبين المعمولة بآلة فأجاز السلم في الأولى دون الثانية: فقالوا: (لا يصح السَّلَم في مختلف أجزاؤه كبرمه من نحو حجر – معمولة – أي محفورة بالآلة، واحترز بها عما صب منها في قالب وهذا قيد أيضا فيما بعدها – من كوز، وطس (طشت) وأباريق، وحباب (الزير) ونشاب ونحوها لعدم انضباطها باختلاف أجزائها) .

(قال الأشموني) والمذهب جواز السلم في الأواني المتخذة من الفخار – ولعله محمول على غير ما مر أي من المعمولة.

(ويصحُّ السلم في الأشكال المربعة لعدم اختلافها، والمدورة كالمربعة، كما صرح به سليم في التقريب، وقال الأوزاعي أنه الصواب، واقتضاه كلام الشيخ أبي حامد، بل صحح في كل ما لا يختلف من ذلك، مضروبا أو مصبوبا – كما صرح به المارودي، ولو شرط كون السطل من نحاس ورصاص جميعا لم يصح – نص عليه في الأم، قال لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل منهما.

* ويصح فيما صب من المذكورات – كما اقتضاه كلام الشرح والروضة – أي من أصلها المذاب في قالب – كالهاون – مربعا كان أم لا، لأن ذلك لا يختلف (1) .

* وكذلك نص المذهب على صحة السَّلَم في الأشياء المتخذة من شيء واحد كالخفاف والنعال المتخذة من شيء واحد، بشرط أن تكون جديدة واتخذت من غير جلد.

(1) 2/114 ، ب

ص: 912

* ومن هذه الصورة يتبين لنا أن المذهب يصحح السلم في السلع المصنعة من شيء واحد بشرط أن تكون مصبوبة في قالب، حتى لا تختلف وحداتها ولا مادتها، ولا أشكالها، ولا ثخانتها ورقتها

أما المعمولة: وهي التي صنعت باليد بآلة كما صرح المذهب بذلك (أي الصناعة اليدوية) فإنها تختلف من واحدة إلى أخرى، مادة وثخانة ورقة، وصنعة نظرًا لما يكتنف يد الصانع من تفاوت بين شخص وآخر، ومن وقت إلى وقتٍ ومن حالة إلى حالةٍ جاء في نهاية المحتاج:

(ولا يصح السَّلَم) في مختلف أجزاؤه (كبرمة) من نحو حجر (معمولة) أي محفورة بالآلة، واحترز بها عما صب منها

وكوز، وطس، وقمقم، ومنارة وطجير (الدست) ونحوها من حب وإبريق ونشاب لعدم انضباطها باختلاف أجزائها) .

إذ المحفورة بالآلة من مادة واحدة، هي صنعة يدوية، تختلف من واحدة إلى أخرى، مادة وتخانة ورقة، ومهارة فوحداتها تختلف كما ذكرنا آنفا.

وخلاصة ذلك أن الأشياء المصنعة عن طريق صب مادة واحدة في قالب، أو ضربها فإنه يجوز السلم فيها، لعدم اختلافها، وهذا يصدق على كل ما تخرجه المصانع من السلع التي يتحقق فيها ما ذكرنا، والمادة واحدة – مصبوبة في قالب أو مضروبة -.

أما الأشياء المصنعة يدويا من مادة واحدة فإنه لا يصح السلم فيها لاختلافها.

ص: 913

ثانيا – التعاقد (سلما على شيء مصنع من أكثر من مادة) :

ونظرًا لأن التعاقد على الأشياء المصنعة من مواد متعددة (أي الأشياء المختلطة المواد) يختلف حكمه باختلاف انضباط الأجزاء المختلطة أو عدم انضباطها، قصدها أو عدم قصدها، اختلاطها خلقة أو صنعة، في المذهب الشافعي، فإنني أورد هذه الصور مع بيان حكمها، وأبدأ بالصورة الأولى منها.

الصورة الأولى: التعاقد على شيء مختلط الأجزاء خلقة:

وقد ضرب المذهب مثلا لهذه الصورة بالشهد، بفتح الشين وضمها، وهو مركب من عسل النحل وشمعة خلقة، فهو شبيه بالتمر وفيه النوى.

حكمه:

(أ) الأصح عند الشافعية صحة السلم فيه لانضباط أجزائه.

(ب) ومقابل الأصح أنه لا يصح السلم فيه، لأن الشمع يقل ويكثر فيه، فينتفي الانضباط بين أجزائه فيه، وإذا انتفى الانضباط فيه لا يصح السلم فيه.

ص: 914

الصورة الثانية: التعاقد (سلما) على شيء مختلط الأجزاء صنعة:

ويمكننا أن نعرض رأي المذهب في أنواع هذه الأشياء المختلطة صنعة في ثلاثة أنواع:

النوع الأول: من الأشياء المختلطة صنعة:

(التعاقد على الشيء المختلط صنعة المنضبطة أجزاؤه (عند أهل تلك الصنعة) المقصود الأركان كما بأصله.

وقد مثل له الفقه الشافعي بـ (العتابي – وهو مركب من قطن وحرير – وخز (1) وهو مركب من إبريسم ووبر، أو صوف.

حكمه:

1-

الأصح عند الشافعية صحة السلم في هذه الصورة أيضا، وذلك لسهولة ضبط كل جزء من هذه الأشياء (2) .

المراد بالانضباط:

لقد ذكر علماء المذهب رأيين في المراد بالانضباط:

الأول: أن المراد بالانضباط أن يعرف العاقدان أن اللحمة من أحدهما والسدى من الآخر.

والثاني: (وقد حكى بقيل) أن المراد به معرفة وزن كل جزء من الأجزاء وقد رجح السبكي الأول، ورجح الثاني الأذرعي، لأن القيم والأغراض تتفاوت بذلك تفاوتا ظاهرا (3) ، وعليه ينطبق قول الرافعي في الشرح الصغير لسهولة معرفة اختلاطها وأقدارها.

2-

ومقابل الأصح أنه لا يصح السلم في هذه الصورة أيضا، لانتفاء الانضباط فيها إذ أن الحرير وغيره يقل ويكثر، فإذا وجد ذلك انتفى الانضباط فلا يصح السلم.

(1) الخز اسم دابة، ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها والجمع خزوز مثل فلوس فقول الشارح أنه مركب من إبريسم

لعله اصطلاح حادث – حاشية الشبراملسي القاهري، توفي سنة 1087هـ، ونهاية المحتاج: 4/196.

(2)

علق الشبراملسي عليه بقوله (زاد حج وعليه يظهر الاكتفاء بالظن والمراد ظن المتعاقدين: 4/197.

(3)

علق الشبراملسي عليه بقوله: (زاد حج وعليه يظهر الاكتفاء بالظن، والمراد ظن المتعاقدين: 4/197

ص: 915

النوع الثاني: من الأشياء المختلطة صنعة:

هو: (التعاقد على الشيء المختلط صنعة الذي يقصد أحد الخليطين فيه والخليط الآخر أضيف لإصلاح هذا الشيء) .

وقد مثل المذهب له بـ "خل تمر، أو زبيب" فالخل يحصل باختلاط التمر أو الزبيب بالماء الذي هو قوامه.

فقد اختلط هنا التمر والزبيب بمادة غير مقصودة غير أنها من مصلحته.

الحكم:

الأصح في المذهب الشافعي هو أنه يصح التعاقد سلما على هذا الشيء المختلط صنعة على النحو الذي سبق ذكره.

والظاهر أن وجه الحكم في ذلك.

أن المادة المضافة هي من مصلحة المادة المقصودة.

وأن المادة المضافة غير مقصودة.

فقد اختلطت المادة المقصودة بمادة غير مقصودة وتحقق مصلحته للمادة المقصودة.

ومقابل الأصح أيضا لا يجوز التعاقد سلما على هذه الصورة أيضا لأن الماء يقل ويكثر، فإذا كان ذلك كذلك انتفى الانضباط، وإذا انتفى الانضباط لم يصح السلم.

ص: 916

النوع الثالث: من الأشياء المختلطة صنعة:

هو: التعاقد (سلما) على الشيء المختلط المقصود الأركان التي لا تنضبط) .

وقد مثل فقهاء المذهب الشافعي لذلك بـ (هريسة، ومعجون ركب من جزئين أو أكثر، وغالية، وخف ونعل، وترياق مخلوط (1) والقِسي، لأنها مركبة من خشب وعظم وعصب (2) .

ولأن الغالية مركبة من مسك وعنبر وعود وكافور – كما في الروضة، وفي تحرير المصنف: مركبة من دهن ومسك وعنبر.

ومثل الغالية النَدُّ، وهو بفتح النون: مسك وعنبر وعود خلط بغير دهن والخف والنعل كل منهما على ظهارة وبطانة وحشو والعبارة لاتفي بذكر أقدارها وأوضاعها.

أما الخفاف المتخذة من شيء واحد، ومثلها النعال، فقد سبق أن ذكرناها في الصورة "أولا" التعاقد على شيء مصنع من مادة واحدة، وذكرنا حكمها.

حكمها:

يرى المذهب الشافعي عدم صحة السلم في هذه الصورة، لعدم انضباط أجزائها جاء في الأم:

(قال) الشافعي: (ولو شرط أن يعمل له طستا من نحاس وحديد، أو نحاس ورصاص لم يجز لأنهما لا يخلصان، فيعرف قدر كل واحد منهما، وليس هذا كالصبغ في الثوب لأن الصبغ في ثوبه زينة لا يغيره أن تضبط صفته، وهذا زيادة في نفس الشيء المصنوع، قال: وهكذا كل ما استصنع.

ولا خير أن يسلف في قلنسوة محشوة، وذلك أنه لا يضبط وزن حشوها ولا صفته ولا يوقف على حد بطانتها، ولا تشتري هذه إلا يدا بيد.

ولا خير في أن يسلفه في خفين ولا نعلين مخروزين، وذلك أنهما لا يوصفان بطول ولا عرض، ولا تضبط جلودهما، ولا ما يدخل فيهما، وإنما يجوز في هذا أن يبتاع النعلين والشراكين ويستأجر على الحذو، وعلى إخراز الخفين.

(1) واحترز بالترياق المختلط عما هو نبات واحد، أو حجر فإنه يجوز السلم فيه.

(2)

ومثل القوس: النبل المريش: بفتح الميم وكسر الراء وإسكان الياء بوزن كريم لاختلاف وسطه وطرفيه دقة وغلظة وتعذر ضبطه

ص: 917

(ولا بأس أن يبتاع منه صحافا أو قداحا من نحو معروف، وبصفة معروفة وقدر معروف من الكبر والصغر، والعمق والضيق، ويشترط أي عمل.

ولا بأس إن كانت من قوارير، ويشترط جنس قواريرها ورقته وثخانته، ولو كانت القوارير بوزن مع الصفة كانت أحب إليَّ، وأصح للسلف، وكذلك كل ما عمل فلم يخلط بغيره والذي خلط بغيره النبل فيها ريش ونصال وعقب ورومة، والنصال لا يوقف على حده، فأكره السلف فيه، ولا أجيزه) .

واضح أن المذهب الشافعي جعل السبب في عدم جواز السلم في الصور التي لم يجز السلم فيها هو:

* عدم انضباط الأجزاء التي تكون منها الشيء المختلط صنعة.

* عدم إمكان فصل هذه الأجزاء ليعرف قدر كل جزء منها.

* تفاوت الصنعة أو تفاوت الأشكال في الأشياء المصنعة من مادة واحدة.

[الصورة الأولى: ص468] .

ومن هذا يمكن أن نقول إنه:

(أ) إذا انضبطت أجزاء الشيء المصنع من أكثر من مادة، بحيث يمكن أن يعرف قدر كل مادة منها بأي وسيلة من الوسائل العلمية.

(ب) أو أمكن فصل كل جزء من هذه الأجزاء ليعرف مقدار نسبته في الشيء المصنع المختلط، بأي وسيلة من الوسائل العلمية.

(ج) وكذلك إذا أمكن ألا تتفاوت الصنعة من سلعة إلى أخرى من السلع المصنعة، وألا تتفاوت أشكالها

تفاوتا يتعلق به غرض للمتعاقد أو يعتد به في أمثالها.

* إذا تحقق ذلك فإنه يمكن أن نقول أن المذهب يجيز التعاقد (سلمًا) على هذه الأشياء المصنعة سواء كانت تتخذه من مادة واحدة، أو من أكثر من مادة.

ص: 918

ولعل هذا هو الذي جعل الشيخ محمد نجيب المطيعي يفتي بجواز السلم في الأشياء المصنعة في زماننا هذا كأجهزة التلفاز، والمذياع والسلع المعمرة: مثل الثلاجة والغسالة ونحو ذلك. حيث يقول: (فرع) استحدثت في زماننا هذه من أسباب الصنعة أدوات لم تكن معروفة عند أئمتنا السابقين رضوان الله عليهم – كالمذياع والمرناة – وهو جهاز يأتيك بالصورة والصوت (تلفزيون) من بعيد، والثلاجة الكهربائية والغسالة الكهربائية، وكل نوع من هذه الأنواع له من التركيب وتنوع القطع وتباين الأجزاء ما يصعب على المتعاقدين ضبطه، فإن أمكن تحديد النوع والعلامة وكان مع الجهاز دليل مطبوع مكتوب يوضح أجزاءه ومقاديرها وأبعادها وقوتها وكان المتعاقدان خبيرين بأسرارها كوكيل المؤسسة لصنع الأجهزة، وتوزيعها، جاز السلم بينهما.

أما إذا لم يكن عليمًا بدقائق هذه الأجهزة بحيث يمكن تغيير مصباح، أو محرك جيد، ووضع بدله، أقل جودة، أو قديمًا، فسد السلم، لانعدام العلم والإحاطة بدقائق الجهاز.

ويؤخذ من قول الشافعي في الأم في باب لحم الوحش: (جواز سؤال أهل العلم به، فإن بينوا عيبا رد بالعيب وإلا فلا) .

ثم قال: (فرع) .

(لا يجوز السلم في أنواع الأثاث إذا كان يشتمل على الحشايا والأسلاك اللولبية والقطن والجلد والقماش والطلاء وما أشبه ذلك، لعدم إمكان انضباطه وتشابه الرديء منها بالجيد والله أعلم) . اهـ.

(وأقول: ما يمكن انضباطه، ومعرفة أجزائه مادة وقدرًا

ونسبة، بواسطة أهل الخبرة، ولا يتفاوت صنعة وشكلًا....

يمكن القول بجواز عقد السلم فيه تخريجًا على رأي الشافعية كما بيناه آنفًا) .

ص: 919

***

المطلب الثاني

النصوص الفقهية من كتب المذهب الشافعي

جاء في مغنى المحتاج 2/108 في باب السلم:

1-

(ويشترط في السلم معرفة الأوصاف التي يختلف بها الغرض اختلافًا ظاهرًا)

وينضبط بها السلم فيه، وليس الأصل فيه عدمها لتقريبه من المعاينة ولأن القيمة تختلف بسببها وهذا الشرط معطوف على قوله أول الفصل، ويشترط كون المسلم فيه مقدورًا على تسليمه، كما قدرته في كلامه، وكان ينبغي أن يقدم شرط كونه موصوفًا ينضبط بالصفات، ثم العلم بها، فإن لم تعرف لم يصح السلم لأن البيع لا يحتمل جهل المعقود عليه وهو عين، فلأن لا يحتمل وهو دين أولى.

وخرج بالقيد الأول، ما يتسامح بإهمال ذكره كالكحل والسمن في الرقيق كما سيأتي، وبالثاني ما لا ينضبط كما سيأتي أيضًا.

وبالثالث: كون الرقيق قويًا على العمل وضعيفًا أو كاتبًا أو أميًّا، أو نحو ذلك فإنه وصف يختلف به الغرض اختلافًا ظاهرًا، مع أنه لا يجب التعرض له، لأن الأصل عدمه.

2-

(ويشترط ذكرها في العقد) مقترنة به ليتميز المعقود عليه، فلا يمكن ذكرها قبله ولا بعده، ولو في مجلس العقد، نعم إن توافقا قبل العقد، وقالا أردنا في حالة العقد ما كنا اتفقنا عليه صح كما قاله الأسنوي، وهو نظير من له بنات وقال لآخر زوجتك بنتي ونويا معينة، ولابد من أن يكون ذلك (على وجه لا يؤدي إلى عزة الوجود) لأن السلم غرر كما مر فلا يصح إلا فيما يوثق بتسليمه، والعزة هنا بمعنى القلة، ويقال شيء عزيز أي قليل.

ص: 920

فلا يصح السلم فيما لا ينضبط مقصوده، كالمختلط المقصود الأركان التي لا تنضبط كالهريسة ومعجون وغالية، وخف، ونعل (وترياق مخلوط) لعدم انضباط أجزائها لأن الغالية مركبة من مسك وعنبر وعود وكافور – كما في الروضة – وفي تحرير المصنف مركبة من دهن ومسك وعنبر، ومثل الغالية الند – وهو بفتح النون: مسك وعنبر وعود خلط بغير دهن.

والخف والنعل كل منهما على ظهارة وبطانة وحشو، والعبارة لا تفي بذكر أقدراها وأوضاعها.

أما الخفاف المتخذة من شيء واحد، ومثلها النعال فيصح فيها إن كانت جديدة واتخذت من غير جلد، يجوز السلم فيها – كالثياب المخيطة والأمتعة.

واحترز بالترياق المختلط عما هو نبات واحد أو حجر فإنه يجوز السلم فيه وهو بتاء مثناة أو دال مهملة أو طاء كذلك مكسورات أو مضموات، فهذه ست لغات ذكرها المصنف في دقائقه، ويقال أيضًا دراق وطراق.

ومثل ذلك القِسِيّ – وهي بكسر القاف والسين وتشديد الياء، جمع قوس، ويجمع أيضًا على أقواس = مركبة من خشب وعظم وعصب.

والنبل المَرِيش، بفتح الميم وكسر الراء وإسكان الياء بوزن كريم – لاختلاف وسطه وطرفيه دقة وغلظة وتعذر ضبطه.

أما النبل قبل خرطه وعمل الريش عليه، فيصح لتيسر ضبطه.

ولا يصح السلم في الحنطة المختلطة بالشعير، ولا في الأدهان المطيبة من نحو بنفسج وبان وورد بأن خالطها شيء من ذلك، أما إذا روح سمسمها بالطيب المذكور واعتصر فإنه لا يضر.

(والأصح صحته في المختلط (1) المنضبط) الأجزاء (كعتابي) وهو مركب من قطن وحرير (وخز) وهو مركب من إبريسم ووبر أو وصوف لسهولة ضبط كل جزء من هذه الأجزاء.

(1) نهاية المحتاج: 5/196

ص: 921

تنبيه:

المراد بالانضباط: قيل أن يعرف العاقدان أن اللحمة من أحدها والسدى من الآخر.

وقيل معرفة الوزن ، رجح السبكي الأول، والثاني الأذرعي، وهو الظاهر لأن القيم والأغراض تتفاوت بذلك تفاوتًا ظاهرًا، وعليه ينطبق قول الرافعي في الشرح الصغير لسهولة معرفة اختلاطها وأقدراها.

(وجبن وأقط) كل منهما فيه مع اللبن المقصود الملح، والإِنْفَحة من مصالحه، وهو بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف الحاء المهملة: كرش الخروف والجدي ما لم يأكل غير اللبن، فإن أكل فكرش، وجمعها أنافح ويجوز في باء الجبن السكون والضم مع تخفيف النون وتشديدها، والجيم مضمومة في الجميع وأشهر هذه اللغات إسكان الباء وتخفيف النون.

(وشهد) بفتح الشين وضمها مركب من عسل النحل وشمعه خلقة، فهو شبيه بالتمر وفيه النوى.

(وخل وتمر أو زبيب) هو يحصل من اختلاطهما بالماء الذي هو قوامه.

ومقابل الأصح في السبعة ينفي الانضباط فيها قائلًا إن كلًّا من الحرير والشمع والماء وغيره يقل ويكثر، والسمك المملح كالجبن.

تنبيه:

كلام المصنف قد يوهم أن هذه الأمثلة من أمثلة القسم المتقدم – وهو المختلط المقصود والأركان وليس مرادًا بل من أمثلة النوع الثالث من المختلطات (وهو أن يقصد أحد الخليطين والآخر للإصلاح كما هو في الشرح والروضة

وإدخاله الشهد في هذا النوع تبع فيه المحرر وليس منه، بل هو نوع رابع، كما ذكراه في الشرح والروضة وهو المختلط خلقة فلو قدمه أو أخره لكان أولى.

ويصح السلم في اللبن والسمن والزبد، ويشترط ذكر جنس حيوانه ونوعه ومأكوله من مرعى أو علف معين بنوعه ويذكر في السمن أنه جديد أو عتيق، ولا يصح في حامض اللبن لأن حموضته عيب إلا في مخيض لا ماء فيه فيصح فيه.

ولا يصح السلم فيما يندر وجوده كلحم الصيد بموضع العزة، أي محل يعز وجوده فيه لانتفاء الوثوق بتسليمه، نعم لو كان السلم حالا، وكان السلم فيه موجودا عند المسلم إليه بموضع يندر فيه، صح كما في الاستقاء، ولا فيما لو استقصى وصفه عز وجوده – لما مر – كاللؤلؤ الكبار واليواقيت وغيرهما من الأحجار النفيسة لأنه لا بد من التعرض للحجم والوزن والشكل والصفاء – واجتماع الأمور نادر، وخرج باللآلئ الكبار وهي ما تطلب للزينة، الصغار وهي ما تطلب للتداوي وضبطها الجويني بسدس دينار.

ص: 922

فرع (ويصح السلم في الحيوان) :

لأنه ثبت في الذمة قرضا في خبر مسلم، ففيه:"أنه صلى الله عليه وسلم اقترض بكرا" فقيس على القرض السلم، وعلى البكر غيره من سائر الحيوان.

وروى أبو داود بأنه صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن يأخذ بعيرا ببعيرين إلى أجل، وهذا سلم، لا قرض، لما فيه من الفضل والأجل وحيث النهي عن السلف في الحيوان قال ابن السمعاني في الاصطلام: غير ثابت وإن خرجه الحاكم.

ولا يصح السلم في مختلفٍ أجزاؤه (كبرمة معمولة) وهي القدر (وجلد) على هيئة (و) معمول نحو (كوز وطس) بفتح الطاء، ويقال له طشت، ولم يذكره في المحرر.

(وقمقم ومنارة) بفتح الميم (ونحوها) كالأباريق والحباب بكسر الحاء المهملة وبالموحدة جمع حب بضمها وهي الخابية والأسطال الضيقة الرأس لندرة اجتماع الوزن مع الصفات المشروطة ولتعذر ضبطها إما لاختلاف الأجزاء في الدقة والغلظ كالجلد، أو لمخالفة أعلاها أو وسطها لأسفلها كالأمثلة المذكورة.

أما قطع الجلد فيجوز السلم فيها وزنا لانضباطها، لأن جملتها مقصودة، وما فيها من التفاوت يجعل عفوا، ولا يصح في الرق لما ذكر.

تنبيه:

تقييده البرمة بالمعمولة للاحتراز عن المصبوبة في القالب كما سيأتي فيكون ذلك قيدا في كل ما بعده إلا الجلد – كما قدرته في كلامه، فكان ينبغي تقديمه وعطف هذه الأشياء عليه أو عكسه لمغايرته لها.

قال الأشموني: والمذهب جواز السلم في الأواني المتخذة من الفخار، ولعله محمول على غير ما مر.

ويصح السلم في الأسطال المربعة لعدم اختلافها، والمدورة كالمربعة، كما صرح به سليم في التقريب. وقال الأذرعي إنه الصواب، واقتضاه كلام الشيخ أبي حامد، ويصح في كل ما لا يختلف من ذلك مضروبا كان أو مصبوبا، كما صرح به الماوردي، ولو شرط كون السطل من نحاس ورصاص جميعا لم يصح نص عليه في الأم، قال: لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما.

(وفيما صب منها) أي المذكورات – كما اقتضاه كلام الشرح والروضة: أي من أصلها المذاب (في قالب) بفتح اللام – أفصح من كسرها – كالهاون – بفتح الواو مربعا كان أم لا، لأن ذلك لا يختلف. مغني المحتاج: 2/114.

ص: 923

شروط السلم عند الشافعية:

بعد أن عرف فقهاء الشافعية السلم بأنه شرعًا "بيع شيء موصوف فيه الذمة".

ذكروا أن يشترط لصحة السلم – على شروط البيع المتوقف صحتها عليه – أمور سبعة أخرى، ثم عدوها شرحًا وتفصيلًا، ونوجزها فيما يلي:

الشرط الأول: تسليم رأس المال – وهو الثمن – في المجلس الذي وقع العقد به قبل التفرق منه، أو لزومه؛ لأن لزومه كالتفرق، إذ لو تأخر تسليم الثمن لكان في معنى بيع الدين بالدين إن كان رأس المال في الذمة، ولأن في السلم غررا، فلا يضم إليه غرر تأخير رأس المال ولابد من حلول رأس المال كما قاله القاضي أبو الطيب كالصرف، ولا يغني عنه شرط تسليمه في المجلس.

الشرط الثاني: كون المسلم فيه دينًا (1) .

الشرط الثالث: بيان محل التسليم للمسلم فيه – إذا كان العاقدان في موضع لا يصلح للتسليم، أو كان يصلح ولكن لحمله مؤنة، وإلا فلا يشترط ذلك ويتعين محل العقد للتسليم للعرف فيه.

الشرط الرابع: حلول رأس المال.

الشرط الخامس: القدرة على تسليم المسلم فيه عند وجوب تسليمه؛ لأن المعجوز عن تسليمه يمتنع بيعه فيمتنع السلم فيه.

الشرط السادس: كون المسلم فيه معلوم القدر، كيلا – فيما يكال أو وزنا فيما يوزن – أو عدا فيما يعد، أو ذرعا فيما يذرع، مع قياس ما ليس فيه بما فيه، ويصح في المكيل وزنا وعكسه حيث كان الكيل يعد ضابطا فيه، بخلاف الربوي لأن الغالب ثم التعبد.

الشرط السابع: معرفة الأوصاف (2) التي تتعلق بالمسلم فيه التي ينضبط المسلم فيه بها، ويختلف بها الغرض اختلافًا ظاهرًا، ويشترط ذكرها في العقد (مقترنة به ليتميز المعقود عليه

) على وجه لا يؤدي إلى عزة الوجود (أي قلته) لأن السلم غرر فلا يصح فيما يوثق بتسليمه.

(1) يراجع نهاية المحتاج، للرملي:4/178- 214. أراد بالشرط ما لا بد منه فيدخل فيه الركن – كما هنا – لأن لفظ السلم موضوع لما كان – المسلم فيه – دينًا. نهاية المحتاج: 4/183

(2)

معرفة الأوصاف، للمتعاقدين، مع عدلين، نهاية المحتاج:4/194

ص: 924

رأي المذهب الحنبلي في

التعاقد (استصناعًا) أو (سلمًا) على الأشياء المصنعة

يلزمنا حين نبين رأي المذهب الحنبلي في ذلك أن نوضح رأيه في (عقد الاستصناع) الذي سبق بيانه، والذي أجازه المذهب الحنفي – ثم نبين رأي المذهب الحنبلي في سد حاجات الناس إلى السلع المصنعة، وضوابط جوازها، وذلك من خلال ما أورده في عقد السلم.

المطلب الأول

رأي المذهب الحنبلي في عقد الاستصناع:

(أ) أوردت كتب المذهب الحنبلي في أكثر من موضع أنه لا يصح عقد الاسصناع، فقد نص البهوتي على ذلك حيث يقول:

(ولا يصح استصناع سلعة) بأن يبيعه سلعة يصنعها له (لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) ذكره القاضي وأصحابه.

وكذلك نَصَّ المرداوي على ذلك فقال:

ذكر القاضي وأصحابه: أنه لا يصح استصناع سلعة، لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم. واقتصر عليه في الفروع.

ثم أثار فقهاء المذهب صورتين لهما تعلق باستصناع السلعة المباعة.

ص: 925

المطلب الثاني

صور لها تعلق باستصناع السلعة

الصورة الأولى:

صورة يكون فيها الشيء المستصنع، قد تم صنع بعضه، ولم يتم الانتهاء من تصنيعه جميعه – كما في ثوب نسج بعضه، ولم يتم نسج باقيه (1) ففي هذه الصورة وجد بعض المعقود عليه (الثوب المنسوج بعضه) وبعضه لم يوجد (وهو باقي الثوب الذي لم ينسج بعد) فالتعاقد على هذا الثوب جمع بين موجود، ومعدوم، فهل يصح التعاقد (بيعًا) على مثل ذلك؟

لقد ظهر في المذهب رأي حكي بـ (قِيلَ) مما ينبئ عن ضعفه أنه يصح التعاقد على ذلك إن صح الجمع في عقد واحد بين بيع وإجارة منه.

ولكن الرأي في المذهب أنه لا يصح العقد على ذلك، حيث قالوا:

(لا يصح بيع ثوب نسج بعضه على أن ينسج بقيته، وعللوا – تبعا للقاضي (في تعليله لعدم صحة استصناع سلعة الذي قدمناه) بأن بيع المنسوج بيع عين، والباقي موصوف في الذمة، ولا يصح أن يكون الثوب الواحد بعضه بيع عين، وبعضه مسلم فيه لأن الباقي سلم في أعيان، وذلك لا يجوز، ولأنه بيع وسلم، واستئجار، فاللحمة غائبة، فهي سلم فيه، والنسج استئجار.

واقتصر على هذا الحكم في المستوعب والحاويين، والفروع، وغيرهم، وقدمه في الرعاية الكبرى وقال: وقيل يصح بيعه إلى المشتري، إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع) .

* أما الجمع بين بيع وإجارة في المذهب الحنبلي في عقد واحد على محل واحد، وذلك كما لو اشترى ثوبا وشرط على البائع خياطته، أو زرعا وشرط على البائع حصاده، أو قطعة حديد وشرط على البائع ضربها سيفا، ونحو ذلك، فإن المذهب يرى صحة هذا العقد لأن كل واحد منهما يصح إفراده بالعقد واجتماع هذين العقدين صحيح، فيقاس عليه اشتراط قيام البائع بعمل في المبيع فيكون صحيحًا متى كان هذا العمل معلومًا.

وبناء على ذلك تصح هذه الصورة التي معنا، لأنها جمعت بين بيع وسلم على محل واحد، وليست من قبيل جمع بين عقد بيع عين، وعقد سلم على محل آخر، إذ لا يصح في المذهب اجتماع عقدين في عقد، للنهي عن ذلك فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.

أو أنها تصح على أنها بيع شرط فيه نفع البائع، فقد نص المذهب على جواز اشتراط شرط يحقق نفعًا مباحًا لأحد المتعاقدين، كما في الأمثلة التي ذكرناها آنفا (في الجمع بين بيع وإجارة) إذ هي تحقق نفعًا لأحد المتعاقدين: البائع أو المشتري وكل هذه الصور ترد على محل عقد البيع فقط (وليست على محلين حتى تكون من باب عقدين في عقد) كما لو اشترى قطعة حديد وشرط على البائع ضربها سيفًا ونحو ذلك فإنه يجوز، فقد روي عن محمد بن مسلمة أنه اشترى من نبطي حزمة حطب، وشارطه على حملها.

وبناء على هذا التوجيه أيضًا تصح هذه الصورة التي معنا. كما صحت في المذهب المالكي.

الصورة الثانية:

كما أثار المذهب صورة أخرى، وهي أن البائع أحضر لحمة الثوب وباعها مع الثوب وشرط على البائع نسجها.

ذكر المرداوي أنه (إن أحضر اللحمة وباعها مع الثوب، وشرط على البائع نسجها فعلى الروايتين في اشتراط منفعة البائع. أي كما ذكرنا في الصورة السابقة) .

(1) هذه الصورة هي الصورة التي أثارها المالكية يراجع: ص462

ص: 926

المطلب الثالث

رأي المذهب الحنبلي في التعاقد

(سلمًا) على أشياء تصنع

إذا تتبعنا ما أورده المذهب الحنبلي من صور لما يصح التعاقد عليه بعقد السلم من الأشياء التي لابد من صنعة تجري فيها، وتبرزها وتعطيها هذا الاسم الذي تم التعاقد عليه، والذي هو محل عقد السلم، تجد أن هنا صورًا متعددة، كلها تحتاج إلى قيام البائع بصنعها وتقديمها عند حلول الأجل (الأجل الذي نص عليه في عقد السلم) تامة طبقًا للأوصاف التي نص عليها في هذا العقد.

فقد صح في المذهب السلم في الغزل، والثياب، والرصاص، والنحاس، والحديد، والبلور، والسيوف، والنشاب، والنبل المريشين والقوس، والآجر، واللبن، ونحو ذلك ولا شك أن كل هذه الأشياء لابد فيها من صنعة تأتي عليها وجهد وعمل في استخراجها، واستخلاصها، وصياغتها، وصنعها

ونوضح ذلك فيما يلي:

* فالغزل لا يكون إِلَّا بعد غزَّالٍ، يجعل القطن أو الصوف أو الحرير وغيرها مغزولًا ليصبح صالحا للنسج.

* والثياب لا تكون كذلك إلَّا بعد حياكتها وإعدادها للبس سواء أكانت من نوع واحد من الغزل أو أكثر من نوع، مصبوغة أو غير مصبوغة، والصبغ يحتاج إلى صباغ، والغزل يحتاج إلى غزال، والثوب يحتاج إلى حائك.

* ومثل ذلك الرصاص والنحاس والحديد، والبلور، كل ذلك يحتاج إلى مصانع لاستخلاصه من الخام الذي يعطي ذلك، بل يحتاج إلى أكثر من خام ليأخذ هذا الاسم في بعض المعادن.

* ومثل ذلك الأواني، والقصاع والأقداح، فلا بد من وجود صانع يقوم بصياغة المادة المتخذ منها كل نوع حتى تأخذ هذا الاسم.

ومثل ذلك السيوف، والنشاب، والنبل، ونحو ذلك من أنواع الأسلحة

كل ذلك أيضا يحتاج إلى صناعة تقوم على مدين المعسر معدما، أي إنه يملك بعض المال، ولكنه قليل لا يكاد يكفيه للإنفاق على نفسه وعياله بالمعروف وقضاء دينه إلا بمشقة وضيق وضرر. فقد قال ابن رشد فيه: " وأما المعسر الذي ليس بمعدم – وهو الذي يحرجه تعجيل القضاء ويضر به – فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضرة. تلحقه مرغب فيه ومندوب إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)) كما رأينا في صدر ما نقلناه عن المذهب بعدم صحة عقد الاستصناع، كعقد مغاير، عن عقد السلم له خواصه وأحكامه.

ص: 927

المطلب الرابع

النصوص الفقهية من المذهب الحنبلي

وجاء في كشف القناع:

* ولا يصح استصناع سلعة بأن يبيعه سلعة يصنعها له (لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) ذكره القاضي وأصحابه (1) .

كما جاء فيه أيضا بخصوص ما يصح السلم فيه من الأشياء المختلفة (المصنعة من أكثر من شيء)(2) .

(ويصح السلم فيما يجمع أخلاطا) وأحدهما خلط – بكسر الخاء (مقصودة متميزة، كثياب منسوجة من نوعين) كإبريسم وقطن، لأن ضبطها ممكن ونشاب، ونبل مريشين، وخفاف ورماح متوز ونحوها) لإمكان ضبطها بالصفة (3) .

(ولا يصح السلم فيما يجمع أخلاطا) غير متميزة (كقسي مشتملة على خشب وقرن وعصب وتَوْز) بفتح المثناة فوق وسكون الواو (ونحوها) كطلاء، إذ لا يمكن تمييز ما في القوس من كل نوع من هذه.

(ويصح) السلم (في شهد) وهو العسل في شمعها (وزنا) لأنه اتصال خلقة، كالنوى في التمر، والعظم في اللحم.

ولا يصح السلم (فيما لا ينضبط: كالجواهر كلها من در، وياقوت، وعقيق وشبهه كلؤلؤ ومرجان، لأنه يختلف اختلافا متباينا بالكبر والصغر وحسن التدوير، وزيادة ضوئها، ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور لأن ذلك يختلف، ولا بشيء معين، لأنه قد يتلف.

* ولا يصح السلم في مخلوط بما لا ينفعه خلط، كلبن مشوب بماء وحنطة مخلوطة بزوان لأنه مجهول لا ينضبط بالصفة (أو لا يتميز، كمغشوش من أثمان) فلا يصح السلم فيها، لأن غشها يمنع العلم بالقدر المقصود منها. (وكعاجين وحلوى وند وغالية) فلا يصح السلم فيها لعدم ضبطها بصفة.

* (ويصح السلم فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحة) كجبن يوضع فيه الإنفحة والخبز يوضع فيه الملح، وخل تمر يوضع فيه الماء، والمسكنجبين يوضع فيه الخل ونحوها، كدهن ورد وبنفسج، لأن ذلك يسير غير مقصود لمصلحة فلم يؤثر ....

ثم أورد بعد ذلك من أنواع ما يصح السلم فيه: السلم في الأشياء التي لابد فيها من صنعة، لكي تستخلص وتصبح بحال يطلق عليها اسم خاص بها يميزها عن غيرها.

ومن هذه الأشياء السلم في الغزل. وفي الرصاص، وفي النحاس، وفي الحديد وفي الأواني، وفي القصاع والأقداح، وفي السيوف وفي النشاب وفي النبل، وفي الخشب بأنواعه (للبناء، للقسي، أو الوقود) وفي الحجارة للأرحية أو للآنية وفي البلور، وفي الآجر واللبن، وفي الثياب مصبوغة أو غير مصبوغة، متخذة من نوع واحد من الغزل أو من أكثر من نوع.

فقال في أثناء ذكر الشرط الثاني من شروط السلم ما يأتي:

(1) 3/165

(2)

3/290

(3)

وورد في المبدع أن الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم (ما يسخن فيه من نحاس) والأسطال الضيقة الرؤوس

ص: 928

الشرط الثاني:

(أن يصفه) أي المسلم فيه (بما يختلف به الثمن) اختلافا (ظاهرا) لأن السلم عوض يثبت في الذمة، فاشترط العلم به كالثمن، وطريقة الرؤية أو الصفة، والأول ممتنع فتعين الوصف، فعلى هذا يذكر جنسه - أي المسلم فيه فيقول مثلا تمر (و) يذكر (نوعه فيقول) مثلا (برني أو معقلي) ونحوه (و) يذكر (قدر حبه، فيقول: صغارا أو كبارا)(و) يذكر (لونه إن اختلف) اللون (كالطيرزد) نوع من التمر، يكون منه أسود وأحمر (و) يذكر (بلده، فيقول) مثلا (كوفي أو بصري (و) يذكر (حداثته وقدمه) ..... (ثم يتابع البهوتي تطبيقات ذلك فيما يجري فيه السلم في الذهب من المحاصيل والحيوانات .... ومنتجاتها) ثم يذكر ما أردت إظهاره هنا مما يلزمه صنعة لكي يصبح بهذا المسمى المتعاقد عليه، ومنه قوله.

* ويصف غزل القطن، وغزل (الكتان باليد واللون والغلظ والرقة والنعومة والخشونة، ويصف القطن بذلك) أي البلد واللون (ويجعل مكان الغلظ والدقة طويل الشعرة أو قصيرها

) .

* (ويضبط الرصاص) بفتح الراء (والنحاس) بضم النون (والحديد) بالنوع فيقول في الرصاص قلعي أو أسرب (و) يذكر (النعومة والخشونة واللون، إن كان يختلف) لونه (ويزيد في الحديد ذكرا أو أنثي، فإن الذكر أحد وأمضى) من الأنثى.

* (وتضبط الأواني غير مختلفة الرؤوس والأوساط) لأن السلم لا يصح في مختلفها و (بقدرها) أي كبرها وصغرها (وطولها وسمكها، ودورها، كالأسطال القائمة الحيطان) .

ص: 929

* (ويضبط القطاع والأقداح من الخشب بذكر نوع خشبها) فيقول (من جوز أو توت أو نحوه (وقدرها في الصغر والكبر، والعمق والضيق، والثخانة والرقة) .

(وإن أسلم في سيف ضبط) السيف (بنوع حديده و (ضبط) طوله وعرضه ودقته وغلظة، وبلده، وقديم الطبع أو محدثة، ماض أو غيره ويصف قبيعته وجفنه) أي قرابه.

(ويضبط خشب البناء بذكر نوعه ورطوبته، ويبسه، وطوله ودوره) ، أي إن كان مدورا (أو سمكه وعرضه) إن لم يكن مدورا .... [ثم وَالَى أنواع الأخشاب

ص296 ومنها الخشب للقسي .... وللوقود ....] .

*ويذكر في النشاب والنبل نوع خشبه، وطوله (أي النشاب أو النبل) وقصره ودقته وغلظه ولونه ونصله وريشه.

* ويضبط حجارة الأرحية بالدور والثخانة والبلد والنوع إن كان يختلف، وإن كان الحجر للبناء.

* ذكر اللون والقدر والنوع والوزن.

* ويذكر في حجارة الآنية: النوع واللون والقور واللين والوزن.

* ويصف البلور بأوصافه هكذا في المغني، مع أنه قال قبله لا يصح السلم في البلور.

* ويصف الآجر واللبن بموضع التربة، واللون والدور والثخانة.

(ويضبط الثياب) إذا أسلم فيها (فيقول: كتان أو قطن) أو إبريسم (والبلد والطول والعرض والصفاقة والرقة والغلظ والنعومة والخشونة، ولا يذكر الوزن، فإن ذكره لم يصح) السلم لندرة جمع الأوصاف مع الوزن

(وإن أسلم في مصبوغ مما يصبغ غزله صح السلم، لأنه مضبوط) وإن كان المصبوغ مما يصبغ بعد نسجه لم يصح (السلم فيه، لأن الصبغ لا ينضبط، ولأن صبغ الثوب يمنع الوقوف على نعومته وخشونته.

وإن أسلم في ثوب يختلف الغزل أي من نوعين فأكثر – كقطن وكتان، أو قطن وإبريسم وكانت الغزول – من كل نوع – مضبوطة، بأن يقول السدى إبريسم، واللحمة كتان أو نحوه) كقطن صح السلم للعلم بالسلم فيه وإلا لم يصح.

ويصح السلم في الكاغد – ويضبطه بذكر الطول والعرض والرقة والغلط واستواء الصنعة (1) .

(1) ويراجع الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد ابن حنبل، تأليف علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي: 4/300

ص: 930

تقسيمات للصور التي يصح فيها

استصناع السلعة (سلما) عند الحنابلة

على ضوء ما قدمناه في المطلب الثاني، والثالث، وما أوردناه من جملة للأمثلة التي وردت في كتب المذهب الحنبلي نستطيع أن نضع من خلال ما صرح به المذهب من ضوابط للصحة والفساد فيما يتعاقد عليه عن طريق عقد السلم في سلع يطلب صنعها. وهذا التقسيم يتقارب تقاربا كبيرا مع ما قمت بإبرازه من أقسام في مذهب الشافعية في مثل هذا الموطن

وأعراض هذا التقسيم فيما يلي:

القسم الأول

التعاقد سلما على أشياء تصنع من مادة واحدة

أجاز المذهب الحنبلي صحة التعاقد "سلما" على أشياء تصنع من مادة واحدة، وقد سبق أن مثل لها المذهب الشافعي بالكوز والطست والأباريق والحباب، (الزير) والنشاب

، فإذا تابعنا هذه الأمثلة عند الحنابلة نجد أنهم نصوا على أنه يصح السلم في غزل القطن، والكتان، والرصاص والنحاس، والحديد ....

والأواني غير المختلفة الرؤوس والأوساط، لأن السلم لا يصح في مختلفها والقصاع والأقداح من الخشب.

والسيف، والنشاب، والنبل والخشب بأنواعه والأرحية .... والبلور، والآجر، واللبن، والثياب، والمصبوغ منها إذا كان مما يصبغ غزله، فإن كان مما يصبغ بعد نسجه لم يصح السلم فيه، لأن الصبغ لا ينضبط، والكاغد.

كل هذه الأشياء التي أوردها المذهب عند ذكر الشرط الثاني لصحة السلم، وهو (أن يصف المسلم فيه بما يختلف به الثمن اختلافا ظاهرًا، لأن السلم عوض يثبت في الذمة، فاشتراط العلم به كالثمن، وطريقة الرؤية أو الصفة، والأول ممتنع، فتعين الوصف، فعلى هذا يذكر جنسه ونوعه، وقدر حبه، ولونه إن اختلف اللون، وحداثته وقدمه، و

ص: 931

القسم الثاني

عقد السلم على أشياء تصنع من أكثر من مادة

وهذا القسم يمكن أن نضعه في الصور الآتية، ضبطا للمسيرة، وإيضاحا للحكم في كل منها، وعلة الحكم.

الصورة الأولى

عقد السلم على شيء مكون من

أكثر من مادة. والخلطة حدثت خلقة

فقد نص فقهاء المذهب الحنبلي على (صحة السلم في الشهد) وهو العسل في شمعها (وزنًا) لأنه اتصال خلقة، كالنوى في التمر، والعظم في اللحم.

* وتعليل المذهب هنا يجعل الحكم يعم كل الأشياء المكونة من أكثر من مادة خلقة، ولا يعلل بما علل به الشافعية من قولهم (لانضباط أجزائه) .

ص: 932

الصورة الثانية

التعاقد (سلما) على الأشياء

المختلطة من أكثر من مادة صنعة

وهذه الصورة تشمل ثلاثة أنواع يصدق عليها هذا الاسم:

النوع الأول: التعاقد على ما يجمع أخلاطا مقصودة متميزة.

فقد نص فقهاء المذهب على (صحة السلم فيما يجمع أخلاطا مقصودة متميزة، كثياب منسوجة من نوعين – كإبريسم وقطن، لأن ضبطها ممكن، ونشاب، ونبل مريشين، وخفاف ورماح متوز ونحوها، لإمكان ضبطها بالصفة) .

(ولا يصح السلم فيما يجمع أخلاطا غير متميزة، كقسي مشتملة على خشب وقرن وعصب وتوز. ونحوها ، كطلاء، إذ لا يمكن تمييز ما في القوس من كل نوع من هذه) .

(ولا يصح السلم في مالا يتميز كمغشوش من أثمان – لأن غشها يمنع العلم بالقدر المقصود منها – وكمعاجين وحلوى وند وغالية، فلا يصح السلم فيها لعدم ضبطها) .

* وواضح أن تعليل المذهب هنا لصحة السلم في هذا النوع بأن (ضبطها ممكن بضبط صفاتها) يجعلنا نقول: إن كل ما يتحقق فيه هذه العلة من الأشياء المراد صنعها عن طريق عقد السلم يكون صحيحا. ومعلوم لنا أن ضبط الأجزاء الآن وتمييزها ممكن بواسطة أهل الخبرة.

النوع الثاني: التعاقد "سلما" على ما يترك فيه شيء غير مقصودة لمصلحة.

هذا النوع يتميز بأن فيه أكثر من مادة، إلا أن ما زاد عن مادته وضع فيه لمصلحة هذه المادة الأصلية. وقد صح السلم فيه. حيث قالوا:(يصح السلم فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحة (كجبن يوضح فيه الإنفحة، والخبز يوضع فيه الملح، وخل تمر يوضع فيه الماء، والسكنجبين يوضع فيه الخل، ونحوها كدهن ورد وبنفسج، لأن ذلك يسير غير مقصود لمصلحة فلم يؤثر) .

ومن هذا التعليل أيضا الذي أورده المذهب الحنبلي لصحة السلم فيما ما هذا شأنه وهو (وضع شيء يسير غير مقصود لمصلحة المادة الأصلية المقصودة) لا يؤثر في صحة السلم. ويمكن أن يطبق ذلك على كل المواد التي يحتاج فيها إلى خلطها بقدر يسير من مادة أخرى غير مقصودة لمصلحة المادة الأصلية) . وذلك يعم كل ما هذا شأنه من أنواع المواد المثيلة أو المشابهة.

* أما المخلوط بما لا ينفعه فإنه لا يصح السلم فيه، وقد ضرب المذهب له مثلا باللبن المشوب بالماء، والحنطة المخلوطة بزوان، فإن السلم في ذلك لا يصح، لأنه مجهول لا ينضبط بالصفة.

* ومن هنا يتبين لنا أن المذهب الحنبلي يصحح السلم في الأشياء المختلطة صنعة من أكثر من مادة وذلك إذا تحقق فيها ما يأتي:

أولا: أن تكون أخلاطها مقصودة متميزة.

ثانيا: إمكان ضبطها بالصفة.

فما لا يتحقق فيه ذلك لا يصح السلم فيه.

* أما الأشياء المختلطة خلقة فيصح السلم فيها لاتصالها خلقة، إذ لا دخل لعمل الإنسان فيها، فإن دخل فيها غش – كلبن مشوب بالماء فلا يصح السلم فيها لعدم ضبطها بصفة.

ص: 933

الخاتمة

وتحتوي على خلاصة ما عرضناه من آراء المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، مع إبراز ما تلتقي فيه هذه المذاهب أو تفترق، والآفاق التي يمكن أن يمتد إليها هذا النوع من التعاقد في كل مذهب.

آراء المذاهب

أولا – المذهب الحنفي:

* وقد عرضت من خلال هذا المذهب تعريف الاستصناع عند جمع من فقهاء الحنفية، ومنه تعريف الكاساني:(الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل) والثمن معلوم ومحدد، ويصح أن يدفعه كله عند التعاقد أو بعضه والباقي عند استلام المصنوع ويصح تأخيره إلى أن يتسلم المصنوع.

* ثم بينت رأي الحنفية في جواز هذا النوع من التعاقد (غير زفر) وبينت أدلة كل فريق.

* ثم عرضت رأي الحنفية في تكييف عقد الاستصناع هل هو مواعدة، أو هو عقد بيع، أو هو عقد يبدأ إجارة وينتهي بيعا – ورجحت أنه بيع.

* ثم ذكرت شروط صحة عقد الاستصناع عندهم من كون المصنوع معلوما، وكونه مما يجري فيه التعامل بين الناس، كما وضحت أثر اشتراط الأجل في عقد الاستصناع، وهل يصير به سلما – كما يرى أبو حنيفة – أو يظل عقد استصناع كما يرى أبو يوسف ومحمد .... ورجحت قول الصاحبين.

* ثم تعرضت لأركان عقد الاستصناع، وفصلت الحديث في المعقود عليه (في حقيقته) .

ثم بينت صفته – لازما أو غير لازم – وعرضت رأي المذهب في أنه غير لازم في حالة ما قبل تمام الصنع، وكذا حالة ما بعد تمامه قبل تقديمه للمستصنع، أما بعد تقديم المصنوع إلى المستنصع فقد عرضت آراءهم وهي: يسقط خيار الصانع وللمستصنع الخيار - وهذا هو جواب ظاهر الرواية - وروي عن أبي حنيفة أن لكل منهما الخيار، وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما – أي أن العقد يكون لازما عنده – وإن كانت مجلة الأحكام العدلية رأت أن عقد الاستصناع عقد لازم فليس لأحد المتعاقدين الرجوع، وإذا لم يكن على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرا (م392) .

* ثم بينت الأثر المترتب على عقد الاستصناع من ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن.

* وأخيرًا بينت ما ينتهي به عقد الاستصناع – من تقديم المصنوع إلى المستصنع وقبوله له، ومن موت أحد العاقدين، ومن هلاك العين التي تعينت لصنع الشيء المطلوب صنعه في عقد الاستصناع منها ووقوع اليأس من استيفاء المعقود عليه حينئذ منها، ومن أنه إذا أجزنا ذكر الأجل في عقد الاستصناع – بناء على رأي أبي يوسف ومحمد – فإنه ينتهي بانقضاء الأجل دون أن يتم انتهاء الصانع من الشيء المصنوع وتقديمه إليه على الصفة المتفق عليها.

ص: 934

ثانيا – المذهب المالكي:

تناولت بيان رأي المالكية في ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: بينت أن المذهب المالكي لا يجيز عقد الاستصناع، ولكن وردت صورتان في المذهب تقتربان من عقد الاستصناع عند الحنفية.

الصورة الأولى: الشراء من دائم العمل حقيقة أو حكما – كالخباز والجزار والبقال واللبان وكذلك كل ما يباع في الأسواق، وهو (بيعة أهل المدينة) قال سالم بن عبد الله: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم نأخذ منه كل يوم رطلا أو رطلين أو ثلاثة، ويشترط عليهم أن يدفعوا الثمن من العطاء: قال: وأنا أرى ذلك حسنًا، قال مالك: ولا أرى به بأسا إذا كان العطاء مأمونًا وكان الثمن إلى أجل .... بشرط أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، وأن يكون أصله عند المسلم إليه.

* وروي عن مالك أيضا أنه لم يجزه، ورآه دينا بدين – وأول الأثر.

* ورجحنا جوازه – وبينا الآفاق التي تمتد إليها هذه الصورة – مع مقارنتها بعقد التوريد – وبينت صلة هذه الصورة بما قرره المذهب الحنفي ورجحت لزوم العقد في عقود المعاوضات.

الصورة الثانية: شراء سلعة تصنع من غير دائم العمل، وقد نص المذهب على أنها سلم تأخذ أحكامه ....

المطلب الثاني: السلم في الصناعات، وقد بينت حقيقته، وشروط صحته، ثم قسمته إلى أربعة أقسام، وذلك، لأنه إما أن يعين المعمول منه والعامل، أو لا يعينهما، أو يعين أحدهما دون الآخر، وبينت حكم كل قسم، ورجحت رأي أشهب الذي يرى صحة السلم في الأقسام الأربعة، خلافا للمذهب الذي يرى صحته في صورة واحدة، وهي إذا لم يعين المعمول منه ولا العامل.

المطلب الثاني: بينت فيه رأي المذهب في صورتين:

الصورة الأولى: شراء شيء يجري البائع صنعه، ولم يتم هذا المصنع، على أن يتم البائع صنعه، وللمذهب رأيان.

الرأي الأول: يرى أنه يصح هذا التصرف، لأنها تؤدي إلى اجتماع بيع وإجاره، ويصح ذلك في المذهب المالكي.

الرأي الثاني: يرى أنه يصح على أنه سلم وتطبق عليه أحكامه، ويقول الدسوقي إن إطلاق السلم عليه مجاز، وإنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما ....

الصورة الثانية: شراء مادة معينة من صاحبها، ثم يستأجر المشتري البائع على صنعها شيئا معينا على أن يتم ذلك الاستئجار حال التعاقد على بيعها.

ويرى المذهب صحة هذا التصرف على أن يشرع في العمل.

ص: 935

ثالثا – المذهب الشافعي:

بينت أيضًا رأي الشافعية في التعاقد (استصناعا) أو (سلما) على أشياء يراد صنعها في مطلبين:

المطلب الأول: رأي الشافعية في جواز عقد الاستصناع، وقد بينت أنهم لا يجيزون هذا العقد، وبينت أدلتهم.

المطلب الثاني: في السلم في الصناعات، وقد تابعت الصور التي أثار علماء المذهب، وضبطتها فيما يأتي:

أولا: التعاقد (سلما) على شي يصنع من مادة واحدة.

* وقد أجاز المذهب منها (المصبوبة في قالب، أو المضروبة) مثل كوز، وطس، وحباب، وأباريق ونشاب ونحوها، والهاون، لأن ذلك لا يختلف.

* أما المعمولة بآلة – أي المحفورة بالآلة – فإن المذهب لم يجز السلم فيها، لعدم انضباطها باختلاف أجزائها.

* وكذلك يصح السلم في الأشياء المتخذة من شيء واحد كالخفاف والنعال المتخذة من شيء واحد بشرط أن تكون جديدة، واتخذت من غير جلد.

ثانيا: التعاقد (سلما) على شيء مصنع من أكثر من مادة، وله صورتان رئيستان:

الصورة الأولى: التعاقد (سلما) على شيء مختلط الأجزاء خلقة، وذلك مثل (الشهد) إذ هو مركب من عسل وشمع.

والأصح في المذهب صحة السلم في ذلك لانضباط أجزائه.

ومقابل الأصح أنه لا يصح لأن الشمع يقل ويكثر فينتفي الانضباط بين أجزائه فلا يصح السلم.

ص: 936

الصورة الثانية: التعاقد (سلما) على شيء، مختلط الأجزاء صنعة، وقد جعلته في الأنواع التالية:

النوع الأول: التعاقد على الشيء المختلط صنعة، المنضبطة أجزاؤه عند أهل الصنعة، المقصود الأركان كما بأصله. كالعتابي – وهو مركب من قطن حرير، وخز، وهو مركب من إبريسم ووبر أو صوف.

النوع الثاني: التعاقد على الشيء المختلط الأجزاء صنعة، الذي يقصد أحد الخليطين فيه، والخليط الآخر أضيف لإصلاح هذا الشيء مثل خل تمر، أو خل زبيب، فالخل يحصل باختلاط التمر – أو الزبيب – بالماء الذي هو قوامه – فالماء أضيف لمصلحة الخل.

* وقد اختلف رأي المذهب الشافعي في صحة السلم في هذا النوع إلى رأيين:

الرأي الأول وهو الأصح: يصح السلم فيهما، لسهولة ضبط كل جزء في الأول، ولأن الثاني من مصلحته.

الرأي الثاني: وهو مقابل الأصح: لا يصح السلم فيهما، لعدم انضباط الأجزاء فيهما.

النوع الثالث: التعاقد (سلما) على الشيء المختلط المقصود الأركان التي لا تنضبط، مثل هريسة، ومعجون مركب من جزأين أو أكثر، وغالية، وقسى مركب من خشب وعظم وعصب.

وهذا النوع لا يصح السلم فيه، لعدم انضباط أجزائه.

وبينت أن مدار القول بالصحة أو عدمها هنا يدور حول ما يأتي:

(أ) في الأشياء المصنعة من مادة واحدة: تفاوت الصنعة أو تفاوت الأشكال ونحوها، فإن لم تتفاوت صح السلم، وإن تفاوتت لم يصح.

(ب) في الأشياء المختلطة الأجزاء خلقة أو صنعة: انضباط الأجزاء المتكون منها هذا الشيء، أو إمكان فصل هذه الأجزاء ليعرف قدر كل جزء منها فإن أمكن ذلك صح السلم وإلا لم يصح وأخيرًا بينت أن هذا الضابط يمكن أن يحكم لنا على كل أنواع ما يجري السلم فيه من الأشياء المختطلة خلقة أو صنعة، فإن تحقق هذا الضابط صح السلم وإلا لم يصح.

وهذا ما اتجه إليه الشيخ محمد نجيب المطيعي (الفقيه الشافعي) معممًا ذلك على كل أنواع المصنوعات في زمننا من السلع المعمرة كالتلفاز والمذياع والثلاجة والغسالة

ونحو ذلك [يراجع ص475] .

ص: 937

رابعًا: المذهب الحنبلي.

بينت أيضًا رأي المذهب الحنبلي في عقد الاستصناع ثم في عقد السلم على الأشياء التي يراد صنعها في ثلاثة مطالب المطلب الأول بينت فيه أن المذهب الحنبلي لا يصح عنده عقد الاستصناع كما ذكره القاضي وأصحابه لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم.

المطلب الثاني:

صور أوردها المذهب لها تعلق باستصناع السلعة

الصورة الأولى: صورة يكون فيها الشيء قد تم صنع بعضه ولم يتم الانتهاء منه وأراد بيعه على أن ينسج باقيه (وهي مسألة تور ليكمل عند المالكية) ففي المذهب رأيان:

الرأي الأول: يرى أنه لا يصح بيعه لأن بيع المنسوج بيع عين والباقي موصوف في الذمة ولا يصح أن يكون الثوب الواحد بعضه بيع عين وبعضه مسلم فيه لأن الباقي سلم في أعيان وذلك لا يجوز ولأنه بيع واستئجار وسلم.

الرأي الثاني:

وحكى بـ (قيل) ـ ما ينبئ عن الضعف أنه يصح بيعه إلى المشتري إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع.

ص: 938

الصورة الثانية: إذا أحضر البائع لحمة الثوب وباعها مع الثوب وشرط على البائع نسجها:

ففي هذه الصورة تجري الروايتان في اشتراط منفعة البائع.

* والمذهب يرى صحة الجمع بين بيع وإجارة، ويرى صحة بيع شرط فيه نفع البائع.

المطلب الثاني: التعاقد (سلما) على أشياء تصنع.

وقد أبرزت تحت هذا المطلب صورا متعددة نص المذهب على صحة التعاقد عليها سلما، وهي كلها تحتاج إلى صنعة

المطلب الثالث: الضوابط التي يلزم توافرها لصحة عقد السلم في الأشياء المتعاقد على صنعها:

أستطيع أن أخلص إلى التقسيم التالي:

القسم الأول: الأشياء المصنعة من مادة واحدة، ويرى المذهب صحة السلم في هذه الأشياء.

القسم الثاني: السلم في أشياء تصنع من أكثر من مادة، ويندرج تحتها صورتان:

الصورة الأولى: السلم في الأشياء المختلطة خلقة، وهو صحيح في المذهب.

الصورة الثانية: السلم في الأشياء المختلطة صنعة، ويصح السلم في نوعين منها:

النوع الأول: السلم فيما يجمع أخلاطا مقصودة متميزة – كثياب منسوجة من نوعين (كإبريسم وقطن) .

وبينت ضابط هذا النوع، وآفاق تطبيقه.

النوع الثاني: السلم فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحته، كخل تمر، أو زبيب، يوضع فيه الماء، وخبز يوضع فيه الملح.

ويصح السلم في هذا النوع أيضا، لأن ما خلط به يسير غير مقصود لمصلحته، فلم يؤثر.

ثم بينت الضابط الذي يمكن أن يحكم صحة السلم في الأشياء المختلطة صنعة، وهو أن تكون أخلاطها مقصودة متميزة، وإمكان ضبطها بالصفة.

أما المختلطة خلقة فهي صحيحة مطلقا، لأنه لا عمل للإنسان فيها فإن دخلها غش لا يصح السلم فيها.

"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ".

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج وسار على هديه إلى يوم الدين.

أ. د. حسن علي الشاذلي

ص: 939