المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصر

إعداد

الشيخ القاسم البهيقي المختار

المدرس في الجامعة الإسلامية بالنيجر

بسم الله الرحمن الرحيم

المدخل الرئيسي:

يندهش الكثير من المؤرخين من السرعة الفائقة التي انتشر بها الإسلام في أقاليم شاسعة متباعدة من الأرض، قد اكتسح إمبراطورية الفرس، وهزم الروم في الشام ومصر وشمال إفريقيا، ولاحقهم حتى توقف مؤقتًا على أبواب القسطنطينية - التي سقطت فيما بعد ـ وتابع مده في شبه جزيرة أبريا، وواصل إلى جبال البرانس، واتجه شرقًا إلى تركستان وتوغل في الهند، وأصبح للمسلمين السيطرة على أجزاء كبيرة من حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى سواحل شمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسي، واجتاز الصحراء جنوبًا، فهدت أنواره الركاب في متاهات الصحراء، وأضاءت الغابات، وسارت السفن بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهر السنغال ونهر النيجر.

ونرى هذا الدين الحنيف، هذا الدين الحق، هذا الدين السمح، قد استقر في البقاع، وأسس حضارة مزدهرة، وهذب أخلاقًا، وقوّم سلوكًا، وأنشأ علومًا وفكرًا وثقافة، وشيد جامعات ومدارس، وحول المساجد دورًا للعلم والعبادة، وصهر شعوبًا مختلفة جنسًا ولونًا ولسانًا، وعادات وأرضًا، وأنماط سلوك، في بوقته كادت أن تكون واحدة أزال الحواجز، ومهد سبل الاتصال، وشجع التفاعل المثمر، وحذر من التباغض والتخاصم والتشاحن، ودعا إلى التعاون والتضامن وتقوية أواصر المعرفة بين المسلمين، وألح على أهمية العلم والتفكير في ملكوت الله، والبحث عن المعرفة، ولو تجشم الطالب في سبيلها المشاق والمتاعب، وكانت أولى السور التي نزلت من الذكر الحكيم تصر على القراءة والعلم:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}

رددها المسلمون، وفهموها فترة من التاريخ، فانكبوا على العلم، وبحثوا عن المعرفة في كل مظانها، وذللوا في سبيلها المشاق والأهوال، فصمدوا، فكان لهم ما أثبته التاريخ من ازدهار معرفة، وثراء حضارة، فكانت الجامعات والمدارس ودور الحكمة، فالبحث والمثابرة، فالإنتاج الضخم العملاق، فإذا بمشاعل الفكر والمعرفة الإنسانية مضيئة في أيديهم، يهدون بها البشرية ردحًا من الزمن، فاقتبست منهم الشعوب، وغرفت من معارفهم: في الطبيعة، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، والفلسفة، والشريعة، والتاريخ، والجغرافيا، والرحلات، وفى مجالات أخرى من أنواع الفكر الإنساني وحضارته وآدابه.

ص: 2151

الصراع المبكر:

إن هذه اللمحة التاريخية لم تشر إلا إلى ما كان معروفًا لدى كل متابع نزيه لمسيرة الإسلام، ذلك الدين الذي رغم مواجهته – منذ سطوع نوره – للفكر الوثنى الجاهلى، والكتاب المبدل، استطاع – بعون الله – أن يصمد أمام كل المواجهات الإضطهادية والحربية والنفسية والفكرية، حتى أن محمدا المصطفى صلوات الله عليه وسلامه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا والدولة الإسلامية قد رست بأسسها في المدينة المنورة.

وكلما انتشر الإسلام واتسعت رقعته، وتباينت الشعوب التي أفاض الله عليها بنوره، وتنوعت ثقافاتها وعاداتها، وضخم تراثها الفكرى، وضحت قوة مبادئ الإسلام، وأصالتها، ومقدرتها على التأثير العميق الفعال في الشعوب، إذ ما لبث الإسلام أن احتوى أقدم الحضارات من فارسية ورومية ومصرية وهندية وغيرها، فهذبها ووجهها، واستوعب فكرها، وحفظه، وأضاف إليه، وكان الإسلام قد قوم قبل ذلك رعونة البدو، وأبطل الكثير من عاداتهم السيئة، وقادهم إلى الاستعصام بحبل الله المتين، فأصبحوا أمة رائدة، بعد أن كانوا قبائل متناحرة يتربص بعضها ببعض، تسفك بينها الدماء لآتفه الأسباب، وتجر فيها الحروب إذيالها عشرات السنين بلا وعى، ولا منطق مقبوول، يولد فيها الأبناء، ويموت الآباء، ولما جاء الإسلام ألف بين القلوب النافرة، المتنافرة، المتناحرة، قلوب لو أنفق البشر ما في الأرض جميعا ما تآلفت. ولكن الله ألف بينهم، وكان ذلك من معجزات الإسلام الخالدة.

وكان العصر العباسى الأول مثالًا لمتانة الإسلام وصلابة أسسه، فقد اشتبك على ميادين مكشوفة مع حضارات وفلسفات قديمة رسخت منذ قرون، وقام على فكرها وأيديولوجياتها شعوب ودول كانت آنذاك ذروة المد التاريخى والحضارات المعروفة، فهيمن عليها واحتواها، وهذبها ونقاها بعد أن عرضها على موازينه، موازين القسط، موازين عقيدة الإسلام، عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، عقيدة قامت على تحصين ضمير المسلم وجعله حيًّا يقظًا إلى درجة أنه لا يحتاج إلى عيون تتجسس عليه، ولا إلى عسس يترقبونه في حركاته وسكناته فأصبح قويًّا في ضميره، عزيزًا في نفسه، متواضعًا في سلوكه، بشوشًا في وجهه، سموحًا في معاملاته، جادًّا مخلصًا في عمله، يرجو به ثواب ربه في دنياه وآخرته، فلم يكن إمعة يسير بلا عدى وراء الأخرين، ولا يشعر في نفسه بأى مركب نقص، ولا يخاف إلا من الله خالقه.

فإنه رغم تدفق هذه الحضارات العريقة، وتشجيع خلفاء بنى العباس للحركة العلمية والفكرية وتنافس العلماء والشعراء والكتاب والترجمة، وتنافس الأعيان والوزراء في إقتناء الكتب وإنشاء المكتبات ودعم العلم والعلماء ، ورغم حرية القول، وانتشار مجالس المحاورات والمناظرات بين العلماء والأدباء وأهل الملل من مختلف الأجناس والديانات من مسلمين وفرقهم، ونصارى ومذاهبهم المختلفه ويهود وصائبه وزادشتيين ومانويين.. إلخ.

فرغم كل هذا، فقد بقى الإسلام ثابت الأساس صامدًا صمود الحق لا يتزعزع، بل هيمن على كل علم وفكر ، وكل ثقافة جرى معها في حلبة السباق، فإذا بأرسطو وأفلاطون وأبقراط وجالينوس وغيرهم ينطقون باللغة العربية بعد أن صارت لغة الذكر الحكيم لغة الإسلام الخالد، وفكره المزدهر، وحضارته الرائعة.

ص: 2152

بصمات الإسلام على الفكر الإنسانى.

ولقد ترك الإسلام بصماته في كل مجالات المعرفة الإنسانية، فلم يكتف بالنقل، ولم يرض بحفظ الأسفار وحملها كالحمار، بل محص المعرفة الإنسانية فميز غثها من سمينها، ووضعها على موازينه، موازين عقيدته الصافية، فلم ينبهر ببهرجتها، ولم يقع في حبائلها، بل نقدها نقد العارف الفنان الواثق بنفسه، فتناولها علماؤه بالشرح والبيان ونموها وزادوا عليها فابدعوا على ربط الروح بالمادة ومزج الدين بالفكر وتوجيه المجتمع الإسلامي في إطار ينتظم الأخلاق والقيم الدينية في إنسجام وتناسق وتعاون وتكامل بين الدين والدنيا، وبين الحياة العاجلة المرحلية والحياة الآجلة الأبدية.

الإسلام منهج كامل للحياة البشرية:

فالإسلام نظم جميع نشاطات الإنسان في حياته الروحية والأخلاقية كما في حياته الاجتماعية والسياسية. (لم يتطلب الإسلام قناعة ببعض الحقائق فحسب، بل فرض مجموعة من الفرائض التي تحكم في التنظيم الزمنى لأمة المؤمنين، على هذا الوحى استندت حياة المسلم، ومن حوله انتظم – منذ حقبة قديمة – العالم الإسلامي الإمبراطوري وحضارته (1) .

(فالإسلام إذن لم يكن دينًا بالمعنى المحدود، أو المعنى اللاهوتى الصرف، ولم يكن ولن يكون ممثلًا للجانب الروحى الخاص بالعلاقة بين الله والإنسان على النحو الذي فهمه الغرب من الدين، وإنما الإسلام أشمل وأعم من ذلك، فهو منهج كامل شامل، وهذا الجانب اللاهوتى جزء منه لا ينفصل.

ومن هذا فإن كل ما يقال عن عزل الدين عن التربيه أو التاريخ أو الأدب أو الاجتماع أو الأخلاق أو السياسة، إذا جاز في عرف الغربيين فإنه لايجوز عند تطبيقه على الإسلام الذي ليس دينًا على النحو الذي عرفه الغرب) (2) .

"الإسلام منهج ، منهج حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها ، منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة الوجود ويحدد مكان الإنسان في هذا الوجود ، كما يحدد غاية وجوده الإنساني ، ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق عن ذلك التصور الاعتقادي ، وتستند إليه ، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه والأسس التي تقوم عليها والسلطة التي يستمد منها ، والنظام السياسي وشكله وخصائصه ، والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته ، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته".

وهذه الشمولية هي جوهر مشكله الإسلام مع الأيديولوجيات والعقائد الأخرى وأذنابهم.

(1) دومنيك وجانين سورديل: الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبى، الجزء الأول: ص 101 ترجمة ديمون بلوخ، طبعة دار الحقيقة، بيروت

(2)

الأستاذ أنور الجندى: أصالة الفكر العربى الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافى: ص 104 – كتب إسلامية – العدد 100 المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة

ص: 2153

أثر عقيدة الإسلام:

وهذا الفهم العميق الشامل لعقيدة الإسلام وما انبثق عنها من فكر ومثل وأخلاق ونظم وحكم وسياسة وعلم واقتصاد وشريعة وثقافة وحضارة هو الذي حدا المسلمين أن يقوموا بدور رائد في الفكر الإنسانى وحضارته وثقافته، فهم رواد المعرفه الإنسانية بكل أبعادها ، ومنقحي سلوك هذا الذي استخلفه الله في الأرض واستعمره فيها.

وبهذه العقيدة نشر المسلمون دين الله الحق، ودحروا الإمبراطوريات ، ويكفينا دليلًا على أن قوة عقيدة الإسلام هي التي تجعل المؤمن يسعى إلى الشهادة وإلى العمل في سبيل الخير العام ما حدث في غزو بدر من (1) الصحابى الجليل عمير بن الحمام الأنصارى، فإنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه:((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟!)) ولما رد عليه الرسول بالإيجاب. قال: بَخ بَخ. قال رسول الله: وما حملك على القول: بخ بخ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. فقال: فأنت من أهلها.. فألقى تمرات كان يأكلها، إذ رأى أن الوقت الكافى لأكلها طويل، وهو في شوقه إلى لقاء ربه وتفضيل ما لديه من الرضا لم يعبأ بهذه الحياة الفانية ، بل تعجل ما وعده به تصديقًا لنبيه فانطلق إلى الشهادة، انطلق إلى جنة عرضها السماوات والأرض، انطلق إلى الحياة الحقيقية فرحًا بما أتاه من فضله:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (2)

(1) انظر القصة في فقه السيرة، للداعية محمد الغزالى عند الحديث عن موقعة بدر الكبرى

(2)

سورة آل عمران: الآيات 169-171

ص: 2154

وإذا عاد الإنسان - أي إنسان - بهدوء ومن غير خلفيات، نظر من غير غشاوة، وتمعن في حروب المسلمين مع أعداء الإسلام، وجد أن القاعدة المحورية في إنتصاراتهم كانت تلك العقيدة الصادقه، وإلا كيف تعلل قيام حفنة من الناس عزل تقريبًا من السلاح للتصدى لألف مدججين بالسلاح، كما في غزو بدر الكبرى، وفى مواقع كثيرة: في القادسية، في اليرموك، وفى معركة طارق بن زياد مع الملك لذريق وفى غيرها كثير

فالمسلمون انتصروا بقوة هذه العقيدة في نفوسهم وما تستلزمه من طاعة ربهم ورسولهم. وهذا واضح في كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه في وصاياه إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد: (أما بعد فإنى آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك بأن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصى منكم من عدوكم ، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإن أستوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا) . (1)

والفيصل في هذا قوله تبارك وتعالى في الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) .

وأما عبدة الله على حرف الذين إذا أصابوا خيرا اطمأنوا به ، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، فهم الخاسرين دنياهم وأخراهم، وذلك هو الخسران المبين. وأخاف أن يكون هذا حال كثير من الذين يدعون الإسلام {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} (3)

(1) انظر العقد الفريد

(2)

سورة محمد: الآية 7

(3)

سورة فصلت: الآية 49

ص: 2155

مواجهة جديدة بين الإسلام والفكر الغازى.

أولًا – الغزو العسكرى:

إن صراع الحق مع الباطل سمة هذه الحياة، فمنذ قاسم الشيطان آدم وحواء يؤكد أنه لهما من الناصحين، فدلاهما بغرور، فأوقعهما، فأهبطوا جميعًا إلى الأرض مستقرًا لهم ومتاعًا إلى حين.

فالباطل بجنوده من الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، والنفس الأمارة بالسوء تروج وتزين وتجذب إلى مباهج الحياة وملاذها الخلابة.. واخترع لدعم الباطل من وسائل الدمار المادى والمعنوى خلال حياة الإنسان الطويلة على الأرض، وما وصل في تطوره إلى قمة الخيال، وإذا علمنا أن هذه الوسائل تسيطر عليها الرأسمالية العالمية الملحدة، والأيديولوجية المارقة، أدركنا مقدار ما نتعرض له من خطر وما يواجهنا من هجمة شرسة تستهدف تحطيم ديننا، تحطيم قيمنا، تحطيم مثلنا، تضليل فكرنا، ومسخ حضارتنا وإحلال محلها حضارة الآخرين لنكون ذيلًا نتبع ولا نُحترَم، ونُجر في إرضاء مصالح الغير.

إن الغزو العسكرى الذي بدأته الحروب الصليبية منذ قرون في الشرق الإسلامي وفى غربه لم يتوقف- كما يظن البعض- فهو صراع بين الحق والباطل، صراع بين التوحيد والضلال، صراع بين الحضارة الإسلامية التي رست أسسها على شهادة التوحيد، وعلى الذكر الحكيم، وعلى سنة خير الورى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى التراث الإسلامي العظيم، وعلى فكره السامى الذي تناول كل جوانب الحياة البشرية مادية كانت أم روحية، وبين حضارات قامت في أساسها على الوثنية وعلى أيديولوجيات مادية، وعلى أديان محرفة.

إن الصراع لم يتوقف ولن يتوقف، وإنما يهادن لالتقاط أنفاسه، ويخاتل لإحكام خططه.

إن الفرنسيين بعد أن احتلوا الشام ولبنان، واحتلوا جزءًا من ليبيا، واحتلوا تونس والجزائر والمغرب وأجزاء كبيرة من غرب إفريقيا ووسطها، لم ينسوا قيادة ملكهم للحروب الصليبية، ووقوعه في أسر المصريين وسجنه في دار ابن لقمان بالمنصورة وقول شاعرهم بهذه المناسبة:

(وقل لهم إن أضمروا عودة لأخذ ثأر أو لقصد صحيح

دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشى صبيح) (1)

والإنجليز لم ينسوا بعد احتلالهم العراق وفلسطين ومصر إحياء ذكرى قيادة ملكهم ريتشارد الأول قلب الأسد للحملة الصليبية الثالثة سنة 1191م ومعاركه مع المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبى، واللورد اللنبى لم ينس في القدس سنة 1918م بعد أن دخلها مع قوات الثورة العربية أن يقول:(الآن انتهت الحروب الصليبية) . وأن يقول في دمشق متشفيًّا يزهو كالطاووس وأوسمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تلمع على صدره: (ها نحن قد عدنا إليك يا صلاح الدين) ! (2)

(1) الأستاذ محمد مصطفى زياد. حملة لويس التاسع على مصر: ص 303، 304

(2)

الأستاذ أنور الجندى. أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافى: ص 17

ص: 2156

والمحزن أن تمر هذه المواقف علينا نحن المسلمين ونستصغرها ، وهى عظيمة بعيدة المدى واضحة المعنى، قوية التعبير، تنم على الحقد والضغينة والكيد والمكر، وقد أثبتت تصرفات أعداء الإسلام، ومؤامراتهم ما تعنى كلمة اللورد اللنبى، فقد أخلفوا كل وعودهم، ونفذوا ما كانوا يبيتونه ويتواصون عليه أبًا عن جد، وجيلًا عن جيل، ويضحكون على طيبتنا وبلادتنا.

فبعد أن أغروا بعضنا ببعض وزودوا بالسلاح.. وخدعوا بالوعود الخلابة

انتهوا من تقطيع أوصال أمة الإسلام، فها نحن اليوم بعد كل اللكمات لا زلنا نغط.. بلا وعى، ويتكالب بعضنا على بعض، تُحاك المؤامرات، وتشُن الحروب، ويستنجد بالأعداء الذين يراقبون عن كثب ما يجرى في الميدان، ويزيدون النار اشتعالًا ويزرعون الفتن، ويغرسون إسرائيل في قلب أمة الإسلام، ويسارعون إلى احتضانها بعد أن قضوا على آخر رمز للخلافة الإسلامية (فانفرط العقد) ، فيؤججون القوميات الجاهلية التي اتخذت سلاحًا للفتك بالإسلام والمسلمين ، وكأن هؤلاء المسلمين لم يعلموا بما فعل رسولهم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام عند وصوله إلى يثرب، وهو في صدد وضع أول نواة لدولة الإسلام ومجتمع الإسلام حين آخى بين المهاجرين والأنصار على أساس من رابطة الإيمان التي هي أقوى من رابطة الدم في الإسلام، ومعروف قوله لدى كثير من المسلمين في حجة الوداع:((كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بتقوى الله)) . والذكر الحكيم صريح، ولا يحتمل أي تأويل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1)

ثم بعد هذا يعطى المسلم الفرصة لأعداء دينه أن يضلوه ويشحنوه بأيديولوجيات عُرفت معارضتها - بالضرورة - لدينه ، فيتحول إلى آلة مدمرة تعمل لتقويض أمته، والقضاء على نفسه، فيخرب بيته بيده وبأيدى أعداء أمته.

(1) سورة الحجرات: الآية 13

ص: 2157

ثانيًا – الغزو الفكرى:

أدرك المستعمرون أن الغزو العسكرى محدود النتائج، ويصعب تأمينها، وبجانب كونها غير ثابتة هو باهظ التكاليف، ويربى الكراهية والأضغان.

فهزيمة جيش واحتلال أرض، وقتل وتعذيب الناس لا يغير من عقيدة الناس، بل يزيد الشعوب نفورًا، ويقوى فيهم عزيمة الدفاع عن الكرامه والشرف ولو أدى ذلك إلى العناء وسقوط أعداد كبيرة من الشهداء، وخاصة لدى السملم الراسخ العقيدة.

وثورة الحجارة – كما يسميها البعض – في أرض فلسطين الجريحة دليل صريح على ذلك. فالحياة مع الذل والمهانه لا يُزيل عارها، ويمحى هوانها إلا شرف الكفاح، وحتى الشهادة إن استدعى الأمر ذلك.

لعمرك ما للمرء خير في حياة إذ ما عد من سقط المتاع

وإذا كانت هذه الحياة لا بد أن ينهيها الموت طالت أم قصرت، فلم إذن يقبل الإنسان أن يعيشها مهانًا مركول الكرامة؟

وإنطلاقًا من هذا المنعطف لم يضيع الغزاة الوقت، بل أخذوا يخططون ويعملون لإبعاد المسلمين عن دينهم؛ للسيطرة على عقولهم، وإبعادهم عن مثلهم وتشويه حضارتهم، فالاحتفاظ بهم سوقًا استهلاكية ضخمة رابحة تروج فيها تجارتهم الواسعة، تجارة متع الحياة ونعيمها الرخو الناعم، تجارة السيارات الفارهة، تجارة السلاح، وهذا يتطلب مسخهم خلقًا جديدًا لا علاقة له بعقيدتهم وتاريخهم.

وللوصول إلى هذه الأهداف لا بد من خطة محكمة، خطة ذكية لا تُشم فيها رائحة الأهداف الخبيثة التي يرمون إليها، ولابد من إخفاء الفخ بإحكام لتقع فيه الضحية

ولإنجاح العملية لابد من تأمينها، ولتأمينها لابد من إشعار الناس بالخوف بحيث يقتنعون بأنهم معرضون للخطر، وإدخال هذا الشعور في نفوسهم يجعلهم يقبلون بالاحتفاظ ببعض وسائل الاستعمار التقليدية في شكل اتفاقات أمن ودفاع ومستشارين ومدربين، ومرابطة قوات في أماكن حساسة، قوات سريعة الحركة على أهبة التدخل المباشر إذا اقتضت مصلحة المستعمر ذلك.

ص: 2158

وبعد تأمين الخطة يبدأ التنفيذ وعلى مراحل، والتنفيذ يحتاج إلى ذكاء ومهارة فائقة، فيما أن الغزو لم يعد غزو قتل، بل غزو تخدير، غزو فكر لفكر، غزو ثقافة لثقافة، صراع حضارة وحضارة، فالأسلحة التي ستستعمل في الهجوم لابد أن تكون من جنس أسلحة الدفاع والمقاومة، أسلحة الفكر، وهى أسلحة لا تبيد هياكل الإنسان ولكنها تقتل فيه روح العزة والكرامة وتبقيه جاهزًا للاستغلال تمامًا كالأسلحة التي قيل إنها تقتل الحياة ولا تمس بأذى المدن ، فتبقى صالحه للعمران.

فإذا بالمبشر الخبير ، والطبيب المبشر، والكنيسة والمستشفى، وإذا بالمعلم والكتاب والمدرسة، وإذا بالصحافة والإذاعه فالتلفزة، فإذا بالمعونات والهبات والقروض المشبوهة المشروطة، والمؤسسات الثقافية، وأندية الترفيه، وإذا بالضغوط السياسية من وراء الكواليس

جيوش جرارة تنطلق ومجموعه مصائد محكمة التصميم، محكمة التنفيذ، محكمة التضليل، محكمة الزخرفة، قوية اللمعان، براقة، تسحر العيون، وتجذب النفوس، وتضع الغشاوة على البصائر، وتخلط السم وبالعسل، وتقتل على مهل، وقد يأتى مفعولها بعد جيل أو جيلين:

وكل هذا لترويض عقلية الناس ومحو شخصيتهم بالقضاء على دينهم، على عقيدتهم؛ الصخر الصلد الذي تهشمت عليه معاولهم، ونبت عنه سيوف الوثنية الجاهلية من قبل، وصدع إمبراطورية الفرس والروم، ورد الصليبية المتعصبة وقادتها من ملوك أوروبا الكبار من أمثال ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، ولويس التاسع ملك الفرنسيين الذي ترك ذكريات لا تنسى بالمنصورة.

إن الذي جهله، أو يتجاهله بعض المسلمين أن الحرب الفكرية، الحرب الحضارية التي يخوضها الغرب المادى الرأسمالى الملحد ليست حربًا موجهة لدولة معينة أو لشعب معين من دول الإسلام وشعوبه، بل هي حرب عامة، حرب عقيدة، حرب فكر وحضارة، لايكون تركيزها على بلد أو على منطقة إلا خطة تكتيكية، إستراتيجية، مرحلية، فهى كمحاصرة حصن كبير عصى، فكل ثغرة وكل ثلمة تحدث فيه وفى أي مكان تهيه وتساعد على تدمير بقية أجزائه وإن طال الأمد.

فلتزل الغشاوة، وليرفع الحجاب، وليفكر أهل الفطنة ومن بقيت لديهم عقيدة الإسلام، أو لديهم غيرة على الإسلام، فليدرك الجميع أبعاد ما يتعرض له الإسلام من حرب شرسة تستعمل كل أنواع السلاح، وأخطر هذه الأنواع كلها سلاح الفكر، وأن السفينة إذ خرقت غرقت، غرقت بكل ما فيها، الخارقين والذين لم يأخذوا على أيديهم في الوقت المناسب.

فالهجوم الفكري الثقافي يهدف إلى ترويض عقلية الناس ومحو شخصيتهم بالقضاء على دينهم وتغيير منطقهم ليصبحوا هم أنفسهم المدافعين عن ساداتهم، هم أنفسهم الغيورين على ثقافة وحضارة جلاديهم، هم أنفسهم الناشرين لفكرهم، هم أنفسهم الساخرين من دينهم، هم أنفسهم العاملين لنقض كل شيء يتصل بحضارتهم وتراثهم، إذ يرون من ضلالهم، أن سبب شقائهم وتأخرهم ناتج عن حضارتهم، فهم يعملون بحماس ونشاط وفاعلية لهدم كل الأسس التي قامت عليها تاريخهم وفكرهم وحضارتهم، ولا يحتاجون إلى توجيه، فعملهم هذا يستند إلى رغبة جامحة لديهم، فبعد أن مسخوا أصبحوا خلقًا جديدًا.

والناس لا تختلف الاختلاف الحقيقي بأشكالها، فاختلافها الحقيقي يتمثل في أفكارها ومفاهيمها، وتصرفاتها التي هي رد فعل لما يعتمل في الأذهان

وهذه هي مرحلة الانهيار الكامل، وهى الانهزام الفكرى الحضارى، وهى أمل الغزو الفكرى، وهى الغاية التي يسعى إليها أعداء الإسلام، ويعملون ليلًا ونهارًا للوصول إليها.

ص: 2159

المنطلقات المحورية للغزو الفكرى:

إن الاكتساح الفكرى يتم عن طريق مؤسسات معينة متخصصة في التعليم والتوجيه، ونشر الأكاذيب والافتراءات ضد الإسلام، وتلقينها وبثها في أوساط الشباب (خاصة) ، والترويج لها بوسائل وبطرق نفسية مدروسة.

أولًا – التعليم:

والتعليم هو الوعاء العام الذي حمل وسرب عن طريقه كل السموم الضارة، والجراثيم الوبائية القاتلة، والأفكار الهدامة الملحدة، والثقافة المائعة المنحلة، هو أصل الشجرة التي امتدات منها الفروع ومن الفروع الأغصان.

فعن طريق التعليم نشرت القوميات التي مزقت أمة الإسلام، وعن طريق التعليم رسخت أساسيات العلمانية، علمانية الدولة، علمانية التربية، علمانية الفكر، وعن طريقه انطلقت سهام الفكر الضال الذي يستهدف تحطيم المثل التي قام عليها الإسلام، وشيدت عليها حضارتها، وعن طريق التعليم انبثق من أمة الإسلام علماء ومفكرون وأدباء ومذيعون وفنانون وصحفيون كرسوا حياتهم لنقض الأسس التي قامت عليها حضارة الإسلام، أتوا بكل باطل مموه، فأفسدوا الأخلاق ومزقوا شعوب الإسلام، وأصابوا النفوس بالإحباط، ومركب النقص

وكان من الطبيعي أن يكون أول غرض لسهام الغزو الفكرى التعليم، وبمعناه العام أي بإدخال التربية فيه، بمعناها الخاص. فهم يدركون أهمية التعليم كسلاح فعال عند توجيهه إلى الخير، وعند توجيهه إلى الشر، فعن طريقه تتم السيطرة على الإنسان، وإذا تمت السيطرة على الإنسان، تمت السيطرة على الأرض واستغلالها بربح وفير ومن غير عناء.

والمثال التالي يأتي من مصر، وينسحب على كل بلاد الإسلام، بل في كل أرض فيها الاستعمار، وهو من تقرير "لورد كرومر" لسنة 1906م:

"التعليم الوطني عندما قدم الإنجليز إلى مصر كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة القديمة تقف حاجزًا في طريق أي إصلاح تعليمي، وكان الطلبة الذين يتخرجون في هذه الجامعة يحملون معهم قدرًا عظيمًا من غرور التعصب الديني ، ولا يصيبون إلا قدرًا ضئيلًا من مرونة التفكير والتقدير، فلو أمكن تطوير الأزهر عن طريق حركة تنبعث من داخله لكانت هذه خطوة جليلة الخطر.

ولكن إذا بدا أن مثل هذا الأمر غير متيسر تحقيقه، فحينئذ يصبح الأمل محصورًا في إصلاح التعليم الذي ينافس الأزهر نفسه أمام أحد أمرين: فإما أن يتطور، وأما أن يموت ويختفي" (1) . ويضيف المستشرق (جب) :"وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطوة لأبعد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت أشراف الإنجليز في مصر والهند ". (2) .

(1) نقلا عن: الدكتور على محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق. في أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 62، 63. طبعة دار الاعتصام. سنه 1397 هـ / 1977 م

(2)

نقلا عن: الدكتور على محمد جريشة، ومحمد شريف الزيبق. في أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص 62، 63. طبعة دار الاعتصام. سنه 1397 هـ / 1977م

ص: 2160

وهذا (زويمر) أحد زعماء التبشير يقول على جبل الزيتون في القدس إبان الاحتلال الإنجليزي لفلسطين سنة 1354 هـ / 1935 م: "لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وإنكم أعددتم نشئًا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في الأخلاقية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يعرف همه في دنياه إلا في الشهوات

فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوء أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شئ". (1) وهذه النصوص تلقى الضوء على ما يختمر في عقول غزاة العالم الإسلامي وما بيتوه ـ في وقت مبكر ـ لاقتلاع أسس الفكر الإسلامي وحضارته. فقد كانت التربية والتعليم أول ميدان يتجهون عليه، وهم بلا شك يعملون أن هذا الميدان هو المصنع الخاص بتشكيل الإنسان وتوجيهه حيث يراد

لم يقصروا، وقد وضعوا في الحسبان تكوين جيش مدرب مجهز بوسائل الغزو، ليضمنوا النجاح الباهر، فكان التركيز على التعليم لتكوين الناشئة على هواهم وعلى أسس تقوم على قطع صلتها بماضيها وحضارتها وثقافتها، فنشأ جيل وبعده أجيال لا تعرف من تاريخها إلا النقاط المظلمة. الافتراءات المضلة والأكاذيب المتعمدة فلم يروا إلا حكم الفرد والاستبداد والظلم وكبت الحريات وقصور الحريم والجواري ومجلس الخمر وسهرات الحشيش والغناء، ومع كل أنواع الانحراف الخلقي.

فجاءت الأجيال لا تعرف من دينها إلا أنه هو العائق لها، والحائل بينها وبين التقدم والازدهار واللحاق بركب حضارة الغرب. فهو دين همجي لا يصلح إلا للبدو في مفازة الصحراء، وإلا للرعاع في الأدغال والغابات، أما الحضارة، أما الرقى والازدهار، أما الفكر المهذب العالي فلا يعرف أي شيء من هذا.

(1) نفس المصدر السابق

ص: 2161

وبعد أن تأكد الغزاة من نجاح عملية التكوين، وتمت مراقبة هذه الأجيال المقطوعة الصلة بثقافتها وأعرافها، المشوه تاريخها وحضارتها، (وبعد أن أثبتوا جدارتهم وإخلاصهم لحضارة الغزاة وفكرها وثقافتها، وتأكدوا من شغفهم بها، وانبهارهم بمظاهرها وبهرجتها، سلموا لهم مقاليد الأمور من سياسة وتعليمية واقتصادية وتشريعية وتوجيهية، فصار مثلهم الأعلى أن يقتربوا ولو بشبر من حضارة سادتهم، إذ ما عداها ليس إلا رجعية وتأخرًّا وتزمتًا) . وقديمًا قال ابن خلدون رحمه الله: (إن المغلوب دائمًا مولع بتقليد الغالب) . فقد اندفع هؤلاء يبذلون كل جهد في (تغريب) الشباب وزرع عقدة الشعور بالنقص، وفقدان الشخصية الإسلامية، حتى برز من بين هؤلاء أعداد جمعوا كل قواهم، وطرحوا كل قناع، فتبجحوا بأفكارهم، أفكار كلها افتراء وتهجم على الإسلام وتشنيع عليه، محاولة مخططة لزعزعة عقيدته من قلوب الجماهير التي لم تزل تقدس عقيدتها، وتتمسك بكل ما يمت إليها بصله رغم ما تعرضت، وتتعرض له من حرب نفسية في المدرسة ، في الشارع ، في الصحافة ، في الإذاعة، في التلفزة بل وفي كل وسائل التعبير الأخرى من مسرح وسينما ورسم ونحت

(1)

(1) القاسم البيهقي المختار. التحدي الفكري وآثاره في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. بحث قدم إلى ملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرين. تبسه. الجزائر.

ص: 2162

الغزو الخارجي والتحطيم الداخلي:

وهكذا نرى كيف مكن الغزاة لهذه الفئات الممسوخة بعد أن أجروا لها عملية غسيل المخ وفرغوها تمامًا من محتواها الفكري والحضاري القائم على عقيدة الإسلام، ووكلوا إليهم عملية التخريب الداخلي للنخر في جسم أمة الإسلام كالسوس. فهم يحاولون وبكل إلحاح نزع أو على الأقل زعزعة عقيدة الإسلام من قلوب الشباب في المدارس والجامعات والأندية، ويبثون في كافة وسائل الإعلام والتثقيف المختلفة، ويتولون التوجيه فيها ويقومون بعملهم هذا بلا كلل ولا ملل، وبدعم تام من الغزاة وأذنابهم في المجتمعات الإسلامية.

وسائل التوجيه في أيدي أعداء الإسلام:

ومن المحزن أن نرى كل وسائل التوجيه في العالم الإسلامي في أيدي هؤلاء المخربين، ولا يتولاها إلا من أقام فترة في أوروبا أو في أمريكا، أو أثبت أنه خادم أمين لقوى الشر التي تعمل ضد الإسلام. فهؤلاء وحدهم القادرون على التخطيط والتوجيه وإدارة المؤسسات التربوية والتوجيهية والفنية، وهم المتحضرون، أما نحن المسلمين فلا نبلغ كعب هؤلاء العمالقة خدام الغرب، حتى في لغة القرآن وتربية الإسلام مركب نقص خطير وإحساس بالدون يعصف بالمسلمين!!

فقد وصل تأثير الفكر العربي بهم أن فقدوا الثقة بأنفسهم، وإذا فقد الإنسان الثقة في نفسه ضاعت منه القدرة على العمل الجاد والمبدع، وعاد خاملًا لا تسمو به نفسه إلا لتقليد غيره والعيش على جهود الآخرين، وأما أن يشعر بأن الذي عمل وأبدع، وكد وأنتج، وثابر واخترع، معتمدًا على ما أنعم الله به عليه من قوى فاعلة ليس إلا بشرًا فغير وارد لما أصابه من تحطيم وإحباط.

ص: 2163

وقد وصلت هذه الحالة المزرية بالمسلمين أن اختفي المنطق في تصرفات الكثير منهم، وإلا فكيف يترك المسلم مؤسسات التعليم والتربية في العالم الإسلامي ويذهب إلى مجتمع غير مسلم، وفي مؤسسات تحارب الإسلام علنًا أو من وراء أقنعة يختفي وراءها المكر والكيد، وتذر الرماد في العيون وتخدر العقول، ويذهب هذا لدراسة ماذا؟

لعلكم إخوة الإسلام، تقولون: إنه ذاهب لدراسة الهندسة الذرية، أو الإلكترونيات، أو شيء من هذا القبيل من تلك الأنواع لم يصل المسلمون فيها إلى مستوى مقبول

وقد يصاب المسلم بغثيان من الألم إذا علم أن هذا ذهب ليدرس العربية أو ليدرس التربية الإسلامية!!. تربية إسلامية في باريس!!. تربية إسلامية في شيكاغو!!

"أسوأ البلايا ما يضحك". وقد أثبتت التجارب أن الكثير من هؤلاء المصابين بعبادة الغرب لا يعودون إلا بالقشور، قشور غير مهضومة، تتمثل في أفكار هدامة للأسس التي قام عليها الفكر الإسلامي، وأنهم لا يعرفون كما ينبغي لغة البلاد التي عادوا منها، ويجهلون لغة القرآن، ورغم أن بعضهم يدعي العروبة!!. فهم إن أرادوا أن يكتبوا بها شحت قرائحهم، وإذا سمحت منحت ما يثير السخرية والشفقة معا وإذا تباحثت مع أحدهم شاح بوجهه وورم أنفه لتغطية هزال فكره، وإذا قبل انكشفت ضحالته " فإذا بالجبل الشاهق يلد فأرًا " يمتاز عن جنس الفئران بأنه قزم يفتقد ذكاء هذا النوع من الفئران التي نجدها في مراكز الأبحاث.

ص: 2164

من قضايا العصر ذات الأثر الخبيث: العلمانية:

العلمانية (Le Iairisme) من الأيديولوجيات التي يحيطها الغموض لدى الكثير من المطبلين لها، فأغلبهم يتخبط فيها من غير معرفة لحقيقة الهدف، يسير في الركب لا لشيء إلا لأن الغرب نادى بها ، وكنت دائما ألتمس من أدعياء المعرفة أن يكشفوا لي حقيقتها

وقد جرى حوار بيني وبين شخصية إسلامية كانت تتولى منصبًا إسلاميًّا ساميا. قلت للمسؤول الإسلامي ذي الثقافة الغربية: إن كثيرًا من دول العالم الإسلامي تقول: إنها ديمقراطية علمانية. والمفهوم السائر للديمقراطية (حكم أغلبية الشعب) فكيف تبرر ذلك في بلد قد تصل نسبة المسلمين فيه إلى القريب من مائة في المائة؟ بينما معنى لائك، الذي ترجم تضليلًا في اللغة العربية ـ بعلماني لا دينى ـ فكيف يكون الإنسان دينيًّا ولا دينيًّا في آن واحد؟ ولم أقتنع بما قاله ذلك السيد، ومن ضمنه القول بأن (دولة لائك) يعنى أن كل إنسان في البلد الذي تحكمه هذه الدولة حر في اعتناق ما يراه من دين. فقلت: ولو كانت أغلبية الشعب لا توافق على هذا المبدأ، فأين إذن مفهوم الديمقراطيه؟ أولا يكون هذا عين الدكتاتورية؟.

إن مسألة (علمانية الدولة) مسألة خطيرة يترتب عليها كثير من المضار في المجتمع الإسلامي، وأن مضارها ومنافعها ـ إذا كان فيها منافع ـ يجب أن تكون معلومة واضحة لدى الشعب، وأن تكون أهم نقطه بارزة في أي نظام سياسي في بلد إسلامي وذلك قبل نظام الحكم: ملكي، جمهوري، وبعد شرحها بوضوح من كل جوانبها، وإجراء الاستفتاء، وأختارها الشعب من غير تزوير لإرادته. فليعلم الجميع أنهم باختيار العلمانية قد انحرفوا عن الإسلام. فلا يمكن لإنسان أن يكون دينيًّا ولا دينيًّا في آن واحد.

هذا وقد ترجمت كلمة (Laique Laicism) إلى العربية بخبث واضح مثل ما ترجمت كلمة (Colonisation) باستعمار تضليلًا بينما معناها الاحتلال والاستعمار والاستذلال. وذلك لهدف إيقاع الناس في الشرك وخاصة المسلم إذ تقع عينه أول وهلة، ويخطف فهمه- وهو خالي الذهن- كلمة علم، والعلم عنده جذاب مغر إذ أول سورة نزلت في كتابه الذي يقدسه، تشمل على:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .

ص: 2165

تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة (Secularism)(هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها، ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخرة. ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت ال ـ (Secularism) تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية

حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعقلهم الشديد بالإنجازات الثقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة

وظل الاتجاه إلى الـ (Secularism) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية) . (1) .

وفي المنهل قاموس عربي فرنسي تأليف الدكتور جبور عبد النور، والدكتور سُهيل إدريس. بيروت:(لائك لا ديني (Laique) مذهب أنصار اللادينية في المؤسسات، علمانية (Laicism) فنبذ الدين وإقصاؤه عن الحياة العلمية هو لب العلمانية) . (2) .

والعلمانية اصطلاح حديث يقصد به ما ليس دينيًّا أو كهنوتيًّا (3) . والذي لا يتطرق إليه الشك أن العلمانية (Liacism) كانت مصدر شر مستطير هدام في العالم الإسلامي وفي العالم أجمع، فقد أصبحت قاعدة في الحكم، فصارت الدولة لا دينية، ودخلت في التعليم، وهو رأيي أخطر مؤسسة وصل إليها الفكر البشرى لتشكيل الفرد ومن ورائه الجماعة، إذ الفرد ما هو إلا لبنة المجتمع، وكل بناء سواء كان ماديًّا أو معنويًّا يشاد على أساس ولبنات ، فإن كانت هذه اللبنات سليمة وصالحة صار البناء قويًّا ، وإن كان العكس أصبح ضعيفًا هشًّا. فلا دينية التعليم والتربية التي فرضت بالقوة ـ في البداية ـ على بلاد الإسلام هي التي سممت العقول والفكر وخلقت جيلًا ضلل ، فأصبح أداة هدم من الداخل ومعاول تحطيم بما سلط وبث من فكر سام، فكر مبتور عن تاريخ الأمة الإسلامية وتراثها وحضارتها ، ثم أصبح القادة من هذا الجيل فصاروا الأيدي التي تتحرك بعوامل الغزو الفكري الغربي، فمكنوا له في الدولة ونبذوا دين الله كما هو طلب المحركين لهم من وراء الحجاب، وأقصوه عن الحياة العلمية والعملية، وطردوه عن جميع المؤسسات، ومنعوه من الاقتراب من المجتمع، وضربوا عليه الحصار في كل مكان (ودروشوا) من يتظاهر به، وسخروا منه، وقرروا إيداعه في كهف قصي مظلم في متحف التاريخ.

(1) عن الأستاذ محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة: ص445. دار الشروق

(2)

مذاهب فكرية /عن الأستاذ محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة: ص445. دار الشروق

(3)

الأستاذ فتحي رضوان. (اقرأ) 377: ص 184، دار المعارف، القاهرة

ص: 2166

انظروا قول زويمر السابق: (لقد قبضنا أيها الأخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وإنكم أعددتم نشئًا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده الاستعمار المسيحي

) !

أي شهادة من هذا الداعية الخطير الذي لم يتعلثم في أن يقول للأغبياء والبلداء والأغرار والمنبهرين بحضارة الغرب والمخدوعين بحلاوة وطلاوة أحاديث المبشرين، وخاصة للذين يحاولون الفرق بين التبشير والاستعمار يقول لهم: هذا ما نخطط له، هذا ما نريده، نريد أن نحطمكم طبقا لما أراده لكم الاستعمار المسيحي!

إذا كان زويمر يكشف هذه الخطط، ويؤكد نجاحها سنه 1935م، وإذا كان يقول بفخر ما قاله فماذا عسى أن يقوله الآن يا ترى!!!

أنني لا أريد الاسترسال في التعليق على هذا التصريح الخطير، وفي الواقع لا يحتاج إلى تعليق، فوضوحه أغناه

وقد أثبتت أحداث التاريخ ما تباهي به زويمر، وبنظره عامة نجد كثيرًا من أبناء المسلمين يكيدون للإسلام وينفذون خطط زويمر ويضطهدون كل داع إلى الإسلام. فكأن بعض الناس لم يعد لديهم عمل إلا ملاحقه الإسلام، ومحاولة مسخه، وخلق دين مرقع لا يمت إلى الإسلام بصله، دين مقبور في المساجد، مقطوع الصلة بالحياة، وبالمجتمع، وبشؤون الناس اليومية.

فليفعلوا ما يحلوا لهم، وليشكلوا ما يتصورونه دينًا يلهون به، ويظنون أنهم يخادعون المسلم، وما يخادعون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون، فليفعلوا ما يريدون ولينفذوا رغبات الأسياد، وسيبقى الإسلام بخير بإذن الله ويبقى الخلط والضباب والظلمة في أذهان أعدائه.

ص: 2167

إذا كان الغرب المسيحي قد عرف في تاريخه تسلط الكنيسة على الكادحين، وتحالفها مع الإقطاعيين ومع الملوك والنبلاء من ديوك وبارونات ودوقات؛ لاستعمار الطبقات الكادحة، وتاجرت في صكوك الغفران، ونصبت محاكم التفتيش وسجنت العلماء، فما جريرة الإسلام في أن يوضع مع الكنيسة في قفص اتهام واحد!!؟ ويعزل عن شؤون الحياة اليومية ويحبس بين جدران المساجد، ويتلقى الخطباء يوم جمع تعاليم صارمة تقص ألسنتهم ، بل تشتت أفكارهم من هولها وتنتشر بين المصلين الشرطة السرية. وإذا تمرد متمرد غمرته كرامة الإسلام وأبت له أن يكون آلة لتخدير المسلمين، فانطلق لسانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالتنديد بالظلم والظالمين، منع بعد ذلك من الوقوف خطيبًا، وهذا أهون عقاب، إن لم يزج في السجن متهمًا بالإخلال بالأمن العام أو حتى بالتآمر على أمن الدولة، وهي جريمة يعاقب عليها القانون.

إن فرض اللادينية = العلمانية، على الإسلام والمسلمين مجاف للإسلام ومناقض لأسسه وسيرته، وفصل الدين عن الدولة ليس من الإسلام في شئ، وانفصامية الدين والدولة يتعارض أساسًا مع شمولية الإسلام، وإذا فصل الدين عن الدولة صار شيئا آخر، وادعه ما تشاء..، أما أن يكون إسلامًا فلا.

فالإسلام لا تبتر أطرافه، وإذا بترت صار غير دين الله الحق الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم واستمسك به عقيدة، وطبقه شعيرة وشريعة، وكان مسجده في المدينة المنورة منطلق دعوته، تقام فيه الصلوات وينبعث منه الفكر الهادي، وتعالج فيه جميع شؤون المسلمين، وتدبر فيه الخطط لنشر الإسلام والدفاع عنه. ولا أدرى هل هذا يسمى سياسة، ويمنعه دعاة اللادينية.

ص: 2168

قوة الإسلام الذاتية:

فرغم كل التدابير التي اتخذت للقضاء على الإسلام لوضعه في متحف التاريخ ورغم كل أنواع الغزو الفكري، وهجمة الحضارة الغربية المادية، ورغم المطبلين للغرب ونفوذهم، ورغم الحروب البشعة التي أشعل نيرانها أعداء الإسلام داخليًّا وخارجيًّا، ورغم رايات الاضطهاد التي يرفعها بافتخار بعض أذناب الغرب وعباده في بلاد الإسلام، ورغم وقاحة الكتاب والمفكرين دعاة التغريب والتبعية خدام الغزو الفكري وأجرائه، ورغم انهزام كثير من أبناء المسلمين فكريًّا وحضاريًّا، ورغم وصول تأثير الفكر الغربي إلى درجة العمق في تصرفاتنا اليومية فكرًا وسلوكًا وتعليمًا وسياسة وتشريعًا واقتصادًا، وحتى في الأشياء البسيطة، أو التي تخضع للبيئة الطبيعية كالأزياء مثلًا. إذ قد نجد من يعيش في منطقه حارة وفي فصل الصيف، وتراه مشدود الرقبة، مشدود الوسط، يتصبب عرقًا من الصوف الذي يرتديه على الطريقة الغربية، ومن الجو الخانق الشديد الحرارة، ورغم كل هذا فقد فوجئ العالم أجمع بالإسلام يفيض من وراء كل السدود، ويتخطى كل الحواجز، وإذا بالجماهير من شباب الإسلام تتلقف الراية، راية التضحية والجهاد في سبيل الإسلام فيتحير الطغاة، ويتحير معهم خدام الفكر الغربي ودعاته، الذين خابت آمالهم في تحويل جماهير الشباب إلى دُمى تحركها أقلامهم المأجورة وتربيتهم الفاسدة، مكافأة للغرب على ما أولاهم من عناية وأوسع لهم من نعمة.

ففي الجامعة ارتَدَت الفتاة زيًّا محتشمًا، زيًّا إسلاميًّا وفي الشارع وفي المدرسة

ظاهرة أقلقت جميع أعداء الإسلام وفزعت لها بعض الدول خارج العالم الإسلامي، حتى رأينا فرنسا موطن الحرية والمساواة والإخاء تثور من أقصاها إلى أقصاها، وتجفل مرعوبة هلعه أمام قطعة من القماش تضعها صبية على رأسها، فتقوم زوبعة تهتز لها جمهورية الحرية، حامية حقوق الإنسان، وتمنع الصبية من دخول مدرستها إلا بإلقاء خمارها!!.. بينما تسير لداتها عاريات إن شئن، وتتفاقم الزوبعة وتتطاول صاعدة إلى السماء وتصل رئيس الجمهورية

لماذا كل هذا الفزع؟! أخوفًا من متر قماش وضعته فتاة على رأسها؟! أو من الفتاة نفسها؟ ولماذا كل هذا؟!

إن الوثنية حاولت أن تئد الإسلام في مهده منذ ما يقارب من 1400 سنة، وقامت ضده بحرب شنيعة فرد الله كيدها في نحرها:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1)

وفي العصر الحديث وقف حلف الفجور غير المقدس من الوثنيات والدهريات والديانات المنحرفة والأيديولوجيات الضالة وعتاه الاستعمار المادي والثقافي، تآمر الجميع بينهم، ومع من استهووه من أبناء المسلمين وأضلوه وقَبِلَ أن يمد يد العون لهم لاستئصال شأفة هذا العدو اللدود، ففتحوا عليه جميع أبواب الشر بسخاء، ولم يدخروا أي جهد، فإذا بجميع قرون الشياطين تعود واهية، وبقى الإسلام يتابع سيره بثقة واطمئنان

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .

(1) سورة التوبة: الآية 32

(2)

سورة الصف: الآية 8

ص: 2169

إن قوة الإسلام ذاتية، قوة جوهرية، قوته المتمثلة في كتابه العزيز وفي عقيدته الراسخة، فقد واجه الإسلام قديمًا وحديثًا أعتى المذاهب فصمد لها، وحسم الرأي في كل ما أثارته الفلسفات حول الإنسان والكون والحياة والفكر البشرى من قضايا وتحريفات.

وقد زيّف القرآن الكريم كما ما سوى عقيدة التوحيد الكاملة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وجاء بالشريعة لصالح البشر، فتعانقت العقيدة والشريعة بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، فمن آمن بالعقيدة وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة خالف دين الله الحق، فالإسلام عقيدة وشريعة، ودين ودولة.

وشهد التاريخ في كثير من أجزاء العالم لقوة الإسلام الذاتية التي حمته وأعطته فاعلية الانتشار بلا مبشرين وبلا قوى تدفعه وتساعده على الانتشار والصمود، فقد واصل الإسلام انتشاره منذ فجره إلى اليوم، ولم يتوقف عن الانتشار حتى في أشد أيام الصراع بينه وبين الاستعمار، وقد انتشر بقوته الذاتية، وبفضل مبادئه التي تحمل عنصري التوحيد والحرية.

يقول توماس آرنولد في كتابه (دعوة إلى الإسلام) : (إن كان دولة الإسلام قد انقسمت وانهارت وحدتها السياسية فإن فتوح الإسلام الروحية قد بقيت لا تحول دونها الحوائل، حدث هذا برغم إغارة المغول على بغداد، وقيام الحكام الأندلس بطرد المسلمين من الأندلس ، كان ذلك يجرى والمسلمون يضعون أقدامهم في أرض جديدة، ويُدخلون أهلها في دين الله، تلك هي جزيرة سومطرة) . ويقول العلامة مونتيه في كتابه (حاضر الإسلام ومستقبله) : (في إفريقيا أناس من المرابطين هم دعاة تبشير حقيقيين، وهناك طرق دينية أخذت على نفسها نشر الإسلام، على أن الإسلام ينتشر بنفسه بواسطة المسلمين أنفسهم، لأن كل مسلم في البلاد الوثنية داعية دين بحد ذاته.. والمسلم ينشر دينه وهو متوفر على تجارته، أو عامل في صناعته، والإسلام ينتشر من نفسه بواسطة القوافل التي ترحل إلى البلاد الوثنية، ودعاة الإسلام فيما عرفوا من الغيرة يعمدون إلى ذرائع مختلفة تناسب كل حال بحسب الأقطار والشعوب التي يبثون دعوتهم بين أهلها)(1) .

ولا غرابة إذن في أن نرى المسلمين، والشباب منهم خاصة، يعودون إلى دينهم الحنيف بعد أن استفاقوا من هول الصدمة المضللة التي صرعت الكثير من الناس منذ بداية اشتباك الإسلام بالفكر الغربي وحضارته المادية.

ولا نسأم من تكرار الحقيقة الأبدية التي تتمثل في أن هذه القوة الذاتية الإسلامية المتجسمة في كتاب الله العزيز هي التي صمدت أمام كل الحروب القذرة، مادية وفكرية، تلك الحروب التي انطلقت منذ عاد محمد صلى الله عليه وسلم من الغار يحمل رسالة الله إلى البشرية قاطبة، بل وإلى الجن أيضًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

(1) عن الأستاذ أنور الجندي. بتصرف إطار إسلامي للفكر المعاصر: ص 19، والمكتب الإسلامي، بيروت

ص: 2170

حملات على القرآن الكريم.

وقد قامت حملات شعواء ضد الكتاب العزيز، حملات من كل نوع، ولكن الغزاة وأذنابهم وتساقطوا جميعًا وارتدت سهامهم في نحورهم، وبقى الذكر الحكيم مضيئًا الطريق لمن يريد السير في المحجة البيضاء، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) .

وقد أزعج هذا النور قطاع الطرق والمفسدين في الأرض والجبابرة والطغاة، وكل من يريد أن يعمل في الظلام بعيدًا عن نور الحق، وأدركوا جميعًا أنه يستحيل عليهم القضاء على الإسلام وتدمير المسلمين إلا إذا انتزعوا هذه العقيدة والتي لا سبيل إلى نزعها إلا باجتثاث القرآن من الأيدي ومحوه من الصدور ومن الذاكرة، ولقد أدرك هذه الحقيقة كثيرًا من أعداء الإسلام وحاولوا بكل وسيلة تزييفه أو التشويش عليه، وقد دفع هذا (غلادستون) رئيس وزراء بريطانية إلى القول في مجلس العموم البريطاني عام 1883م، وهو يحمل المصحف:(ما دام هذا الكتاب باقيًا في الأرض، فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين، بل نحن على خطر في أوطاننا)(2) .

(1) سورة فصلت: الآية 42

(2)

الأستاذ أنور الجندي. مرجع سابق

ص: 2171

اللغة العربية ودعاة التغريب والهدم:

كانت اللغة العربية هدفًا أساسيًّا من أهداف التغريب والتشويش للحط من قدرتها على مجاراة الزمن واتهامها بالقصور عن التعبير عن مضامين الحضارة النامية المتوثبة، والفكر المتطور المتشعب، والتقدم العلمي الهائل.

(وقد بدأت الحملة على اللغة العربية منذ أواخر القرن الماضي، وامتدت على أيدي كتاب ومفكرين أجانب، ثم حمل لواءها كتاب من بلادنا. وبدأ هذه الحملة - في الأغلب - المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس سنة 1892م، في خطاب ألقاه في القاهرة جعل عنوانه: "لِمَ لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟ " وأجاب بأن السر في تأخرهم هو اللغة العربية، وأن المصريين لو اتخذوا لهم لغة إقليمية كما فعلت بريطانية مثلًا استطاعوا أن يتفرقوا ويخترعوا) . (1)

وتابعه ويلمور 1901م بحمله أخرى دعا فيها إلى ما سمّاه (لغة القاهرة) واقترح كتابتها بالحروف اللاتينية (2) .

وانطلق أعداء الإسلام يتابعون هجمتهم على لغة القرآن الكريم، يتهمونها بالعقم والقصور تارة، ويدعون إلى استبدالها باللهجات العامية تارة أخرى، واستبدال حروفها بحروف اللاتينية، وانبعث من أبناء بلاد الإسلام مخربون من الداخل أخذوا راية المؤامرة وفي أيديهم معاول الهدم، ولما عجزت محاولتهم في فرض لغة عامية، أو كتابه العربية بالحروف اللاتينية، تفتقت أذهانهم على فكرة عبقرية، موّهوها حتى لا تنكشف خططهم، يرجون من ورائها الوصول إلى هدفهم في استعمال العامية.

والخطة تتمثل في اعتماد اللغة الصحفية، فهي لغة لا هي فصحى ولا هي عامية، ولكنها تنزل درجة عن الفصحى، وهذا يجعلها عاجزة عن الوصول إلى فهم القرآن الكريم والتراث الحضاري الإسلامي. ولا يخفي على أحد أن هذه العملية التنازلية تؤدي في غير عجلة إلى استعمال العامية، وليست هذه آخر المؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة الذكر الحكيم، فهناك ما أطلق عليه اسم (تطوير اللغة) وتعنى هذه التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة العربية خلال خمسة عشر قرنًا.

(1) انظر الأستاذ أنور الجندي. أضواء على الفكر العربي الإسلامي: ص 50ـ 51. المكتبة الثقافية ـ 149، الدار للتأليف والترجمة

(2)

انظر الأستاذ أنور الجندي. أضواء على الفكر العربي الإسلامي: ص 50ـ 51. المكتبة الثقافية ـ 149، الدار للتأليف والترجمة

ص: 2172

وقد يظن بعض البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة الأداء اللغوي، ولكن أهداف كل هذه الخطط هي كتم أنفاس هذه اللغة، ووضعها في تابوت ثم ركنها في متحف اللغات التي شاخت وأدركها الوهن مثل اللاتينية.

ويقول الدكتور العناني تعليقًا على هذه الحملة الماكرة: (إن تغيير قواعد اللغة العربية صرفًا ونحوًا بالوضع فقط، أو الوضع والإزالة، معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة، وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة بالأم، فإنها تبعد عنها شيئًا فشيئًا حتى تختفي معالم الصلات بينهما، أو تكاد ، وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة)(1) .

ولكن لماذا هذه الخطط لهدم اللغة العربية؟ إن كل هذه الشراك التي تلقى لصيد اللغة العربية، وهذه المؤامرات التي تحاك حولها تستهدف أبعد مما يتبادر إلى ذهن بعض الناس عندما يرى هذه الحيل المحبوكة التي ألبست ثياب الفنية، والرغبة في تسهيل اللغة للدارسين، لإخفاء الأهداف الحقيقة من الهجمة على الإسلام وفكره وحضارته، وبتر المسلمين عن دينهم، وضع عراقيل أمامهم في فهم كتابهم وسنة نبيهم وشريعة دينهم، وقطع الروابط الوثيقة التي تربط بينهم وبين ماضيهم.

فاللغة العربية منذ جاء وحي الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، وتوثقت بها جميع أصول دين الله، دين الحق، أصبحت لغة القرآن، لغة السنة النبوية، لغة كل مسلم في أي مكان في الأرض، ولم يعد للعرب منها أكثر ما لأي مسلم من أي جنس. فكما أن الإسلام دين الناس كافة، فلغة الكتاب والستة لغة المسلمين، لاحق لأي فرد أو مجموعة أن تدعى ملكيتها واحتكارها، والاستئثار بها، ولا يجوز لأي أحد أن يمد يده أو لسانه لإيذائها، فالذي يفعل ذلك قد اعتدى على جميع المسلمين.

وبما أن أعداء الإسلام في الخارج وأذنابهم في الداخل لا يألون جهدًا في سعيهم لإيجاد الوسائل الفعالة لغزو الإسلام فكرًا وحضارة، وتدميره من أساسه، وبما أن اللغة العربية هي الوسيلة الوحيدة الصحيحة لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتراث الإسلام العظيم، استهدفوها وتآمروا عليها للوصول عن طريق هذه المؤامرات إلى بلبلة الأفكار، وتمييع مفاهيم اللغة، وتشويه كلماتها وتراكيبها وتفتيتها وتوزيعها إلى لهجات لا تتوفر فيها أسس اللغة، فيتصدع ما هو قائم الآن حولها من روابط ثقافية ودينية واجتماعية، فإذا بنا بدويلات اجتثت من أصولها، وحيل بينها وبين ماضيها وتراثها، ليسهل على الفكر الغربي الغازي ابتلاعها لقمة سائغة وتضيع كل النصوص التي كتبت بالعربية في ضباب، وبعد حين من الوقت يصير الإسلام تاريخًا مشوهًا ضاعت أصوله، ويدخل القرآن الكريم في المتحف مع التوراة والإنجيل، ولا يصل الإنسان إليه إلا عن طريق تراجم مشوهة مشبوهة ، هذا ما يسعى إليه هؤلاء الغزاة وأذنابهم.

(1) عن إطار إسلامي للفكر المعاصر ـ للأستاذ أنور الجندي. مرجع سابق: ص 291 ـ 298

ص: 2173

انتشار العربية:

هذا وقد لاحظنا أن اللغة العربية نمت وانتشرت مع الإسلام، ولا زالت تنمو وتنتشر وتصعد مع دين الحق، وأنها تدرس الآن في كل أنحاء العالم، وخاصة حيث توجد مجتمعات إسلامية ، وفي إفريقية مثلًا تنتشر المدارس العربية وتنتشر الكتاتيب وحلقات الدروس الدينية في البوادي والقرى وحتى في المدن التي طغت ثقافة الغرب الغازية وتدريس اللغات الاستعماريه وخاصة الفرنسية والإنجليزية. وتبذل الدول الاستعمارية جهودًا جبارة لنشر لغاتها وثقافتها وفكرها وحضارتها، فبجانب المساعدات المالية الضخمة، تُقدم الكتب والأدوات المدرسية على حسابها، وتُقدم المنح للمعلمين، وتتولى التدريب على جميع المستويات.

وأما اللغة العربية ومدارسها ومناهجها فإنها لا تتلقى إلا الشحيح الضنك من المساعدات ، وتتساوى في هذا المدارس العربية الحكومية والمدارس الخاصة.

وكان من المتوقع أن تقوم الدول الإسلامية ذات الإمكانيات الفنية والمادية واللغوية التي تهتم باللغة العربية وفكرها وثقافتها، وبالقرآن الكريم والسنة النبوية، وبالدين الإسلامي، بواجب المساعدة للدول الأخرى الإسلامية في هذا المجال وتشجيعها في توسيع الدراسات الإسلامية واللغة العربية ما دامت هذه الدول مستعدة للمضي هذا المجال.

وأعود لأقول: إن اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفه، لغة كل مسلم، وانطلاقًا من هذا فحمايتها والدفاع عنها ونشرها واجب المسلمين جميعًا.

ص: 2174

وهناك شعوب تنبش عن لغاتها بعد أن احتوتها الرموس أو كادت وتحاول نفخ الروح فيها من جديد، والمثال أمام أعيننا في اللغة العبرية التي فُرض تعليمها وتعلمها.. وأما نحن المسلمين فقد أهملنا لغة القرآن الكريم رغم ارتباطها العضوي بكتاب الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبتراثنا الفكري والحضاري ، ورغم حيويتها وثرائها وجمالها وطواعيتها للتعبير وسلاستها، انهزام فكرى في كل شيء حتى في أشياء كان من الواجب ومن العادة ارتباطها بالمحيط البيئي كأسماء الشوارع والطرق، فكثير منها في الدول الإسلامية يحمل أسماء استعمارية، والكتابة عليها بالحروف اللاتينية وحتى في البلاد التي لا تزال تستعمل العربية وتدعى أنها تنتمي إلى أرومتها، وقد زرت بعض الدول الأوربية فلم أر في يوم من الأيام بلدًا كتب أسماء الشوارع بالحروف العربية.

فإذا انهزم الإنسان فكريًّا تغير منطقه، وتغيرت رؤيته للأشياء وفقد إحساسه بالكرامة فيصير ميتًا في عداد الأحياء.

ص: 2175

إسلام وإسلام:

بناء على المشاهد أصبح الإسلام إسلامين: إسلام العقيدة المتغلغة في النفوس المسيطرة على الشعور الموجه للسلوك الصامدة في وجه التيارات الفكرية المعادية للإسلام، إسلام السواد الأعظم من أبناء الإسلام.

إسلام بعض رجال السياسة الذين يرون الدين الحق خطرًا على مراكزهم ومصالحهم التي في معظمها لا تعكس ولا تستجيب لمصالح الجمهرة المسلمة الصحيحة الإيمان، فبعض الساسة في بلاد الإسلام سواء أكانوا حكامًا أو رؤساء أحزاب أو منظمات، يتوددون ويتملقون الجماهير المسلمة باسم الإسلام، وليس هذا إلا خداعًا بدليل أن الأحزاب الشيوعية تفعل نفس الشيء، وغير الشيوعية من تلك الزعامات كالشيوعية إذ لا يمكنها بحال أن تسير في ركب الإسلام، ولا أن تطبقه، وكل ما تفعل إذا تظاهرت بالإسلام أن تكتفي بأضعف الإيمان، وفي الواقع ليست لديها شجاعة المؤمن. إذ أن محاولة تطبيق الإسلام تجعلها تواجه الغزو الفكري وأعوانه على الطريق الواضح، وهذا ما لا يرغب فيه أحد منهم لأن مصالحهم ارتبطت بمصالح الغرب.

ومن أجل أن ينالوا رضاء سادة العالم المعاصر، ويحتفظوا بمناصبهم، عليهم أن يموّهوا على الشعور الإسلامي ويضللوا شعوبه، ويمثل إرضاءهم لأعداء الإسلام ما نراه من الملاحقات للجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي، واختلاق الأكاذيب ضدها، وافتعال مواقف معينه تآمرية لضربها أو وأدها في مهدها، أو حصارها في مواضع تختنق فيها. ومن الغريب أن في البلاد الإسلامية من يتشدق بحرية الرأي ويدعى الديمقراطية على سنة الغرب، ويتباهى بذلك، ويسمح بقيام بعض الأحزاب وحتى الشيوعية، ولكنه إذا فاحت رائحة الإسلام من تنظيم أزكمته، لأنها رائحة كريهة لا تتفق مع ذوق سيد متحضر، فيلجأ إلى جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة لضربه، وبعض دولنا تخاف أن تغضب سادة العالم المعاصر فتُتَّهم بالرجعية أن بالإرهاب إن هي سمحت بقيام أحزاب إسلامية، وللإنسان أن يتساءل: أحقا نحن مستقلون!؟

إن الغرب الذي يقلده بعض الناس، يتفانى بعض الحكام في إرضائه توجد فيه أحزاب دينية (مسيحية) ولكن لم نسمع في يوم من الأيام أن هذه الدول وصمت بالرجعية أو الإرهاب أو بالأصولية، أو أن حزبًا مسيحيًّا نجح في الانتخابات، فقامت القيامة قبل أوانها، وعصفت بإرادة الشعب. وهذا يدعو إلى سؤال عن مفهوم الديمقراطية، والحرية؟ وسؤال أخير: لماذا نحن المسلمين نمسح أحذية المستعمرين، وتتفانى في إرضائهم، فيركلوننا بأحذيتهم؟ ألا يتناقض هذا مع الإيمان بالله الواحد الأحد؟ أين الإسلام وكرامته؟ أين الإيمان وعزته؟ أين قول الله تبارك وتعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .

(1) سورة المنافقون: الآية 8

ص: 2176

الإسلام وحده في الموجهة:

جرت أحداث خطيرة في السنوات الأخيرة، فقد سقط من علٍ صرح شاهق شغل العالم ما يناهز قرنًا من الزمن، قامت من أيديولوجيته دول، واعتنقتها شعوب ، وضللت بها شعوب أخرى ، وخُدرت ومُنيت فردوس الأرض، وتأكد وأكد مبشروها أنهم اهتدوا إلى بلسم يشفي البشرية من جميع أوجاعها والأمة، فانطلق الدعاة مسعورين يهيجون الشعوب ويقلبون الحكومات، يبشرون بالحياة الفاضلة، فقامت بوجه هذه الأيديولوجية، أيديولوجية أخرى تقاومها، وتصارعها، فدخلتا في سباق لاقتسام العالم المعاصر، واستعملت كلتاهما ما في جعبتها من حجج وكذب وخداع ومكر، وضغوط للاحتفاظ بمراكز النفوذ في العالم بعد أن انقسم فريقين، فعاشت الشعوب على أعصابها وهي تشاهد حربًا باردة بين العملاقين، متمزقة بين الأيديولوجيتين تتصارعان على قسمه العالم والاستعمار إلى أقصى حد.

فانطلقت أبواب الدعاية ووسائل الإعلام الخاصة بكل فريق تسمم الأفكار وتختال الشعوب وتخدرها، إما بالوعود بجنة الأرض الوارفة ذات القطوف الدانية، وإما بالحرية والديمقراطية والمساواة ذرًّا للرماد في العيون. إلا أن مبادئ العملاقين لا تختلف إلا في التكتيك، فكلاهما يرفع راية (العلمانية = لا دينية)

فالعالم الشيوعي بالشرق يرفعها ويقويها بفلسفة جدلية تحذف الإله الخالق للكون من حسابها، وتعمل في كل المؤسسات التابعة لها بمحو فكرته من ذاكرة الشعوب.

والعالم الحر يرفع، أيضًا، بدورة نفس الراية، ويطبق نفس المبدأ من عزل الدين عن حياة الناس، ولكنه فعل ذلك بخبث حين فصل الدين عن التعليم والتربية وجميع النظم المسيرة للحياه وقبره في دهاليز الكنيسة.

فرغم الصراع القائم بين العملاقين الشقيقين فقد كانا متفقين على تحطيم الإسلام وتقويض أسسه، حيث كان دائمًا صخرة صلبة ترتطم عليها معاول الهدم، فكانت مشكلة عويصة تسببت في فشل الكثير من هجماتهم الشرسة ضد المسلمين بدءًا من الحروب الصليبية ومرورًا بالهجمة الاستعمارية وتثليثًا بطوفان ملوث من الفكر المادي اللاأخلاقي الملحد الذي لا يعدو ـ في معظمه ـ أن يكون عملًا من أعمال الحروب البيولوجية التي قيل إن بعض الدول الكبرى تشنها من وقت لآخر لإفساد ونشر الأمراض.

ص: 2177

هذا ليس غرضي من هذه الكلمة الخاطفة المقارنة بين العملاقين ولا يبان أكثرهما ضراوة وفسادًا في الأرض وإذابة للإسلام والمسلمين، ولا مناقشة الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، ولا توقعات التغيرات المنتظرة في العالم خلال السنوات القادمة، وإن كانت تلوح في الأفق مؤشرات توحي بأن أوروبا المتحدة سترجح كفتها في السباق على النفوذ في العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا، وأن الولايات المتحدة أخذت في مرحلة تنازلية، وأن اليابان سيكون لها دور خطير في مستقبل العلاقات الدولية.

فالذي أريد أن أنبه عليه أن أعداء الإسلام تفرغوا له بعد أن حُيّدَ العالم الشيوعي. صحيح أن الشيوعية لم يسقط جانبها الإلحادي، وإنما سلكت فقط طريق الغرب في تطبيق العلمانية = اللادينية، في الوقت الذي تخلت فيه عن فلسفتها الاقتصادية، وإن كان الوقت لا زال مبكرًا في التأكيد من أن (الثعبان) بعد قطع رأسه وقبل قطع ذيله، لا تؤثر الحركات العشوائية التي يقوم بها في إيجاد انحرافات أخرى قد تتولد عنها مفاهيم جديدة في السياسة والاقتصاد.

فالإسلام إذن يقف وحده في مواجهة أوروبا في حرب ضروس، حرب فكرية، حرب ثقافية، حرب حضارية، أوروبا المتحدة من موسكو إلى واشنطن، فالإسلام هو الوحيد الذي تتوفر فيه عناصر حيرت الغرب منذ الحروب الصليبية وحتى عصر النهضة الفكرية والتكنولوجية المتطورة. والأسلحة التي استعملت وتستعمل في محاولة تقويض أسس الفكر الإسلامي هي نفس الأسلحة التي تستعمل في متابعة الحرب، غير إنني أتوقع أن كون الاعتماد في المستقبل سيتركز على عناصر الاستقبال والإرسال المتمثلة في الجماعات التي انسلخت عن فكرها، واجتثت من أصولها، وصارت رسالتها التخريب وتحطيم الشعوب الإسلامية من داخلها، كما أتوقع أن تشتد الضغوط على كل فرد أو جماعة تحاول أن تخرج بالإسلام من المسجد وتنادى به كنموذج صالح لإنقاذ الشعوب الإسلامية، بل كشعاع من الأمل يضئ طريق النجاة للإنسانية المحطمة الحائرة الغارقة في أوضار حضارة مادية قاتمة لا يتخللها أي شعاع من الإيمان بالله (1) .

(1) ليس من المستبعد أن تحصل ردة إلى الدين. فقد دعا البابا إلى تنصير أوروبا (Evangelisation de l’Europe)

ص: 2178

نداء إلى أهل النوايا الصادقة:

إن هذا النداء موجه إلى أهل النوايا الصادقة من الساسة والعلماء والمفكرين، وإلى كل غيور على مستقبل دينه ومستقبل أمته ومستقبل فكره وثقافته وحضارته وشخصيته المتميزة وكرامته

ليهبوا لحماية الإسلام. فإن أي مطلع على التاريخ، منذ بزوغ نور الإسلام بين جبال مكة المكرمة، وأمر الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله محمد بن عبد الله أن يصدع بما يؤمر به، وأن يعرض عن المشركين، يرى أن الإسلام دخل في صراع مع الباطل، وتصدى محمد صلى الله عليه وسلم لكل أنواع الضلال، وواجه وحده الجماهير الضالة والزعامات الفاسدة، وصمد وانتصر بالحق، ولم يرحل إلى الرفيق الأعلى إلا والدولة الإسلامية قد قامت على أسس الإيمان، والعدل المطلق، وأصبحت مدينته موئل هذا الدين ومركزه النشط، وانطلق موكب الإسلام يضئ القلوب، ويهدى النفوس، ويزيل الظلم ويحقق العدل، ويكون ممالك وإمبراطوريات ويمتن الصلات بين الأجناس والشعوب المختلفة التقاليد واللغات والألوان وأنماط السلوك. فأصبح المسلم في وطنه الكبير لا يعوقه أي عائق، ففي كل مكان يرتفع الأذان يشعر بالطمأنينة والأنس، فكل مسلم له أخ وكل مسلمة لها أخت، ولكن أعداء الإسلام لم يلقوا السلاح ولن يلقوه، واستمر الإسلام في صموده أمامهم، فقابل التتار، وناضل الصليبين، فبرز من بين المسلمين رجال شهد لهم التاريخ في الدفاع عن عقيدة التوحيد. فبرز صلاح الدين الأيوبي، والمظفر قطز، والظاهر بيبرس، ويوسف بن تاشفين

وتابعت مسيرة الإسلام خطاها صامدة بفضل عقيدته المركزية، عقيدة تشمل كل جوانب الحياة البشرية، وهذا الشمول جعل الإسلام يتعرض لخطط غزو جهنمية متصلة الحلقات منذ الحروب الصليبية وحتى يومنا الحاضر، وستستمر إلى ما شاء الله، ومن المؤسف أن ضعف المسلمين في هذا العصر كشفهم لغزو فكرى عميق تغلغل في حياتهم بعد سقوطهم في يد الاستعمار، واستفاد من وسائل العصر التكنولوجي، فوسائل الإعلام العملاقة من إذاعة وتلفزة وصحافة، وإمكانيات النشر، وما تحمله من فكر وغير مسموم تتسلل ـ برضا منا أو بغير رضا ـ إلى حياتنا اليومية. وفي الماضي كان الغزو الثقافي يتحرك ببطء ويصل بعد زمن، وقد يكون تأثيره بعد مدة طويلة، وبوسائل الغزو العسكري أو بالتبادل التجاري.

ص: 2179

أما اليوم فالإنسان أنّى وُجد وحتى في البراري والقفار وقمم الجبال لا يستطيع تفادى ما يسلط عليه الفكر وثقافة، ففي كل لحظة من ليل ونهار تنطلق أمواج الأثير وتحمل الأقمار الصناعية، وتقذف المطابع وتفرغ الطائرات والسفن ملايين الأطنان من حصاد الفكر الإنساني، أراد الإنسان أم لم يرد، فهو معَّرض لآثارها.. فقد صارت كالهواء الذي يستنشقه.

غير أن هذا لا يدعونا إلى اليأس وإلقاء السلاح والاستسلام الخائن الذليل، والتبعية الحقيرة التي تتناقض مع كرامة المؤمن، بل وتتعارض مع كرامة الإنسان. فإيماننا بالله يمنعنا من ذلك، فلنكن إذن على مستوى عقيدتنا ولنقتد بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي واجه الأرض كلها وليس معه من البشر إلا زوجه، واجه الشرك والظلم والفساد بهذه العقيدة التي تدعو المسلم المؤمن بها أن يواجه الشرك والكفر والنفاق، ودعاة التغريب، وشهوات الدنيا التي روَّجت لها الحضارة المادية اللادينية، واللاأخلاقية، التي تعشش الفساد وتنشره بسخاء في الأرض. والنفس مجبولة على حب الشهوات وإنها لأمارة بالسوء.

ولا تهولنا هذه الحضارة المادية الشرسة، ولا يذهلنا تغلغل آثارها الضارة في المجتمعات الإسلامية، ولا سيطرة فكرها على عقلية بعض المفكرين الذين أصبحوا أداة هدم في يدى أعداء الإسلام {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (1) .

فرغم أن الإحباط الكثير من أبناء الإسلام وأن بعض المفكرين من أبناء المسلمين لعبوا نفس الدور الذي لعبه المنافقون في صدر الإسلام أو أشد، فرغم أن كل حقيقة إلا أن من الثابت تاريخيًّا وبالتجربة، أن الحقائق النسبية أي التي ترتبط بظروف معينة ليست لها صفة الديمومة إلا بقدر توافر الظروف التي أوجدتها. انظروا جيدًا، وأمعنوا النظر من يستطيع منكم أو من غيركم أن يتخيل أن حقيقة هائلة دوخت العالم المعاصر بأجمعه منذ ما يقرب من قرن تزول من الوجود، وتصبح بين ليلة وضحاها تاريخًا يذكر؟ من لا يعرف منكم الاتحاد السوفيتي الركيزة الثابتة التي قامت عليها السياسة العالمية المعاصرة. أليس هذا كان حقيقة؟ أين هذه الحقيقة الآن؟!

(1) سورة يوسف: الآية 87

ص: 2180

فنحن المسلمين، نحن المؤمنين بالله الحقيقة الأزلية الخالدة، علينا أن نعود إلى ديننا الحنيف، دين القيم، ففيه صلاح دنيانا وصلاح آخرتنا، وفيه حماية شخصيتنا المتميزة، وفيه وحدتنا التي هي قوتنا. فقد جعل الله رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم نهاية الرسالات، وجعل شريعته باقية بقاء الإنسان على الأرض، وجعل أسسها صالحة لمواجهة ما استجد ويستجد من تعقيدات حياة البشر، ونموها الحضاري، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتعمر الأرض بالعدل والعمل الصالح، وجعلها وسطًا لتكون شاهدة على الناس.

أمة كهذه لديها القرآن الكريم والسنة المطهرة والتراث العظيم الذي قام صراحة على الإسلام، وازدهرت حضارتها واتسع فكرها، وسمت أخلاقها. أمة هذه صفتها، وهذه رسالتها، فهل يجوز لها أن تتخلى عن هذا؟! تتخلى عن عقيدتها، تتخلى عن قرآنها، تتخلى عن سنة نبيها، تتخلى عن شريعتها، تتخلى عن حضارتها وعن مثلها، تتخلى عن رسالتها تابعة ذليلة منهزمة أمام حضارة مادية فرغت الإنسان من كل معنى وسلبته كرامته بعد أن كرمه الله؟!

ص: 2181

الإنسان يأخذ بعضه عن بعض:

إن أحدًا لا يستطيع أن يقول: إننا يجب علينا أن نوصد الأبواب أمام كل ما جاءنا من الخارج ـ ولا نستطيع ـ ولا أن نصم الآذان ونعمى العيون أمام الفكر الإنساني، فالإنسان منذ هبط على الأرض يتبادل المعرفة والخبرة حتى مع الحيوان، فقضية الغراب الذي كان يبحث في الأرض فأخذ عنه أحد الأخوين كيف يوارى سوأة أخيه معروفة، ولكن الحوار ليس الانهزام، وليس الاستسلام والخضوع، وليس التبعية الذليلة.

فيجب على علماء هذه الأمة ومفكريها أن يدفعوا عن دينهم، عن فكرهم، عن حضارتهم، عن عقيدتهم، عن أمتهم، عن شخصيتهم المتميزة، عن مثلهم وأخلاقهم وعاداتهم الطيبة، عليهم أن يضعوا كل ما يرد عليهم في مختبر التجربة، وتحت مجهر العقل، وعلى موازين الإسلام، موازين القسط، ليميزوا ما هو مفيد ومربح فيضاف إلى الفكر الإسلامي وتراثه العظيم الذي خلَّفه السلف الصالح، وما هو ضار ومؤذ فيلغى ويبعد لحماية المجتمعات والحضارة الإسلامية من شروره. فهذا واجبهم الأول:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) .

وكثيرًا ما أتساءل، لماذا نتدافع عميًا، بكمًا، صمًّا، وراء الحضارة الغربية المادية ونأخذ أسوأ ما فيها، نأخذ إلحادها، نأخذ فصلها الدين عن الدولة وما يترتب عليه فساد كل وسائل التربية والتعليم والإعلام، نأخذ عنها الانحلال الأخلاقي، وتفكك الأسرة وغير هذا من المفاسد.

هل نحن المسلمين نحتاج إلى هذا؟ وهل من مصالحنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه من الانهيار الخلقي، أليس الانهيار الخلقي يمثل عفونة الحضارات، وعلامة انحدارها إلى السقوط. أترضون أن يصل المجتمع الإسلامي إلى الحالة التي ساقها الدكتور كشاط مدير المركز الثقافي لمسجد الدعوة في فرنسا، ونقلها من دراسات وبحوث غربية، وساهم بها في ملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرين في مدينة تبسه بالجمهورية الجزائرية سنة 1410 هـ / 1990م، وعنوانها:(حقائق عن المجتمع الغربي للاعتبار) . فإليكموها للاعتبار أيضًا فإنها تلقى الضوء على حياة من يراهم البعض منا مُثُلًا عليا.

يقول الباحث: (وحتى لا نبخس المجتمع الغربي أشياءه ـ إذ البخس بصورتيه الأدبية والمادية رذيلة يتنزه المسلم عن مقارفتها ـ فإننا نحيل الكلمة إلى مفكرين غربيين، فإنهم أعرف الناس بمجتمعاتهم

وكانوا بمأمن عن الاتهام) . وجاء في الاستفتاء الذي أجرته (اليونسكو) بأن 60 % من الزوجات الأمريكيات والأوربيات يشعرن بخيبة، ويقض مضجاعهن الشقاء، وهل تعلم أن أعلى نسبة طلاق في العالم هي من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية! وهل تعلم أن في مقاطعة لوس أنجلوس تحدث حالة طلاق مقابل كل حالة زواج!. وهل تعلم أن عدد الأطفال اللاشرعيين قد أصبه ثلاثة أضعاف الأعداد التي سجلت سنة 1938! وهل تعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية تستقبل سنوياُ 4 ملايين من الأطفال اللاشرعيين!. قالت مجلة لايف: لقد ضربت نسبة الطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية رقمًا قياسيًّا، فكلما دار عقرب الساعة 90 ثانية هوى بيت أمريكي.

(1) سورة آل عمران: الآية 139

ص: 2182

لقد حاول الباحثون من علماء النفس والاجتماع تعليل هذه الظاهرة. فهذا أرمسترونج يخاطبنا قائلًا: (قد تحس بالحرج إذا اعترفت بأنك تعيش في عالم مجنون بالجنس. فالأدب مترع بالجنس، لكن أي نوع من الجنس؟ لقد أصبحت أكشاك بيع الصحف والمجلات مجموعات ملونة من الجنس الساقط، إنها عناوين صارخة كصرخات الخيانة والجريمة الشذوذ والسادية والإيدز. ثم ما هي المواضيع التي يقرأها الأزواج باستمرار؟ ما هي برامج التي يشاهدونها من خلال شاشة التلفزيون؟ ما نوع الأفلام التي تعرضها لهم دور السينما؟ ما المجلات، ما الروايات، ما النكات التي تحشى بها عقولهم؟ الجواب في منتهى البساطة، أنه الجنس.. الجنس القذر، الشاذ،

السابق للزواج، العفن والنجس

صدِّق ما يحلو لك.. إن أهم عوامل المشاجرات والقتال التي تعصف بحياة الأزواج

تنحدر بهم إلى درك الطلاق، هي ذلك الغذاء المستمر بالجنس والعنف) .

الشهادة الثانية: تلك التي أدلت بها الصحف الإنجليزي الصادرة في السبعينات: لقد اجتاحت إنجلترا عاصفة عاتية من الطلاق الذي ارتفعت نسبته بحيث سجلت حالة طلاق مقابل كل ثلاث زيجات

وتكلمت لغة الأرقام فأكدت بأن سنة 1971م قد شهدت 625ألف أسرة يرعاها أحد الوالدين فقط. ولقد أجمع الباحثون على أنه في كل ثمانية أطفال أمريكيين يعثر على طفل ضحية لشذوذ جنسي من طرف ذوى رحمه

وتتراوح نسبة العائلات التي تتعرض فيها البنت إلى هذه الجريمة الشنعاء بين 10 % إلى 40 % من العائلات الأمريكية. يتراوح عدد الأمريكيين الذين يمارسون هذه الفاحشة بين 10 إلى 30 مليونًا، أي خمس أو ست أسر أمريكية توجد عائله ترتكب هذه المنكرات.

والغريب أن هناك جمعية تسمى نفسها (جمعية مناصرة مضاجعة المحارم) أعضاؤها باحثون مشهورون في مختلف الأكاديميات الأمريكية

وعلَّلوا هذه الظاهرة بفقدان الحنان الذي قوض أركان البيت الأمريكي

قائلين بأن إدانتها من قبيل الخرافات الخلقية ، وأكدوا بأنه آن الآوان أن ننظر إلى مضاجعة المحارم لا باعتبارها انحرافًا خلقيًّا، ولا على أنها من أعراض الاختلالات العقلية.

تقرير وزارة الشؤون الاجتماعية بهولندا: (توجد من بين ثلاث نساء امرأة قد اعتدى عليها جنسيًّا قبل 16 من عمرها والذي ارتكب هذه الجريمة معها أحد محارمها: الأب أو الجد أو العم أو الخال أو الأخ. نسبة اللائى وقعن في براثن هذه الوحوش الكاسرة امرأة من كل خمس نساء) .

شهادة كارمين فانتيميقليا، العالم الاجتماعي الإيطالي:(لقد أحصى خلال سنة واحدة 90 حالة من حالات مضاجعة المحارم من مجموعة 513 حالة اعتداء من هذا النوع) .

ص: 2183

وبعد استعرضنا لهذه اللقطات

ألا يحق لنا أن نعتبر المجتمع الغربي مجتمعًا مجرمًا؟ بلى إنه مجتمع مجرم. إنه خروج على الفطرة، ولكن الفطرة تنتقم لنفسها، وإنه مما لا ريب فيه أن الوباء الذي يعرف بـ (السيدا = الإيدز) يعبر عن انتقام الفطرة، وياله من انتقام

إن الذي يرصد أحوال المجتمع الغربي يلاحظ بأنه مجتمع غير مطمئن وينجلي عدم اطمئنانه في البحث عن مخرج من هذا الطريق المسدود، ولكنه قد ضل سواء السبيل. ويكفي أن نذكر لكم هذه الحقائق المتمثلة في انتشار الخرافة والشعوذة التي اجتاحت فرنسا بلد ديكارت:

عدد الأطباء: 49.000

عدد العرافين: 40.000

عدد الرهبان: 38.000

عدد السحرة: 30.000

عدد المعالجين الطبيعيين: 30.000

ما هي العبرة التي نستمدها من عرضنا لهذه الحقائق على المجتمع الغربي؟

1-

إن أي مجتمع لا يمكنه أن ينعم بالسعادة إلا إذا صاغ حياته وفق المثل الإنسانية الرفيعة والمنبثقة من تعاليم السماء. قال رئيس بلدية مدينة كيفلند الأمريكية: إذا لم نكن واعين فسيذكرنا التاريخ باعتبارنا الجيل الذي رفع إنسانًا إلى القمر، بينما هو يغوص إلى ركبتيه في أوحال القاذورات.

2-

إن المسلمين وحدهم الذين لديهم رصيد من القيم السماوية إذ هم الأمة التي مازالت تحتفظ بالوحي ممثلًا في مصدرية الأصليين: الكتاب والسنة. أهـ.

أعود فأقول، لماذا نتدافع وراء الغرب؟ ونمكن له السيطرة الكاملة في كل مجرى من مجارى حياتنا فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وحضاريًّا وأخلاقيًّا، لماذا نسلم له قيادتنا وتوجيهنا لقمة سائغة؟ شيء محير!! أمه مسلمة ذات عقيدة إلهية، ذات كتاب محفوظ مصان من خالق الأرض والسماء، ذات رسول كريم يقودها إلى المحجة البيضاء، وترك لهم ما إن تمسكوا به لن يضلوا (كتاب الله وسنة نبيه) ، أمة ذات شريعة ونظام هي نفسها عين موازين القسط، تقوم عليها الحياة الفاضلة المزدهرة، حياة متوازنة:(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا) .

إذا كان العقلاء من الغربيين أنفسهم يستغيثون من الأوحال التي تردت فيها حضارتهم المادية اللادينية، فهل من العقل أن تسير وراء شخص فيقع في حفرة عميقة فيها هلاكه، وأنت تراه وترى الحفرة، فتقع بدورك في الحفرة؟! {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1)

، وفي الواقع إن فيضان الغزو الثقافي اقتلع الإيمان من بعض القلوب ومسخ بعض الناس. فوقعوا فريسة للغزو الغربي فأصبحوا أداة طيعة في أيدي الغزاة يحركونهم حسب رغباتهم ويتصرفون بهم في مصائر الشعوب الإسلامية، يخدمونهم بلا وعى فيما يبدو.

(1) سورة الحج: الآية 46

ص: 2184

شهادة مورو بيرجر، يقول الكاتب الأمريكي مورو بيرجر في كتابه:(العالم العربي اليوم) كلامًا خطيرًا، خطورة حقيقية، خطورة وباء ينتشر ويكتسح الأخضر واليابس، يكتسح ما تبقى من فكرنا ومثلنا وحضارتنا وشخصيتنا الإسلامية، بعد اكتساحه لتاريخنا الإسلامي، بتشويهه وتلطيخه بالمفتريات والمَيْنِ، ليزيل كل احترام وتقدير وافتخار به من قلوب الناشئة، فتفصل عن جذورها فتهيم في خواء حضاري عقائدي، فيلتقطها ويغرسها في أوحال حضارة قذرة، رأيتم منذ قليل النزر اليسير من الأمثلة لما تعوم فيه من وحل القاذورات.

يقول: (فبينما يترك الحكام الغربيون منطقة الشرق الأدنى تتحول هذه المنطقة فتصبح أكثر غربية. ويواجه الزعماء العرب طريقين فهم يطردون الغرب سياسيًّا، ويسحبون الكتل الشعبية إلى الغرب ثقافيًّا) . إذا قلت ثقافيًّا عنيت الإنسان كله، فالكائن البشرى وعاء، والوعاء يرشح بما فيه، ولم يقل هذا الأمريكي إلا حقًّا وليس قوله مبالغة. ومقالته هذه تنطبق على كل العالم الإسلامي، والمشاهد اليوم يؤكدها.

فإذا كانت مناهج التعليم والتربية وكل وسائل الإعلام قد سيطر عليها قوم تنكبوا طريق الإسلام، وشعروا بالدون نحو الغرب، وقاموا عنه بتمكين فكره وثقافته وحضارته في الناس، ونقشها في عقول الطفولة، وتعدوها بالرعاية في مرحلة الشباب. ماذا ترجون بعد ذلك؟

المحير في مشكله الصدام الفكري الحضاري مع الغرب يتمثل في موقف الذي يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، الذين يمكنون الغزاة بالسيطرة على مصائر شعوبهم وأمتهم وتحطيم عقيدتهم وفكرهم، وترويج أكاذيب ومفتريات على تاريخهم وحضارتهم، فالغرب لولاهم ما تمكن من إشاعة الفوضى والتفرقة في صفوف المسلمين، الغرب لولاهم ما تمكن ممن تشويه فكر الإسلام:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}

(1)

.

(1) سورة آل عمران: الآية 118

ص: 2185

كيف الخروج من المأزق؟

سؤال موجه إلى كل مؤمن بالله إيمان مخلص

أيها الأخ في الله إن التحديات الخطيرة التي تواجه الإسلام وفكره وثقافته وتاريخه وحضارته ماثلة للعين، بل يعيش المسلمون اليوم آثارها السيئة، وهذه التحديات والمؤامرات تأتى من كل مكان، وبأشكال مختلفة. تأتى من الخارج في شكل إعلام مسعور وفكر منحل هابط ملحد، وضغوط سياسية وحصار اقتصادي، وتهديدات عسكرية، وتجويع مقصود، ومعونات مشروطة ، وقروض لا تفتأ تثبت حالة الفقر وتجعلها مزمنة لا تجد الدولة وسيلة للفكاك من أسرها ، وهذه الصورة القاتمة نتيجة الغزو العسكري ثم الغزو الفكري الذي يجرى في كل شرايين الحياة في المجتمعات الإسلامية.

وطريق العلاج تستند أولًا إلى تشخيص المرض، والمرض قد شخص فعلينا إذن أن نبحث حتى نكون مجتمعًا إسلاميًّا مرتبطًا بدنيه الحنيف وبمثله وبحضارته. غير أن العلاج معقد لشعب العوامل التي أدت إلى الوضع السيئ الحاضر.

وإذا تأملنا العوامل التي وصلت بالمسلمين إلى ما وصلوا إليه من التفكك وفقدان الهوية حتى أصبحوا ضحية سهلة لكل مستغل من الخارج. وكل مخرب من الداخل. نجدها عوامل فكرية، وربما أن سلاح الفكر لا يقاومه إلا سلاح من جنسه، وبما أن أسس الفكر السليم متوفرة في ديننا، دين الحق، فلنعد إليها لتشييد مجتمع الإيمان والأخلاق والعلم والإخاء والتضامن. فالفكر الإسلامي قادر على تصحيح المسيرة وجعلها في الاتجاه السليم. وعامل العقيدة أساس الفكر الإسلامي. فالعقيدة هي الأساس الذي يقوم عليه فكرنا، وحضارتنا. وإذا تغلغلت هذه العقيدة في قلب الإنسان استولت على جميع كيانه. ووجهت تصرفاته، وأصبح قويًّا شجاعًا كريمًا لا يخاف إلا من الله الذي أبدعه وكرمه وفضله على كثير ممن خلق، وسخر له ما في السموات والأرض جميعًا.

ص: 2186

وبهذه العقيدة قام سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم وحيدًا يدعو إلى كلمة التوحيد، يواجه بها الأوثان والأصنام وعبدتها. وبهذه العقيدة انتصر الإسلام وانتشر في الآفاق ، وبسرعة أدهشت المؤرخين هزم أكبر قوتين تسيطران على العالم آنذاك.

وبضعف هذه العقيدة عند المسلمين تحطمت مقاومتهم وانهار الجدار الداخلي، وهوت صروح الإسلام من القلوب وسخر الساخرون من المسلمين ومن كل مقدساتهم، وتفتت المسلمون شيعًا وأحزابًا ودويلات تقوم بينها الحروب ويستعدى بعضها على البعض أعداء الإسلام. وبضعف هذه العقيدة أصبح المجتمع الإسلامي مكشوفًا من الخارج ومهلهلًا في الداخل، وبسبب ضعف هذه العقيدة جبن المسلمون وخارت قواهم وشعروا بالدون. وهذه حالة مشاهدة يعيشها مسلمو اليوم. فلنأخذ مثالين من عصرين مختلفين يصوران نفسية المسلمين:

1-

بلغ المعتصم الخليفة العباسي أن امرأة صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: (وامعتصماه) فأجابها: لبيك لبيك، فنهض من ساعته، وجهز جيشًا جرارًا وهزم الروم وانتصر لهذه المرأة المسلمة (1) .

2-

وفي خلال عام 1989 م شاهدت وشاهد العالم كله، أو على الأقل معظمه على شاشة التلفزيون امرأة مسلمة تولول وتصرخ، والصهاينة ينهالون على وليدها، وهل تحرك أحد في العالم الإسلامي؟ نعم.. نعم نددنا، وشجبنا، واستنكرنا، ثم أخلدنا إلى السكون والدعة وفضلنا السلامة والعافية، والجلوس على الكراسي المريحة، والفرش الوثيرة.

والشاهدان غنيان عن البيان، فالمسلم عندما يشعر بعزة الإسلام لا يقبل الإهانة، فإن الكرامة وقوة الإيمان تجرى في كل شرايينه، وإذا أصابه الخور. وصار إسلامه وراثة وتقاليد خلت من حيوية الإيمان بالله عشش الوهن في كل مشاعره واكتفى بحياة الذل. ونسي أو تناسى قول ربه في كتابه الكريم:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2) .

ونسي أو تناسى ما في الذكر الحكيم من قول رب العزة: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (3) .

حقًّا إن المؤمن الصادق الإيمان يرجو من الله مالا يرجون. ورحم الله أمير المؤمنين عليًّا وأرضاه فلو رأي ما وصل إليه المسلمون اليوم لهاله الأمر. وقد صدق حين يقول: (فوالذي نفسي بيده ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلو

والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يُدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فتُنتزع أحجالهما ورعثهما، ثم انصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كَلْمًا. فلو أن أمرًا مسلمًا مات من دون هذا أسفًا ما كان عندي فيه ملومًا) (4) .

رضى الله عنك وأرضاك يا أمير المؤمنين، ماذا تقول فينا اليوم لو علمت أن الذي ينزع الأحجال والرعث، إنما الذي يقلع ويهان ويعذب هو فلذات الأكباد!! والقوم نيام أو هم أموات غير أحياء، عيون تحوم ولا ترى، وآذان مفتوحة ولا تسمع، (وما بجسم بعد الموت إيلام) .

(1) وقعت هذه الأحداث سنة 293 هـ. ولا شك أن عشاق الأدب العربي يذكرون لأبى تمام قصيدته الرنانة التي قالها بمناسبة هذه الواقعة التي فتحت فيها (العمورية) . والقصيدة من عيون الأدب العربي: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلا معسولة الحلب انظر: الدكتور حسن إبراهيم حسن. تاريخ الإسلام السياسي: 2/ 248، 249

(2)

سورة المنافقون: الآية 8

(3)

سورة النساء: الآية 104

(4)

عن الكامل للمبرد

ص: 2187

فالعقيدة، عقيدة الإسلام التي تحرر الإنسان من عبودية البشر إلى عبادة الله الواحد الأحد، عقيدة تربط الدنيا بالآخرة، عقيدة يصدقها العمل الصالح، وتستلزم متابعة محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، هذه العقيدة هي الأساس الذي يجب على المسلمين أن يتخذوه قاعدة لتشييد صرح الإسلام وفكره وشريعته وكل ما يتصل بحياتهم الدنيوية وحياتهم الآخروية، فرغم أن هناك حياتين إلا أن الإسلام ربط بينهما.

والسبيل لترسيخ عقيدة الإسلام هو التربية والتعليم القائمين على الإسلام ومثله السامية. وسبب الحالة السيئة التي يعيشها المسلمون اليوم كانت نتيجة بعدهم عن الإسلام بواسطة المدرسة الاستعمارية التي مكن لها الغرب الغازي وأذنابه.

فالعلاج إذن يكمن في العودة إلى الإسلام، إسلام الفرد، إسلام الجماعة، إسلام الدولة، إسلام التعليم والتربية، إسلام السياسة والاقتصاد، إسلام القانون، إسلام الإعلام، إسلام الفكر، إسلام كل ما يتصل بالإنسان المسلم

ولكن العقبة الكئود تواجه العودة إلى الإسلام وتتمثل في الأعداء المترصدين للإسلام في الداخل والخارج. وإنني أتوقع أن تكون الهجمة على الإسلام أشد مما كانت عليه من قبل. في الماضي كانت الحرب ذات الأسلحة المتعددة الجنسيات مستعرة ضد الإسلام، ولكن رغم ذلك كان في الميدان أهداف أخرى، كان بجانب حرب الإسلام من الغرب الملحد ومن الشيوعية المارقة، كان هناك صراع بين ما يدعى العالم الحر وبين الشيوعية. كان المعسكران يتنافسان على مناطق النفوذ واقتسام العالم، صحيح أنهما كانا بالنسبة لعداوة الإسلام متفقين ولكن ذلك لأسباب تكتيكية، ومصالح تجارية، وأهداف سياسية، يبدو بينهما الصراع والتنافس.

ص: 2188

واليوم وقد انهارت الشيوعية بكل أوهامها التي خدرت بها العالم المعاصر وبقى الإسلام وجهًا لوجه مع العملاق الآخر، وحالته النفسية تقول: أنا سيد الأرض والسماء لا أسمح لهذا القزم أن يفوز بالنجاح في أي ميدان من ميادين الحياة لا فكريًّا ولا اقتصاديًّا ولا سياسيًّا ولا علميًّا.

ولو استطاع الإسلام أن ينجح فإن خططه ستنهار من أساسها، إذن لا بدَّ من سحقه، ووسائلي كثيرة، وأعواني منتشرون في ديار الإسلام، سأتحرك في كل الجهات وفي طل مكان، وبكل الوسائل والغاية تبرر الوسيلة. إذا كانت الوسيلة الناجعة التشنيع أشنع، وإذا كان الضغط السياسي، الضغط الاقتصادي أفعل، وإذا لزم الحرب ولا أتردد. ولابد من قتل هذا المتمرد حتى أسحقه، ولن يعيش على الأرض إلا ذيلًا تابعًا ملبيًّا لإشاراتي، وسأحرك أعواني من المفكرين والكتاب العملاء والإذاعيين والتلفزيونيين والسينمائيين والفنانين والصحافيين والقادة السياسيين، وسأجعل حياة كل من ينادى بالإسلام جحيمًا لا يطاق، سأسلط عليه زبانيتي من أبناء جلدته.

إخوة الإسلام من المفكرين والعلماء ومن الساسة والقادة، ومن المعلمين والتربويين خذوا زمام المبادرة في الدفاع عن الإسلام عقيدة وفكرًا، وثقافة وشريعة، ودولة واقتصادًا وحضارة شيدها أجدادكم. وقبيح هوان الآباء والأجداد. كونوا في المقدمة (من وقف خلف جنوده فقد جعل عزائمها من خلفه) .

هذا وأسأل الله أن يقيض لهذا الدين قومًا آمنوا بربهم وزادهم هدى. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

الشيخ قاسم البهيقى المختار

ص: 2189