المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

‌عقد الاستصناع

إعداد

فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى وصحبه.

الاستصناع:

الاستصناع: لغة مصدر ثلاثي مزيد بثلاثة أحرف من استصنع الشيء أي دعا وطلب صنعه والاستصناع افتعال من الصنيعة وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا توقدوا بليل نارا" ثم قال: "أوقدوا واصطنعوا فإنه لن يدرك قوم بعدكم مدكم ولا صاعكم".

فقوله: اصطنعوا، أي اتخذوا صنيعًا أي طعامًا تنفقونه في سبيل الله، يقال:(اصطنع فلان خاتمًا إذا سأل رجلًا أن صنع له خاتمًا، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب كان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه فصنع الناس ثم أنه رمى به) . أي أمر أن يصنع له كما تقول اكتتب أي أمر أن يكتب له. والطاء في اصطنع بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد، والحرفة المصطنعة هي الصناعة والعمل الصنعة والصناعة (1) فالاستصناع من استصنع فلان عنده صنيعة اتخذها نقله الجوهري (2)

وصيغة استفعل ترد الزيادة فيه لعدة معان أولها الطلب ومعناه نسبة الفعل إلى الفاعل للدلالة على إرادة تحصيل الحدث من المفعول وهو الغالب في هذه الصيغة حقيقة كان كاستكتب واستفهم، أو مجازًا كاستخرج الذهب من الأرض واستوقد النار، كما ترد صيغة استفعل للتحول ومعناه الدلالة على أن الفاعل قد انتقل من حالته إلى الحالة التي يدل عليها الفعل كما في قولهم استنوق الجمل واستنسر البغاث أي الطيور الصغيرة فتشبهت بالنسور (3) وقد دخله الإبدال إبدال التاء بالطاء والطاء تبدل من تاء الافتعال بعد حروف الإطباق وهي الصاد والضاد والظاء فيجب إبدال تائه طاء فتقول في افتعل من صبر اصطبر ومن ضرب اضطرب ومن طهر اطّهر ومن ظلم اظطلم والأصل اصتبر واضترب واظتلم فاستثقل اجتماع التاء مع الحرف المطبق لما بينهما من تقارب المخرج وتباين الصفة إذ التاء مهموسة مستقلة والمطبق مجرور مستقل فأبدل من التاء حرف استعلاء من مخرجها وهو الطاء. (4)

(1) لسان العرب: 8/208 ـ 213، دار الطباعة والنشر، بيروت 1956م.

(2)

تاج العروس من جواهر القاموس:5/412 ـ 415

(3)

دروس من التصريف، لمحيي الدين عبد الحميد: طبعة 1931م.

(4)

شرح الأشموني المعنون بمنهج السالك إلى ألفية ابن مالك" 2/303، طبعة 1 تونس 1393هـ.

ص: 948

وفي العرف الاصطلاحي هو عقد على مبيع في الذمة مشروط فيه أوصاف وعمل فمن قال لمن هو من أهل الصنعة اصنع الشيء الفلاني مما هو من اختصاصك وقد أجابه إلى ذلك بعد ما اتفقا على الثمن فقد انعقد العقد، إذن فهو عقد على مبيع في الذمة مشروط بعمل كما عرفه الكاساني (1) وفي المبسوط قال السرخسي: وإذا استصنع الرجل خفين أو قلنسوة أو طستا أو كوزًا أو آنية من أواني النحاس فالقياس أن لا يجوز ذلك لأن المستصنع فيه مبيع معدوم وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودًا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه فكذلك إذا كان معدومًا بل هو أولى ولكنا نقول نحن تركنا القياس لتعامل الناس من غير نكير وهو أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه وسلم "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وهو نظير دخول الحمام بأجر فإنه جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصب من الماء مجهولًا وكذلك شرب الماء من السقاء بفلس والحجامة بأجر جائز لتعامل الناس وإن لم يكن له مقدار مما يشترط أن يصنع من الكنه على ظهره معلوم، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتمًا واستصنع المنبر فإذا ثبت هذا يترك كل قياس في مقابلته (2) فالاستصناع هو بيع سلعة ليست عنده على غير وجه السلم فهو عقد على مبيع في الذمة مشروط فيه العمل فمن قال لغيره: اصنع لي كذا بكذا درهمًا، واتفقا على ذلك انعقد عقد الاستصناع عند الحنفية وكذلك عند الحنابلة على غير وجه السلم فهو إذن من البيوع مذكور عند الكلام على البيع بالصنعة.

(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677، طبعة الإمام

(2)

المبسوط للسرخسي: 12/138 ـ 139، طبعة 1

ص: 949

وبيع الاستصناع عند الشافعية والمالكية ملحق ببيع السلم ويؤخذ تعريفه وأحكامه من السلم وذلك عند الكلام على السلف في الشيء المسلم للغير من الصناعات ففي المدونة قلت: ما قول مالك في رجل استصنع طستًا أو كوزًا أو قميصًا أو قلنسوة أو خفين أو لبدًا أو استصنع سرجا أو قارورة أو قدحًا أو شيئًا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع فاستعمل من ذلك شيئًا موصوفًا، وضرب لذلك أجلًا بعيدًا وجعل لرأس المال أجلًا بعيدًا أيكون هذا سلفًا أو تفسده لأنه ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا أم لا يكون سلفًا ويكون بيعًا من البيوع في قول مالك؟ قال: أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلًا بعيدًا أو جعل ذلك مضمونًا على الذي عملها بصفة معلومة وليس من شيء بعينه يريه بعمله منه ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه وقدم رأس المال أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين ولم يضرب لرأس المال أجلًا فهذا سلف جائز وهو لازم للذي عليه يأتي به إذا حل الأجل على صفة ما وصف. قلت: وإن ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا والمسألة على حالها فسد وصار دينًا في دين في قول مالك، قال: نعم، قلت: وإن لم يضرب لرأس المال أجلًا واشترط أن يعمله هو نفسه أو عمل رجل بعينه، قال: لا يكون هذا سلفًا لأن هذا رجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل وشرط عليه عمل نفسه وقدم نقده فهو لا يدري أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فيعمله له أو لا، فهذا من الغرر وهو إن سلم عمله له، وإن لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا فيكون الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلا.

ص: 950

قلت: فإن كان إنما أسلفه كما وصفت لك على أن يعمل له ما اشترطه عليه من حديد قد أراه إياه أو طواهر أو خشب أو نحاس قد أراه إياه قال: لا يجوز ذلك قلت: لم؟ قال: لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الطواهر أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا، ولا يكون السلف في شيء بعينه فذلك لا يجوز في قول مالك (1) وتتفق الإجارة على العمل مع الاستصناع في أن العامل الذي هو الصانع في الاستصناع والذي هو الأجير في الإجارة على الصنع والفرق بينهما أن في الإجارة على الصنع أن المحل هو العمل. وفي الاستصناع هو العين الموصوفة التي تكون في الذمة فليس فيه بيع عمل (2) ثم إن الإجارة على العمل تكون بشرط أن يقدم التاجر للعامل المادة التي ستصنع فالعمل على العامل والمادة على من استأجره وأما في الاستصناع فكلاهما من العامل المادة والصنعة ويتفق الاستصناع مع بيع السلم في كون كل منهما شراء آجل بعاجل كما في ابن عابدين فالاستصناع هو نوع من أنواع السلم لأن الأصل أنه في المزروعات والاستصناع إنما هو شراء آجل بعاجل في المصنوعات فيتفق الاستصناع مع السلم في صور كثيرة ولذا أجرى المالكية والشافعية ذكر الاستصناع في باب السلم وجعله الحنفية ضمن مبحث السلم إذ هو نوع منه والفرق بينهما أن السلم أعم لأنه عام في المصنوع وغيره وأما الاستصناع فهو خاص بما اشترطت فيه الصنعة والعامل وكذلك السلم من شرطه تعجيل الثمن على أن لا يكون من الدين بالدين وهو ممتنع في حين أن الاستصناع ليس فيه تعمير ذمتين بدينين لأن العمل معدوم سيوجده الصانع في المستقبل ولذا أجاز أكثر الحنفية تأخير الثمن ولم يشترطوا التعجيل فيه (3) كما يتفق الاستصناع مع الجعالة في أنها التزام عوض معلوم على عمل معين والاستصناع عقد عمل كذلك (4) فهما يتفقان في أنهما عقدان مشروط فيهما العمل ويفترقان في أن الجعالة عامة في الصناعات وغيرها من الأعمال بخلاف الاستصناع فإنه خاص بالمصنوعات كما أن العمل في الجعالة قد يكون معلومًا وقد يكون مجهولًا كحفر البئر فإنه مجهول فيه ساعات العمل لتحقيق الغاية وقد يكون معلوم المقدار والزمن وما يستغرق من ساعات العمل أما الاستصناع فلابد أن يكون معلومًا وإلا لامتنع.

(1) المدونة الكبرى، للإمام مالك بن أنس الأصبحي: 9/18 ـ 19، طبعة السعادة 1323هـ

(2)

حاشية ابن عابدين: 5/225، طبعة الحلبي

(3)

فتح القدير: 5/355، وبدائع الصنائع: 6/2677، والمبسوط: 12/138، وما بعدها.

(4)

البجيرمي على شرح الخطيب: 3/33، طبعة مصطفى محمد

ص: 951

والاستصناع كغيره من كثير من العقود هو مستثنى من أصل ممنوع ذلك أن المعقود عليه وهو ما التعاقد عليه ظهرت فيه أحكامه وترتبت عليه آثاره قد يكون عينًا ماليّةً كالمبيع والمرهون والموهوب وقد يكون عينًا غير مالية كعقد الزواج فإنه عقد على مجرد متعة التلذذ بآدمية وقد يكون منفعة كمنفعة المأجور في الإجارة من الدور والعقارات ومنفعة الشخص في صباغة ثوب أو إصلاح آلة. فما يصلح أن يكون معقودًا عليه هو الأمر المهم في ذاته أو في الانتفاع به وليس كل شيء صالحًا لأن يكون معقودًا عليه بل لابد أن تكون هناك منفعة معتبرة شرعًا وعرفًا فلذا لا يصح العقد على خمر بين المسلمين ولا يصح العقد على امرأة محرم بسبب نسب أو رضاع ولا على ما لا يعتبر منفعة شرعًا كصنع آلات الغناء أو العزف وهذا شرط عام في كل معقود عليه، ومن شرط المعقود عليه أن يكون موجودًا وقت التعاقد لأنه لا يصح التعاقد على المعدوم ولذا لا يصح بيع زرع قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه لأنه لا يعلم هل ينبت أم لا ولا يصح العقد على ما فيه غرر أو خطر، فإذا لا يصح العقد على بيع الجنين في بطن أمه لاحتمال انعدامه قبل ولادته بموته في بطن أمه ولا يصح بيع اللبن في الضرع لاحتمال عدم وجوده، وأن ما به هو انتفاخ ولا بيع اللؤلؤ في الصدف أو الحيتان في البحر، وكل ما لا يصح التعاقد عليه لعدم وجوده والأصل في كل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك وقال:"لا تبع ما ليس عندك". وكذلك لا يصح التعاقد على ما هو مستحيل الوجود في المستقبل كالتعاقد مع حكيم على علاج مريض توفي إذ الميت لا يصلح للعلاج كما لا يصلح للتعاقد على حصاد زرع قد احترق فمثل هذه العقود كلها وهذا الشرط مطلوب لا فرق بين عقود المعاوضات أو عقود التبرعات عند الحنفية والشافعية فلا فرق بين عقد البيع والهبة والرهن عندهما وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك وعن بيع حبل الحبلة أي بيع ولد الناقة أو ولد ولدها (1) وقد كان بيع الملاقيح والمضامين متعاملًا بهما في الجاهية فورد الحديث بالنهي عن الملاقيح والمضامين عن ابن عمر (2) وفرق مالك بين عقود التبرعات وعقود المعاوضات فأجاز الغرر في التبرعات ومنعها في المعاوضات وأباح اليسير منه فيما كان منشأه المكارمة والمجاملة وهو النكاح ونفاه فيما كان مبنيًّا على المشاحة والمكايسة.

(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي عن ابن عمر، نيل الأوطار: 5/137.

(2)

نصب الراية: 4/10

ص: 952

ومنع التصرف بالمعدوم وبما يستحيل وجوده قاعدة عامة لا مراء فيها لكن استثنى الفقهاء من هذه القاعدة مجموعة من العقود كعقد السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع إذ السلم بيع آجل بعاجل أي بيع ما ليس بموجود بثمن حال كما يفعل الزراع مع التاجر فيبيع المحصول الزراعي قبل الحصاد وقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". والإجارة عقد على منافع بعوض ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع وكذلك الاستصناع هو عقد على عمل الصانع بأن يصنع مثلًا شيئًا نظير عوض معين بخدمات من عنده كما نفعله مع الخياطين والنجارين والحدادين مثلًا وقد أجيز بالإجماع لحاجة الناس إلى التعامل به في كل زمان ومكان وهذه العقود الثلاثة المعقود عليه غير موجود عند إنشاء العقد فالإباحة استثناء من المنع الأصلي واستحسانًا لحاجة الناس إليها وتعارفهم عليها. وعليه فهو رخصة إذ هو استثناء من بيع ما ليس عندك وبشكل كونه رخصة بتعريفها بأنها انتقال من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي وذلك لأن الاستصناع والمزارعة والمغارسة والسلم ونحوها لم تكن ممنوعة ثم أبيحت حتى يتحقق التغيير.

والجواب على هذا أن الرخصة تطلق بإزاء أربعة أشياء يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}

وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}

وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}

فالرخصة هنا راجعة إلى معنى اللين وهو الأصل فيها وتطلق الرخصة على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم. والعزيمة الأولى هي التي نبه إليها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .

وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} الآية.

ص: 953

والعباد ملك الله على الجملة والتفصيل فحق عليهم التوجه إليه وبذل الجهد في عبادتهم لأنهم عباده وليس لهم الحق لديه ولا حجة عليه فإذا وهب لهم حقًّا ينالوه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود واعتناء بغير ما اقتضته العبودية إذ العزيمة هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم أكانت أوامر ندب أو وجوب أو كانت النواهي كراهية أو تحريمًا والإذن من الله في أن ينال حظًّا من الحظوظ هو بهذا المعنى رخصة ويدخل فيها على هذا الوجه كل ما كان تخفيفًا وتوسعة على المكلف والعزائم حق الله على العباد والرخص حظ العباد من لطف الله وهكذا تشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث إنها توسعة على العباد ورفع حرج ومشقة وإطلاق الرخصة على ما استثنى من أصل كلي بمقتضى المنع مطلقًا من غير اعتبار لكونه لعذر شاق يدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام والمصراة وبيع العرايا بجزها تمرًا وضرب الدية على العاقلة وما أشبه ذلك وكل هذه العقود ونحوها مستند إلى أصل الحاجيات فهي قد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل فيجري عليها حكمها في التسمية كما جرى عليها حكمها في الاستثناء عن أصل ممنوع (1) والحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي وقد يكون لعذر شاق فلا ينتقل إلى الرخصة إلا عند العذر وقد يكون مطلقًا من غير اعتبار عذر فيدخل في كل ذلك ما أبيح ابتداء للحاجة إليه كبيع الاستصناع فهو مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع وهو بيع ما ليس عندك الذي ورد النهي عنه واستثناء بيع الاستصناع هو استحسان والاستحسان في مذهب مالك هو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي يقتضي المنع. ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس لأن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من مقاصد الشريعة في الجملة في مآلات الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثيرًا ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقًا، والضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج والمشقة. وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وله في الشريعة أمثلة كثيرة فالقرض مثلًا هو ربا في الأصل لأنه درهم بدرهم إلى أجل ولكنه أبيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق وحرج على المكلفين ومثله بيع العرايا بخرصها تمرًا فإنه بيع رطب يابس وهو ممنوع لما فيه من الغرر ولكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة للمعري والمعرى ولو امتنع مطلقًا لكان وسيلة لمنع العرايا كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه وجميع الرخص ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا على الأصل أي أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل العام من المصلحة فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه،

(1) الموافقات، للشاطبي: 1/181 إلى 184، طبعة بولاق

ص: 954

وهي قاعدة بنى عليها مالك وأصحابه قال ابن العربي في أحكام القرآن: والاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين والعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكًا وأبا حنيفة يخصصان العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ويريان معًا تخصيص القياس ونقض العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبت تخصيصًا وهذا الذي قال هو النظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام. وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدًّا والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس قال ابن العربي وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان وهذا كله يوضح أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها (1) وقاعدة الاستحسان نشأت من أصل عظيم متين العرى هو النظر في مآلات الأفعال الذي هو مجال للمجتهد صعب المورد وإن كان عذب المذاق محمود الغب يدل عليه أن التكاليف الشرعية شرعت لمصالح العباد وهي إما أخروية فترجع إلى مآل المكلف في الآخرة ليكن من أهل النعيم وإما دنيوية فالأعمال عند التأمل مقدمات لنتائج المصالح وأنها أسباب لمسببات مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب واعتبارها وجريان الأسباب مطلوب وهو النظر في المآلات الذي تفرع عليه قاعدة مراعاة الخلاف والحيل وسد الذرائع والاستحسان وقد اختلفت الآراء هل الاستصناع بيع أو وعد بيع؟ وقد رأى بعض الفقهاء أنه بيع يثبت فيه الخيار للمشتري وفيه أيضًا خيار الرؤية وثبوت الخيار للمشتري للرد بالعيب لا يكون إلا في البياعات اللازمة التي يجري فيها التقاضي بين البائع والمشتري والتقاضي إنما يجري في الواجب لا في الموعود لأن الموعود غير لازم وهذا كله يرجح أن يكون الاستصناع بيعًا من البيوع وليس مواعدة نعم هو بيع مبنى على الخيار وهذا مذهب محمد من الحنفية حيث ذكر في جواز بيع الاستصناع القياس والاستحسان وهناك من يرى أنه مواعدة وليس ببيع بدليل أن الصانع بالخيار في العمل إن شاء عمل وإن شاء ترك وبهذا يظهر أن الاستصناع وعد لا بيع لأن كل ما لا يلزم به الصانع مع إلزامه بنفسه به يكون وعدًا لا عقدا فالارتباط بين الصانع والمستصنع ارتباط مواعدة لا ارتباط بيع وحجته أنه مواعدة وليس بيعًا أن الصانع لا يجبر على الصنعة وإن ألزم نفسه بها بخلاف السلم مثلًا فإن البائع إذا قبض الثمن فقد التزم بالمسلم فيه عند الأجل فوجب عيه وأجير على ما التزم به ومن جهة أخرى فالمستصنع له الحق في عدم تقبل المصنوع كما له أن يرجع عما استصنعه قبل تمامه ورؤيته وكل هذا علامة على أنه مواعدة لا بيع.

(1) الموافقات: 4/103 ـ 109، طبعة بولاق 1302هـ.

ص: 955

وسواء قلنا هو بيع أو مواعدة فالاستصناع من العقود غير المسماة ومعنى ذلك أن الشارع لم يضع لها اسمًا خاصًّا بها ولا بين أحكامها المترتبة عليها بخلاف البيع والإجارة والشركة والهبة والكفالة والحوالة والوكالة والرهن والقرض والصلح والوصية ونحوها فإنها من العقود المسماة التي وضع لها الشرع اسمًا وبين أحكامها والعقود غير المسماة هي العقود المستحدثة التي استحدثها الناس تبعًا للحاجة وهي كثيرة لا تنتهي ولا تنحصر لأنها تنشأ وتظهر بحسب حاجات الناس وتطور المجتمعات وتشابك المصالح مثله مثل بيع الوفاء وبيع الاستئجار والتحكير وأنواع المقالات أي التعهدات والالتزامات الحديثة وأنواع الشركات التي تمنح امتيازات للتنقيب عن البترول أو التنقيب عن المياه والمعادن وكعقود النشر والتوزيع والإعلان الذي يكون على طريق الصحف أو المجلات والإذاعة والتلفزة ونحوها. وقد تردد الاستصناع الذي هو صنع شيء معين كصنع الأحذية والمعطف ونحوها من الثياب أو صنع الآلات والأواني أوالسيارات والبواخر والمفروشات ونحوها من كل ما يستلزم مواد أصلية وتراكيب خاصة ليحقق الغاية التي من أجلها وقع عقد الاستصناع.

وبالرجوع إلى بحث حرية التعاقد اتفق المجتهدون على أن الرضا أساس التعاقد لقوله تعالى في المعاملات المالية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1)

(1) سورة النساء: الآية 29

ص: 956

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) (1) وقوله: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) (2) فالتراضي هو الذي يولد العقد والتزامه دون حاجة إلى شكلية معينة إلا عقد النكاح لأن الأصل في الأبضاع التحريم وفي غيرها من الأشياء التحليل وإذ ذهبت الظاهرية وابن حزم إلى أن الأصل في العقود المنع حتى يقوم الدليل على الإباحة وجمهور الفقهاء جعلوا الأصل في العقود وما يتصل بها الإباحة ما لم يمنعها الشرع أو تخالف النصوص فلم يشترطوا لصحة العقد إلا الرضا والاختيار وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .

أوجبت الوفاء بالعقود من غير استثناء فيها، باشره الإنسان بنفسه أو بتوكيل منه بإرادته الحرة وبذلك يكون العقد ملزمًا له بنتائجه ومقيدًا لإرادته حفظًا على مبدأ استقرار التعامل ولذا قلنا إن الأصل في العقود التحليل وإن الجري على الشروط التي يتعامل بها الناس تحقيقًا لمصالحهم وتثبيتًا لأغراضهم مما يقتضيه العقد ومما لا ينافيه جائز وإن تحريم شيء من العقود أو الشروط بغير دليل شرعي تحريم لما لم يحرمه الله. ويستخلص من ذلك أن الأصل فيها الإباحة إلا ما دل الشرع بخلافه لقوله صلى الله عليه وسلم:((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)) [رواه مسلم وفي رواة البخاري: من أحدث في أمرنا ما ليس منه..] فكل موضوع لا يمنع الشرع ولا تقتضي قواعد الشريعة وأصولها منعه فجائز التعاقد عليه فإذا استكمل العقد أركانه وشروطه وباشره الإنسان بإرادته الحرة كان ذلك ملزمًا له بنتائجه ومقيدًا لإرادته تحقيقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .

وهذا ما تستلزمه الذمة وهي كما للقرافي معنى شرعي مقدر في المكلف قابل للإلزام واللزوم واختار ابن الشاط في تفسيرها أن يقال قبول الإنسان شرعًا للزوم الحقوق والتزامها إن قلنا بسلب الأهلية عن الصبي أو يقال دون التزامها إن أثبتنا له ذمة. والفرق بين كلام الإمامين أن القبول مسبب عن الذمة على ما للشهاب القرافي وهو عينها على ما لابن الشاط. والأقرب إثبات الذمة للصبي للزوم أرش الجنايات وقيم المتلفات له. وربما التبست الذمة بالأهلية أي أهلية المعاملات ويحسن بنا إيراد حقيقتهما والتمييز بينهما.

(1) رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري

(2)

رواه الدارقطني عن أنس قال الشوكاني وفيه مجهول، نيل الأوطار: 5/316

ص: 957

فأهلية التصرف كما للشهاب القرافي قبول يقدره الشرع ولا يشترط فيه الإباحة والفرق بين الذمة والأهلية أن أهلية التصرف قبول خاص ليس فيه إلزام ولا التزام والذمة معنى مقدر في المحل قابل لهما (1) وكل من أهلية التصرف والذمة من قبيل خطاب الوضع كما أن ترتيب آثار العقود من عمل الشارع وإرادة العاقدين تنشئ العقد والشريعة ترتب ما لكل عقد من أحكام وآثار ترتيب المسبب عند وجود سببه وانتفاء موانعه، فنقل ملكية المبيع للمشتري واستحقاق الثمن في ذمة المشتري للبائع بتقدير الشرع وتستمد إرادة العاقدين سلطانها من الشرع بالحدود التي حددها لكل عقد من العقود وقد تكون هذه الحدود محققة لحاجة المتعاقدين فلا يحتاجان إلى اشتراط شروطه وقد لا تتحقق حاجتهما وغرضهما فيحتاجان أو أحدهما إلى شروط تحقق الغرض المطلوب في حدود ما تبيحه الشريعة وحرية هذا الاشتراط هو مبدأ سلطان الإرادة في تعديل آثار العقد المقرر في القوانين الوضعية والشريعة والقانون متفقان على أن تقدير آثار العقود وأحكامها هو من إرادة الشارع لا من عمل العاقد إلا أن الفارق بينهما في مدى تفويض الشارع إلى العاقدين من السلطان على تعديل الأحكام التي قررها التشريع مبدئيًّا في كل عقد (2)

وللعقود أثران عامان هما النفاذ والإلزام واللزوم فالنفاذ معناه ثبوت حكم العقد الأصلي والالتزامات منذ انعقاده وهي آثار العقد الخاصة ونتائجه المترتبة عليه التي هي انتقال المبيع ملكًا للمشتري وانتقال الثمن ملكًا للبائع بمجرد انعقاد العقد وإيجاب تنفيذ الالتزامات على المتعاقدين كتسليم المبيع وتسليم الثمن وضمان العيب إن ظهر به عيب وانتقال الضمان على المشتري بعد التسليم.

(1) الفروق للقرافي: ص183 قاعدة الذمة وقاعدة أهلية المعاملة

(2)

المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء وحاشيته: ف217 ص475

ص: 958

والفرق بين اللزوم والإلزام أن الإلزام هو إيجاب تنفيذ التزامات التعاقد من الجانبين وهي من أثر العقد، أما اللزوم فهو عدم استطاعة فسخ العقد إلا بالتراضي، وهو المسمى بالإقالة وهو في الواقع بيع إذ شرطه الرضا، ويكتسب العقد صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد تمام العقد وهو ما أخذت به القوانين وجرى عليه القضاء، أما عند الشافعية والحنابلة فلا يكسب العقد صفة اللزوم إلا بعد انقضاء مجلس العقد بأبدانهما عملًا بحديث خيار المجلس وبما نقلنا ندرك سبب الخلاف بين الفقهاء في أن الاستصناع بيع أو وعد ببيع فمن ذكر في جوازه القياس والاستحسان جعله بيعًا وأثبت فيه خيار الرؤية الذي من مختصات البيعات وأكد أنه بيع حيث يجري فيه القضاء والتقاضي إنما يكون في اللازم الواجب لا في الموعود ومن رأى أنه وعد نظر إلى اختيار الصانع في العمل وعدمه بناء على أن المواعدة لا تلزم الذمة وأن من التزم شيئًا لزمه وذلك إنما يكون بالشروع فيه وذلك هو الفرق بين الاستصناع والسلم فإن السلم يجبر بما التزم به من تسيم المسلم فيه والمستصنع له الحق في عدم قبول ما يأتي به الصانع وله أن يرجع عما استصنعه قبل تمامه ورؤيته وكل ذلك علامة على أنه وعد لا عقد؛ لأن من أثر العقود اللزوم ومن أثر المواعدة عدم اللزوم.

وكما تردد الفقهاء في كون الاستصناع بيعًا أو هو وعد بيع كذلك اختلفوا في كونه بيعًا أم إجارة فرأي أكثر الحنفية والحنابلة أن الاستصناع بيع وعدوا الاستصناع من أنواع البيوع وعرفوه بأنه بيع عين شرط فيه العمل كما في المبسوط للسرخسي حين بين أنواع البيوع وجعلها أربعة وجعل الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل، ثم قال فالمستصنع فيه مبيع عين ولهذا ثبت فيه خيار الرؤية والعمل مشروط فيه لأن هذا النوع من العمل اختص باسم فلا بد من اختصاصه بمعنى يقتضيه ذلك الاسم (1) وفي البدائع أن الاستصناع بيع لكن للمشتري الخيار فيه خيار الرؤية فهو حينئذ بيع إلا أنه ليس على إطلاقه وبذلك خالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع.

(1) المبسوط: 13/86، 87

ص: 959

والمعروف أن البيع المطلق لا يشترط فيه العمل وذهب آخرون إلى أن الاستصناع إجارة محضة وهو قول أبي سعيد البرادعي وغيره فالمعقود عليه عنده هو العمل لأن الاستصناع طلب الصنع وهو العمل قال ولو كان بيعًا لما بطل بموت أحد المتعاقدين لكنه يبطل بموت أحدهما ذكره في جامع قاضيخان. وأجاب آخرون بأن للاستصناع شبهًا بالإجارة من حيث إن فيه طلب الصنع وهو العمل، وشبهًا بالبيع من حيث إن المقصود منه العين المستصنع فلشبهه بالإجارة قلنا يبطل بموت أحدهما ولشبهه بالبيع هو المقصود أجرينا فيه القياس والاستحسان وأثبتنا خيار الرؤية ولم نوجب تعجيل الثمن في مجلس العقد كما في البيع (1) وذهب آخرون إلى أنه إجارة ابتداء وبيع انتهاء كما في الذخيرة لكن قبل التسليم لا عند التسليم بدليل أنهم قالوا إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفى المصنوع من تركته. ذكره محمد في كتاب البيوع. فإن قيل انعقد إجارة أجبر الصانع على العمل وأجبر المستصنع على إعطاء المسمى؟ فالجواب أنه لم يجبر لأنه لا يملكه إلا باتلاف عين له من قطع الأديم ونحوه والإجارة تفسخ بهذا العذر والمستصنع ولو شرط تعجيله لجاز لأن هذه الإجارة في الآخرة كشراء ما لم يره والاستصناع للحاجة وهي في الجواز لا اللزوم، ولهذا كان للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع لأن العقد غير لازم، أما بعدما يراه فالأصح أنه لا خيار للصانع بل إذا قبله المستصنع أجبر عي دفعه لأنه بالآخرة بائع (2) والاستصناع باعتباره عقدًا مستقلًّا جائز مشروع عند أكثر الحنفية على سبيل الاستحسان ومنعه زفر من الأحناف أخذًا بالقياس إذ قد ورد النهي عن بيع المعدوم وبيع ما ليس عندك كما تقدم، والصحيح الجواز استحسانًا فقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاتم ففي النهاية في غريب الحديث استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب. قال صاحب الاعتبار (3) هذا حديث صحيح ثابت وله طرق في الصحاح عدة وفي البدائع الإجماع من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاستصناع من دون نكير وتعامل الناس بهذا العقد والحاجة الماسة إليه وفي الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الجوزي الحنبلي: نص الحنابلة على أنه لا يصح استصناع سلعة لأنه بيع ما ليس عندك على وجه غير السلم وقيل يصح بيعه إلى المشتري إن صح الجمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد لأنه بيع وسلم (4) يصح الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة على اعتبار أنه عقد سلم ويشترط فيه ما يشترط في السلم التي من بينها تسليم جميع الثمن في مجلس العقد. ويصح عند الشافعية سواء حدد فيه الأجل لتسليم المصنوع أم لا، نص عليه السيوطي (5) وحيث جرى على الاستصناع عمل الناس واستحسنوه كان ذلك دليلًا على جوازه وصحته يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجتمع أمتي على ضلالة"(6) وما رواه ابن مسعود من قوله عليه السلام: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن (7) وبالرغم من أن الاستصناع كالسلم ففرق بينهما فهو كالسلم من حيث أنه بيع معدوم أجيز للحاجة ولتعامل الناس به وللعرف اعتباره ولكن هناك فروق بينهما أهمها:

(1) فتح القدير وشرح العناية على الهداية: 5/356، وفتح القدير: 5/357

(2)

البدائع: 6/2678

(3)

الاعتبار: ص 187، طبعة المنبرية.

(4)

الأنصاف: 4/300

(5)

الأشباه والنظائر للسيوطي: ص89

(6)

رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة عن أبي خيثمة عن أبي بصرة الغفاري مرفوعًا

(7)

رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير

ص: 960

ـ أن المبيع في السلم دين تتحمله الذمة وهو إما مكيل أو موزون أو معدود متقارب أو مذروع والمبيع في الاستصناع هو عين لا دين كاستصناع أثاث أو حذاء أو خياطة ثوب.

ـ من شرط السلم الأجل المعلوم وليس الاستصناع كذلك على ما تقدم عن أبي حنيفة.

ـ عقد السلم لازم وعقد الاستصناع غير لازم لا قبل الصنع ولا بعد الفراغ منه فلكل من المتعاقدين الخيار في الإمضاء والفسخ والإنجاز والعدول عنه قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع. بحيث لو باع الصانع المصنوع قبل أن يراه المستصنع جاز لأن العقد غير لازم والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة نعم إذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع سقط حق خياره لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه.

ـ الفارق الرابع من شرط السلم قبض رأس المال في مجلس العقد ولا يشترط قبضه في الاستصناع وإنما اشترط في السلم تقديم رأس المال حتى لا يؤدي إلى الدين بالدين وهو ممتنع.

ص: 961

حكمة مشروعية الاستصناع:

هي لسد حاجات الناس ومتطلباتهم وقد تطورت الصناعات تطورًا كبيرًا وبالصناعة يحصل للصانع الارتفاق ببيع ما يبتكر وما ينتج من صناعته وفق الشروط والمتطلبات في المواصفات والمقايسات، والمستصنع يحصل له الارتفاق بسد حاجاته وفق ما يناسبه في نفسه وماله وقد يكون الموجود في الأسواق من المصنوعات ما لا يفي بحاجته ولا يحقق رغبته والاستصناع هو الذي يحقق له مطلوبه ومرغوبه فهو حينئذ يرجع إلى نمو المال وزيادته ومنفعة المتعاقدين فيكون بيد أحدهما نقد يطالب نماءه وبيد الآخر ثمرة وعمل يبتغي فضل الله فيهما وهذا يرجع إلى الحاجيات وهو ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع التضييق المؤدي إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب وهي كالمتممة للضروريات الخمس التي دارت الشريعة على المحافظة عليها لعظمها حيث روعيت في كل ملة فإن في الترخيص في الاستصناع تتميمًا لقاعدة حفظ المال الذي هو أحد الكليات الخمس، وهذه المتممات والمكملات هي مثار التشديدات والترخيصات كمنع الربا وجواز السلم والقرض والمساقاة والاستصناع بالنسبة لمال وكوجوب الحد في شرب القليل من الخمر الذي لا يسكر بالنسبة للعقل. ولقد اعتبر الشارع المتممات وجعلها في رتبة ما أتمه بطريق التبع لها مبالغة في مراعاتها وما ذلك إلا لترد الأمة المصالح وتجافي المفاسد وهذا هو السر الذي يرنو إليه التشريع من وراء التكاليف فإن الحكمة فيه إقامة مصالح الدارين على وجه لا يختل لها به نظام ولذلك كان وضع الشريعة على هذا الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا وزادت عناية الله بهذه الشريعة الغراء فعصمها من التبديل والتغيير كما أنبأ بذلك تصريحًا وتلويحًا فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} .

ص: 962

أركان الاستصناع:

أركانه ثلاثة العاقدان والمحل والصيغة: أما الصيغة فكل ما يدل على الرضا والقبول كقول المستصنع للصانع اصنع لي كذا ونحوها من العبارات لفظًا أو كتابةً واستجابة الصانع للطالب وقبوله لذلك. أما المحل فقد اختلف الفقهاء فيه هل هو العمل أو العين مشروطة بالعمل؟

ذهب جمهور الحنفية إلى أن العين هي العقود عليه بدليل ثبوت خيار الرؤية للمستصنع وخيار الرؤية يكون في البيع العين (1) والاستصناع هو طلب العمل لغة (2) والأشياء التي تستصنع بمنزلة الآلة للعمل كما في المبسوط، وأما العاقدان فشرطهما أهلية التعاقد بالأصالة عن نفسه أو بولاية شرعية للتعاقد بالنيابة عن غيره.

الشروط الخاصة بالاستصناع:

للاستصناع شروط هي: أولًا أن يكون المستصنع معلومًا وكون محل العقد معلومًا علمًا يمنع من النزاع شرط عام في كل المعاوضات وذلك للنهي الوارد في السنة عن بيع الغرر وعن بيع المجهول فقد أخرج الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وبيع الحصاة أن يقول: بعتك هذه الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة ويرمي بالحصاة أو قول هذه الأرض ما انتهت إليه في الرمي. والعلم إما أن يتحقق بالإشارة إلى المبيع إذا كان موجودًا أو بالرؤية عند العقد أو قبله بوقت لا يحتمل تغييره فيه أو برؤية بعضه إن كانت أجزاؤه متماثلة أو بالوصف المانع للجهالة الفاحشة وذلك ببيان الجنس والنوع والقدر وهذا هو الشرط المشترط في الاستصناع إذ لا يصح التصرف بالمجهول جهالة فاحشة المفضية إلى المنازعة ويكون العقد بالجهالة الفاحشة فاسدًا عند الحنفية وباطلًا عن غيرهم كما لا يصح التصرف بما يشتمل على الغرر الكثير والفرق بين الجهالة والغرر أن الغرر أعم من الجهالة فكل مجهول غرر وليس كل غرر مجهولًا فقد يوجد الغرر بدون جهالة كما في شراء الشيء الهارب المعلوم الصفة ولا توجد الجهالة بدون غرر كما أوضحه القرافي في فروقه (3) وقد بين القرافي أن ما يجوز بيعه على الصفة هو ما توفر فيه شروط ثلاثة:

(1) المبسوط: 12/139

(2)

فتح القدير: 5/355 وما بعدها، والدرر شرح الغرر: 2/198، طبعة1

(3)

الفروق للقرافي: 3/258؛ الفرق 187: قاعدة ما يجوز بيعه على الصفة وما لا يجوز بيعه على الصفة.

ص: 963

ـ القرب حيث تمكن رؤيته من غير مشقة لأنه عدول عن اليقين إلى توقع ما فيه غرر.

ـ عدم البعد جدًّا لتوقع تغييره قبل التسليم.

ـ أن يصفه بصفاته التي تتعلق الأغراض بها وهي شروط التسليم ليكون مقصود المالية حاصلة فإن لم يذكر الجنس امتنع إجماعًا وإن ذكر الجنس جوزه أبو حنيفة إذا عينه بمكانه فقط كقوله: من مخزني الذي هو بالبصرة. وللمشتري الخيار عند الرؤية ومنع الاقتصار على الجنس مالك والشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم لبعد العقد عن اللزوم بسبب توقع مخالفة الغرض عند الرؤية وأبو حنيفة يقول لا ضرر عليه لأن له الخيار فإن أضاف إلى الجنس صفات السلم جوزه مالك وابن حنبل ووافقاه على الجواز وألزما البيع إذا رآه موافقًا ومنع الشافعي الصحة للغرر وأثبت له الخيار أبو حنيفة عند الرؤية وإن وافق الصفة فالصفة عند أبي حنيفة في غير الحيوان توجب الصحة دون اللزوم وعند الشافعي لا توجبهما وعند المالكية توجب الصحة واللزوم. وحجة أبي حنيفة أن الجهل إنما وقع في الصفات دون الذوات ونهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع المجهول إنما هو فيما جهلت ذاته لأن الجهل بالذات أقوى من الجهل بالصفات لأن الصفات تابعة للذوات لقوله عليه السلام: "من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه". ولأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الصفة كالنكاح وباطن الصبرة والفواكه في قشرها وقياسًا على الأخذ بالشفعة فإنه لا يشترط معرفة الصفة، وأجاب القرافي عن ذلك بأن تفاوت المالية إنما هو بتفاوت الصفات دون الذوات ومقصود الشرع حفظ المال من الضياع وعن الثاني بأن حديث من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه قال الدارقطني حديث موضوع. وعن الثالث بأن كل من قال بانتفاء خيار الرؤية قال باشتراط الصفة وقياس ذلك على النكاح بعيد، والفرق هو سترة المخدرات عن الكشف لكل خاطب لئلا يتسلط عليهن السفهاء ثم باطن الصبرة مساوٍ لظاهرها وليست صفات المبيع مساوية لجنسه والعلم بأحد المتساويين علم بالآخر والأخذ بالشفعة إنما هو دفع للضرر فلا يلحق به ما لا ضرر فيه. وأما احتجاج الشافعي بالقياس على السلم فالجواب إن من شرط السلم أن يكون في الذمة والمعين لا يكون في الذمة بدليل لو رآه وأسلم فيه لم يصح. ولاشك أن الصفة تنفي الجهالة، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .

ص: 964

فأخبر تعالى أن رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم كان معروفًا عندهم لأجل الإحاطة بصفته في كتبهم. وحيث اشترطنا الصفات في الغائب أو السلم ونحوه من كل ما كان معدومًا عند التعاقد فينزل كل وصف على أدنى رتبة وعلى صدق مسماه لغة وذلك لعدم انضباط مراتب الأوصاف في الزيادة والنقض حتى لا يؤدي إلى التخاصم والتشاجر.

والقوانين الوضعية المدنية اشترطت هذا الشرط وهو أن يكون المبيع معينًا أو قابلًا للتعيين ببيان طرق التعيين الأحق فإذا كان الشيء محل التزام مما يعين بذاته وجب أن تكون ذاتيته معروفة وإذا كان الشيء مما يعين بنوعه لزم أن يذكر جنسه ونوعه ومقداره (1) والشرع والقانون وإن اتفقا على هذا الشرط من حيث المبدأ فقد اختلفا في التطبيق فالفقهاء يوجبون تعيين محل العقد تعيينًا تامًّا لا يتطرق إليه احتمال وإلا كان العقد فاسدًا عند أبي حنيفة وباطلًا عند غيره وأهل القانون يكتفون بكون المحل قابلًا للتعيين وإن لم يكن معينًا وقت العد كالتعهد بتوريد أغذية معينة النوع لمدرسة أو مستشفى. والعقود ثلاثة منها ما يرد على الذمم فيكون متعلقة الأجناس الكلية دون أشخاصها ويحصل الوفاء بمقتضاها بأي فرد من أفراد ذلك الجنس فإن دفع فردًا منه فظهر مخالفته للعقد رجع بفرد غيره وتبينا أن المعقود عليه باق في الذمة إلى الآن حتى يقبض من ذلك الجنس فردًا مطابقًا للعقد هذا متفق عليه. القسم الثاني مبيع مشخص الجنس فهذا معين وخاصيته أنه إذا فات ذلك المشخص قبل القبض انفسخ العقد اتفاقًا واستثنى من المشخصات صورتان: النقود إذا شخصت وتعينت للحس هل تتعين أم لا؟ وفي ذلك أقوال ثلاثة، الصورة الثانية المستثناة من المشخصات ما إذا كان لأحد على أحد دين فلا يجوز أن تأخذ فيه سكنى دار أو ثمرة يتأخر قبضها وهو يؤدي إلى فسخ الدين في الدين وقيل بجواز ذلك للتعيين، والتعيين لا يكون إلَّا في الذمة وما لا يكون في الذمة لا يكون دينًا، الأول لابن القاسم والثاني لأشهب من المالكية. القسم الثالث من الأقسام الثلاثة ما لا هو معين مطلقًا ولا هو غير معين مطلقًا بل فيه شبه للطرفين وهو بيع الغائب على الصفة فهو من جهة أنه غير مرئي أشبه ما في الذمة ولذلك قيل ضمانه من البائع وهو من جهة أن العقد لم يقع على جنس بل على مشخص معين أشبه المعين من هذا الوجه ولذلك قيل أن ضمانه من المشتري (2)

(1) انظر موجز النظرية العامة للالتزامات، للدكتور/ عبد الحي حجازي: ص66 وما بعدها

(2)

انظر الفروق، للقرافي في الفرق 189: قاعدة ما يتعين من الأشياء وما لا يتعين في البيع ونحوه: 3/261.

ص: 965

الشرط الثاني الخاص بالاستصناع أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس كطست وقمقم وخفين كأن يقول اصنع لي خفًّا طوله كذا وسعته كذا أو دستًا أي برمة تسع كذا ووزنها كذا على هيئة كذا بكذا، ويعطي الثمن المسمى أولًا يعطي شيئًا فيعقد الآخر معه وهذا جائز استحسانًا تبعًا للعين أما ما لا تعامل فيه فيمتنع ويرجع فيه للقياس الذي يقتضي المنع وعدم الجواز لأنه بيع معدوم وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم وهذا ليس بسلم لأنه لم يضرب له أجل. والقياس يترك بالاستحسان والاستحسان هنا هو الإجماع الثابت بالتعامل فإن الناس في سائر الأعصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من غير نكير والقياس يترك بمثله كدخول الحمام ولا يشكل ذلك بالمزارعة لأن للناس فيها تعاملًا على أن المعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا وقد ذكرنا أن المعقود عليه العين دون العمل وإنما العمل تابع. وعليه فمن شروط الاستصناع أن يكون مما فيه تعامل بين الناس أما ما لا تعامل فيه فإنا نرجع إلى القياس المقتضي للمنع لوجود الجهالة والعدم ويحمل على السلم ويأخذ أحكامه ومعلوم أن من شروط المسلم فيه أن يكون معلوم الجنس كأن يبين أنه من حنطة أو شعير وأن يكون معلوم النوع كأن يقول حنطة سقية أو سهلية أو جبلية وأن يكون معلوم الصفة كأن يقول جيدة أو رديئة أو وسط وأن يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العد أو الأذرع.

وكل هذه الشروط ترجع إلى إزالة الجهالة المفضية إلى التنازع وأن يكون رأس المال والمسلم فيه مختلفين جنسًا تجوز النسيئة فيه بينهما فلا يجوز إسلاف الذهب والفضة أحدهما في الآخر لأن ذلك ربا ولا يجوز تسليم الطعام بعضه ببعض على الإطلاق لأنه ربا ويجوز إسلاف الذهب والفضة والحيوان والعروض والطعام كما يجوز إسلاف العروض بعضها ببعض (1)

(1) البدائع: 5/207، ورد المحتار: 4/215 ـ 217، والقوانين الفقهية، لابن جزي: ص269.

ص: 966

الشرط السادس: أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين فإن كان مما لا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير لا يجوز السلم فيه لأن المسلم فيه مبيع والمبيع مما يتعين بالتعين والدراهم والدنانير لا تتعين في عقود المعاوضات فلم تكن مبيعة فلا يجوز السلم فيها.

الشرط السابع أن يكون المسلم مؤجلًا وقد اختلف العلماء في هذا الشرط فالمالكية والحنفية والحنابلة اشترطوا لصحة السلم أن يكون مؤجلًا ولا يصح السلم الحال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ". فهذا الحديث أمر بالأجل والأمر يقتضي الوجوب كما أوجب كون المسلم فيه مقدرًا بالكيل أو الوزن، ولأن السلم رخصة أجيز للرفق بالناس ولا يحصل الرفق إلا بالأجل فإذا انتهى الأجل انتهى الرفق فلا يصح حينئذ وباعتباره رخصة يقتصر على حال ورودها (1) وفي المنتقى للباجي أن الظاهر من مذهب مالك أن السلم لا يجوز إلا في مؤجل وبه قال أبو حنيفة وروى ابن عبد الحكم وابن وهب عن مالك يجوز أن يسلم إلى يومين أو ثلاثة وزاد ابن عبد الحكم أو يوم. قال القاضي أبو محمد: واختلف أصحابنا في تخريج ذلك على المذهب فمنهم من قال إن ذلك رواية في جواز السلم الحال وبه قال الشافعي ومنهم من قال أن الأجل شرط في السلم قولًا واحدًا وإنما تختلف الرواية عنه في مقدار الأجل والدليل على اعتبار الأجل أن ما اختص بالسلم فإنه شرط في صحته كعدم التعيين ووجه القول الثاني أن هذه معاوضة فلم يكن من شرط صحتها التأجيل كالبيع (2) وعند الشافعية يصح السلم حالًّا ومؤجلًا فإن أطلق عن الحلول والتأجيل وكان المسلم فيه موجودًا انعقد حالًّا لأنه جاز السلم مؤجلًا فلأنه يجوز حالًّا بالأولى لبعده عن الغرر وما ورد في الحديث، من قوله صلى الله عليه وسلم إلى أجل معلوم فمعناه العلم بالأجل للأجل نفسه. وفائدة العدول من البيع إلى السلم الحال هو جواز العقد مع غيبة المبيع فإن المبيع إذا لم يكن حاضرًا مرئيًّا لا يصح عند الشافعية، وإن أخر العقد لإحضاره فربما تلف وربما لا يتمكن المشتري من الحصول عليه كما لا يتمكن من فسخ العقد لأن العقد متعلق بالذمة وما ثبت بالذمة يلزم العاقد به (3) ولقد اتفق الفقهاء على أن الأجل لابد أن يكون معلومًا لقوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] .

(1) المبسوط: 12/125، والبدائع: 5/212، وفتح القدير: 5/355.

(2)

المنتقى، للباجي: 4/297

(3)

المهذب: 1/297.

ص: 967

ولقول الرسول في الحديث المتقدم إلى أجل معلوم ولأنه بتعريف الأجل يتحدد الوقت الذي يقع فيه قضاء المسلم فيه فإذا جهل الأجل وقع رب السلم في الغرر وبعد ما اتفقوا على وجوب معرفة الأجل اختلفوا في كيفية العلم به، قالت الحنفية والشافعية والحنابلة: لابد من تحديد زمن بعينه لا يختلف فلا يصح التأجيل للحصاد والدارس والنيروز وهو اليوم الأول من السنة القبطية وهو أول الربيع والمهجران وهو أول الخريف وقدوم الحاج ونحو ذلك كالصيف والشتاء وحجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلى أجل معلوم والتحديد بهذه الأوقات غير معلوم ومثير للنزاع حيث أنه يتقدم ويتأخر ويقرب ويبعد وزادوا فأكدوا ذلك بما رواه البيهقي في كتاب المعرفة من طريق الشافعي عن ابن عباس أنه قال: لا تبيعوا إلى العطاء ولا إلى الأندر ولا إلى الدياس ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم (1) أما المالكية فقالوا بجواز السلم إلى هذه الأوقات ويعتبر ذلك ميقاتها وهو الوقت الذي يحصل فيه غالب ما ذكر وهو وسط الوقت المعد لها الذي يغلب فيه الوقوع وحجتهم أن هذا أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة ولا يتفاوت فيه تفاوتًا كثيرًا فأشبه ما إذا قال إلى رأس السنة وضرب الأجل شرط في السلم وبعكسه الاستصناع فمن الحنفية من يرى أنه يشترط في عقد الاستصناع خلوه من الأجل وكلما ذكر الأجل في الاستصناع انقلب إلى سلم واعتبرت فيه شروط السلم (2) واستدل على اشتراط عدم ضرب الأجل في الاستصناع بأن السلم عقد على مبيع في الذمة مؤجلًا فإذا ضرب الأجل في الاستصناع صار بمعنى السلم وأخذ حكمه،

(1) العطاء: المناولة ـ والإنذار: البيدر أو المكدس من القمح ـ والدياس هو دوس الحب بالقدم ونحوه لينقشر. راجع: نصب الراية 4/21.

(2)

البدائع: 6/2678.

ص: 968

ولو كانت الصيغة استصناعًا كما احتج بأن التأجيل يختص بالديون لأنه وضع لتأخير المطالبة فتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة وليس هذا إلا في السلم لأنه لا دين في الاستصناع فإذا ضرب فيه الأجل وكانت تلك الصنعة معروفة فهو سلم في قول أبي حنيفة بمعنى تعتبر فيه شروط السلم من قبض رأس المال في المجلس ومن انعدام الخيار فيه لرب السلم إذا أحضره المسلم إليه وخالف في ذلك الإمامان أبو يوسف ومحمد واعتبراه استصناعًا على حاله اعتمادًا على العرف والعادة (1) إذ قد جرى العرف بضرب الأجل في الاستصناع وهو إنما جاز للتعامل ولولا التعامل لما جاز وقد جرى العرف بضرب الأجل فيه فلا يتحول إلى السلم بضرب الأجل وهو عقد جائز غير لازم وذكر الأجل تيسير فيه وتأخير المطالبة فلا يتغير العقد به من جنس إلى آخر ولو كان الاستصناع بذكر الأجل فيه يصير سلمًا لصار السلم بحذف الأجل منه استصناعًا ولو كان هذا سلمًا لكان سلمًا فاسدًا لأنه شرط فيه صنعة صانع بعينه وذلك مفسد للسلم فالاستصناع عندهما إذا أطلق يحمل على حقيقته ولا ينقلب سلمًا ولو لم يضرب الأجل لأن كلام المتعاقدين يحمل على مقتضاه وإذا كان كذلك فالأجل حينئذ يحمل على الاستعجال لا الاستمهال ولم يرتض السرخسي قولهما ورد كل ما ضرب فيه الأجل إلى السلم موضحًا أن الأجل مؤخر للمطالبة ولا يكون ذلك إلا بعد لزوم العقد واللزوم إنما هو في السلم دون الاستصناع فثبوت الأجل دليل على أنه سلم وذكر الصنعة لبيان وصف المسلم فيه ولهذا لو جاء به مفروغًا لا من صنعته يجبر على القبول قال السرخسي وبهذا يظهر فساد قولهم أنه سلم شرط فيه صنعة صانع بعينه قال السرخسي: نعم،إذا قال على سبيل الاستعجال: أفرغ منه غدًا أو بعد غد، فهذا لا يكون سلمًا لأن ذكر المدة للفراغ من العمل لا لتأخير المطالبة بالتسليم أي أنه ذكر أدنى مدة يمكنه الفراغ من العمل ويحكى عن الهندواني قال: إن كان ذكر المدة من قبل المستصنع فهو للاستعجال ولا يصير به سلمًا وإن كان من الصانع فهو سلم لأنه يذكر على سبيل الاستمهال وقيل أن ذكر أدنى مدة يتمكن فيها من الفراغ من العمل فهو استصناع وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم لأن ذلك يختلف باختلاف الأعمال فلا يمكن تقديره بشيء معلوم (2)

(1) تحفة الفقهاء: 2/539

(2)

المبسوط: 12/140

ص: 969

الآثار العامة للاستصناع:

الاستصناع عقد غير لازم عند أكثر الحنفية سواء تم أو لم يتم وسواء كان موافقًا للصفات المتفق عليها أم غير موافق، لكن ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه إن تم صنعه حسب الاتفاق مطابقًا للأوصاف المتفق عليها يصير لازمًا عند أبي يوسف فإن لم يطابق لها فهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء رده وقد اختارت مجلة الأحكام العدلية في مادتها 392 قول أبي يوسف من لزوم عقد الاستصناع، وذلك لما يترتب على استقلال أحد الطرفين بفسخه من المضار إذا كان مطابقًا للوصف المتفق عليه. وينعقد الاستصناع على العين لا على عمل الصانع ويكون في كل ما جرى به التعامل وشرط صحته بيان الجنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته ولا يصح فيما لا تعامل فيه إذا ضرب له شهرًا فأكثر ويكون حينئذ سلمًا يعتبر فيه شروط السلم كذلك يعتبر سلمًا إذا ضرب له أجل بشهر فأكثر ولو كان ما جرى به العمل وكل هذه الأحكام مستفادة من الدر وحاشيته رد المحتار أواخر السلم. وإذا عين في العقد بدء المدة اتبع ما نص عليه في العقد وإلا فمن تاريخ العقد إلا إذا قضت ظروف العقد أو العرف بغير ذلك. ويظهر هذا ويتجلى في عقود العمل وكثيرًا ما تكون بين أصحاب الشركات والمعامل وبين من يعمل فيها وقد تكون بين الصانع وصاحب رأس المال وكثيرًا ما كان العامل ضحية مالك رأس المال يستغله وينتفع بثمرة عمله إلى أبعد حدود الاستغلال حتى إذا شاخ أو أصيب بعاهة ولو من جراء عمله تركه صاحب المعمل وهكذا يكون فريسة للفقر والمرض. فسنت قوانين لتأمين العمال في عملهم وفي حياتهم حتى الممات واشترطت أن العامل إذا مرض يداوى على حساب من يعمل عنده في معمله وإذا أصيب يعطى أجره كاملًا مدة من الزمن ثم يعطى نصف الأجرة فإذا عجز أحيل على المعاش وكانت هذه الشروط قد وضعت لحماية العامل من طغيان أرباب رؤوس الأموال على العمال واستنفاذ قواتهم لمصلحتهم بلا تفكير فيمن كانوا سببًا مباشرًا لإثرائهم،

ص: 970

وقام بعد ذلك من يدافع عن أصحاب رؤوس الأموال وضنوا بتطبيق هذه القوانين التي هي لفائدة العمال ووضعوا عقدًا يسمى عقد العمل ودونوا فيه من البنود ما لو تمسك بها الطرفان لما استفاد العامل بشيء ولو كانت إصابته وقت العمل بل ولو ذهبت بحياته كل ذلك تحايلًا على الإفلات من تطبيق القوانين قوانين حماية العمال وهو في غاية الاحتياج لسد الرمق يقدم له العقد المذكور فإن نازع فيه رفض ولكنه لشدة احتياجه وتحت تأثير الضرورة يتقدم ويمضيه ومثل هذا العقد في الواقع باطل لأنه فقدت فيه إرادة العامل هذا من جهة ومن جهة أخرى ففيه إسقاط الحق قبل وجوبه وكل حق أسقط قبل وجوبه لا يلزم لأن التنازل وإسقاط الحقوق إنما يكون عن شيء محقق أو مقدر الوجود غالبًا ولذا تعهد العامل بأن لا يطالب صاحب العمل بتعويض عما يصيبه في عمله كان تعهده هذا باطلًا، وأما ضمان الصناع شرعًا فإنهم يضمنون ما هلك عندهم إذا كانوا يأخذون العمل في بيوتهم ودكاكينهم أو يغيبون عليه دون حضور صاحبه فكان لزامًا أن يضمنوا كل ما أتى على أيديهم من حرق وكسر أو قطع في المصنوع إن قام بالعمل في محله والقاعدة العامة أن الأجير ليس بضامن لما هلك عنده مما استوجب عليه لأنه أمين ولا ضمان على الأمين إلا أن يتعدى سواء أكان التعدي بالنفس أو بالسبب لعدم الاحتياط والإهمال فإن هلك بغير تعديه ومع احتياطه فلا ضمان عليه كذلك لا ضمان عليه لما فيه غرر كثقب الجواهر ونقش الفصوص وقد ضمَّن مالك رحمه الله الصناع لما هلك عندهم عملًا بقول علي: لا يصلح الصناع إلا ذلك، اللهم إلا أن تقوم لهم بينة على هلاكه من غير تعديهم ومن التزم عملًا ملحوظًا فيه شخص الملتزم كخياط معروف أو نجار أو حداد مثلًا معينًا فيتعين عليه أداء الالتزام بنفسه حسب التعاقد فإن أداه غيره فللملتزم له الامتناع عن القبول ولو تلفت مادة الالتزام فالملتزم ضامن لأنه يجعله الغير يفي بما التزم هو به مع أنه هو المقصود بالذات اعتبر ذلك تعد منه والمتعدي ضامن والصانع أحق بما صنع مما تحت يده متى كان يعمل في بيته أو حانوته حتى يأخذ أجره ومعنى هذا إن عامل الغرس والبناء كالبستاني وكالبناء والمهندس له حق الامتياز على ما عمل ما لم يسلمه لربه ومتى سلمه لربه حاصص بدينه كبقية الغرماء كالصانع فإن سلم ما تحت يده للمالك فلا امتياز له بل يشارك كبقية الغرماء (1) ،

(1) المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي، لعبد الله علي حسين:3/90

ص: 971

وخيار الرؤية يثبت بالشرع لا بالشرط أي دون حاجة إلى شرط خاص يدرج في العقد بخلاف خيار الشرط وخيار التعيين بل لابد لثبوتهما من شرط خاص بحيث إذا انعدم هذا الشرط لم يقم الخيار ويثبت خيار الرؤية في الفقه الحنفي لمن لم يكن قد رأي المعقود عليه بحيث يكون له عندما يراه أن يمضي العقد أو أن يفسخه دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رأه وفي خليل عند قوله وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية قال الحطاب يعني يجوز بيع الغائب ولو بلا وصف لكن يشترط أن يجعل للمشتري الخيار إذا رآه وأما إذا انعقد البيع على الإلزام أو سكتًا على شرط الخيار فالبيع فاسد نقله عن ابن عبد السلام ويفهم هذا من قول خليل على خياره وقيل الغائب لا يباع إلا على الصفة أو رؤية متقدمة قال في المقدمات وهو الصحيح. والبيع لا ينعقد إلا على صفة توصف أو على رؤية قد عرفها أو على شرط في عقد البيع أنه على الخيار إذا رأى، فكل بيع ينعقد في سلعة بعينها غائبة على غير ما وصفنا فهو منتقض (1) قال ابن الهمام: وإن اشترى الشيء وهو يراه فلا خيار له وإذا كان رآه قبل ذلك فإن ظل المبيع على حاله ولم يتغير فلا خيار له وإن كان قد تغير عن حاله فله الخيار لأنه إذا تغير عن حاله فقد صار شيئًا آخر فكان مشتريًا شيئًا لم يره فله الخيار إذا رآه (2)

(1) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: 4/296، مطبعة السعادة 1329هـ، والمهذب: 1/3 ـ 264، والمغنى: 4/74 ـ 90

(2)

فتح القدير: 5/141

ص: 972

ومن باب الاستصناع العقود الواردة عن العمل وهو المعبر عنها بالمقاولات والمقاولة عقد يلتزم بمقتضاه أحد الطرفين أن يؤدي عملًا للطرف الآخر مقابل عوض دون أن يكون تابعًا له أو نائبًا عنه ويجوز أن يقتصر التزام المقاول على تنفيذ العمل المتفق عليه على أن يقدم رب العمل المواد اللازمة لذلك كما يجوز أن يلتزم المقاول بتقديم المواد كلها أو بعضها إلى جانب التزامه بالعمل فإذا التزم بتقديم مواد العمل كلها أو بعضها وجب أن تكون هذه المواد مطابقة للموصوفات المتفق عليها فإن لم يقع التعرض لموصوفات المواد وجب أن تكون المواد وافية بالغرض المقصود فإن ظهر في هذه المواد أو في بعضها عيوب ضمنها المقاول وللمشتري رفض المبيع ويضمن المقاول كل عيب يتعذر كشفه عند تسليم العمل وذلك وفقًا للأحكام ضمان العيب في الشيء المبيع.

وإن كانت مواد العمل مقدمة من رب العمل وجب على المقاول أن يبذل في المحافظة عليها عناية الشخص العادي وأن يراعي أصول الفن في استعمالها واستخدامها وأن يقدم حسابًا عنها لرب العمل ويرد عليه ما بقي منها بعد استفراغ العمل فإذا فسدت أو انعدم صلاح بعضها ولم تبق صالحة للاستعمال بسبب إهمال المقاول أو بتقصير منه أو بقصور كفاية فنية وجب عليه قيمتها أو التعويض عما فسد إن كان له مقتض.

وإذا ظهر أثناء العمل عيوب في المواد التي قدمها رب العمل للعامل وجب على العامل أن يخطر فورًا رب العمل بذلك فإذا أهمل ولم يخبره بذلك كان مسؤولًا على ما يترتب على إهماله من نتائج وكذلك إذا قامت عوامل أخرى تعوق العامل أو المقاول من تنفيذ العمل في أحوال ملائمة فإن لم يخطر رب العمل فورًا كان مسؤولًا عن نتائج ذلك.

ص: 973

التزامات المقاول:

على المقاول أن ينجز العمل طبقًا للشروط الواردة في عقد المقاولة وفي المدة المتفق عليها فإن لم تكن هناك شروط أو لم يقع الاتفاق على أجل التزم بإنجاز العمل حسب ما يقتضيه العرف في أمثالها وحسب المدة المعقولة التي تقتضيها طبيعة العمل وعرف الحرفة كما على المقاول أن يأتي على نفقته بكل ما يحتاج إليه في إنجاز العمل من عمالة وأدوات ومهمات ما لم يقع الاتفاق على غير ذلك.

وإذا تبين أثناء سير العمل أن المقاول يقوم بتنفيذ ما عهد إليه على وجه معيب أو مخالفًا لمقتضيات العقد فلرب العمل أن ينذره لتصحيح طريقة التنفيذ خلال أجل معقول يضربه له فإن انقضى الأجل ولم يرجع المقاول في التنفيذ في الطريقة الصحيحة أو المتفق عليها جاز لرب العمل أن يطلب فسخ العقد أو الإذن له بأن يعهد إلى مقاول آخر بإنجاز العمل على نفقة المقاول الأول متى كانت طبيعة المقاولة تسمح بذلك كما يجوز له فسخ العقد دون إنذار أو تحديد أجل إذا كان إصلاح العيب أو المخالفة مستحيلًا أو ممتنعًا، وللقاضي رفض طلب الفسخ إذا كان العيب في طريقة التنفيذ ليس من شأنه أن يقلل إلى حد كبير من قيمة العمل أو من صلاحيته للاستعمال المقصود لكن يثبت لرب العمل التعويض إذا كان له مقتضى.

وإذا تأخر المقاول في البدء في تنفيذ العمل أو في إنجازه تأخرًا لا يرجى معه مطلقًا أن يتمكن بالقيام بما عهد له كما ينبغي في المدة المتفق عليها جاز لرب العمل فسخ العقد دون انتظار لحلول أجل التسليم. وكذا إذا اتخذ المقاول مسلكًا ينم عن نيته في عدم تنفيذ الالتزام أو أن يأتي فعلًا ما من شأنه أن يجعل تنفيذ هذا الالتزام مستحيلًا وكل هذه الأحكام منشؤها قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

وإذا هلك الشيء المقاول عليه أو تلف بسب حادث مفاجئ أو بقوة قاهرة قبل تسليمه لرب العمل فليس للمقاول أن يطلب بالثمن المتفق عليه ولا يرد نفقاته ما لم يكن رب العمل قد أجل التزامه وتسلم العمل فإذا حل أجل التسليم وتأخر عن تسلمه حسب الاتفاق فوقع الحدث المفاجئ حق للمقاول أن يطالب برد نفقاته لأن الإخلال بسبب رب العمل وكذلك إذا كانت المواد مقدمة من رب العمل وهلك الشيء أو تلف قبل تسليمه له بسبب حادث مفاجئ أو قوة قاهرة فليس له أن يطالب المقاول بقيمة تلك المواد ما لم يكن المقاول وقت الهلاك أو التلف مخلًّا بالتزامه بتسليم العمل لصاحبه ولم يثبت أن الشيء كان ليتلف لو أنه قام بالتسليم من غير إخلال بالتزامه وتعتبر مواد العمل مقدمة من رب العمل إذا كان قد أدى للمقاول قيمتها أو عجل له مبلغًا تحت الحساب يشمل هذه القيمة.

ص: 974

والفرق بين الطوارئ الحادثة غير المتوقعة وبين القوة القاهرة هو أن الطوارئ الحادثة غير المتوقعة يصبح تنفيذ الالتزام التعاقدي مرهقًا يجاوز حدود السعة دون أن يكون مستحيلًا وأما القوة القاهرة فهي التي تتحقق فيها الاستحالة ونظرية الطوارئ غير المتوقعة تستجيب لحالة ملحة تقتضيها العدالة فهي تستهدف بالنقد باعتبارها مدخلًا لتحكم القاضي ولم تترك هذه الطوارئ لتقدير القاضي تقديرًا ذاتيًّا وشخصيًّا بل قيد ذلك بأن اقتضت العدالة ذلك وهي عبارة تشير إلى توجيه موضوعي النزعة وعليه فإذا تثبت القاضي من قيام الطوارئ غير المتوقع عمد إلى إعمال الجزاء برد الالتزام الذي أصبح يجاوز السعة إلى الحد المعقول وشرط الحادثة الطارئة أن تكون حادثة استثنائية عامة كالفيضان مثلًا والجراد ونحو ذلك مما لا يختص بالشخص كالحريق مثلًا. ثم نظرية الطوارئ غير المتوقعة تختلف عن نظرية القوة القاهرة في أن الطارئ غير المتوقع لا يجعل التنفيذ مستحيلًا بل يجعله مرهقًا يجاوز السعة دون أن يبلغ به حد الاستحالة ويستتبع ذلك قيام فارق آخر يتصل بالجزاء فالقوة القاهرة تقضي على انقضاء التزام وعلى هذا النحو يتحمل تبعاتها كاملة. أما الطارئ غير المتوقع فلا يترتب عليه إلا إنقاص الالتزام إلى الحد المعقول وبذلك يتقاسم تبعته الطرفان. ومرجع هذه الأحكام منشؤها الإعذار في المذهب الحنفي والجوائح في المذهب المالكي والحنبلي مع خلاف في الأحكام في المساواة بين طرفي العقد التبادلي وفي العدالة عمومًا (1) وقد وقع في سنة 1250 في غلة حب الزيتون عاهة وهي الدود ولا يليق عصره في معصرة ضرب الماء لأنه يفسد لون الزيت فعدل الناس إلى عصره بمعصرة السلنطي وتركوا معصرة ضرب الماء وقد كان إنسان اكترى معصرة من معاصر ضرب الماء أوائل الشتاء فوقعت العاهة بالحب فقل الواردون لمعصرة ضرب الماء فتضرر المكتري بذلك

وطلب فسخ الكراء عن نفسه كالفنادق إذا قل الواردون إليها لفتنة فهو عيب يوجب خيار المكتري ولا يلزم المسوغ أن يحط من الكراء والله أعلم (2) وإذا طرأت قوة قاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلًا في العقود ينفسخ العقد من تلقاء نفسه وهذا إذا كانت الاستحالة كلية فإذا كانت جزئية انقضى ما يقابل الجزء المستحيل ومثل الاستحالة الجزئية الاستحالة الوقتية في العقود المستمرة وفي كليهما فسخ العقد بشرط علم الطرف المقابل. ويضمن المقاول ما تولد عن فعله وصنعه من ضرر أو خسارة سواء أكان بتعديه أو بتقصيره أم لا وينتفي الضمان أو الخسارة إذا نجم ذلك عن حادث لا يمكن التحرز منه.

(1) يراجع فيما يتعلق بالحوادث الطارئة غير المتوقعة: الكاساني: 4/197 ـ 199، والهندية: 4/459 ـ 462، وابن عابدين: 5/76، ومصادر الحق: 6/95 ـ 118.

(2)

من لفظ الدرر فيما به العمل من مذهب دار الهجرة، لمحمد السنوسي: فصل جوامع الكراء: ص166

ص: 975

وإذا كان لعمل المقاول أثر في العين جاز له حبسها حتى يستوفي الأجرة المستحقة فإذا تلفت في يده قبل سداد أجره فلا ضمان عليه ولا أجر له أما إذا لم يكن لعمله أثر في العين فلا حق له في حبسها لاستيفاء الأجرة فإن فعل وتلفت كان عليه ضمان الغصب، وإذا كان عقد المقاولة قائمًا على تقبل بناء يصنع المهندس تصميمه على أن ينفذه المقاول تحت إشرافه كانا مشتركين في التعويض لصاحب العمل على الخلل الحاصل بسببهما من تقصير أو تعد وعن كل ما يحدث في خلال عشر سنوات من تهديم كلي أو جزئي فيما شيداه من البناء وما أقاماه من منشآت وهما مسؤولان وضامنان لكل عيب يهدد متانة البناء وسلامته فإذا تضمن العقد السلامة لمدة أطول كانا ضامنين للمدة المتفق عليها وهما ضامنان وإن كان الخلل ناشئًا عن عيب في الأرض ذاتها لعدم احتياطهما لذلك. وتبدأ مدة الضمان من وقت تسلم المحل فإذا اقتصر عمل المهندس على وضع التصميم من غير إشرافه على التنفيذ كان مسؤولًا عن عيوب التصميم لقوله صلى الله عليه وسلم:((الخراج بالضمان)) . لا عن عيوب التنفيذ لأن الغرم بالغنم وإذا عمل المقاول بإشراف مهندس آخر فلا يكون مسؤولًا عن التصميم ولكن يكون مسؤولًا عن عيوب التنفيذ لأن الغرم بالغنم كما قدمنا. ولو شرط المهندس أو المقاول الإعفاء من المسؤولية وحط الضمان عنه والحد منه كان الشرط باطلًا ووجب عليه الضمان لأن هذا الشرط ينافي المصلحة مع حق الآخرين لكن إذا سكت رب العمل عن العيوب التي انكشفت أو عن التهديم الذي حصل سنة كاملة وبعدها قام بدعوى الضمان سقط حقه فيه وذلك أخذًا بقاعدة مبدأ المنع من سماع الدعوى وبمبدأ تخصيص القضاء (1) وقرر بعضهم السقوط بعد ثلاث سنوات تنزيلًا له منزلة من أخرج الشيء من يده والخراج بالضمان.

(1) أحكام التزامات المقاول: 4/211 وما بعدها؛ والمغني لابن قدامة: 6/33 ـ 36 وما بعدها، ورد المحتار 5/10 و11، وتحفة الفقهاء: 2/484 ومن المواد التي: 43 و 58 و 85 و 87 و 88 و 392 و 482 و 483 و 574 و 608 و 609 و 611 و 891 و 1387 و 1398 و 1660 و 1801 من المجلة وشرحها لعلي حيدر الأتاسي والمواد 613 و 620 من مرشد الحيران.

ص: 976

التزامات صاحب العمل:

أما صاحب العمل فيجب عليه أن يتسلم العمل متى أنجزه المقاول ووضعه تحت تصرفه فإذا امتنع بغير سبب مشروع رغم دعوته لذلك وتلف في يد المقاول أو تعيب بدون تقصير منه فلا ضمان عليه وعلى صاحب العمل أن يبادر إلى دفع الأجرة عند تسليم المعقود عليه إلا إذا كان الاتفاق على غير ذلك أو جرى العرف في ذلك على طريقة مخصوصة وإذا تم عقد المقاولة على أساس الوحدة وبمقتضى تصميم معين وذلك لقاء بدل محدد لكل وحدة ثم تبين أن التنفيذ يقتضي زيادة حسية في النفقات جاز لصاحب العمل بعد إعلامه بمقدار الزيادة جاز له أن يتحلل من العقد مع أداء قيمة ما أنجزه المقاول من العمل وفقًا لشروط العقد أو قبول متابعته مع التزامه بالزيادة فإذا لم تكن الزيادة جسيمة ولكنها محسوسة وضرورية لتنفيذ التصميم المتفق عليه وجب على المقاول أن يخطر رب العمل قبل الاستمرار في التنفيذ بمقدار ما يتوقعه من زيادة في النفقات فإذا مضى في التنفيذ دون إخطار فلا حق له في طلب الزيادة. وإذا أبرمت المقاولة على تصميم وقع الاتفاق لقاء أجر معين فليس للمقاول أن يطالب بأية زيادة بسبب تعديل أو إضافة في هذا التصميم إلا إذا كان التعديل والزيادة من صاحب العمل وبرضاه فإذ ذاك يراعي الاتفاق الجاري مع المقاول بشأن هذا التعديل أو الإضافة فإن لم يقع الاتفاق على الأجر ولم يقع تعينه استحق المقاول أجر المثل مع قيمة ما قدمه من المواد التي يتطلبها العمل وكذلك إذا لم يقع الاتفاق مع المهندس الذي قام بتصميم للبناء وقام على الإشراف على التنفيذ فإن لم يتفق على أجر المثل طبقًا لما جرى به العرف والعادة محكمة كما هو معلوم فإذا طرأ ما يحول دون إتمام تنفيذ العمل طبقًا للتصميم الذي أعده استحق أجر المثل فيما قام به من العمل دون الباقي. (1)

(1) أحكام التزامات رب العمل، أشارت إليها مجلة الأحكام العدلية في موادها 225 - 226 - 439 - 466 - 468 - 469 - 473 - 563 - 580 - 582- 610 - 768 من المجلة وشرحها لعلي حيدر والأتاسي. والمواد 582 - 583 - 619 - 624 - 629 من مرشد الحيران

ص: 977

المقاول الثاني: يجوز للمقاول أن يكل تنفيذ العمل كله أو بعضه إلى مقاول آخر إذا لم يمنعه شرط في العقد من ذلك ولم تكن طبيعة العمل تقتضي أن يقوم به بنفسه وتبقى مسألة المقاول قائمة قبل صاحب العمل ولا يجوز للمقاول الثاني أن يطالب صاحب العمل بشيء مما يستحقه المقاول الأول إلا إذا أحاله على رب العمل (1)

انتهاء المقاولة: ينقض عقد المقاولة بإنجاز العمل المتفق عليه أو بفسخه رضاء أو قضاء وكذلك تنتهي إذا حصل عذر يحول دون تنفيذ العقد أو إتمام تنفيذه فيجوز لأحد عاقديه أن يطلب فسخه لكن إذا بدأ المقاول في التنفيذ ثم أصبح عاجزًا عن إتمامه لسبب لا يد له فيه فإنه يستحق قيمة ما تم من العمل وما أنفقه في سبيل التنفيذ بقدر ما يعود على صاحب العمل من نفع ولمن تضرر من الفسخ أن يطالب الطرف الآخر بتعويضه في الحدود التي يقرها العرف (2) وتفسخ المقاولة بموت المقاول إذا كان متفقًا على أن يعمل بنفسه أو كانت مؤهلاته الشخصية محل الاعتبار في التعاقد فإذا خلا العقد من ذلك ولم تكن مؤهلاته الشخصية أو إمكاناته محل اعتبار في التعاقد فلا ينتهي العقد من تلقاء نفسه ولكن يجوز لرب العمل إنهاؤه إذا لم تتوفر في ورثته الضمانات الكافية لحسن تنفيذ العمل وفي كلا الحالتين للورثة قيمة ما تم من العمل والنفقات وفقًا لشروط العقد وما يقتضيه ولرب العمل أن يطالب بتسليم المواد والله أعلم وأحكم.

الشيخ كمال الدين جعيط

(1) بدائع الصنائع: 4/208، ورد المختار: 5/11 و 12 والمواد 571 - 573 من المجلة وشرحها والمواد 621 - 626 - 627 من مرشد الحيران

(2)

مرجع ذلك قاعدة لا ضرر ولا ضرار. وهو حديث رواه مالك والشافعي عنه وعن يحيي المازني مرسلًا وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي شيبه والدارقطني عنه وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وجابر وعائشة وغيرهم. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما ظهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل ابن محمد العجلوني الجراحي بتعليق أحمد القلاش الحلبي، طبعة مؤسسة الرسالة 2 صحيفة 491.

ص: 978