الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغزو الفكرى
فى التصور الإسلامى
إعداد
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح
بسم الله الرحمن الرحيم
مصطلح الغزو الفكرى:
بداية نقف عند مصطلح (الغزو الفكرى) الذي يتردد في هذا العصر كثيرًا على ألسنة الباحثين والكاتبين والمتحدثين.
وإن وقفة إستقرائية تكشف في وضوح أن هذا المصطلح لم يسمع به قبل القرن الرابع عشر الهجرى (القرن العشرين الميلادى) .
ولكن ليس معنى عدم وجود المصطلح أو عدم استخدام المصطلح قبل القرن الرابع عشر الهجرى أن معنى الغزو الفكرى ومفهومه وموضوعه لم يكن موجودًا، لأن المستقرئ لأحوال الأمم والشعوب يجد أن مفهوم (الغزو الفكرى) كان موجودًا في القديم، وفى الحديث..
وكلمة: (الغزو) في اللغة العربية، تعطى معنى: القصد والطلب والسير إلى قتال الأعداء في ديارهم وانتهابهم وقهرهم والتغلب عليهم.
ومصطلح (الغزو الفكرى) قصد به: إغارة الأعداء على أمة من الأمم بأسلحة معينة وأساليب مختلفة لتدمير قواها الداخلية وعزائمها ومقوماتها.
وإنتهاب كل ما تملك (1) .
والفرق بين (الغزو الفكرى)، (والغزو العسكرى) : أن الغزو العسكرى يأتى للقهر، وتحقيق أهداف استعمارية، دون رغبة الشعوب المستعمرة، أما الغزو الفكرى فهو لتصفية العقول والأفهام لتكون تابعه للغازى (2) .
وقد يكون الغزو الفكرى أشد وأقسى لأن الأمة المهزومة فكريًّا تسير إلى غازيها عن طواعية، وإلى جزارها عن رضا وإقتناع وحب، لا تحاول التمرد أو الخلاص.
وبهذا يظهر ما بين المصطلح واللغة من صلة، حيث إن كلمة الغزو، استعلمت في معناها، وهى الإغارة على أمة من الأمم للاعتداء عليها وانتهابها، ولكن عن طريق الفكر، وتدمير القوى المفكرة فيها، وهذا ما لفتت إليه كلمته:(الفكر) ، التي يطابق معناها في العربية معناها في المصطلح (3) .
ويمكن أن يقال: إن المصطلح استعار كلمة (الغزو) للفكر، لما بينها وبين الغزو في الحرب من علاقة في نهب الشعوب وتدميرها والسيطرة عليها.
ويمكن أن يقال: إن مصطلح (الغزو) مجاز على التشبيه بالحرب الفعلية في التدمير والتخريب والانتهاب والسيطرة على الشعوب
…
لهذا شاع استعمال هذا المصطلح وأضرابه من المصطلحات التي تدل على هذا المعنى وتسير في فلكه (4)
ومما يسترعى الانتباه أن بعض العلماء والباحثين ينكرون ويستنكرون وجود (الغزو الفكرى) . معتبرين الحديث عنه مجرد (وهم) من الأوهام.
وهؤلاء العلماء إنما ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم، باعتباره – رغم الحدود الدولية السياسية، والحواجز الجغرافية – وبسبب من التقدم الهائل في ثمرات (ثورة الاتصال) ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم باعتباره (وطنًا واحدًا) ، لحضارة واحدة، يسمونها:(حضارة العصر) أو (الحضارة العالمية) أو (الحضارة الإنسانية) ويتصورون الأمم والشعوب والقوميات مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد لهذه الحضارة الواحدة.
ومن ثم فليس في هذا التصور حدود – لها حرمة الحدود – تميز (أوطانا) متعددة، لحضارات متميزة
…
ولهذا فإن عبور الفكر – كل الفكر – للحدود – كل الحدود – ليس فيه عندهم شبهة (غزو) ولا أثر (عدوان)(5)
وهذا التصور يُروَّجُ له بشتى الأساليب، فثمت دعوة إلى (فكر عالمى) وهناك دعوة إلى أن الحضارة الحديثة (حضارة عالمية) وهناك دعوة إلى (ثقافة عالمية) .
(1) انظر: الدكتور توفيق الواعى، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 680، طبعة دار الوفاء، المنصورة، 1408هـ، القاهرة
(2)
المصدر السابق: ص 680، بتصرف
(3)
الدكتور توفيق الواعى، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 681، بتصرف وإضافة
(4)
انظر: الدكتور توفيق الواعى، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 681 مع تصرف يسير
(5)
الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكرى، وهم أم حقيقة: ص6، طبعة الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية، بالأزهر الشريف، 1988م
وهناك حركة (البهائية) التي نشأت سنة 1260هـ - 1844م تحت رعاية الاستعمار الروسى، واليهودية العالمية، والاستعمار الإنجليزى، تزعم أنها جاءت بدين عالمى جمع البوذية، والبرهمية، الزرادشتية، المانوية، المزذكية، الفرق الباطنية، اليهودية، والنصرانية، والدهرية، وهذه الدعوة تجد رواجًا (1) .
وهناك علماء ومفكرون، ينكرون أن يكون عالم اليوم، وطنًا حضاريًّا واحدًا لحضارة عالمية واحدة
…
وهؤلاء العلماء يدعون إلى ضرورة احترام (الحدود الحضارية) .. لأن العالم في تصورهم: هو أقرب ما يكون إلى (منتدى عالمى لحضارات متميزة) تشترك أممها في عضوية هذا المنتدى، ومن ثم فإن بينها ما هو (مشترك حضارى عام) .... وأيضًا، فإن هذه الأمم تتمايز حضاريًّا.. الأمر الذي ينفى الوحدة الحضارية، ويستدعى الحفاظ على (الهويات) الحضارية المتميزة.. لا لمجرد الحفاظ عليها – رغم أهميته ـ إنما لأسباب وطنية، وقومية، وعقدية، تلعب دورها في إنهاض أمم كثيرة من كبوتها وتراجعها لما لهذه الخصوصيات من قدرات على شحن شعوب هذه الأمم بالكبرياء المشروع والطاقات المحركة في معركة الإبداع.. ولما للتعددية من دور في إثراء مصادر (العطاء العالمى) . (2) .
وهؤلاء العلماء الذين ينكرون أن يكون عالم اليوم وطنًا حضاريًّا واحدًا لحضارة عالمية واحدة، يذهبون إلى أن التعددية الحضارية تكشف وتعرى روح الهيمنة والعدوان والإستعلاء التي تخفيها الحضارة المتغلبة على عالمنا المعاصر.
وهى الحضارة الغربية، تحت ستار:(وحدانيتها.. وعالميتها.. وإنسانيتها) كما أن هذه التعددية تقوم بدور فعال، في إذكاء روح المقاومة، عند الأمم المستضعفة حضاريًّا، ضد السمات والقسمات التي مثلت وتمثل (مأزق الحضارة الغربية) الذي يمسك اليوم بخناق إنسانها، وذلك حتى لا تعم مأساته كل بنى الإنسان؟ (3)
(1) انظر: الندوة العالمية للشباب الإسلامى، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: ص 64، طبعة الرياض، 1409هـ
(2)
انظر: الدكتور محمد عمارة، الغزو الثقافى وهم أم حقيقة: ص 7 بتصرف
(3)
المصدر السابق: ص7
وهؤلاء العلماء يعترفون بوجود: (الغزو الفكرى) ، وينبهون على مخاطره التي تعددت، وتكاد تحيط بالمجتمعات الإسلامية.
وهؤلاء العلماء: يرفضون دعوى (الوطن الحضارى الواحد لعالمنا المعاصر) ودعوى (الحضارة العالمية الواحدة) لهذا الوطن الواحد، ويقدمون بديلًا لها دعوى أن عالمنا هو أقرب ما يكون إلى (منتدى عالمى لحضارات متميزة) وأن الأمم المستضعفة حضاريًّا، لابد لها من النضال الحضارى، ضد نزعة التفرد والهيمنة، التي تمارسها الحضارة الغربية المتغلبة – بالاستعمار القديم والجديد – على غيرها من الحضارات..
فالتعددية لا الواحدية هي الحقيقة الممثلة للواقع الحضارى، في الواقع الذي نعيش عليه، ومن ثم فإن هناك حالات لتعدى (الحدود الحضارية) تمثل (غزوًا فكريًّا) لا شك فيه. (1)
وهذا التصور يؤيده واقع حياة الشعوب، فالذين يعايشون حياة الشعوب، والأمم ذات الحضارة الغنية والتاريخ القديم، والتراث العريق،.. أو يغوصون في تراث هذه الأمم وفلسفتهاو مذاهبها، وتقاليدها وأعرافها.. يدركون أن عالمنا به – حقًّا – أمم متعددة، تتميز كل منها بشخصيتها القومية والحضارية المتميزة.
وإننا إذا نظرنا في مذاهب هذه الأمم وأعرافها، وفى معايير الحلال والحرام والمشروع والممنوع لدى أبنائها، وفى موازين الأذواق، والحاسة الجمالية، وفى تصوارتها لمكان الإنسان من الكون، وتصوراتها لمصيره بعد الموت، وتصوراتها الفلسفية لهذا الكون، وما وراء المادة والطبيعة.. إذ نحن نظرنا إلى مذاهب هذه الأمم، في هذه القضايا الأمهات أدركنا السمات التي تمايز بينها – جنبًا إلى جنب – مع سمات تشترك فيها، فتجمع بينها. (2)
ولا يخفى أن الباحث الذي يسبر أغوار المواريث الفكرية لهذه الأمم، ويتتبع خيوط هذا التمايز الحضارى يجد أنها تضرب بجذورها في أعمق أعماق التاريخ.. حيث كان البابليون والآشوريون الفينيقيون والمصريون وغيرهم ممن أسهموا في الفكر الإنسانى، وكان لهم تمايز حضارى (3)
(1) انظر الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكري وهم أم حقيقة: ص8
(2)
انظر الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكري وهم أم حقيقة: ص 9.8
(3)
راجع: الدكتور أحمد السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية، ص 78، طبعة دار اللواء بالرياض، 1401هـ، 1981م
ولعل نظرة فاحصة إلى أمم مثل: الصين.. والهند.. واليابان ستفضى بالباحث إلى الاجتماع على حقيقة تميز الشخصيات القومية، والمواريث الحضارية، وطرائق العيش، والفلسفة، والحياة، وفى النظرة للكون وتصوره، لدى شعوب وأمم هذه الحضارات..
وكذلك الحال إذا نحن تأملنا الحضارة الغربية منذ اليونان وحتى نهضتها الحديثة.. والحضارة الإسلامية منذ تبلورها كثمرة لاندماج المواريث القديمة للشعوب التي دخلت الإسلام بعد الإحياء لهذه المواريث كثمرة لاندماج هذه المواريث في الفكر الإسلامي، الذي استصفاها وطورها وفقًا لمعاييره (1) حيث لم يكن المسلمون مجرد نقلة، ولكن إضافاتهم للأصول التي نقلوا عنها تشهد بأنهم زادوا وابتكروا، لأنهم كانوا ينظرون بعين إلى الثقافة اليونانية، وبالعين الأخرى إلى التعاليم الإسلامية. (2)
على أن الذي ينبغى أن نقف عنده: (أن التصور الذي يرى أن العالم وطنًا واحدًا لا غزو لفكر فيه تصور يقوم على انتصار الحضارة الغربية المتغلبة التي تعمل على مسخ الحضارات العريقة) .
إذن: لابد من التصور الذي يقوم على أن الفكر إذا نظرنا إليه على المستوى العالمى الإنسانى، وجدنا في هذا الفكر:(ما هو مشترك إنسانى عام) لا يختص بحضارة بذاتها، وفى هذا الفكر أيضًا ما يتميز بالخصوصية والاختصاص.
والتمييز في الفكر بين ما هو مشترك إنسانى وبين ما هو خصوصية حضارية إنما تحكمه وتحدده معايير موضوعية.
(1) انظر الدكتور محمد عمارة، الغزو الفكرى وهم أم حقيقة: ص 9 بتصرف
(2)
انظر: الدكتور توفيق الطويل. الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية: ص 151، طبعة مكتبة التراث الإسلامى. مصر 1990م
فكل العلوم التي موضوعها الطبيعة وظواهرها ، والمادة وخصائصها، هي من قبيل الفكر، الذي هو مشترك إنسانى عام، وذلك لأن منهاجها تتميز بالحياد العلمى، لأن التجربة الملموسة بالحواس المادية هي السبيل لاكتشاف حقائق هذه العلوم، تلك الحقائق التي هي بنت الدليل، والتى لا تختلف باختلاف مذاهب وعقائد وأجناس وفلسفات المكتشفين، ومن ثم فهى لا تتغاير بتغاير القوميات والحضارات، بل هي واحدة على المستوى الإنسانى، كما أن موضوعاتها – المادة وظواهرها – واحدة هي الأخرى، لا تختلف ولا تتغاير باختلاف وتغاير الحضارات، فعلوم مثل الرياضيات بفروعها، ومثل الكيمياء، والطبيعة، والطب، والجيولوجيا ولم لن تختلف مناهجها وحقائقها وقوانينها باختلاف الحضارات قد تتمايز وظائف استخدام قوانينها ونظرياتها ومكتشفاتها، لكن حقائق علومها أي (فكرها العلمى) سيظل واحدًا مهما اختلفت المذاهب والعقائد والحضارات. (1)
والعقل البشرى استطاع بما اكتسب من خبرة ودربة ومرانة أن يصنف هذه العلوم، وأن يحكم ما بينها من وشائج، وأن يستفيد بما بينها من صلات وروابط.
والنتائج العلمية متصل بعضها ببعض، ويعتمد بعضها على بعض، ولهذا كانت الحضارات الإنسانية ملكًا لأمة بعينها، ولا هي وقف على جماعة من الناس؛ لأنها صرح هائل، قد اسهمت فيه كل أمة بنصيب (2)
ويلحق بهذه المنظومة من حقائق العلوم الطبيعية الخاصة بدراسة المادة وظواهرها وأسرارها على نحو ما وإلى حد كبير العديد من ثمرات التجارب الإنسانية في الوسائل والنظم والمؤسسات والخبرات التي ترشد أداء الإنسان وهو يسعى إلى تحقيق المقاصد والغايات..
فعلى الرغم من تمايز المقاصد والغايات والمثل، فإن تجارب الإنسانية في الوسائل، والنظم، والمؤسسات قد تكون صالحة في أحيان كثيرة للاقتباس – مع التطويع – وللتمثيل، والاستلهام.
هذا عن العلوم الطبيعية والتجارب المادية التي تمثل حقائقها وخبراتها فكرًا عالميًّا هو صميم (المشترك الإنسانى)
أما الشق الآخر من الفكر، الذي يدخل في صميم الخصوصية الحضارية، التي تتمايز بتمايز الحضارات فهو ذلك الذي ينطلق من العقائد، والمذاهب، والفلسفات.
فكما تميزت علوم (المادة) الثابتة بالعالمية، فغذت حقائقها، وقوانينها (مشتركًا إنسانيًّا عامًا) تميزت، وتتميز علوم العقائد والمذاهب والفلسفات بالخصوصية الحضارية، التي تجعلها وثيقة الصلة بطبائع الأمم ومعتقدات الشعوب، وطرائقها في الحياة (3)
(1) انظر الدكتور محمد عماره، الغزو الفكرى وهم أمة حقيقة: ص 16
(2)
انظر: الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية: ص 92
(3)
انظر: الدكتور محمد عمارة الغزو الفكرى وهم أم حقيقة: ص 18.17 بتصرف
الغزو الفكرى
لقد وضح لنا: أن هناك (غزوًا فكريًّا) مقصودًا، يعمل لإذابة الشعوب، وانسلاخها عن عقائدها ومذاهبها وحضاراتها، لتصبح مسخًا شائهًا تابعًا لغيره، يؤمر فيطيع.. ولقد عمل هذا الغزو على تضليل المجتمعات الإنسانية، وخداعها والتمويه عليها وقلب الحقائق وتشويه الحقيقة عن طريق تصنيع الكلمة ، وزخرفه القول، والدخول إلى المخاطب. من نقطة الضعف، والاستغفال لإغرائه والإيقاع به، الإيحاء إليه، بسلامة الفكرة، وصحة المفهوم المزيف، الذي تحمله كلمات الغزو.
ولكم تهاوت أمم وشعوب وأجيال، وتساقطت في هاوية الضلال والانحراف والفساد الخلقى والعقدى والاجتماعى بسبب تصورات (الغزو) المزخرفة الخادعة، التي يرقص السذج والجهال على نغم إيقاعها، ويفتنون بسماعها وأناقة ظاهرها.
ولكم عانى الإنسان والشعوب من أولئك الذين يصنعون (الغزو الفكرى) ويصدرونه في موجات، تقتحم الديار والبيوت، لقد قِيدت الإنسانية إلى هاوية الضلال والانحراف، ولقد كان (للغزو الفكرى) في كل جيل، وفى كل عصر دوره التخريبى في حياة الناس، إلا أن البشريه لم تشهد في مرحلة من مراحل حياتها وضعا كان فيه (للغزو الفكرى) خبراء، ومتفلسفون، وأجهزة، ومؤسسات، كعصرنا الحاضر هذا، الذي اتخذ فيه (الغزو الفكرى) صبغة الفلسفة والنظرية والمبدأ الذي يعتنقه الأتباع، ويدافعون عنه، وينقادون له.
وقضية الغزو الفكرى أصبحت اليوم من أشد القضايا خطرًا، تبدو ظواهر هذ الغزو المدمر في قلوب وعقول كثير من المثقفين في هذا العصر. واضحة بينة، والسلاح الذي يستعمله (الغزو الفكرى) مدمر قتّال، يؤثر في الأمم والمجتمعات أكثر مما يؤثر المدفع والصاروخ والطائرة، وقد ينزل إلى الميدان ويعظم خطره حين تخفق وسائل الحديد والنار في تحقيق الهدف والوصول إلى الغاية، والخطر الذي يحتجنه هذا الغزو أكثر بكثير من قتل الإفراد، بل من قتل جيل بأسره، إذ يتعدى ذلك قتل أجيال متعاقبة.
والسلاح الذي يستعمله هذا الغزو هو سلاح الحيله والشبهات وتحريف الكلم، الخديعة في العرض (1)
(1) راجع: إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكرى: ص 7، طبعه شركة معمل ومطبعة الزهراء الحديثه ، المحدودة. العراق 1986م
ومما لا ينكر أنه لم يواجه دين من الأديان ولا عيقدة من العقائد مثل ما واجه الإسلام من تحديات ، فقد واجه الإسلام منذ فجر تاريخه تحديات عنيدة من مخالفيه، فقد واجه المشركين في مكة، واليهود في المدينة، ثم لما فتحت الأمصار وانتشر الإسلام فيها واجهت الثقافة الإسلامية أفكارًا شعوبية إلحادية وفلسفات وثنية كالفلسفات الفارسية، واليونانية والهندية، وغيرها، ولكن الإسلام ثبت أمام هذه التحديات وانتصر عليها ، فقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك يعى الإسلام وعيًا كاملًا.
ويدرك أخطار الأفكار والاتجاهات التي كان يطرحها الفلاسفة والزنادقة، وما تحمله من شبهات، وهى في جملتها تعمل على نقل الفكر من مجال أصالة الفطرة ومنطق العقل الصحيح وطريق التوحيد وطابع الإيمان إلى مجال الإلحاد والإباحية.
غير أن المجتمع تصدى لهم، وأخذ يكشف زيفهم، ويبين ما أنطوت عليه قلوبهم من كيد، ولم تستطع أن تنال من الإسلام عبر العصور،
على أن أخطر هذه التحديات هي تلك التي تواجهها المجتمعات الإسلامية اليوم، وهى تحديات تتمثل بالمواجهة السافرة حينًا، والمستترة أحيانًا، هذا التحدى الذي يتمثل حاليًا بالغزو الفكرى الغربى (1)
(1) عز الدين الخطيب التميمى وآخرين: نظرات في الثقافة الإسلامية، ص31 دار الفرقان، عمان، 1404هـ، 1984م الأردن.
أسباب الغزو الفكرى
أولا – العداء الصليبى للإسلام والمسلمين:
والباحثون يدركون أن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامى في مرحلتين من مراحل تاريخها، فكانت مرحلة القرون الوسطى، قبل وبعد (توماس الإكوينى)(1) تريد اكتشاف هذا الفكر، وترجمته.. من أجل ذلك إثراء ثقافتها. بالطريقه التي أتاحت لها فعلًا تلك الخطوات، التي هدتها إلى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادى، وفى المرحلة العصرية والاستعمارية فإنها تكتشف الفكر الإسلامي مرة أخرى، لا من أجل تعديل ثقافى، بل من أجل تعديل سياسى، لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية أخرى، ولتيسير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه السياسات في البلاد الإسلامية (2) .
ويذكر المؤرخون أن الجيوش الأوروبية الصليبة لما هاجمت بلاد الإسلام كانت مدفوعه إلى ذلك بدافعين:
الدافع الأول: دافع الدين والعصبية العمياء التي أثارها رجال الكنيسة في شعوب أوروبا مفترين على المسلمين أبشع الافتراءات، محرضين النصارى أشد تحريض على تخليص مهد المسيح من أيدى الكفار – أي المسلمين – فكانت جمهرة المقاتلين من جيوش الصليبين من هؤلاء الذين أخرجتهم العصبية الدينية من ديارهم عن حسن نية وقوة عقيدة إلى حيث يلاقون الموت والقتل والتشريد، حملة بعد حملة، وجيشًا بعد جيش.
والدافع الثانى: دافع سياسى استعمارى، فلقد سمع ملوك أوروبا بما تتمتع به بلاد المسلمين من حضارة وثروات فجاءوا يقودون جيوشهم باسم المسيح، وما في نقوسهم إلا الرغبة في الاستعمار والفتح، وشاء الله أن ترتد الحملات كلها مدحورة مهزومة (3)
ويكاد يكون معروفًا أن أوروبا شنت حملات صليبية على الشرق الإسلامى، وقد بدأت الحروب الصليبية منذ منتصف القرن الحادى عشر، واستمرت حتى نهاية القرن الثالث عشر أي ما يقرب من مائتى وخمسة وعشرين عامًا في ثمانى حملات من الحملات المدججة بالعدد والمعدات، ويصف كاهن مدينة (لوبوى ريموند واجيل) سلوك الصليبين حينما دخلوا على القدس، فيقول:(حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقطعت رؤوس بعضهم فكان أقل ما أصابهم ، وبقرت بطون بعضهم، فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوه)(4)
وروى الكاهن نفسه خبر ذبح عشرة الآف مسلم في مسجد عمر – رضى الله عنه – يقول في هذا: (لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، فكانت جثث قتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدى والأذرع المبتورة تسبح وكأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها. فإذا ما اتصلت زراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلًّا بمشقة)(5) .
ويذكر التاريخ أن الحملة الصليبية عند دخولها بيت المقدس في 15 مايو عام 1099 م قد ذبحت أكثر من سبعين ألف مسلم حتى سبحت الخيل إلى صدورها في الدماء، وفي أنطاكية قتلوا أكثر من مائة ألف مسلم.
فالأمر خطير، إنه حقد الشر على الحق، والرذيلة على الفضيلة، وعداوة الشرك للتوحيد، وخصومة الضلال للهدى (6) .
وقد صمدت الأمة الإسلامية في وجه هذه الحروب الوحشية التي سلبت ونهبت، وقتلت وفتكت.
(1) توماس الإكوينى ولد سنة 1226م وتوفى سنة 1274م، ويعتبر من أعظم الفلاسفة واللاهوتيين في العصر المدرسى المسيحى. منحته الكنيسة الكاثوليكية لقب القديس.
(2)
مالك بن نبى، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامى، ص 8، طبعة دار الإرشاد، بيروت 1969م
(3)
الدكتور مصطفى السباعى، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامى، ص 187، 188 طبعة دار الكتب الإسلامى، بيروت ودمشق 1398هـ1978م
(4)
انظر: د. غوستاف لوبون. حضارة العرب: ص 2-4، ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الثانية 1948م
(5)
لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي: 1/ 60، ترجمة نويهض
(6)
راجع نادية شريف العمري، أضواء على الثقافة الإسلامية: ص 164، طبعة مؤسسة الرسالة، 1406 هـ بيروت
وبعد مضي أكثر من قرنين من حروب دامية اشتد وطيسها بين كتائب الإيمان وبين جحافل الشر، ارتدت الحروب الصليبية، وقد باءت هذه الحملات بالإخفاق والهزيمة، فالقديس (لويس التاسع) قائد الحملة الصليبية الثامنة، وملك فرنسا، وقع أسيرًا في مدينة (المنصورة) في مصر ، ثم خلص من الأسر بفدية، ولما عاد إلى فرنسا، أيقن أن قوة الحديد والنار لا تجدي نفعًا مع المسلمين الذين يملكون عقيدة راسخة تدفعهم إلى الجهاد، وتحضهم على التضحية بالنفس، وبكل غال.
إذن: لابد من تغيير المنهج والسبيل، فكانت توصياته: أن يهتم أتباعه بتغيير فكر المسلمين، والتشكيك في عقيدتهم وشريعتهم، وذلك بعد دراستهم للإسلام لهذا الغرض، وهكذا تحولت المعركة من ميدان الحديد والنار إلى ميدان الفكر (1) ، لأن القضاء على الإسلام أو تحويل المسلمين عن دينهم لا يمكن أن يأتي عن طريق القوة المادية، والغزو المسلح.
ولقد بدأت حركة (الغزو الفكري) من منطلق ضرب المسلمين عن طريق الكلمة بعد هزيمة الحروب الصليبية – كما وجههم (لويس التاسع) – والعمل على ترجمة القرآن والسنة وعلوم المسلمين للبحث عن الثغرات التي يدخلون منها إلى إثارة الشبهات، وقد أعلنوا صراحة أن الإسلام هو عدوهم الأول، وأن أكبر غاية لهم هي ضرب وهدم قواعده (2) .
لقد فشلت الحروب الصليبية من الوجهة الحربية.. لكن بقي (الغزو الفكري) ينفث سمومه، ويثيثر الشكوك، وبقيت النزعة الصليبية تتوارى خلف ستار من الدبلوماسية والرياء السياسي تحرك ما تريد تحريكه، وتقف خلف الغزو الفكري بكل ما لها من قوة وعلم..
(1) إبراهيم النعمة، الإسلام أمام تحديات الغزو الفكري: ص 12
(2)
أنور الجندي، المد الإسلامي في القرن الخامس عشر الهجري: ص 126، طبعة دار الاعتصام بالقاهرة، 1982م
ولاشك أن العداء الصليبي للإسلام هو الدافع الأساسي والأصيل للغزو الفكري الذي تسلط على مجتمعات الأمة الإسلامية، ونجد أن هذا العداء أخذ (شكل السعار الوبائي لدى الأمم الغربية (الصليبية) فأخذوا مستميتين يوزعون السموم ذات اليمين وذات الشمال، ويفترون الأكاذيب، ويطمسون الحقائق، ويدبرون المكائد، ويتصيدون السقطات، ثم يدخلون في روع أنفسهم وبني جلدتهم أنهم أرقى عنصرًا، وأفضل عقلًا، وأفلح دينًا، وأنهم أوصياء على البشرية وسادة الإنسانية وهداتها ومرشدوها) (1) .
وقال (وليم غيفورد بلغراف) الإنجليزي المسمى بالحرباء: الكلمة المشهورة التي يلخص فيها عداء الغربيين للإسلام: (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا أن نرى العربي يندرج في سبيل الحضارة، التي لم يبعده عنها إلَّا محمد وكتابه)(2)
(وجلادستون) رئيس وزراء بريطانيا يقول: (مادام القرآن موجودًا فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان)(3) .
ويرى غاردنر: (أن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا)(4) .
ويوضح هذا العداء ويذكر بعض أسبابه المستشرق بيكر، فيقول:(إن هناك عداء من النصرانية للإسلام، بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى، أقام سدًّا منيعًا في وجه الاستعمار وانتشار النصرانية، ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها)(5) .
(1) الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 704، 705
(2)
انظر: الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية
(3)
نادية شريف العمري، أضواء على الثقافة الإسلامية: ص 167
(4)
عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 13، طبعة بيروت دار القلم 1977
(5)
انظر: عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 705 وانظر: عمر فروخ والخالدي ، التبشير والاستعمار ص184 ، طبعة المكتبة العصرية بيروت
ويقول في هذا المعني (لورانس براون) : (إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي)(1) ثم بين (لورانس براون) : أن خطر المسلمين هو الخطر العالمي الوحيد في هذا العصر، الذي يجب أن تجتمع له القوى، وتجيش له الجيوش، وتلتفت إليه الأنظار، فيقول حاكيًا أراء المبشرين:(إن القضية الإسلامية تختلف عن القضية اليهودية، إن المسلمين يختلفون عن اليهود في دينهم، إنه دين دعوة، إن الإسلام ينتشر بين النصارى أنفسهم وبين غير النصارى، ثم إن المسلمين كان لهم كفاح طويل في أوروبا، فأخضعوها في مناسبات كثيرة، على أن الفرق الأساسي بين المسلمين واليهود – كما يراه المبشرون – هو أن المسلمين لم يكونوا يومًا ما أقلية موطوءة بالأقدام) .. ثم يقول: (إننا من أجل ذلك نرى المبشرين ينصرون اليهود على المسلمين في فلسطين، لقد كنا نُخوَّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر (باليابان وتزعمها على الصين) وبالخطر البلشفي، إلَّا أن هذا التخويف كله لم يتفق (لم نجده ولم يتحقق) كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مُضطَهِد لهم (2) عدونا الألد، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر، فإن هناك دولًا ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام) (3) .
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 705. وانظر عمر فروخ والخالدي، التبشير والاستعمار: ص 184، طبعة المكتبة العصرية بيروت.
(2)
الواقع أن اليهود لا يضطهدهم المسلمون، ولكنهم هم الذين يضطهدون المسلمين ويتآمرون عليهم
(3)
انظر: الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 706، وانظر عمر فروخ والخالدي، التبشير والاستعمار: ص 184
ولقد اشترك الاستعمار الغربي والجهد التبشيري والحقد الصليبي في حرب المسلمين، وتشتيت تراثهم، ونهب ديارهم، يخيم عليهم سحابة سوداء من البغضاء والكراهية، يتمثل هذا فيما حدث في العام 1918 م عندما دخل اللورد اللنبي القدس، وأعلن:(الآن انتهت الحروب الصليبية) كان هذا القائد يعبر عن الروح الأوروبية، الروح الصليبية التي ظلت متوهجة في أعماقهم طوال تلك الحقب، وبنفس الحقد الذي صدر عن الجنرال الإنجليزي، كان مسلك الجنرال الفرنسي (غورو) قائد الجيش الفرنسي في دمشق حين ذهب إلى قبر صلاح الدين، بعد أن جاءه راكبًا سيارة مكشوفة، وترجل إلى القبر، وقال قولته المشهورة:(نحن هنا يا صلاح الدين) وفي اليوم التالي عمل الشئ نفسه في حمص، حيث ذهب إلى قبر (خالد بن الوليد) – رضي الله عنه – وقال:(نحن هنا يا خالد)(1) .
هذا الحقد والضغن والمقت كان سببًا قويًّا في الإغارة على المسلمين، بشتى الأساليب والطرق والأشكال والألوان، وما زالت تلك الموجة تعلو وتشتد وتمتد ثقافيًّا وفكريًّا؛ لتخريب قواعد الإسلام والأخلاق الإسلامية وإشاعة الأفكار والتيارات الهدامة (2) ، وشغل الأمة الإسلامية، بكل ما هو هامشي في حياتها، حتى لا تدرك اليقظة الواعية، ولا تنتبه إلى ما يحاك حولها.
لقد وجد الغربيون، أن خير طريق لغزو العالم الإسلامي وإخضاعه، هو سلوك الغزو الفكري، فوضعوا الخطط، وحاكوا المؤتمرات للغارة على الأفكار والمفاهيم الإسلامية، وعلى كل ماله صلة بالإسلام حضارة وثقافة، وصارت قاعدتهم التي ارتكزوا عليها:(إذا أرهبك عدوك فأفسِد فكره ينتحر به، ومن ثم تستعبده) وانطلقت الصيحة إلى ضرورة نقل المعركة من ساحة الحرب إلى ميدان الفكر والمعرفة (3) فأغاروا على حضارة الإسلام وثقافته سعيًا وراء هدم عقائده وأفكاره، ونشر الأفكار الغربية بديلًا عنها.
(1) انظر: الدكتور توفيق الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 707. وانظر كذلك: نجيب الكيلاني، الإسلامية والقوى المضادة: ص 142، طبعة مؤسسة الرسالة، 1407 هـ
(2)
راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 707
(3)
انظر: عز الدين الخطيب التميمي وآخرين، نظرات في الثقافة الإسلامية: ص 33. وراجع عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة: ص 14
ولاشك أن الغزو الفكري أعمق أثرًا، وأشد فتكًا في حياة الأمة من الغزو المسلح؛ لأنه يتسلل إلى عقولها وقلوب أبنائها، ذلك أن الأمم تقاس بمقوماتها العقدية، والفكرية، وقيمتها الخلقية.
فالغزو الفكري الأخلاقي أخطر من الغزو المادي المسلح، لأنه يمضي بين الناس في صمت ونعومة وخفاء في الأهداف، مما يجعل الناس تدريجيًّا يتقبلون كل جديد ولو خالف قيمهم وعقائدهم وأفكارهم دون معارضة، ويتقبلون الذوبان في بوتقة أعدائهم، وهم ينظرون ولا يشعرون. (1) .
وإذا كان العداء الصليبي للإسلام والمسلمين سببًا رئيسيًّا دفع بالغرب إلى (الغزو الفكري) للمجتمعات الإسلامية فإنَّ هناك أسبابًا أخرى – غير العداء الصليبي – ساعدت على انتشار (الغزو الفكري) وعملت على هزيمة المسلمين أمام هذا الغزو، ونجد ذلك واضحًا في ثانيًا..
(1) انظر: عز الدين الخطيب التميمي وآخرين، نظرات في الثقافة الإسلامية: ص 34
ثانيًا – الاستعمار الغربي للمجتمعات الإسلامية:
لقد تعرض المجتمع الإسلامي في آسيا وأفريقيا للطابع الأيديولوجي للمجتمع الأوروبي، سواء الحديث منه في القرن الناسع عشر، أو المعاصر في القرن العشرين، ولم تكن للمجتمع الإسلامي مناعة في رفض هذا الطابع وتحديه وعدم تقبله، فتعرض للغزو الأوروبي، من أجل الصناعة الغربية، منذ أثمر عهد النهضة الأوروبية ثمرته في التحرر والخلاص من سلطة الكنيسة، وفي استرداد الإنسان الأوروبي حرية الحركة في التجارة وفي شؤون المال على العموم، وحرية التفكير والتوجيه السياسي (1) .
وكان الوضع في البداية قبل الاستعمار تربصًا من جانب المجتمع الأوروبي بالمجتمعات الإسلامية، وانقضاضًا عليها من جانب، بينما كان استسلامًا من أي مجتمع إسلامي تعرض للتربص والانقضاض، وقبولًا للوصاية الأجنبية والاستغلال الأوروبي من جانب آخر (2)، ومما هو مسجل في صفحات التاريخ: أن المجتمع الإسلامي وقع فريسة للاستعمار، فقد احتلت بريطانيا: الهند في سنة 1859 م ومناطق الخليج الإسلامي، وجنوب شبه الجزيرة العربية في سنة 1849 م، ومصر في سنة 1882 م، والسودان في سنة 1898 م.
واحتلت فرنسا: الجزائر في سنة 1845م، وتونس في سنة 1881 م، والمغرب في سنة 1912 م.
واحتلت إيطاليا: طرابلس الغرب في سنة 1911 م.
واحتلت هولاندا جزر الأرخبيل الأندونيسية تباعا منذ عام 1903م.
وروسيا احتلت القرم قبل القرن التاسع عشر في سنة 1873 م وسيطرت بإشرافها على المجتمعات الإسلامية في وسط آسيا، وهي: أذربيجان، وكازاخستان، وأوزبيكستان، ونوركيستان، وكزيخستان.. سيطرة تامة في القرن التاسع عشر، ولم يسلم من الاحتلال الأوروبي سوى: اليمن، والحجاز، وإيران، ووسط تركيا (3) .
(1) انظر: الدكتور محمد البهي، الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي: ص 51، 52، بتصرف، طبعة دار الفكر، 1973 م
(2)
المصدر السابق: ص 51
(3)
راجع هامش: ص52 من المصدر السابق
ولا يخفي أن وقوع المجتمعات الإسلامية تحت سيطرة الاستعمار زاد من اتساع السوق الاستهلاكية لمنتجات الغرب الصناعية، وهذا أدى إلى تفوق الصناعة الغربية. وكلما قوي المجتمع الأوروبي وتفوق صناعيًّا، كلما زادت رقعة استعماره في قارة أفريقيا وقارة آسيا
…
وكلما زادت قبضة أوروبا على ما تم استعماره، وكلما اتسع نفوذها السياسي والاستغلالي، كما زاد ضعف المجتمع الإسلامي الذي وقع تحت سلطة الاستعمار، وزادت تبعيته وتقلبه لما يأتي من الغرب.
ويوم أن تحرك المجتمع الأوروبي لاستعمار المجتمعات الإسلامية، كان في قمة مجده، بما أنجره من الفصل بين الكنيسة والدولة، واستقلاله بالسلطة الزمنية، وبالحرية الفردية، في التفكير، والتوجيه، وبالحرية السياسية، كما كان في أشد الأوضاع حرصًا على اتجاه (العلمانية) كمثال للإنسانية..
استصحب الاستعمار معه هذا الاتجاه بما يستتبعه في الحكم والتوجيه والتشريع والاقتصاد في المجتمع الإسلامي الذي يتمكن منه.
وباستصحاب الاستعمار اتجاه العلمانية، ومحاولة تطبيق هذا الاتجاه، في المجتمع الإسلامي، وهو مجتمع يغاير في خصائصه، وتاريخه، وواقعه المجتمع الأوروبي، اضطر هذا الاستعمار إلى أن يسلك طريقا يمكنه من هذا التطبيق، وهو طريق عزل المجتمع الإسلامي كلية عن ماضيه، وعن تراثه العقلي، واالروحي، والتوجيهي، والسلوكي..
فإذا ما تم عزله أصبحت قيادته مسيرة وطيعة للمستعمر، وبالأخص للأجيال التي تنشأ في ظل هذه العزلة (1) .
(1) راجع المصدر السابق: ص 54
ثالثًا – تقدم الغرب العلمي:
لقد كان الغرب يملك تقدمًا علميًّا فائقًا وتقدمًا ماديًّا هائلًا وعبقرية تنظيمية مبدعة، وروحًا من الجلد والصبر على العمل والإنتاج، وروحًا علمية في مواجهة المشكلات سواء من ناحية الدراسة أو من ناحية التنفيذ (1) .
ولا شك أن التقدم العلمي المذهل للغرب كان قويًّا دفاقًا، له من القوة والانتشار والاستيلاء ما بهر العقول، وفتن الألباب، ولا غرو فقد بز بذلك كل تقدم علمي عرفه العالم وسمعت عنه البشرية في التاريخ المترامي الأطراف، واستطاع أن يُخرج من الأسرار ويكشف من الاختراعات ما جعل أبصار الناس وعقولهم تتعلق به (2) ، وخاصة أن هذا العلم أصبح في خدمة الإنسان في كثير من مناحيه، فاتجهت الأنظار والعقول والقلوب إلى الغرب، تتطلع إلى ما فيه من اكتشافات تأتي بجديد (3) .
لقد واجه العالم الإسلامي مشكلة تقدم الغرب العلمي، وجها لوجه، وهذا التحدى السافر على طريق واحد، وهو صاحب الضارة العريقة، والرسالة الدينية الخاتمة، وصاحب الوصاية على البشرية بعد ما انسحبت كل الديانات والمذاهب القديمة متوارية من نوره الوهاج وحجته المشرقة، وصاحب الرقعة الواسعة، والثقافة المنشرة، والقوة الكبرى التي كان يحسب لها ألف حساب. فكان تحدي الحضارة المادية الآلية للعالم الإسلامي أعظم من تحديها لأي أمة، ولأي حضارة، ولأي ثقافة، وقد صاحب تلك الحضارة مذاهب فكرية، وفلسفات مادية، ونظم سياسية، واقتصادية، وعمرانية، واجتماعية، وخلقية، وكان لابد أن ينظر الناس – وخاصة الشعوب المختلفة – إلى هذه المذاهب والفلسفات، والنظم نظرة تقدير واحترام، لأنها نتاج تلك الشعوب المتقدمة، وحصاد تلك الأمم المتطورة التي فتتت الذرة، وصنعت الطائرة والصاروخ، وأدارت الأقمار (4) وغزت الفضاء، لتراقب سلوكيات الإنسانية كلها – وخاصة تحركات المجتمعات الإسلامية – ولتكتشف من الفضاء الواسع، ما يزيدها من العلم تمكينًا ، وأصبحت المجتمعات الإسلامية تمجد الحضارة الأوروبية والتقدم العلمي والصناعي، واستطاع الغرب أن ينقل الإنتاج المادي إلى المجتمعات الإسلامية في أفريقيا وفي أسيا؛ لاستخدام هذا الإنتاج في تيسير الحياة والتغلب على صعوبات المشاق التي تصحب عادة الحياة الإنسانية المختلفة، أو البدائية، وذلك ليكون شواهد مادية، ترى وتختبر في التطبيق وفي واقع الحياة (5) .
(1) انظر: محمد قطب، واقعنا االمعاصر: ص 343، طبعة مؤسسة المدينة، جدة 1407 هـ
(2)
راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 685
(3)
د. أحمد السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية: ص 150
(4)
الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 686
(5)
الدكتور محمد البهي، الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر: ص 54
رابعًا – الضعف الفكري، والتفكك الاجتماعي:
لقد أصيب المجتمع الإسلامي بالضعف الفكري والتفكك الاجتماعي، وذاق من جراء تلك الإصابة مرارة التأخر والضعف الفكري ما أصيبت به أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات إلا كانت الحالة انحطاطًا في التفكير واهتمامًا بالخرافات والأساطير.
والتفكك الاجتماعي نتيجة حتمية للضعف الفكري، لأن الضعف الفكري لا يكشف للإنسان مخاطر الانزلاق في الهاوية، ولهذا نجد أن المجتمعات الإسلامية ابتليت بالطوائف المتعددة والمتناحرة، والمذهبية التعصبية، وتعدد السلطنات والدويلات التي قامت على أساس شعوبي أو مذهبي، في هذا المجتمع أو ذاك.
وهذا كله جر المجتمع الإسلامي إلى فوضى قاتلة وتناحر حقيقي وسلب ونهب وقتل دون رادع أو وازع.. ومجتمع كهذا لابد وأن يتعرض لسيطرة المتربصين به. لقد كانت السلطة السياسية في المجتمعات الإسلامية تعيش في وضع مقلوب (في ذلك الوضع لابد أن تكتمل الصورة المقيتة لأي إمبراطورية على وشك السقوط، بغض النظر عن اللافتة التي ترفعها، سواء كانت إمبراطورية فارسية، أو بيزنطية، أو رومانية، أو عباسية. لابد أن تتفشى الرشوة، وتكثر مصادرة الأموال، وتتفاقم الاضطرابات الداخلية، مع الانحلال الخلقي، والانشغال بالتوافه عن الخطر الذي يدق الأبواب)(1)
وأساس انهيار الأمم يبدأ من الداخل، وقد يأتي تدخل خارجي ليعجل بالسقوط، ولكن يظل الانهيار الداخلي هو بداية النهاية وعاملها الأكبر، ويأتي الانهيار الداخلي حين تتكون طبقة مترفة تتحكم في الثروة، وفي الجماهير، فتنشر الظلم والانحلال، وتحيل حياة الأكثرية إلى جحيم تهون فيه الحياة (2) .
لاشك أن المة الإسلامية عاشت فترات من حياتها، كانت سببا في تأخرها وغفلتها، وطمع الطامعين في مجتمعاتها.
(1) انظر الشيخ محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: ص 110، طبعة دار الشروق، بيروت
(2)
راجع المصدر السابق: ص 113
وأي أمة تضعف في أفكارها، ولا تعرف إلَّا القشور من أمرها، وتعيش في تناحر وتمزق لابد وأن تسقط، وينال منها من كان يهابها.
خامسًا – تخلف الشعوب الإسلامية عن ركب الحضارة:
إن المجتمعات الإسلامية حين أصابها الضعف الفكري، والتفكك الإجتماعي، انشغلت بالتافه من الأمور، فقادتها التفاهة إلى التخلف عن ركب العلم والتقدم والحضارة.. ومعنى هذا، أن المجتمعات الإسلامية انصرفت عن تعاليم الإسلام التي تدعو إلى العلم والمعرفة واستعمال العقل والفكر في كل ما من شأنه أن يأخذ بالناس إلى الطريق السليم، (وواكب هذا الانصراف انحطاط في القيم، ودعوات إلى الركون إلى المتع ، والعبث بالأموال إلى حد السفه والجنون، والترف والفجور، حتى كان قواد هذا الركب في كل ناد وكل صحيفة مع جهل ضارب، ونفاق ناشب أظفاره، وفساد في كل مجتمع وناد، وتصارع على كل تافه وخسيس من المادة، وخراب للذمم، وبيع للشرف، وكره للقيم، وضياع للحق، وهضم للحقوق، وذبح للفضيلة)(1) .
وكان وضع البلاد الإسلامية كما صوره شاعر تركيا الإسلامي الكبير محمد عاكف: (يسألني الناس أنك كنت في الشرق مدة طويلة. فما الذي شهدت يا ترى، وما عسى أن يكون جوابي؟ أننى أقول لهم: إنني رأيت الشرق من أقصاه، فما رأيت إلَّا قرى مقفرة وشعوبًا لا راعي لها، وجسورًا متهدمة، وأنهارًا معطلة، وشوارع موحشة، رأيت وجوهًا هزيلة متجعدة، وظهورًا منحنية، ورؤوسًا فارغة، وقلوبًا جامدة، وعقولًا منحرفة.
رأيت الظلم والعبودية ، والبؤس والشقاء، والرياء والفواحش المنكرة المكروهة، والأمراض الفاشية الكثيرة، والغابات المحرقة، والمواقد المنطفئة الباردة، والحقول السبخة القاحلة، والصور المقززة، والأيادي المعطلة والأرجل المشلولة..
(1) راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية، ص 696
رأيت أئمة لا تابع لهم، ورأيت أخا يعادي أخاه، ورأيت نهارا لا غاية له، ولا هدف، ورأيت ليالي حالكة طويلة، لا يعقبها صباح مسفر، ونهار مشرق) (1) .
هذا التخلف أضعف الثقة بالنفس، وأوقف عجلة التقدم والانطلاق في الشعوب الإسلامية، وجعلها تعتمد في كل شيء على غيرها، إن التخلف العقلي لا يكمن في عدم الذهاب إلى الجامعات، واكتساب المعارف فقط، بقدر ما يمكن في التبلد والخمول، والنوم والرضاء بالدون، وموت الهمة (2) .
ومن المؤكد أن الأمة التي تفضل أو ترضى بالتواكل والاستجداء والكسل والتبعية أمة لا تستحق الحياة الكريمة، والحياة الحرة الكريمة لا تتأتى لأمة دون ثمن، والثمن هو التضحية، ولا يتأتى لأمة أن تشق طريقها في الحياة، وأن تستعيد وجودها وكرامتها، وتعيد صنع حياتها، دون أن تحاول جاهدة أن تبني نفسها بناء يتفق مع الاعتداد بالذات..
وقد يكون من المسلمات البديهية: أن ضعف الأمة في جوهره وجذوره، ليس ضعفًا في قوة الدفاع، أو في القوة العسكرية، وإنما يكمن في ذل النفوس، وشعورها بالضعف.
وقد يكون من المسلمات البديهية أيضًا أن فقر الأمة في جوهره وجذوره ليس فقرًا في السلاح والمعدات، أو فقرًا في المال والإمكانات، وإنما يكمن في فقر النفوس وعجزها، وضعف الإرادة واضطرابها (3) .
فالتخلف عن ركب التقدم والحضارة يعود بالمجتمعات الإسلامية إلى الانحطاط، ويقودها طواعية إلى الهلاك كما تقاد الشاة إلى حتفها بظلفها، ولذا كان هذا التخلف عاملًا من عوامل الغزو الفكري الذي اجتاح البلاد والعباد.
(1) راجع الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 696؛ وانظر أبا الحسن الندوي، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية: ص 35
(2)
انظر الدكتور توفيق الواعي، الحضارة الإسلامية، مقارنة بالحضارة الغربية: ص 698
(3)
انظر: الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح، معارك حاسمة في حياة المسلمين: ص 154، 155، طبعة دار اللواء بالسعودية 1409 هـ
سادسًا – الفراغ العقدي:
من المؤكد لدى الباحثين أن العقيدة هي الأمر الذي تثق به النفس، ويطمئن إليه القلب، ويكون يقينًا عند صاحبه، ولا يمازجه شك فيه، ولا يخالطه ريب. ويذكر العقاد: أننا نعني بالعقيدة الدينية طريقة حياة، لا طريقة فكر، ولا طريقة دراسة، إنما نعني بها حاجة النفس كما يحس بها من أحاط بتلك الدراسات، ومن فرغ من العلم والمراجعة، ليترقب مكان العقيدة من قرارة ضميره، إنما نعني بها ما يملأ النفس لا ما يملأ الرؤوس أو الصفحات. (1) .
إن العقيدة التي يصح أن توصف بالعقيدة الدينية، هي التي لا يستغني عنها من وجدها، ولا يطيق الفراغ منها من فقدها، ولا يرفضها من اعتصم منها، بمعتصم، واستقر فيها على قرار (2) .
ومن يتأمل العقيدة الإسلامية، ويتدبر ما جاءت به من مفاهيم تناولت معضلات الحياة، إن من يتأمل ذلك يحس بالإطمئنان، ويتخلص من الحيرة التي تواجه كثيرًا من المفكرين (3) .
والحقيقة التي أثبتتها مئات السنين الحافلة بالأحداث والخطوب والمحن حقيقة أن العقيدة الإسلامية هي العقيدة الشاملة، والعقيدة المثلى للإنسان والمجتمع رعاية للروح والجسد، وعمل للدنيا والآخرة، وجهاد في السلم والحرب، وتنظيم للعلاقات والصلات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات والأمم.
فالعقيدة ضرورة لا غنى عنها للفرد والجماعة.. ضرورة للفرد ليطمئن ويسعد، وتطهر نفسه.. وضرورة للمجتمع ليستقر ويتماسك، ويترفع وينهض..
فالفرد بغير عقيدة كالريشة في مهب الريح، تحوله يمينًا وشمالًا فلا يسكن له حال، ولا يستقر له قرار، وليس له جذور تثبته (4) .
والعقائد في الأمم تقف سدودًا بينها وبين الأفكار الوافدة أو المذاهب المقتحمة، وتعطي أعماقًا للصروح والمجتمعات والأفراد، كما تمنح استقرارًا وثباتًا للإنسان في الحياة.
أما إذا تركت الأمم عقائدها، وتخلت عن غذائها الروحي، وعن عمقها الإيماني (5) ، فإنها تصبح فريسة لمن هب ودب..
والباحث في أحوال الشعوب الإسلامية: يجد أنها لم تحسن التخطيط، ولم تستفد من الدروس ، فانطلقت في سبيل الشهوات والملذات والطوائف والاختلاف، وتركت تعاليم الإسلام التي تدعو إلى الفكر والعلم والحضارة.. فكان ما كان..
لقد اتضح لنا، أن (الغزو الفكري) الذي تعرضت له شعوب الأمة الإسلامية - ولا زالت تتعرض - قام على أسباب وبواعث، دفعت بالغزو الفكري إلى تكالب مسعور، وكان في الإمكان أن ترد الهجمة الشرسة، ولكن كانت هناك عوامل تنتشر في المجتمعات الإسلامية، ساعدت على توغل الغزو الفكري، وانتشاره بين الناس.
(1) عباس محمود العقاد، العقائد والمذاهب: مجلد رقم 11، ص 402، طبعة دار الكتاب اللبناني، بيروت
(2)
المصدر السابق: ص 431
(3)
انظر: الدكتور أحمد السايح، عباس محمود العقاد، فيلسوفًا رسالة (ماجيستير) ص 166
(4)
انظر: محمد أمين حسن، خصائص الدعوة الإسلامية: ص 257، طبعة مكتبة المنار، الأردن؛ وانظر كذلك الدكتور أحمد السايح، العقيدة والإنسان، مجلة الخفجي، السنة العشرون، العدد الأول: ص 4، 5، إبريل 1990 م السعودية؛ وانظر: كذلك أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 218، طبعة دار الكتاب العربي 1404 هـ
(5)
الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية، مقارنة بالحضارة الغربية، ص 701، 702
وقد سبق أن ذكرنا أن من عوامل وأسباب (الغزو الفكري) :
• العداء الصليبي للإسلام والمسلمين.
• الاستعمار الغربي الذي أصاب بعض المجتمعات الإسلامية.
• تقدم الغرب العلمي.
• الضعف الفكري والتفكك الاجتماعي الذي أصاب المسلمين.
• الفراغ العقدي الذي دلت عليه سلوكيات المسلمين.
وقد تكون هناك أسباب أخري: داخلية أو خارجية، عملت على تمزيق الأمة الإسلامية وقتل روح الأصالة فيها والتجديد، والقدرة على مواجهة التحدي.
ولا يخفي أن التعرف على الأسباب، قد يدفع بالعلماء، وقادة الفكر إلى تشخيص الداء، وبذل الدواء، وإذا عرف التحدي أمكنت المواجهة، وإذا كانت معرفة أسباب الغزو الفكري، تقف بالمسلمين على محطات انطلاق، فإن معرفة مظاهر الغزو الفكري، تساعد على التبصر بالمواقع والمواقف.
مظاهر الغزو الفكري
مظاهر الغزو الفكري كثيرة ومتعددة، وتكاد تشمل جميع جوانب الحياة، وهذه المظاهر لم تكن إلَّا بناء على دراسات دقيقة لأحوال المجتمعات الإسلامية..
لقد خطط أعداء الأمة الإسلامية، وتدارسوا الأمر فيما بينهم، ووضعوا مخططات تنفذ بكل دقة، وتوالت مظاهر الغزو الفكري تنتشر بين المسلمين، يساعد على ذلك أمران:
الأمر الأول: موالاة بعض حكام المسلمين للغرب.
والأمر الثاني: الدعاية للنظم الغربية والتغرير بها.
ولولا هذه المساعدة، لكان من الصعب على مظاهر الغزو الفكري أن يستشري خطرها، وقد نجح الغزو الفكري في إعداد بعض (كوادر) تتولى القيادة، وإدارة أمور المجتمعات. وكانت الدعاية للنظم الغربية والتغرير بها، تدفع الناس إلى قبول ما يأتي من الغرب – أيًّا كان -:
ومظاهر الغزو الفكري يلمسها المراقب والباحث في كثير من القضايا، مثل:
1-
حملات التشويه.
2-
إحياء النزعات الجاهلية.
3-
إبعاد العلماء عن مراكز التوجيه والسلطة.
4-
التعليم والثقافة.
5-
الخدمات الاجتماعية.
أولًا – حملات التشويه:
فإذا ما بحثنا في حملات التشويه – والتي كانت مظهرًا من مظاهر الغزو الفكري – وجدنا أن هذه الحملات، مست كل ما يتصل بالإسلام من عقائد ونظم وتراث وتاريخ وفكر وحياة.
1-
فهناك محاولة تشويه عقائد المسلمين بغير سند ولا دليل. يقول ريان الفرنسي، يصور عقيدة التوحيد في الإسلام (بأنها عقيدة تؤدي إلى حيرة المسلم. كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك)(1)
ودائرة المعارف الإسلامية في طبعتها الجديدة التي لم تترجم إلى اللغة العربية، تعرض تحت مادة (ابن تيمية) أن ابن تيمية كان مسرفًا في القول بالتجسيد، ومن ثم كان يفسر كل الآيات والأحاديث التي تشير إلى الله بظاهر اللفظ، وقد تشبع بهذه العقيدة إلى درجة أن ابن بطوطة يروي عنه أنه قال من منبر جامع دمشق:(إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ثم نزل درجة من درج المنبر)(2) .
2-
وهناك محاولة تشويه القرآن الكريم، وهي محاولة قديمة وحديثة، وهذه المحاولة كغيرها بعيدة عن العلم والمنطق. يقول المستشرق جب:(إن محمدًا قد تأثر بالبيئة التي عاش فيها، وشق طريقه بين الأفكار والعقائد الشائعة في بيئته. فالقرآن من صنع - محمد صلى الله عليه وسلم ومن ملاءمات هذه البيئة التي عاش فيها)(3) .
(1) انظر الدكتور توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية، مقارنة بالحضارة الغربية: ص 708
(2)
انظر: عبد العزيز علي المحويتي، مجلة المنهل: ع 485، ص 108، 109، جمادى الآخرة 1411 هـ، جدة – السعودية
(3)
انظر: الدكتور علي عبد الحليم محمود، الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 29، جامعة الإمام 1401 هـ
وهناك محاولة تشويه السنة النبوية، وهي محاولات ضارية، عميقة الجذور في تاريخ الحرب ضد الإسلام، وهي محاولات تستهدف ما تستهدفه محاولات تشويه القرآن الكريم، من عزل المسلمين عن دينهم، بتشويه مصدريه الأساسيين: القرآن والسنة.. وهي حرب دخلت على المسلمين حديثًا عن طريق الغزو الفكري، وقد جند أعداء الإسلام لتشويه السنة ما جندوا من أقلام، وكتب ومجلات، وبحوث، ومجمل محاولات الأعداء:
• الادعاء بأن هناك أحاديث لا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
• والادعاء بأن محاولة وجود شيء في الحديث النبوي يمكن القطع بصحة نسبته إلي النبي تاريخيًّا، محاولة فاشلة.
• الادعاء بأن الفرق الإسلامية عندما اختلفت في الآراء، أخذ كل منها يضع لنفسه الأحاديث التي يؤيد بها رأيه.
• الادعاء بأن الأحاديث النبوية ليست إلا سجلًا للجدل الديني في القرون الأول (1) .
4-
وهناك محاولة تشويه شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهي محاولات قديمة وحديثة ومستمرة، تهاجم رسول الله، وتحاول أن تنال من شخصه، ونم هؤلاء الأعداء الحاقدين على الإسلام الذين تطاولوا على شخصية الرسول الصادق الأمين:
1-
وليم موير في كتابه: (حياة محمد) .
2-
هنري لامنس اليسوعي، في كتابه:(الاسلام) وقد بلغ من حقد هذا الرجل على الإسلام أن تخبط فيما يكتب إلى الحد الذي أزعج بعض المستشرقين أنفسهم.
3-
الفرد جيوم في كتابه: (الإسلام) .
4-
صمويل زويمر في كتابه: (الإسلام تحد العقيدة) .
5-
كنبثكراج في كتابه: (دعوة المئذنة) .
6-
أ. ج. أربري. في كتابه (الإسلام اليوم) .
7-
جولد زيهر. في كتابه: (تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي) .
8-
هـ أ. ر. جب. في كتبه:
(أ) طريق الإسلام.
(ب) الاتجاهات الحديثة في الإسلام.
(ج) المذهب المحمدي.
(د) الإسلام والمجتمع الغربي.
(1) المصدر السابق: ص 39، 40
9 – أ. ج. فينسك. في كتابه: المستشرقون والإسلام.
10 – د. س. مرجليوث. في كتبه:
أـ محمد ومطلع الإسلام.
ب ـ التطورات المبكرة في الإسلام
ج ـ الجامعة الإسلامية.
د ـ قنطرة إلى الإسلام
11-
ج. فون. جرونبام. في كتبه:
(أ) إسلام العصور الوسطى.
(ب) الإسلام.
(ج) الأعياد المحمدية.
(د) الوحدة والتنوع والحضارة الإسلامية.
(هـ) دراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية.
12-
د. ب. ماكدونالد. في كتابه (تطور علم الكلام والفقه والنظرية الدستورية في الإسلام) .
13-
ر. أ. نيكلسون. في كتابه: (متصوفو الإسلام) .
14-
ر. بل. في كتابيه:
(أ) أصول الإسلام في بيئته المسيحية.
(ب) مقدمة القرآن.
15-
آثر جفيري. في كتابه (مصادر تاريخ القرآن) .
16-
يوسف شاخت. في كتابه: (أصول الفقه الإسلامي) .
17-
أرنولد توينبي. في كتابه: (دراسة في التاريخ) .
18-
فيليب حتى، وهو مسيحي لبناني. في كتابه:(تاريخ العرب) .
19-
مجيد خوري، وهو مسيحي عراقي. في كتابه:(الحرب والسلام في الإسلام) .
20-
أبراهام كاش. في كتابه: (اليهودية في الإسلام) .
21-
إدوارد فرمان. في كتابه (تاريخ المسلمين وفتوحاتهم) .
22-
ج. س. آرثر. في كتابه: (العناصر الصوفية في محمد) .
23-
د. بلاشير. في كتابه: (مقدمة القرآن) .
24-
سنوك هورج رونجد. في كتابه: (الإسلام)(1)
وغير هؤلاء كثير.. وما أردنا الإحصاء أو الاستقصاء.. وكل هؤلاء حاولوا تشويه الإسلام، ونالوا من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما كتبوا، وافتاتوا على الحق وموَّهوا، وملأوا الدنيا ضجيجًا بأصوات الباطل، وهراء الجاهلين، وسموم الحاقدين (2) .
(1) انظر: الدكتور علي عبد الحليم محمود، الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 45، 46
(2)
المصدر السابق: الدكتور علي عبد الحليم محمود، الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: ص 46
5-
وهناك محاولة تشويه التاريخ الإسلامي، وهذه المحاولة من اخبث المحاولات ولا أكثرها خبثا ومكرا. فقد صور هؤلاء الحاقدون على الإسلام والمسلمين، أن الفتوحات الإسلامية فتوحات غزوا واستعمار، وأن الخلافة الإسلامية خلافة تآمر وسفك للدماء، وغير ذلك كثير مما لا يقره علق ولا دين.
6-
وهناك محاولة تشويه التراث الإسلامي، ولا يخفي أن تشويه تراث الأمة، هو تشويه للأصالة التي تنطلق منها. وتراث المسلمين تعرض لانتهاك هؤلاء الحاقدين على كل ما هو إسلامي، فأصابه ما أصاب غيره من الافتراء والافتئات.
9-
وهناك محاولة تشويه مجال الغيب في الإسلام، وهذه المحاولة أريد منها زعزعة الإيمان بالغيب عند المسلمين، ولذا جاءت المحاولة تشكك في كل ما لا تدركه الحواس وتفسر الجزاء عند المصدقين به.. بأنه جزاء روحي، والجنة والنار بأنها شعور نفسي.
10-
وهناك محاولة تشويه نظام الحياة الإسلامية، وذلك بالإدعاء بأنه لا يوجد نظام للحياة معروف في الإسلام، والتهم التي وجهت إلى نظام الحياة الإسلامية كثيرة ولكن أبرزها وأخطرها:
(أولا) : اتهامهم للقوانين والنظم الإسلامية بالرجعية وعدم القدرة على مواكبة ركب التحضر والتقدم (1) .
(ثانيا) : اتهامهم النظم الإسلامية بالمحلية والقصور والإقليمية.
(ثالثا) : اتهامهم لها بأنها عند التطبيق والتنفيذ، تعتمد على وحشية أو همجية أو قسوة وبخاصة فيما يتصل بالرجم والقطع والجلد.
(رابعا) : اتهامهم للقوانين والنظم الإسلامية بأنها لم تحظ بإجماع المسلمين عليها، في عصر من العصور.
(خامسا) : اتهامهم لها بأنها تتجاهل الأقليات غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية.
وهذه التهم قد أطلقها أعداء الإسلام من غير المسلمين، وشاركهم في إطلاقها بعض المسلمين المخدوعين بالفكر الغربي.
9-
وهناك محاولات تشويهية أخري، تتصل بجوانب من الإسلام، إن هذه المحاولات في مجموعها، تشكل انقضاضًا على مبادئ الإسلام، وتعاليمه.
(1) المصدر السابق: ص 78
ثانيًا: من مظاهر الغزو الفكري:
إحياء النزاعات الجاهلية التي لا تتفق مع تعاليم الإسلام كالدعوة إلى القومية، والدعوة إلى الفرعونية، والآشورية، والفينيقية، وما جرى مجرى هذا مما يتنافى مع الإسلام، الدعوة إلى التحلل والإباحية: وهذه دعوة خبيثة لأنها تطعن الأمة في أخلاقها وقيمها، وقد شاعت في المجتمعات الإسلامية أمور تعافها الفطر السليمة، ولكنه الانحراف الذي لا يعترف بالقيم الفاضلة.
ثالثا – إبعاد العلماء عن مراكز التوجيه والسلطة:
ولا يخفي أن إبعاد العلماء عن المراكز التوجيهية أمر له خطورته، وفي بعض المجتمعات تقلص دور العلماء، وأصبح قاصرًا على خطبة الجمعة، وبعض الأحاديث التي تخضع للعيون الساهرة والمراقبة الدقيقة، وأصبح بعض العلماء يجرون وراء المناصب جريًا تذل له الجباه، ويطلبون المناصب بما لهم من مآثر في الأتباع، وأياد في التصفيق والتأييد.
رابعًا – التعليم والثقافة:
ولا يخفي أن الغزو الفكري، ينتشر من خلال مدارس التعليم ومعاهده وجامعاته أفضل من أي مظهر آخر.
وقد دخل الغزو الفكري إلى العالم الإسلامي، من باب يخيل إلى السطحيين من الناس أنه الباب الطبيعي، إذ حمل اسم العلم والمعرفة والتمدن، يقول القس زويمر:(المدارس أحسن ما يعول عليه المبشرون في التحكم بالمسلمين)(1) .
ومن المعروف أن المسلمين أقبلوا على هذه المدارس بكثرة كاثرة، يزدردون مناهجها، ويلتهمون كل ما احتجنته من عقيدة وفكر، لا يميزون صحيحها من فاسدها، ونفعها من ضرها. (2)
وبما أن الثقافة ليست علومًا ومعارف وأدبًا وفنونًا فحسب، بل مناهج فكر وخلق تصطبغ حياة الأمة بصبغتها في شتى ضروب نشاطها، فإن (الغزو الفكري) استطاع من خلال الثقافة أن يلقي بمزيج من الأخلاط الغربية الملتمسة من الفكر الغريب المنحرف، والتوجيه الفاسدالقائم على التخطيط الشرير (3) .
ولذا قام الغزو الفكري بالدعوة إلى الأغراض الآتية:
1-
الدعوة إلى إضعاف العلاقة بين المسلمين بقطع الروابط الثقافية وإحياء الثقافات الجاهلية.
2-
الدعوة إلى العامية، وإلى تطوير اللغة.
3-
إيجاد الشعور بالتبعية الثقافية، والشعور بمركب النقص.
4-
دفع الجامعات إلى الاعتماد على كتب المستشرقين العلمية.
5-
توهين جهود المخلصين الثقافية والإبداعية.
6-
تمجيد القيم الغريبة، وتسفيه القيم الإسلامية، والدعوة إلى نبذها.
7-
لفت المجتمعات إلى القشور، وإلهائها عما يفيد وينفع.
8-
إحياء المذاهب الفلسفية والجدلية، والبعد عن الأساليب العلمية.
9-
إنشاء الموسوعات التاريخية الإسلامية، وبذر الشكوك ولَيُّ الحقائق فيها.
10-
الحرص على تكوين جيل مثقف يحمل راية الاستشراق والدعوة (4) .
11-
الدعوة إلى تدريس العلوم الطبية وغيرها بلغات غير اللغة العربية، ليظل المسلم عنده إحساس بعجز اللغة العربية لغة القرآن.
(1) محب الدين الخطيب، الغارة على العالم الإسلامي: ص 48، طبعة 1384 هـ
(2)
إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري: ص 13
(3)
انظر: عمر عودة الخطيب، لمحات في الثقافة الإسلامية: ص 167، 168
(4)
انظر: الدكتور توفيق الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية: ص 722
خامسًا – الخدمات الاجتماعية:
والخدمات الاجتماعية مظهر من مظاهر الغزو الفكري، وقد وجد المخططون لغزو العالم الإسلامي، أن الخدمات الاجتماعية طريق يساعد على إمرار ما يراد إمراره من خلال الخدمات الاجتماعية، ولذلك أصبحت الملاجئ، والمستشفيات، والمستوصفات، والجمعيات الخيرية، ووكالات الإغاثة، ودور الأيتام والمسنين، وغيرها.. مراكز غزو!!
ومما يلاحظ أن (الغزو الفكري) لم يقتصر على المظاهر التي ذكرنا بعضًا منها، وإنما كانت هناك خطوات أخري محسوبة ومتعددة على كافة الجهات والطرق، ومن هذه المخططات:
1-
الإرساليات التبشيرية التي قل أن يخلو مجتمع إسلامي منها.
2-
الإعداد الصهيوني والتنسيق بينه وبين الفكر الغربي.
3-
التصنيف والتأليف في المباحث الإسلامية ، واستغلال قصور المسلمين فيها.
4-
إلقاء المحاضرات في الجامعات أو الجمعيات الإسلامية.
5-
إنشاء دوائر المعارف الإسلامية، والمعاجم المختلفة.. وغيرها..
6-
استغلال البعثات العلمية والثقافية.
7-
الامتيازات الأجنبية والحصانات الدبلوماسية واستغلالها.
8-
استغلال الأقليات والطوائف والنعرات.
9-
التعاون بين التبشير والسياسة.
10-
استغلال الحركات الوطنية، والتطلعات السياسية.
11-
استغلال فقر الشعوب، وحاجتها، وعريها، وربط الإحسان بالتبشير.
12-
استغلال العواطف والجوع الجنسي، واستخدامه في خدمة الأهداف.
13-
الرحلات، وجمعيات الصداقة، والدعوة إلى العالمية، والمجتمعات الكشفية.
14-
المساعدات الاقتصادية، وربطها بتسهيلات، وتنازلات معينة.
15-
الدعوة إلى الحوار الحر، مع نبذ العقائد والأفكار، والتجرد للوصول إلى الحقيقة (1) في زعم هؤلاء.
(1) المصدر السابق: ص 723
تيارات الغزو الفكرى
ومما لا يخفى على باحث أو دارس أن الغزو الفكرى لكى يحقق أهدافه من إبعاد الأمة الإسلامية، عن أصالتها، وآدابها اتخذ له منافذ متعددة، وتيارات مختلفة، قد تبدو متباينة، ولكنها تلتقى جميعها في محاربة الإسلام، والمسلمين، ومن هذه التيارات والحركات:
(الاستشراق) ، (التبشير) ، (الصهيونية) ، (الماسونية) ، (أندية الروتاري) ، (العلمانية) ، (القوميات) ، (التغريب) ، (الوجودية)(1) ، (الفوضوية) ، (القاديانية) ، (البابية والبهائية)
…
وغير ذلك.
إن هذه التيارات والحركات، صنعها (الغزو الفكرى) ، ليمر من خلالها إلى الشعوب الإسلامية، وقد استطاعت هذه التيارات أن تثبت أقدامها، وتوطد علائقها، وتقيم معاهدها، ومدارسها
…
وهناك مجتمعات إسلامية – جميع أبنائها مسلمون – بدت فيها ظاهرة لا ينتبه لها إلا أولئك الباحثون، وما أخطر هذه الظاهرة، ظاهرة إنتشار صورة الصليب في أشكال قد لا تلفت النظر لأول وهلة،
فقد يكون الصليب داخل مربع يضئ ليلًا أعلى قمة محل تجارى..
وقد يكون الصليب داخل إطار دائرى تتزين به حجر الاستقبال..
قلت لصديقى الذي تتزين حجرة جلوسه بثلاث من هذه الدوائر: ما هذا؟ قال: لا أدرى – والله – إنها أدوات زينة.
(1) انظر: وراجع كتابنا، التيارات الفكرية والحركات المعاصرة، طبعه دار الطباعة المحمدية بالقاهرة 1412هـ
وقد يكون الصليب داخل إطار كتابى (شعارًا) لإحدى الشركات الكبرى.
وفى بعض المجتمعات الإسلامية لا يستطيع أحد أن يشير إلى أي ظاهرة من ظواهر الغزو الفكرى في المجتمع بأى إشارة كانت،
وهكذا تعيش بعض المجتمعات الإسلامية في ظواهر الغزو الفكرى، ولا أحد يرى، ولا أحد يتكلم، ولا أحد يسمع.
لقد نجحت الحملات التي قامت بها مؤسسات الغزو الفكرى الغربى في تحقيق أغراضها نجاحًا بعيدًا حين ضمت إليها فئات مثقفة من المسلمين، وجعلتها في صفها تحارب الإسلام وثقافته، وأكثر من هذا أن هؤلاء المثقفين صاروا يستنكرون الثقافة الإسلامية إذ تناقضت مع الثقافه الغربية، وصاروا يستمرئون الثقافة الغربية ويتتعشقونها، ويتجهون في الحياة طبق مفاهيمها (1)
لقد أقبل الكثير من المسلمين على ثقافة الغرب يدرسونها ويطبقونها ويتسابقون في الأخذ بها، وأستجاب المسلمون إلى الدعوات العنصرية حتى صارت على لسان الكثيرين، وحتى صارت الإقليمية الضيقة هي المرتكز لأى عمل في أي اتجاه سياسيًّا كان أم أقتصاديًّا أم فكريًّا. إن هناك حربًا تشن على العقائد الموروثة، وعلى المسلمات التي تتصل بالوحى والبعث، وهناك فلسفات مطروحة، ترمى إلى إلغاء القيم الثوابت، إقامة التطور المطلق، وتجاوزنا الروح وإقامة المادة وحدها، وإلغاء الضوابط الأخلاقية والمسؤولية الفردية ،ودعوة إلى رفع الوصاية عن الشباب، بل هناك دعوة صريحة أعلنت خطتها بإخراج العرب والمسلمين من إطارات الدين، ودعوتهم إلى علمنة الذات العربية، وهناك دعوات إلى إعادة طرح الأساطير، والإباحيات في أفق الفكر الإسلامي عن طريق القصة، والمسرح، والصحافة، وهناك دعوات تزين الباطل وتزخرفه ودعوات تحول الشر إلى صور براقة زاهية (2)
(1) انظر: عز الدين الخطيب التميمى وآخرين، نظرات في الثقافة الإسلامية: ص46.
(2)
أنور الجندى شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامى: ص 47 ،48، طبعة المكتب الإسلامي بيروت 1403 هـ
أهداف الغزو الفكرى
لا يمكن أن يتصور عاقل أن الحرب بين الإسلام وأعدائه قد وضعت أوزارها، ولا يمكن أن يتصور عاقل أن أعداء الإسلام قد سكتوا عن الإسلام بعد أن تحالفوا ضد أهل الإسلام فغلبوهم وجعلوا منهم أممًا بعد أن كانوا أمة، وفرقًا بعد أن كانوا وحدة. ولا زال أعداء الإسلام يدبرون لحربه كل يوم وسيلة. ويحشدون للوقوف في وجهة كل يوم قوة، وليس خطر الكلمة والفكرة بأقل من خطر الجندى والسلاح في المعركة الضارية التي يشنها أعداء الإسلام على الإسلام وأهله.
إن هؤلاء الأعداء قد سكتوا عن حرب الجنود والأسلحة، ليشنوا حرب التشويه والتخريب للإسلام: منهجه وتاريخه ورجاله وتراثه ولغته وقرآنه وتحالفوا وتآزروا وابتكروا حديث الوسائل، وخبث التيارات والأساليب، فغزوا المسلمين في قلوبهم، وأفكارهم، وأخلاقهم، وأزيائهم، وشنوا على العالم الإسلامي من الغارات مالا يخفى أمره (1) .
وإن أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء، وليس من الضرورى أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعه دائمًا كالأشياء فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة، ترى في الأفكار سلعة ينبغى أن تتغير كل يوم كما تتغير طرز الأشياء، ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجات الفكر الوارد من الخارج، ماذا يأخذون وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرؤون، ماذا يترجمون؟ ولا شيء أكثر من هذا يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار، دون أن يكون عليهم أن يواجهون أو ينقدوها ، فهم إلى أن يصوغوا نقدًا معينًا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبيًّا يكون الوقت قد فات، وتقاوم بمرور الزمن ما ينقدون، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانًا وأكثر جاذبية وإشعاعًا.
ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف تصدير الأفكار، نظرًا إلى موقعه وخطورة موقفه، ليبقى هذا العالم مفتقرًا إلى الدول المصدرة وليحال بينه وبين أفكاره الأصيلة التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد.
وسوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات، أكثرها تقبلًا للتزييف والإفساد، ومن ثم حفلت أسواقنا بما هو أشد فتكًا من السموم، وأعظم انتشارًا من الهواء، يتخلل كل خلية وينخر في كل بناء، أفكار ترتدى أثوابًا أو تحمل شعارات، أو ترفع مشاعل، ليس الثوب فيها أو الشعار أو المشعل إلَّا قناعا يستر الزيف الخطر (2)
(1) انظر: الدكتور على عبد الحليم محمود، الغزو الفكرى والتيارات المعادية للإسلام: ص 6.5
(2)
انظر: الدكتور عبد الصبور شاهين، مقدمه كتاب الإسلام يتحدى وحيد الدين خان: ص 9.8، طبعة المختار الإسلامى، 1397هـ، الطبعه السابعة، القاهرة
إن الغزو الفكرى الذي يحتاج الشعوب الإسلامية يهدف فيما يهدف إلى:
1-
أن تظل الشعوب الإسلامية خاضعة لنفوذ القوى المعادية لها.. تلك القوى التي تتمثل في عدد محدود من الدول الكبيرة، التي يحمى بعضها بعضا، ويتبادل ساستها الدفاع عن المصالح، التي تهم أي طرف من أطرافها.
2-
أن تظل بلدان العالم الإسلامي خصوصًا، والعالم النامى عمومًا تابعة لتلك الدول الكبيرة المتقدمة تبعية غير منظورة، وفى هذه التبعية يكمن دهاء تلك الدول المتبوعة وذكاؤها، فليس أقتل للشعوب من أن تحس بالحرية والاستقلال بينما هي ترسف في قيود الذل والتبعية. وليس أضيع لمستقبل أمه من الأمم أن تعجز عن أن تخطط لمستقبلها ومصيرها إلا وهى دائرة في فلك دولةٍ كبيرةٍ واهمةً ذاهلةً عن حقيقة ما تعانيه من تبعية.
3-
أن تتبنى الأمة الإسلامية أفكار أمة أخرى من الأمم الكبيرة دون نظر فاحص، وتأمل دقيق، مما يؤدى إلى ضياع حاضر الأمة الإسلامية في أي قطر من أقطارها، وتبديد لمستقبلها، فضلًا عما في ذلك من صرف عن منهجا وكتابها، وسنة ورسولها.. وما يترتب على هذا الصرف من ضياع أي ضياع، إذ لا يوجد مذهب سياسى أو اقتصادى أو اجتماعى يغنى الأمة الإسلامية عن منهجها الإلهى، ونظامها الشامل المتكامل في كل زمان ومكان.
4-
أن تتخذ الأمة الإسلامية مناهج التربية والتعليم لدولة من هذه الدول الكبيرة فتطبقها على أبنائها وأجيالها، فتشوه بذلك فكرهم، وتمسخ عقولهم، وتخرج بهم إلى الحياة وقد أجادوا بتطبيق هذه المناهج عليهم شيئًا واحدًا، هو تبعيتهم لأصحاب تلك المناهج الغازية أولًا، ثم يلبس الأمر عليهم بعد ذلك، فيحسبون أنهم بذلك على الصواب، ثم يجادلون عما حسبوه صوابًا ويدعون إليه، وهم بذلك يؤكدون تبعيتهم من جانب آخر، فيعيشون الحياة وليس لهم منها إلا حظ الأتباع والأذناب.
5-
أن يحول العدو بين الأمة الإسلامية وبين تاريخها وماضيها وسير الصالحين من أسلافها، ليحل محل ذلك تاريخ تلك الدول الكبيرة الغازية وسير أعلامها وقادتها.
6-
أن تزاحم لغة الغالب لغه المغلوب، فضلًا عن أن تحل محلها أو تحاربها بإحياء اللهجات العامية أو الإقليمية، ما دام الإنسان لا يفكر إلا باللغة فإن إضعاف لغة أمة هو إضعاف لفكرها.
7-
أن تسود الأمة المغزوة أخلاق الأمة الغازية وعاداتها وتقاليدها (1) .
8-
تصوير تراث الأمة الإسلامية بصورة التخلف، وعدم قدرته على إمداد الحضارة بشئ مفيد، وأنه لم يكن له فضل على الحضارات التي جاءت بعده.
(1) انظر: الدكتور على عبد الحليم محمود، الغزو الفكرى والتيارات المعادية للإسلام: ص 8-10 بتصرف
9-
إحياء الجوانب الضعيفة في التراث الإسلامي خاصة فيما يتعلق بالخلافات السياسية التي وقعت بين المسلمين أنفسهم، والتركيز على دعوات الحركات الباطنية، وإخراجها بصورة جميلة مضيئة، ووصف هذه الدعوات بأنها كانت تحمل فكرًا عاليًا، وفلسفة عميقة (1) .
10-
إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وإظهار أي دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر.
11-
تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضارى، بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان، ولم يكن العرب والمسلمون إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها.
12-
إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم (2) .
13-
اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين، وصرفهم عن التمسك بالإسلام نظامًا وسلوكًا.
14-
تفريغ العقل والقلب من القيم الأساسية المستمدة من الإيمان بالله، ودفع هذه القلوب عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق الصحافة والمسرح والفيلم والأزياء والملابس.
(1) إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكرى: ص 30
(2)
أنور الجندى، شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامى: ص 18
نقد الغزو الفكري ومواجهته
بعد أن اتضحت لنا أبعاد (الغزو الفكري) وتياراته، وحركاته، التي تعمل ليل نهار، يبقى أمامنا السؤال الكبير: ماذا فعلنا نحن؟ من موقفنا من الغزو الفكري؟ إن جزءًا كبيرًا من الغزو الفكري حركة فكرية هائلة، وما تنتجه هذه الحركة يخصنا نحن المسلمين، ويخص عقيدتنا، ولغتنا، وتراثنا، وتاريخنا، وذاتيتنا.
وإن جزءًا كبيرًا آخر من الغزو الفكري حركة عملية هائلة، تأخذ المواقع، وتسيطر على القلوب.
والغزو الفكري بحركته الفكرية والعملية من أخطر ما نواجه في حياتنا؛ لأن ما يقوم به من أهداف تقوض الدعائم يتعلق بأعمق أعماقنا عقديًّا، وفكريًّا، وحضاريًّا، وليس هناك أمام المسلمين من سبيل إلا المواجهة وقبول التحدي وإثبات الذات وإلا فلسنا جديرين بالحياة.
ولا يخفي على أحد أن السعي إلى إثبات الذات والعمل على مواجهة هذه التحديات والتيارات الغازية دليل صحة، ودليل صحوة..- إذن – لابد من منهج.
والمنهج الصحيح هو أن نواجه الفكر بالفكر، والعمل بالعمل، ولما كان التخطيط الاستشراقي منبعًا لكثير من التيارات، والتحرك التبشيري غزوًا علميًّا للمجتمعات، كان علينا أن نواجه هذين التيارين في قوة وحزم.
أولًا – مواجهة الفكر الاستشراقي:
لا شك أن الاستشراق كان ولايزال يشكل الجذور الحقيقية، التي تقدم المدد للتنصير والاستعمار، والعمالة الثقافية، ويغذي عملية الصراع الفكري، ويشكل المناخ الملائم، لفرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي وإخضاع شعوبه.
فالاستشراق هو المنجم، والمصنع الفكري، الذي يمد المنصرين والمستعمرين، وأدوات الغزو الفكري، بالمواد التي يسوقونها في العالم الإسلامي، لتحطيم عقيدته، وتخريب عالم أفكاره، والقضاء على شخصيته الحضارية التاريخية (1) .
لقد تطورت الوسائل، وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ويكفي أن نشير إلى مراكز البحوث والدراسات، سواء أكانت مستقلة أم أقسامًا للدراسات الشرقية، في الجامعات العلمية، والاختصاصات الدراسية تمثل الصور الأحدث فيتطور الاستشراق، حيث تمكن أصحاب القرار من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يوميًّا (2) .
ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي عشرة آلاف مركز للبحوث والدراسات، القسم الكبير منها متخصص بشؤون العالم الإسلامي، ووظيفة هذه المراكز تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ومن ثم دراسته وتحليله، مقارنًا مع أصوله التراثية التاريخية ومنابعه العقدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار، لتبني على أساسه الخطط، وتوضع الاستراتيجيات الثقافية والسياسية، وتحدد وسائل التنفيذ (3) .
(1) انظر: عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة رقم 27: ص 22
(2)
عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة، عدد 27: ص 9
(3)
عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة، عدد 27 ص 9
وإن الباحث في مؤسسات الاستشراق ووسائله المختلفة يجد أنها استطاعت أن تؤثر في العقلية الإسلامية، فهذه دائرة المعارف الإسلامية تعد أكبر مصدر للمعلومات والحقائق الإسلامية، وأثمن ذخيرة لها، وتعتبرها بعض البلاد الإسلامية اليوم، أساسًا للمعلومات الإسلامية، وتقوم بترجمتها إلى لغاتها بنصها وروحها (1) .
ولقد نجحت العقلية الأوروبية الاستشراقية في فرض شكليتها وآليتها على التحقيق والتقويم والنقد والسيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، ويمكن القول بأن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث، قد سارت على هذا النهج في التاريخ، والأدب، وغيره.. ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، وانتهت إلى إيجاد ركائز عربية معبرة عنها، ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها، حتى في الجامعات، والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية، التي اكتسبها بعض المثقفين العرب، من الجامعات الأوروبية (2) .
وبجانب كل هذا فإن الاستشراق يذهب إلى محاولة إلغاء النسق الإسلامي، ومحاولة تشكيل العقل المسلم، وفق النسق الغربي الأوروبي، وإنجاب تلامذة من أبناء العالم الإسلامي، لممارسة هذا الدور ، والتقدم باتجاه الجامعات والمعاهد، ومراكز الدراسات والإعلام والتربية في العالم الإسلامي لجعل الفكر الغربي والنسق الغربي هو المنهج، والمرجع، والمصدر، والكتاب (3) .
ومما يلحظه الباحث بوضوح أن عمليات الاستشراق والتغريب، لم تستسلم، ولم تلق السلاح، لكن لما أعياها السعي، فبدل أن تقر بفساد نظرياتها، وطروحاتها، وعدم إمكانية القبول لها في العالم الإسلامي، تحاول اليوم أن تعتبر أن المشكلة والعلة في بنية العقل المسلم أصلًا، لتأتي على البنيان الإسلامي من القواعد، وترسب في النفوس أن السبب في التخلف، والعجز، والتخاذل الثقافي، وعدم القدرة على الإبداع، وقبول الفكر الغربي، هو في بنية هذا العقل، وتكوينه، وميراثه الثقافي.
فهو عقل مولع بالجزئية، وعاجز عن النظرة الكلية للأشياء، وهو عاطفي يحب الإثارة والانفعال، ويعجز عن الفعل، وهو محكوم أيضًا بموروث ثقافي، لا يستطيع الفكاك منه، فهو لا يفكر بطلاقة وحرية، لأنه محكوم بوحي مسبق، وهو يقوم على منهج التفكير الاستنتاجي، ويعجز عن التفكير الاستقرائي، وهو معجب بالمنهج البياني، وعاجز عن المنهج البرهاني، وهو يخلط بين الواقع المعاش والمثال الخيالي، وصاحبه يحب الثأر، ويغرق في الملذات، وإن الإسلام الذي يكون هذا العقل هو دين أمر ونهي، وزجر وكبت للحرية، وإلغاء للاجتهاد، الأمر الذي أدى إلى التقليد وفقدان الشخصية، والقدرة على الإبداع (4) .
ولابد أن نعترف بأن الاستشراق يستمد قوته من ضعفنا، ووجوده نفسه مشروط بعجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته، وينهض عن عجزه، ويلقي على كاهله أثقال التخلف الفكري والحضاري، يومها سيجد الاستشراق نفسه في أزمة وخاصة الاستشراق المشتغل بالإسلام، ويومها لن يجد الجمهور الذي يخاطبه، لا في أوروبا، ولا في العالم الإسلامي، ولا يجوز لنا أن ننتظر من غيرنا – أيًّا كان هذا – أن يساعدنا على النهوض من كبوتنا (5) .
وإذا كان علينا أن نضع عن أنفسنا أغلال الوصاية الفكرية فإن علينا من ناحية أخرى أن نتحرر من عقدة التخلف التي تسيطر علينا في جميع مناحي حياتنا والتي تسد علينا منافذ الأمل في الخروج من أزمتنا فقد تحرؤرنا من الاستعمار العسكري ولكننا لم نتحرر من القابلية للاستعمار ، ولهذا فإن نظرتنا لكل ما يأتي من الغرب هي نظرة التقدير والإكبار، حتى وإن كان هذا الذي يرد إلينا متمثلًا في أزياء غريبة عن أذواقنا وتقاليدنا (6) .
وحتى نكون في مستوي الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلًا الغزو الفكري والاختراق الاستشراقي، لابد أن نكون قادرين على امتلاك الشوكة الفعلية.. أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا وتأتي استجابة لها، وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوي الحوار والتبادل المعرفي، فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين والنظر إلى الخارج دائمًا، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل أولًا لملء الفراغ بعمل بناء مستمر، وتحصين الذات (7)
(1) الشيخ أبو الحسن الندوي، الإسلام والمستشرقون، مجلة المنهل، عدد 471: ص 26
(2)
الأستاذ عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة العدد رقم 27: ص 14
(3)
المصدر السابق: ص 16
(4)
المصدر السابق: ص 27، 28
(5)
الدكتور محمد حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص 127، 128
(6)
المصدر السابق: ص 128
(7)
عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة، العدد رقم 27: ص 29
وقد لا يكون المرء مجانبًا للصواب إذا قال: إننا إذا لم نتصد للتيار الاستشراقي بكل قوة فسوف نتعرض للانسلاخ والذوبان لا محالة ، والمعركة بين الاستشراق والإسلام معركة فكرية هائلة، جند لها المستشرقون كل المعاول التي تحاول أن تهزم المسلمين وتبعدهم عن إسلامهم.
وإن الإنسان الذي يتابع النشاط الاستشراقي قد يلحظ بوضوح أن هذا النشاط يمثل قمة التحدي للفكر الإسلامي، وقد يكون معروفا لدى الباحثين:(أن التيارات الفكرية الأجنبية القديمة التي كانت تمثل تحديا للإسلام، والفكر الإسلامي الأصيل، في عصور الإسلام الزاهرة – كانت حافزًا للمسلمين، في تلك الأيام الخوالي للوقوف أمامها بقوة وصلابة (1) .
وقد رأى الإمام الغزالي في عصره أن التيارات الفلسفية يتردد صداها في الأرجاء وأنها تصول وتجول في تحد سافر للفكر الإسلامي والمسلمين ، فلم قف الغزالي موقف المتفرج ولم يسب ويشتم ويصرخ ويولول، ولم يرغب أن يترك الأمر ويقول: لا شأن لي به، ولكنه عزم على خوض المعركة، فأعد العدة، واتخذ لها الأدوات من العلم والمعرفة بما عند هؤلاء.
وقد رأى أن يتقن الفلسفة ويتفرغ لقضاياها ويتعرف على مقاصد الفلاسفة، واستطاع في دقة وإتقان أن يخرج كتابه:(مقاصد الفلاسفة) ، وكان ما قام به هو الخطوة الأولى في منهج المواجهة للفكر الفلسفي، ثم جاءت الخطوة الثانية بعد ذلك، بالكشف عما في (مقاصد الفلسفة) من تناقض للفكر، ومخالفة للمنطق والعقل، وتعثر في المقاصد، فكان كتاب (تهافت الفلاسفة) يمثل قمة المواجهة.
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 124
واستطاع بهذا المنهج النقدي أن يواجه المعركة، ويخوض غمارها، في قوة ودقة، ويقول الغزالي معبرًا عن ذلك المنهج:(ثم إني ابتدأت – بعد الفراغ من علم الكلام – بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا: أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أهل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا، ولم أر أحدًا من علماء الإسلام، صرف عنايته وهمته إلى ذلك)(1) .
وإذا كان الغزالي، قد استطاع أن يواجه الفكر الفلسفي في عصره، فإن الأمر بالنسبة للاستشراق يحتاج إلى جهود أفراد ومؤسسات، فمكتبات العالم مليئة بإنتاج المستشرقين، وبشتى اللغات الإنسانية، وهناك عشرات المجلات ومئات المؤسسات التي ترعى الاستشراق، وتعمل لخدمة المستشرقين، وهناك أيضًا آلاف العلماء والباحثين من المستشرقين الذين يتفرغون لبحوثهم ودراساتهم ، وهناك المؤتمرات الاستشراقية العالمية التي تعقد حسب الحاجة في العواصم العالمية.
ولقد كان لحركات الفكر الاستشراقي منذ القرن الثامن عشر قوة دفع ورواج واستقطاب، أثارت اهتمام رجال الفكر الإسلامي، بما كتبه المستشرقون عن الإسلام في الكتب والمجلات والموسوعات، وعن مصدرية الأساسيين: القرآن الكريم والسنة النبوية، وعن النبي الذي بعثه الله بهذا الدين الحنيف (2) ، ومواجهة التحديات الاستشراقية، ضرورة لابد منها، إن كنا نريد الحفاظ على عقائدنا التي جاء بها الإسلام، وكنا نريد الحفاظ على ذاتيتنا وشخصيتنا ، ومواجهة الاستشراق في مجال العقيدة الإسلامية وغيرها يحتاج – كغيره – إلى بذل جهود صادقة ومخلصة لرد هذه الطعون المفتراة، حتى لا يأتي زمن نجد أنفسنا فيه بألسنة غير ألسنتنا، نردد ما يقوله المستشرقون دون وعي أو دون أن نحس أننا مسلمون لنا عقائدنا وشخصيتنا.
(1) الإمام الغزالي، المنقذ من الضلال: ص 92، تقديم الدكتور عبد الحليم محمود، طبعة دار الكتاب اللبناني، بيروت 1985 م
(2)
الدكتور التهامي نقرة، القرآن واالمستشرقون: ص 21، من كتاب (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية – الجزء الأول) طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض 1985 م
ومنهج نقد الاستشراق في مجال العقيدة الإسلامية وغيرها مما تناوله الاستشراق لابد وأن يقوم من وجهة نظرنا على الأصول الأساسية التالية:
أولا: استيعاب شامل للإنتاج الاستشراقي في مختلف المجالات الإسلامية، وهذا الاستيعاب لابد منه، ومن حق الأمة الإسلامية، أن يعرف أبناؤه ما يقوله الآخرون عنها، في عقائدها وغير عقائدها، ليكون أبناء الأمة على بينة مما يقوله - أو يتقوله - هؤلاء المستشرقون.. ويلزم هذا الاستيعاب الشامل تحقيق الأمور التالية:
1-
القيام بحصر شامل لكتاب المستشرقين في المجالات المختلفة في القرنين التاسع عشر والعشرين بصفة أساسية باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية والإيطالية والروسية ، ويشمل هذا الحصر الكتب والمجلات والدوريات.
والقيام بعملية حصر هذه الأعمال الاستشراقية يحتاج إلى خبراء وعلماء مسلمين متخصصين، ويحتاج إلى عدد من المساعدين في مجال كل لغة نأخذ منها.
2-
لابد من توفير كل الأعمال الاستشراقية، المشار إليها، عن طريق الشراء، إذا كانت متوفرة، أو عن طريق التصوير إذ لم يمكن شراؤها، وتشكل هذه الأعمال مكتبة استشراقية تكون تحت أيدي الخبراء والعلماء.
3-
يقوم جهاز متعاون من الخبراء في اللغات المختلفة بتحضير المادة وتصنيف الموضوعات، وضم المادة التي يتكرر الحديث عنها في لغات مختلفة تحت موضوع واحد.
4-
تقدم المادة للعلماء الذين سيقومون بإعداد النقود العلمية، ويراعى عند تقديم المادة للعلماء أن تترجم لهم الأفكار الأساسية للقضايا المعروضة، ليكون عند العلماء تصور شامل لكل ما قيل حول القضية المطروحة، وحتى يغطي التناول للموضوع وجهات النظر التي قيلت فيه (1) .
5-
تذكر مع المادة التي تقدم للعلماء أسماء المستشرقين الذين تناولوها وأزمنتهم وبيئاتهم، والدوافع وراء مقولاتهم.
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 134، بتصرف وإضافة واختصار
6-
العمل على بيان المصادر التي اعتمد عليها المستشرقون في كتاباتهم عن قضايا المسلمين، وهل هي مصادر إسلامية أصيلة في الموضوع، أم مصادر غير إسلامية؟ لأن بعض المستشرقين يعتمد على ما ذكره المستشرقون السابقون كمصدر أساسي دون الرجوع إلى كتب المسلمين.
7-
بيان المنهج الذي التزم به هؤلاء الكاتبون في العقائد والشرائع والتاريخ والحضارة والسيرة؛ لأن بيان مناهج المستشرقون سوف يكشف لنا عن أخطاء جسيمة في المنهج والنتائج، والدارس لمقولات المستشرقين في العقائد الإسلامية وغيرها يجد في هذه الكتابة تغربًّا عن المسلمات، وخروجًا صريحًا على البداهات، وما يمكن اعتباره محاولات متعمدة لإصابة هذه المسلمات والبداهات بالجروح والكسور، وهي لن تفعل فعلها في يقين المسلم إلا في حالات معينة، بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمها إلى الاشمئزاز والنفور.
هذا مع أن معالجة واقعة تمتد جذورها إلى عالم الغيب وترتبط أسبابها بالسماء ، ويكون فيها الوحي همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله الكريم، ويتربى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكون تعبيرًا حيًّا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعده مواقع كهذه؛ لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرات والعناصر في مختبر الكمياء ، أو كما تعامل الخطوط والزوايا والمساحات على تصاميم المهندسين، بل ولا كما تعامل الوقائع التاريخية التي لا ترتبط بأي بُعد ديني أصيل. (1)
(1) الدكتور عماد الدين خليل، المستشرقون والسيرة النبوية: ص6، طبعة دار الثقافة بالدوحة 1410 هـ 1989 م
إننا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثرات تند عن حدود مملكة العقل، وتستعصي على التحليل المنطقي الاعتيادي المألوف، ومن ثم فإن محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف، ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينًا ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينًا آخر فحسب، بل إنه يقوم بما يمكن اعتباره جريمة قتل بشكل من الأشكال، أو محاولة لتفحص الجسد البشري، كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدًا عن تأثيرات الروح وتعقيدات الحياة (1) .
وإن الدين والغيب والروح والوحي والقضاء والقدر، وما اتصل بهذا من أمور العقائد ليس بمقدور الحس أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلا بمقدار، وتبقى المساحات الأكثر عمقًا وامتدادًا بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل والمنطق.
ثانيًا: نقد المنهج الذي التزم به المستشرقون في معالجة قضايا العقيدة الإسلامية، ونقد المنهج هو خطوة حاسمة وضرورية قبل البدء في نقد ما جاء من أخطاء وافتراءات في مجال العقيدة؛ لأن: (مناقشة أي من المستشرقين على مستوى التفاصيل والجزئيات، لا تغني شيئًا لأنها ستكون بمثابة نقد موقوت يتحرك على السطح، ويستهلك نفسه في الجزئيات دون أن يبحث عن الجذور العميقة التي تظل تنبت الشوك والحسك.
والجذور العميقة هي المنهج الخاطئ الذي تقوم عليه أبحاث هؤلاء المستشرقون، فإذا استطعنا أن نضع أيدينا على عيوب المنهج وشروخه استطعنا معرفة المنبع الذي يتمخض عنه تيار الأخطاء الموضوعية، وخلخلة الأسس التي جاءت بهذه الثمار المرة، واقتلاعها (2) .
(1) المصدر السابق: ص6
(2)
المصدر السابق: ص8
ثالثًا: نقد الأخطاء التي وقع فيها المستشرقون في مجال الإسلاميات ، وعملية نقد هذه الأخطاء والمزاعم تقتضي منا عرض الشبهات والمقولات، ونقدها نقدًا علميًّا بعيدًا عن النزعات الهجومية حتى يكون لهذا العمل العلمي أثره الإيجابي لدى المثقفين من المسلمين وغير المسلمين.. وحتى يكون كذلك دافعًا للمستشرقين إلى إعادة النظر في أقوالهم وعونًا لهم على تصحيح اتجاهاتهم، وفي النهاية يكون هذا العمل بمثابة تعريف بالإسلام، لكل راغب في التعرف عليه (1) .
ولا يخفى أن العمل العلمي القائم على النقد السليم يحمل العمل البنائي الذي يأخذ بالناس جميعًا إلى العلم والمعرفة، والعملية النقدية الهادفة جديرة بالممارسة والمتابعة لإثراء الفكر الإنساني بكل حق وبكل مفيد.
والنقد المطلوب لشبهات وأخطاء المستشرقين لابد وأن يتجاوز الدفاع المتشنج إزاء كل ما طرحه أولئك الذين تخصصوا في الاستشراق.
رابعًا: إبراز ما ردده بعض المستشرقين في نقدهم لمستشرقين آخرين، فإن هذه النقود العلمية التي ذكرها المستشرقون لها دلائلها، وقد تكون أبلغ في باب النقد والتصدي والمواجهة، وما أكثر ما جاء عن المستشرقين في باب النقد، إن ما ذكره بعض المستشرقين في هذا الباب، يشكل ثروة مفيدة، وليس من الكياسة أن نبتعد عن المنصفين.
خامسًا: إثبات أن المصادر التي اعتمد عليها رجال الاستشراق غير أصيلة في الموضوع، وقد رأى الباحثون أن المستشرقين قد يرجعون إلى آراء مستشرقين سابقين قد أعماهم التعصب فنفثوا سمومهم فيما كتبوه، وبعضهم يرجع إلى مصادر لا تتصل بالعقيدة الإسلامية من قريب أو بعيد، وبعضهم يعتمد على كتاب ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وغيرهما من الكتب التي تجري مجراهما.
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 132
سادسًا: يحسن أن تحاط النقود بيان ما وقع فيه بعض المستشرقين من أخطاء علمية، أو لغوية، أو تاريخية، عن جهل، أو عن سوء فهم وضيق نظر أو عن شطط في الافتراضات (1)
سابعًا: أن تقوم النقود التي توجه إلى الاستشراق على منهج يضم الأدلة العقلية والأدلة النقلية؛ لأن نقد الاستشراق هو بالدرجة الأولى للمسلمين حتى لا يخدعوا بهذه البحوث والدراسات التي تصل عن طريق الاستشراق، وحتى لا ينبهروا بهذا التيار.
كما أن نقد الاستشراق هو للمستشرقين وقد لا يعترفون بالدليل النقلي، فكان لابد من الدليل العقلي المقنع، الذي يجعلهم يفكرون كثيرًا، قبل أن يقدموا على تناول ما للمسلمين بغير المراد.
ثامنًا: أن تكون النقود التي توجه إلى الاستشراق شاملة لآراء السلف والخلف، في مسائل العقيدة من الأسماء والصفات، والتشبيه والتأويل، والقضاء والقدر، والحرية والجبرية، وقضية الألوهية والإسلام والإيمان، والنبوة والرسالة، والوحي والمعجزة، والبعث وما جرى مجرى هذا من مسائل العقيدة.
ومواجهة الفكر الاستشراقي بما ذكره السلف والخلف فيه تضييق وحصار لآراء المستشرقين.
تاسعًا: لابد من تفرغ عدد كبير من علماء الأمة الإسلامية المتخصصين والذين لهم اتصال بالبحوث والدراسات الاستشراقية للقيام بهذه النقود العلمية واستخراجها على ما ينبغي.
عاشرًا: أن تتوفر لهذا العمل الجدية والجهود المخلصة، لتتمكن الأمة من المواجهة والعمل.
وهناك أعمال أخرى تتصل بمنهج نقد الاستشراق وهي ضرورية ليكون هناك تكامل وحسم في المعالجة.
(1) الدكتور التهامي النقرة، القرآن والمستشرقون، مناهج المستشرقين: 1/ 22
ونذكر من تلك الأعمال ما يلي:
1-
أن يصاحب النقود التي توجه للاستشراق عمل موسوعة الرد على المستشرقين، وموسوعة الرد شاملة لكل ما تناوله الاستشراق، وفي هذا يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق:(إن المواجهة الفكرية الجادة هي الطريق الصحيح لمواجهة أية تيارات مناوئة للإسلام والمسلمين، ومن أجل ذلك ينبغي أن ننظر إلى حركة الاستشراق بكل جدية، ونأخذ في الحسبان أن لها آثارًا كبيرة على قطاعات عريضة من المثقفين في العالم الإسلامي في العالم الغربي على السواء، ولهذا لابد من التوفر على دراسة الاستشراق دراسة عميقة، ولما كان الفكر الاستشراقي مكتوبًا بشتى اللغات الحية ومنتشرًا انتشارًا واسعًا على مستوى عالمي، فمواجهته لابد أن تكون على المستوى العالمي نفسه)(1) .
وقد دعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وفي القاهرة في نهاية عام 1979 م إلى ندوة لمناقشة موضوع إعداد (موسوعة للرد على المستشرقين) وقد حضر الندوة عدد يزيد على عشرين من العلماء والمفكرين المهتمين بهذا الموضوع، وقد أعدت التقارير وقضي الأمر ونامت الفكرة. (2)
ولا يفوت الباحث أن يذكر أن (موسوعة الرد على المستشرقين) تختلف عن (منهج نقد الاستشراق في مجال العقيدة والسنة وغيرهما) لأن الموسوعة شاملة للفكر الإسلامي.
2-
لابد من عمل دائرة معارف إسلامية، يقوم بعملها العلماء المسلمون (مشروع إصدار دائرة معارف إسلامية) من بين الأولويات العلمية الملحة، فلا يجوز أن نظل نقتات فكريًّّا من دائرة المعارف الإسلامية التي قام بإعدادها المستشرقون قبل الحرب العالمية الثانية؛ فقد تجاوزها المستشرقون وانتهوا منذ بضع سنوات من إصدار دائرة معارف إسلامية جديدة، وواجبنا نحن المسلمين أن نقوم بإصدار دائرة معارف إسلامية باللغة العربية واللغات الأوروبية تكون على الأقل في مستوي دائرة المعارف الإسلامية في شتى فروع الدراسات الإسلامية والعربية إلى المسلمين وغير المسلمين على السواء. (3)
(1) الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص 131
(2)
الدكتور محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص131
(3)
المصدر السابق: ص142
وقد لا يكون المرء مجانبًا للصواب إذا عرف أن تقاعس المسلمين حتى اليوم عن عمل (دائرة معارف إسلامية) يدل على الضعف، الذي يدب في النفوس، وأن مؤتمرات العلماء المسلمين، وقراراتهم تمثل مظاهرة صاخبة هاجت وماجت ثم نامت.. إن مشكلتنا أننا نتكلم أكثر مما نعمل، وإن شئت فقل: إننا نتكلم ولا نعمل.
ومهمتنا لنواجه الاستشراق أن نعمل على إصدار عدة موسوعات ودوائر معارف في التاريخ والعقائد والأدب والأخلاق والفقه والحديث ومختلف العلوم والفنون؛ لأن المعركة فكرية قوامها انتشار الكلمة.
3-
من الضروري لمؤازرة منهج نقد الاستشراق في الأمور التي خاض فيها أن تكون هناك دوريات ومجلات ونشرات بمختلف اللغات تتناول ما يتصل بمواجهة الاستشراق لمحاصرة الفكر الاستشراقي، وصد هجومه والوقوف أمام زحفه.
4-
من الضروري لنجاح التصدي لسوء ما جاء عن بعض المستشرقين أن تكون هناك مؤسسات علمية وأكاديمية ودعوية، ترعى شؤون النقد والمواجهة وإعداد الدوريات والمجلات والمؤتمرات.
وفي إمكان الأمة الإسلامية أن تُوجِد الهيئات العلمية العالمية، وتهيئ الأجواء المناسبة التي تكفل نجاح المواجهة، والتصدي للزحف الاستشراقي، وذلك أن أمتنا الإسلامية حباها الله سبحانه وتعالى بأعظم النعم، كما بها من الجامعات ما يمكن من وجود آلاف العلماء المتخصصين في مختلف العلوم والفنون..
5-
أن نمد يد الصداقة والمودة للهيئات الاستشراقية العالمية، وأن يكون لنا دور بالمشاركة في المؤتمرات الاستشراقية التي تعقد في مختلف العواصم العالمية.
وهذه المشاركة لها أثر إيجابي في نفوس المستشرقين، فقد تجعل المستشرقين يشعرون بأننا لسنا منعزلين، وإننا نريد أن نفهمهم: من نحن، ومن نكون؟ ومن الكياسة أن ندعو بعض المستشرقين المنصفين لفكرنا وتراثنا إلى مؤتمراتنا ونداوتنا.
6-
أن تقيم كل جامعة في مجتمعات الأمة الإسلامية معهدا للدراسات الاستشراقية، يمنح الدارسون في هذا المعهد درجات علمية عالمية، وقد لا يتصور الإنسان أن الأمة الإسلامية - وقد تعددت جامعاتها المختلفة - لم تعمل بعد على إنشاء معاهد أو أقسام للدراسات الاستشراقية، في حين أننا نجد أنه ما من جامعة في أوربا أو أمريكا إلا وملحق بها معاهد وأقسام لدراسة الإسلام والمسلمين حتى أصبحنا بحركاتنا وسكناتنا واقعين تحت سيطرة وأقوال وآراء الاستشراق.
7-
أن تعمل كل جامعة وكل معهد وكل مؤسسة على تفرغ عدد معين من أساتذتها للدراسات الاستشراقية في مواضع محددة.
8-
أن يكون هناك تنسيق وتخطيط بين المؤسسات الإسلامية وتكامل في الموضوعات المطروحة.
وبهذه الأعمال العلمية نستطيع أن نتصدى للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، وبهذه الأعمال العلمية نستطيع أن نكشف في وضوح أن جهود المستشرقين لا تستند على حجة ولا عقل ولا منطق، بل هي جهود مغرضة الهدف منها النيل من الإسلام وأهله، وقد اتسمت هذه الجهود بالكذب والافتراء والمغالطة.
ومن يتصفح كتب المستشرقين وموسوعاتهم ودوائرهم.. يجد مئات من الاتهامات والأباطيل، وآلاف التخريجات التي لا صلة لها بالعلم.
وإذا كان المسلمون يظنون أنهم في صحوة إسلامية ووعي إسلامي، فإن من مبادئ الصحوة الإسلامية وأولياتها: مواجهة الاستشراق والمستشرقين حتى لا يأتي وقت تكون فيه هذه الصحوات إرادة استشراقية وتجارب مرادة تجعل المسلمين يهتمون بالأشكال والقشور وكل من شأنه أن يبعث على الجمود والتأخر والتخلف.
ثانيًا: مواجهة التبشير:
كلمة (التبشير) من الكلمات التي أطلقت على المنظمات الدينية النصرانية التي تستهدف نشر الديانة النصرانية في المجتمعات الإسلامية والوثنية والإلحادية.
ومما يجدر أن نعرفه أن البعض من الدارسين والباحثين يستعملون في بحوثهم التي تتصل بنشر النصرانية كلمة (التنصير) بدلًا من كلمة (التبشير) ؛ لأن كلمة التبشير في المعاجم تعني: الخبر الذي يفيد السرور، والبعض الآخر يستعملون كلمة (التبشير) لأن كلمة التبشير هي لسانهم وعقيدتهم، ونحن نستعمل في بحوثنا كلمة الاستعمار والشيوعية والاشتراكية والعلمانية والديمقراطية كما ذكرها أصحابها، ولا مانع أن نذكر كلمة التبشير كما جاءت.
والتبشير – كما تذكره الموسوعات – حركة دينية سياسية استعمارية بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية في الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة، وبين المسلمين بخاصة، بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب.
ويعتبر المبشر (ريمون لول) أول نصراني يتولى التبشير بعد فشل الحروب الصليبية في مهمتها، إذ أنه قد تعلم اللغة العربية بكل مشقة، وأخذ يجول في بلاد الشام مناقشًا علماء المسلمين، ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي وأثناء الاكتشافات البرتغالية دخل المبشرون الكاثوليك إلى إفريقيا، وبعد ذلك بكثير أخذت ترد الإرساليات التبشيرية البروتستانتية إنجليزية وألمانية وفرنسية.
وقد اهتمت الكنيسة بتوجيه الجهود إلى التبشير في المجتمعات الإسلامية، تريد أن تقتلع الإسلام من نفوس المسلمين، أو تبعد المسلمين عن الإسلام حتى يمكن أن يعتز الإنسان بالقومية أو الحزبية أو الاشتراكية، أو ما جرى مجرى هذا دون أن يفكر في الإسلام.
ويكاد يجمع المبشرون فيما بينهم على أن القوة التي تخيف أوروبا وأمريكا هي قوة الإسلام والمسلمين، ولذا يعمل التبشير بكل ما يملك على تمزيق الأمة الإسلامية، ويصرح المبشر لورانس براون: بالهدف الحقيقي للمبشرين من عملهم في بلاد المسلمين فيقول: (إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصحبوا لعنة على العالم وخطرًا، أو أمكن أن يصبحوا أيضًا نقمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير) .
ويعبر القس صمويل زويمر عن النوايا السيئة التي تحملها النصرانية للإسلام والمسلمين، فيقول:(لا ينبغي للمبشر المسيحي أن يفشل أو أن ييأس ويقنط عندما يرى أن مساعيه لم تثمر في جلب كثير من المسلمين إلى المسيحية، لكن يكفي جعل الإسلام يخسر مسلمين بذبذبة بعضهم، عندما تذبذب مسلمًا وتجعل الإسلام يخسره تعتبر ناجحًا يا أيها المبشر المسيحي، يكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هذا المسلم مسيحيًّا) .
وصمويل زويمر رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين ورئيس جمعيات التنصير في الشرق الأوسط، كان يتولى إدارة مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية التي أنشأها سنة 1911 م، دخل البحرين عام 1890م، ومنذ عام 1894 م قدمت له الكنيسة الإصلاحية الأمريكية دعمها الكامل، وأبرز مظاهر عمل البعثة التي أسسها زويمر كان في حقل التطبيب في منطقة الخليج، ويعد زويمر من أكبر أعمدة التنصير في العصر الحديث، وقد وضع كتابًا تحت عنوان (العالم الإسلامي اليوم) جاء فيه:
1-
يجب إقناع المسلمين بأن النصارى ليسوا أعداء لهم.
2-
يجب نشر الكتاب المقدس بلغات المسلمين لأنه أهم عمل مسيحي.
3-
تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها.
4-
ينبغي للمبشرين ألا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة؛ إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين.
ويقول صمويل زويمر في مؤتمر القدس التنصيري عام 1935 م: (لكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريمًا، وإنما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها) .
ويقول أيضًا: (إنكم أعددتم نشئًا لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي فقد جاء النشء طبقا لما أراده الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهوة، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوة يجود بكل شيء) .
إن المبشرين كانوا يخططون لاختراق مجتمعات المسلمين في دقة وخبث ودهاء، فالمبشر لويس ماسينيون قام على رعاية التبشير والتنصير في مصر، وكان عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما أنه كان مستشارًا لوزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال إفريقيا، والمبشر (دون هك كري) كان أكبر شخصية في مؤتمر لوزان التبشيري، وهو بروتستانتي عمل مبشرًا في الباكستان لمدة عشرين سنة.
ولقد كان للمبشرين ولا يزال الكثير من المؤتمرات الإقليمية والعالمية التي يناقشون فيها خطط التبشير واتخاذ ما يرونه مناسبًا لهم، ومن تلك المؤتمرات المؤتمر التبشيري العالمي في أدنبره باسكتلنده عام 1328/ هـ- 1910م، وقد حضره مندوبون عن 159 جمعية تبشيرية في العالم، ومن أخطر المؤتمرات مؤتمر كولوراداو في 15 أكتوبر 1978 م، تحت اسم (مؤتمر أمريكا الشمالية لتنصير المسلمين) حضره مائة وخمسون مشتركًا يمثلون أنشط العناصر التنصيرية في العالم، استمر لمدة أسبوعين بشكل مغلق، وانتهى بوضع استراتيجية بقيت سرية لخطورتها.
وما أكثر مؤتمرات التبشير التي تعقد في أماكن متفرقة حسب الحاجة لعرقلة جهود المسلمين واقتلاعهم من الإسلام، ويتخذ المبشرون وسائل وأساليب متعددة تحيط بالإنسان ومن وسائلهم التطبيب، والتعليم والأعمال الاجتماعية والفتن والحروب، يقول الدكتور نجيب الكيلاني:(إن روح التعصب الأعمى ضد كل ما هو إسلامي لم تزل سائدة حتى أيامنا هذه، تلك الروح التي غذاها المبشرون، ورجال الدين من معتنقي الصليبية القديمة) .
وإن الباحث في أساليب التبشير التي أحاطت بالمسلمين يجد أن هذه الأساليب أضرت بالمجتمعات الإسلامية، وأصبحت عاملًا معوقًا لكل تقدم إسلامي، وقد نجح التبشير في مواقع كثيرة؛ لأن إمكاناتهم هائلة ويتحملون ويعلمون ويصيرون ويخططون ويتربصون، وإذا كنا تنبهنا أخيرًا إلى الأخطار المحدقة بالمسلمين من جانب المبشرين، فإن تنبهنا لم يأخذ بنا إلى الطريق السليم، وليس من الكياسة أن نكتفي بإنشاء مراكز للدعوة هنا وهناك، إن الأمر يقتضي قبل مراكز الدعوة أن نكون أقمنا الملاجئ والمستشفيات والمدارس والمعاهد ومؤسسات الإغاثة والإعاشة.
المواجهة الصحيحة تقتضي عملًا يُعمل لا كلامًا يقال: إن المبشرين يعملون ونحن لا نعمل، وإذا رغبنا في مواجهتهم لإنقاذ إخواننا المسلمين فلابد وأن يكون عملنا أزيد من عملهم، وتحركنا أسرع من تحركهم.
وإن المواجهة تحتاج إلى تخطيط وتنظيم واتساع المواقع، والتعرف الدقيق ، فإذا ما فعلنا ذلك كان ذلك بداية في طريق طويل.
أما أن نترك المسلمين في قارة إفريقيا وآسيا وغيرهما تفترسهما النصرانية فإن ذلك أمر بالغ الخطورة.
وإذا كان للتبشير مؤتمرات دولية ومعاهد علمية وجمعيات تبشيرية، فلماذا لا تكون للمسلمين مؤتمرات للدعوة والمواجهة.
وهنا ربما يقول قائل: للمسلمين مؤتمرات للدعوة كثيرًا ما سمعنا وقرأنا عنها، نعم للمسلمين مؤتمرات، ولكن الناس يجتمعون فيها لينفضوا، فهي تساوي مظاهرة في الشارع، فيها تصفيق وكلام، ثم يدخل كل واحد بيته.
نحن نريد مؤتمرات لا تكون توصياتها وقراراتها حبرًا على ورق وإنما نريد عملًا يعمل في دقة وتخطيط وسرية.
إن المجتمعات الإسلامية تعاني من التسلط التبشيري في الصحافة وسائر وسائل الإعلام ووكالات الأنباء ، وتعاني في البيت وفي الشارع وفي أمور كثيرة، قد يعرفها البعض ويسكت، وما أكثر الساكتين لأنهم لا يملكون أن يقولوا شيئًا، إنك ترى برنامجًا في التليفزيون ينطلق من دولة إسلامية عربية فيشدك إلى مزارع وحدائق خضراء بأندونيسيا ومستشفيات ومدارس أخذت بيد الأندونيسي يقال عنها أنها: (من صنع وإدارة وأعمال الكنيسة الكاثوليكية، هكذا تسمع وترى، ولا يخفى أن هذه الدعاية التبشيرية نصرانية، ومن الغريب والعجيب أنك تري في أسواق الصحافة في بعض البلاد الإسلامية ما هب ودب، وهو وهي، من المجلات والصحف، وتمنع من الدخول والوصول لبعض المجلات والصحف الإسلامية، لماذا؟ لأنها إسلامية، وكل ما هو إسلامي يقض مضاجع المبشرين، ومن المؤلم حقًّا أنك تجد عند باعة الصحف مئات المجلات في كل التخصصات ما عدا الإسلام، فمجلاته قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة. ويبدو أن هذا ربما تكون وراءه أجهزة تبشيرية، حتى لا يكون هناك التأثير الذي يمنع من التأثر بالتبشير، إن أمتنا الإسلامية مطالبة بأن تتبصر العواقب وتتعرف على خطواتها بحكمة وتدبر قبل أن يتسع الخرق على الراقع.
إن التبشير نجح في تنصير البعض، ونجح في أنه جعل المسلمين في موقف المدافع وهو موقف المهزوم، فهل نتدارك هذه المواقف، ونتخطاها إلى موقف المواجهة؟
أولًا: علينا أن ندرك تمامًا أن هؤلاء لا يبشرون بدينهم وعقائدهم أو يعملون على تحويل المسلم عن الإسلام، إلا في حالة إدراكهم أن المسلمين غير مهتمين بالإسلام سلوكًا وتطبيقًا، ومن هنا كان علينا أن تكون مواجهتنا لتبشير عملًا يُعمل ويهتم إنشاء المدارس والمستوصفات والملاجئ ورعاية الأيتام واللقطاء والمسنين، ويصاحب ذلك توعية إسلامية وتبشيرية بالإسلام.
ثانيًا: إن ما يقوم به التبشير النصراني في إفريقيا والمجتمعات الإسلامية المختلفة من بناء المستشفيات الخيرية والمدارس وغيرها مما يقدم للإنسان هو عمل خيري في الدرجة الأولى، لأن الإنسان في مثل هذه المجتمعات في حاجة إلى من يقدم له يد العون أو المساعدة بالعلم والخبز والعلاج، فإذا ما أراد المسلمون المواجهة العملية فعليهم أن يعلموا مثل ما يعمل المبشرون ويزيدون عليهم.
ثالثًا: يجب أن يدرك المسلمون أن التبشير يملك إمكانات هائلة: مادية وبشرية، فمواجهتنا للتبشير يجب أن تتوافر لها الإمكانات المادية والطاقات البشرية.
رابعًا: لابد وأن نواجه التبشير من خلال مخطط دقيق، ينفذ بحكمة وبصيرة، توزع الأدوار ليكون هناك التكامل الواعي.
خامسًا: يصاحب ذلك كله هجوم ونقد للأفكار الغربية والتبشيرية، لننتقل من مرحلة المواجهة – (الدفاع) – إلى مرحلة الهجوم والنقد.
ثالثًا: وإذا كنا عرفنا كيفيه مواجهة الاستشراق، وكيفية مواجهة التبشير – وهما أصلان رئيسيان لكل أدوات الغزو الفكري وتياراته في المجتمعات الإسلامية – فإن هذه المواجهة لا تتم إلا إذا قامت أجهزة الإعلام في الشعوب الإسلامية بأمرين.
الأمر الأول: أن تقف أجهزة الإعلام من (صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، ومسرح، وسينما، وفيديو) عن تقديم أي شيء يتنافى مع مبادئ الإسلام، لأنه لا فائدة من مواجهة الفكر الاستشراقي والتبشيري في الوقت الذي نجد فيه أجهزة الإعلام، تمور بكل ما هو مخالف للإسلام من عري وخلاعة وتقاليد غريبة.
الأمر الثاني: أن تواكب مؤسسات مؤسسات الإعلام هذه المواجهة، فتتناولها وتقف من ورائها، وتعمل على مساعدتها بالتوجيه.
وقد لا يكون المرء مجانبًا للصواب إذا تأكد لديه أن مؤسسات الإعلام في بعض المجتمعات الإسلامية قد نجح الاختراق الاستشراقى والتبشيري في الوصول إليها عن طريق عملائه الذين يديرون شؤونها، ولذا كان لابد من تطهير مؤسسات الإعلام من هؤلاء العملاء الذين وقعوا فريسة الغزو الفكري وتربوا في مدارسه ومعاهده.
رابعًا:
أن تتوجه النقود إلى أي أثر من آثار (الغزو الفكري) الموجود بالمجتمعات الإسلامية دون مجاملة لهذه المجتمعات، وأقول هذا لأن كل مجتمع إسلامي يحب أن يمدح فقط، وقد يكون فيه البلاوي ما فيه.
ومشكلتنا: أننا نفرح بالمدح، ويجامل بعضنا بعضا على حساب ما يمس شخصيتنا وإسلامنا، يجب أن نضع في الحساب أن أي مجتمع إسلامي هو مجتمعنا دون عنصرية أو إقليمية أو قومية أو حزبية، وبهذا نستطيع أن نتمكن من المواجهة، وتقديم النصيحة.
خامسًا:
لابد وأن تتجه جهود المصلحين في المجتمعات الإسلامية إلى التربية لأن المبادئ الإسلامية بمفاهيمها الأساسية ومناهجها التربوية تصنع شخصية متميزة لها سماتها وغاياتها الخاصة.
ولعل أخطر ما أستهدفه الغزو الفكرى في برامجه التخريبية هو هدم شخصيتنا الإسلامية: عقديًّا، وثقافيًّا، وسلوكيًّا، وعاطفيًّا....
ولعل معاول (الغزو الفكرى) التي أصابت الكثير لم تؤثر إلا من جراء إنعدام الشخصية الإسلامية ، ولهذا كان لابد من اتجاه فريق من المصلحين إلى التربية الأجيال تربية إسلامية تتولى المسؤولية والإدارة.
• تربية تجعل الإنسان إيجابيًّا يعيش في حركة فكرية، ونفسية، وجسدية، بناءة بعيدا عن السلوك التخريبى
…
رافضًا التحجر والجمود
…
لا يرضى بالسلوك الإنسحابى الذي يتهرب من نشاطات الحياة، ويبتعد من مواجهة الصعاب.
• تربية تؤهل الإنسان للعطاء، وتنمى فيه القدرة على الإنتاج والإبداع بما تفتح له من آفاق التفكير والممارسة.
• تربية تعد الإنسان إعدادًا إنسانيًّا ناضجًا لممارسة الحياة بالطريقة التي يرسمها ويخطط أبعادها الإسلام، لأن الحياة في نظر الإسلام عمل وبناء وعطاء وتنافس في الخيرات.
• تربية تجعل الشخصية الإسلامية شخصية متزنة، لايطغى على موقفها الإنفعال، ولا يسيطر عليها التفكير المادى، ولا الانحراف المتأتى من سيولة العقل وامتداد اللامعقول.
• تربية تبنى الإنسان على أساس وحدة فكرية وسلوكية وعاطفية متماسكة.. على أساس من التنسيق والتوافق الفكرى والعاطفى والسلوكى الملتزم، الذي لايعرف التناقض ولا الشذوذ.
• تربية تجعل الإنسان المسلم يشعر دومًا أنه مسؤول عن الإصلاح، وأنه يجب عليه أن ينهض بمسؤوليته، ويقود نحو شاطئ العدل والسلام.
• وإن أمتنا تتطلع إلى غد مشرق، والتطلع يحتاج إلى علم وعمل وجهود بناءة تكون علامات مضيئة في الطريق.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح
المصادر والمراجع
1-
ابن نبي
مالك: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، ط. دار الإرشاد، بيروت، 1969م.
2-
أسد.
محمد الإسلام على مفترق الطرق، ط. دار العلم للملايين، بيروت 987م
3-
البهى
الدكتور محمد البهى: الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامى، ط. دار الفكر 1972م
4-
التميمى وآخرين.
عز الدين الخطيب التميمي: نظرات في الثقافة الإسلامية، ط. دار الفرقان، عمان 1404هـ.
5-
الجندي.
أنور: إطار إسلامي للفكر المعاصر، ط.المكتب الإسلامي، 1980م، بيروت.
6-
الجندي
أنور: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، ط. المكتب الإسلامي 1403هـ.
7-
الجندي
أنور الجندي: المد الإسلامي في القرن الخامس عشر، ط. دار الاعتصام بالقاهرة، 1982م.
8-
حسن
محمد أمين حسن: خصائص الدعوة الإسلامية، ط. مكتبة المنار، الأردن
9-
حسن
د. محمد إبراهيم، الاستشراق وأثره على الثقافة العربية، مجلة رسالة الخليج العربي، عدد رقم 23، ط. الرياض، مكتب التربية العربي، لدول الخليج.
10-
حسين
د. محمد محمد: الإسلام والحضارة الغربية، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ.
11-
خان
وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، ط. المختار الإسلامي.
12-
الخربوطلي
على حسن: المستشرقون والتاريخ الإسلامى، ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1976م.
13-
الخطيب.
د. عمر عودة: لمحات في الثقافة الإسلامية، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397هـ 1977م.
14-
الخطيب.
محب الدين الخطيب: الغارة على العالم الإسلامى، 1384هـ.
15-
خليل.
د. عماد الدين: المستشرقون والسيرة النبوية، ط. دار الثقافة بالدوحة 1410هـ.
16-
زقزوق.
د. محمود حمدي: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ط. كتاب الأمة، دولة قطر، 1404هـ.
17-
السباعي.
د. مصطفى: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامى، ط. المكتب الإسلامي بيروت 1398هـ - 1978م.
18-
السباعي.
د. مصطفى: الاستشراق والمستشرقون، ط. المكتب الإسلامى، بيروت، 1975م.
19-
السايح.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح: أضواء على الحضارة الإسلامية، ط. دار اللواء السعودية، 1401هـ.
20-
السايح.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح: التيارات الفكرية والحركات المعاصرة ط. دار الطباعة المحمدية، بالقاهرة، 1990م.
21-
السايح.
الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح: العلاقة بين الاستشراق والتبشير، ط. كلية أصول الدين والدعوة بشبين الكوم، مصر 1989م.
22-
السايح.
د. أحمد عبد الرحيم السايح: معارك حاسمة في حياة المسلمين، ط. دار اللواء بالرياض، 1409هـ.
23-
السايح.
د. أحمد عبد الرحيم السايح: هذا هو الإسلام، ط. دار الثقافة بالدوحة، 1989م.
24-
سمايلوفتش.
د. أحمد، فلسفة الاستشراق، ط. دار المعارف بمصر.
25-
ضياء الدين.
د. حسن: الاستشراق، مجله كليه الشريعة، العدد الخامس، مكة المكرمة، 1401هـ.
26-
طه.
د. عزية: من افتراءات المستشرقين على أحاديث التوحيد، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، ع 13، رمضان 1409هـ، مجلس النشر العلمي بالكويت.
27-
الطهطاوي.
المستشار محمد عزت إسماعيل، التبشير والاستشراق، ط. مجمع البحوث الإسلامية، بالأزهر، 1397هـ.
28-
العقيقي.
نجيب: المستشرقون، ج1 وج2، ط. دار المعارف بمصر.
29-
عمارة.
الدكتور محمد عمارة: الغزو الفكرى وهم أم حقيقه ط. الأمانة العامة للدعوة بالأزهر، 1988م.
30-
العمري.
الدكتور نادية شريف العمري: أضواء على الثقافة الإسلامية، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1406هـ.
31-
فروخ.
د. عمر فروخ والخالدي: التبشير والاستعمار، ط. المكتبة العصرية، بيروت.
32-
فروخ.
د. عمر: الاستشراق في نطاق العلم وفى نطاق السياسة من كتاب المستشرقين والإسلام، ط. الهند.
33-
قطب.
محمد قطب: واقعنا المعاصر، ط. مؤسسة المدينة، جدة، 1407هـ.
34-
القارئ.
الشيخ عبد العزيز: المستشرقون في الميزان، من محاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1393هـ.
35-
الكيلاني.
د. نجيب: الإسلام والقوة المضادة، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1400هـ.
36-
اللبان.
إبراهيم عبد المجيد: المستشرقون والإسلام، ط. إدارة الثقافة بالأزهر، 1968م.
37-
لوبون.
الدكتور جوستاف لوبون، حضارة العرب، وترجمة عادل زعيتر، ط. الثانية، 1948م.
38-
مجلة المنهل.
عدد مخصص: الاستشراق والمستشرقون، رمضان وشوال 1409هـ، عدد رقم 471، جدة السعودية.
39-
محمود.
د. عبد الحليم: أوروبا والإسلام، ط. منشورات المكتبة العصرية، بيروت.
40-
محمود.
الدكتور على عبد الحليم محمود: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، ط. جامعة الإمام، 1401هـ.
41-
الميداني.
عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة، ط. بيروت، دار القلم، 1977م.
42-
الندوة العالمية للشباب الإسلامى.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، ط. الرياض. 1409هـ
43-
الندوي.
أبو الحسن على: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، ط. دار العلم الكويت، 1983م.
44-
النعمة.
إبراهيم النعمة، المسلمون أمام تحديات الغزو الفكري، ط. شركة ومطبعه الزهراء، العراق، 1986م.
45-
النقرة.
د. التهامي: القرآن والمستشرقون، مناهج المستشرقين، ج1، ط. مكتب التربية لدول الخليج العربي، 1985م.
46-
الواعي.
الدكتور توفيق يوسف: الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية، ط. دار الوفاء، المنصورة، 1408هـ