المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السابع

- ‌بحثالأسوَاق المالِيَّةفيمِيزان الفقه الإسلَاميإعدَادالدكتور علي محيي الدّين القره داغي

- ‌الأسهم، الاختِيارات – المستَقبَليّاتأنواعهَا وَالمعامَلات التي تجري فيهَاإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌الاختِياراتإعدادفضيلة الشيخ محمّد المختار السّلامي

- ‌عقُود الاختياراتإعدَادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الاختِياراتإعدَادفضيلة الدكتور الصديق محمّد الأمين الضرير

- ‌الاختِياراتدَراسَة فِقهيّة تحليليّة مُقَارنَةإعدَادعَبد الوهاب ابراهيم أبو سليمان

- ‌الاختيارَات في الأسوَاق الماليَّةفي ضَوء مُقرّرات الشريعَة الإسلَاميِّةإعدَادالدكتور عبد الستار أبو غدّة

- ‌عقُود المستَقبليات في السّلعفي ضَوء الشّريعَةِ الإسلاميَّةإعداَدالقاضي محمَّد تقي العثماني

- ‌بطَاقَة الائتمان وَتكييفها الشَّرعيإعدادالدكتور عبد السّتار أبُوغُدَّة

- ‌بطَاقات الائتمانإعدَادالدكتور محمَّد علي القري بن عيد

- ‌بِطاقَة الائتِماندرَاسة شرعِيَّة عَمليَّة مُوجَزةإعدَادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌المشاركة في شركات أصل نشَاطها حَلَالإلاّ أنّهَا تتعَامل بالحَرامإعدَادالشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بية

- ‌التعامُل مَع شركات تَقوُم بأعمال مَشروعَةوَتتعامَل مَع البُنوُك بالفَوائدإعداَدفضيلة الشيخَ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بية

- ‌بَحثٌ عَن بَطاقات الائتمان المصرفيّةوالتكييف الشرعي المعمُول به فيبَيت التمويل الكويتي

- ‌دَراسَة مُقَدّمة إلىالنّدوة الثانِية للأوَراقِ المالِيّةمِن بنك البحَرين الإسلَاميحَولتَحرير محافظ الأوَراق الماليّة للبُنوك الإسلاميّةمِن المَالِ المشتبَه في حِلِّهوَالمعالجَة المالية المقترحَة لعَزل أثر التعَامُل بالفَائدةعَلى عَائداتِ الأسهُم

- ‌أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّاتمُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة

- ‌التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّةالمنعقدَة بَينمجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة

- ‌البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَاتللنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّةالمنعقدَة بدَولة البحَرين

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .إعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام البيع بالتقسيطوسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلاميإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثاني: الحطيطة والحلولإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرىإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌البيع بالتقسيطالمحور الثانيتوثيق الدين في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌عقد الاستصناعومدى أهميته فيالاستثمارات الإسلامية المعاصرةإعدادفضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء

- ‌عقد الاستصناعإعدادالأستاذ الدكتور علي السالوس

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌عقد الاستصناعإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الاستصناع ودوره فيالعمليات التمويلية المعاصرةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌أثر الاستصناعفي تنشيط الحركة الصناعيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌عقد الاستصناعإعدادفضيلة الشيخ كمال الدين جعيط

- ‌الاستصناع والمقاولاتفي العصر الحاضرإعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الاستصناعتعريفه - تكيفه - حكمه - شروطهأثره في تنشيط الحركة الاقتصاديةإعدادالدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي

- ‌عقد الاستصناعوعلاقته بالعقود الجائزةإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌بيع الوفاء وعقد الرهنإعدادفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌ موضوع بيع الوفاء

- ‌بيع الوفاءإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌بيع الوفاء عند الإماميةإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)أوتوظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصرإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاءشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني(المتوفى 1247هـ)تقديم وتحقيقمحمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌بيع الوفاءفي الفقه الإسلاميإعدادمحيي الدين قادي

- ‌بيع الوفاءإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌أحكام الرهنوحكم الإنتفاع بالمرهونإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌بيع الوفاء وحكمهإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌بيع الوفاءإعدادفضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني

- ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

- ‌عقد الرهنوأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاءإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العلاج الطبيمبحث التداويإذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منهاإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌حكم التداوي في الإسلامإعدادالدكتور علي محمد يوسف المحمدي

- ‌العلاج الطبيإعدادالدكتور محمد عدنان صقال

- ‌الحقوق الدولية في الإسلامإعدادفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المعاهدات والاتفاقاتمنالعلاقات الدولية في أثناء السلمإعدادسماحة الدكتور عبد العزيز الخياط

- ‌أصول العلاقات الدوليةبين الإسلام والتشريعات الوضعيةإعدادالدكتور محمد الدسوقي

- ‌السلم، والحرب، والعلاقات الدوليةفي الإسلامإعدادالدكتور محمد رأفت سعيد

- ‌رسالةمعالي الدكتور محمد معروف الدواليبيحولالغزو الفكري

- ‌دراسة حول الغزو الثقافي للعالم الإسلاميبداياته، دوافعه، أبعاده، سبل مواجهتهإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الغزو الفكريفي المعيار العلمي الموضوعيإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الغزو الفكري وأساليب المواجهةإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الغزو الفكريإعدادالدكتور أبو بكر دكوري

- ‌الغزو الفكرىفى التصور الإسلامىإعدادالدكتور أحمد عبد الرحيم السايح

- ‌المسلمون وتحديات الفكر المعاصرإعدادالشيخ القاسم البهيقي المختار

- ‌الغزو الفكري في حياة المسلمينمنافذ دخُوله.. وَوَسَائل مُقاومتهإعدادالدكتور عُمَر يُوسف حَمزة

الفصل: ‌بيع الثنيا أو بيع الوفاءإعدادالأستاذ محمود شمام

‌بيع الثنيا أو بيع الوفاء

إعداد

الأستاذ محمود شمام

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على رسوله محمد بن عبد الله الأمين وآله وصحبه الميامين وعلى كل من تبعه بإحسان إلى يوم الدين {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 25، 26] .

بيع الثنيا، أو عقد بيع الوفاء:

(عقد أحدث تحيلًا لتحصيل الأرباح من طريق مباح) .

طالما دعت الضرورة قديمًا وحديثًا الإنسان إلى الاقتراض رجاء حصول الميسرة لسداد هذا الدين.

وقديمًا كان المعسر المحتاج يجد من يمد إليه يد الإعانة ويقرضه المال قاصدًا من وراء ذلك الثواب الذي وعد الله به عباده المحسنين.

فالمقرض يقصد النفع الأخروي والعمل الخيري والثواب الجزيل وابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى وتحصيل الأجر العميم ليوم عظيم وتقوية الزاد ليوم الميعاد.

وقد كانت عقود القروض تقع في طي الخفاء وتحت ستار الكتمان وفي السر المطلق. فالمقترض يرجو قضاء حاجته والخروج من مأزقه دون فضيحة أو عار. والدافع المقرض صاحب المال يرجو رحمه الله وحسن ثوابه والشكر له على ما أنعم به عليه من بسطة في الرزق ووفرة في المال.

ولذا قيل: (إنه لم يكن لهذا العقد وجود في دائرة الشهود) .

وامتدت الأيدي إلى الإخوان المحتاجين فنال أصحاب الأموال الثواب وقضى الآخرون حاجاتهم وتخلصوا من عنائهم وضيقهم وخرجوا سالمين من معاناتهم حامدين الله على ما أنعم به عليهم.

وشكر الله سعي هؤلاء المقرضين وزادهم بسطة من فضله.

ثم مرت الأيام وتطورت الأمور وأصبح القرض عملًا يلجأ إليه صاحب التجارة والمعمل لإنشاء المصنع وتعمير المتجر وتكوين سبل الربح. كما يلجأ إليه الموظف والعامل لإنشاء المسكن وعمارة عش الزوجية والانصراف إلى العمل دون عسر وعناء بل في راحة ورخاء.

ص: 1454

واتجه المسلم إلى دينه وقواعده ومقاصده ومبادئه السامية فوجد أن الله حرم الربا تحريمًا قاطعًا لا يتطرقه شك.

وكان صاحب المال يطمع في نفع مالي وأرباح مادية تنمي مكاسبه، وكان التاجر والصانع والموظف وإن لم يكن أحدهم في ضائقة يسعون إلى توسيع دائرة العمل وبسط ساحات التجارة وإنشاء المسكن والمأوى.

والتفت الناس إلى هذا العقد الذي هو بيع وفيه مواصفات تصلح لإرضاء شهوات ورغبات كل الأطراف فهذا ينمي ماله في يسر وسهولة والآخر يقضي حاجته ويدرك غايته.

فهل يدخل تحت سقف عقود القرض ويشمله ما يشملها من أحكام قد تدفع إلى الحرمة والإثم إذا صاحبها التعامل الربوي المنهي عنه أم لا يدخل في ذلك ويخط لنفسه الطريق الحلال الذي يرضي كل الأطراف خاصة وإن هذه التكتلات المالية تسد الطرق أمام النمو الاقتصادي إذا لم يتعامل معها الناس حسب ما ترسمه لهم من مواصفات وتخطه من مخططات ومناهج قد تنحرف عن مبادىء ومناهج وقيم المتمسكين بدينهم الساعين إلى المحافظة على تطبيقه والسير في حدوده دون انحراف أو تجاوز.

ومن هنا جاء التدارس لموضوع بيع الثنيا أو بيع الوفاء وتحديد موقف الفقهاء منه.

بيع الوفاء في المذهب الحنفي:

نلاحظ أولًا أن هذا العقد لا وجود له قديمًا عند كافة المذاهب ومنهم الحنفية. يقول الزيلعي (1) : (ومن مشائخ سمرقند من جعله بيعًا جائزًا منهم الإمام نجم الدين النسفي الذي يقول اتفق مشائخنا في هذا الزمن فجعلوه بيعًا جائزًا) .

تعريفه:

قال الإمام العلامة الشيخ محمد أمين المعروف بابن عابدين في حاشيته (رد المحتار على الدر المختار) : (صورة بيع الوفاء كما في العناية وفي الكفاية هو أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بما لك عليَّ من الدين على أني متى قضيته فهو لي) .

ويسمى عند علماء الشافعية بالرهن المعاد وعند أهل مصر ببيع الأمانة وعند أهل الشام ببيع الطاعة.

وقد عرفه بعضهم بقوله: (إنه عقد وضع للتوثيق للدين والانتفاع بالعين) .

ويقول عنه شيخ الإسلام الحنفي محمد بيرم الثاني في رسالته له عن بيع الوفاء: (إنه عقد أحدث تحيلًا لتحصيل الأرباح عن طريق مباح) .

(1) كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 3/184.

ص: 1455

حكمه:

حصل الاختلاف بين مشائخ الحنفية على أقوال أربعة حول حكمه.

الأول: أنه رهن، وهذا ما نقله صاحب جواهر الفتاوى، وقال هو الصحيح. وقال صاحب الخيرية إن الذي عليه أكثر الفقهاء أنه رهن لا يفترق عنه في حكم من الأحكام.

قال ابن عابدين: وبه صدر صاحب الفصولين فقال: (البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من ثمره وأتلف من شجره. وللبائع استرداده إذا قضى دينه. فلا فرق حينئذ عندنا بينه وبين الرهن في حكم من أحكامه) .

يقول الزيلعي: (من الفقهاء من جعله رهنًا منهم السيد الإمام أبو شجاع والإمام القاضي الحسن الماتريدي قالوا لما اشترط عليه أخذه عند قضاء الدين أتى بمعنى الرهن لأنه هو الذي يؤخذ ويسترد ويرجع عند قضاء الدين. والعبرة في العقود للمعاني دون الألفاظ حتى جعلت الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة وبالعكس كفالة والاستصناع عند ضرب الأجل سلمًا. فإذا كان رهنًا لا يملكه ولا ينتفع به. وأي شيء أكل من زوائده يضمن ويسترد عند قضاء الدين ولو استأجره البائع لا تلزمه أجرته كالراهن إذا استأجر المرهون وانتفع به ويسقط الدين بهلاكه فيثبت فيه جميع أحكام الرهن.

القول الثاني: أنه بيع فاسد. وينسب هذا القول إلى مشائخ بخارى كما ذكر الزيلعي، وإنما كان فاسدًا عندهم لاشتماله على شرط الفسخ عند قدرة البائع على الإيفاء بالدين وهو شرط فاسد فيؤثر في عقد البيع بالفساد فلا يفيد الملك للمشتري إلا عند اتصاله بالقبض وينقض بيع المشتري كبيع المكره لأن الفساد باعتبار عدم الرضا فكان حكمه حكم بيع المكره.

القول الثالث: أنه بيع جائز لا شبهة عليه وينسب هذا القول لمشائخ سمرقند منهم الإمام نجم الدين النسفي الذي يقول: (اتفق مشائخنا في هذا الزمان على جعل بيع الوفاء بيعًا جائزًا مفيدًا لبعض أحكامه كحل الانتفاع بالمبيع كما أنه لا يملك المشتري بيعه وإنما كان جائزًا لحاجة الناس إليه والقواعد قد تترك بالتعامل مثل جواز الاستصناع وهي جواز ما ليس عند الإنسان.

ص: 1456

وقال صاحب النهاية وعليه الفتوى. ذكر ذلك الإمام الزيلعي في كتاب الإكراه في كتابه تبيين الحقائق.

وقال صاحب النهر: العمل في ديارنا على ما رجحه الإمام الزيلعي أي القول الثالث.

وقد علق أحمد الشلبي في حاشيته على شرح تبيين الحقائق بقوله: والأهم عندي أنه بيع فاسد وحكمه حكم سائر البيوعات الفاسدة لأنه بيع بشرط لا يقتضيه العقل وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.

لكن شيخ الإسلام الحنفي بيرم الثاني يضيف وجهًا آخر للجواز فيقول: إنه بيع جائز لازم فيما إذا عقد بلفظ البيع من غير ذكر شرط فيه لا فرق بينه وبين البيع البات الصحيح في حكم ما حتى أنه لا يفسخ إلا بالتراضي على وجه الإقالة وهو الذي نقل غير واحد عن النسفي اتفاق شيوخه في زمنه عليه.

وحجتهم أن متعاقديه تلفظا بلفظ البيع من غير شرط الفسخ فيه. وإن أضمراه بقلبيهما إذ ذاك أو اشترطاه نصًّا قبل العقد بناء على أن العبرة في الشرط المفسد بقرانه للعقد ذكرًا باللسان دون تقدمه عليه ذكرًا عليه ولا قرانه به مضمرًا في الجنان.

ولهذا كان تزوج المرأة على نية تطليقها أثر الوطء نكاحًا صحيحًا نظرًا للفظه لا فاسدًا على أنه نكاح متعة باعتبار قصده. وبناء على هذا أفتى النسفي من عقد بلفظ البيع مضمرًا رد المبيع عند رد الثمن بأنه يسعه أن يحلف أن البيع كان بتًّا مع ذلك الإضمار.

القول الرابع: أنه فاسد في بعض أحكامه لأنه يتركب من بيع فاسد وبيع جائز ورهن، وهذا القول يتفرع إلى قولين: أحدهما أنه فاسد في بعض الأحكام مثل ملك كل من المتعاقدين الفسخ. صحيح في بعض الأحكام مثل حل منافع المبيع للمشتري. وثانيهما أنه رهن في حق البعض الآخر مثل عدم ملك المشتري المبيع وأنه يسقط الدين بهلاكه.

فهو إذًا مركب من العقود الثلاثة: بيع جائز وبيع فاسد ورهن. وهذا القول رجحه بعضهم للفتوى.

وقد أطنب شيخ الإسلام بيرم الثاني في شرح هذا القول ويذكر: أنه مركب من رهن وبيع جائز بات. فهو بالنسبة للبائع رهن يسترد العين عند قضاء ما عليه من الدين والمشتري ضامن للهلاك أو الانتقاص ضمان الرهن.

وهو بيع بات صحيح بالنسبة للمشتري في حق نزله ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره والانتفاع به سكنى وزراعة وإيجارًا. وعلى هذا استقر عمل شيوخ النسفي ومنهم صاحب الهداية علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني (1) .

(1) المرغيناني هو علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني نسبة إلى مرغينان في نواحي فرغانة من أكابر فقهاء الحنفية: له رتبة الاجتهاد من مؤلفاته الهداية في شرح البداية، مطبوع في مجلدين، وله مؤلفات أخرى، توفي 593هـ/ 1197م.

ص: 1457

الأصل المستند إليه في المذهب الحنفي:

إن هذا العقد وصع توصلًا لإقرار حلية ما تعارف الناس عليه وتعاملوا به وكانوا في حاجة إليه حتى لا يقعوا في محظور الربا، والضرورات قد تبيح المحظورات.

وكان هذا الوضع اعتمادًا على المبدأ العام للاستحسان والمصلحة العامة والمقصد العام للشريعة من أنه لا ضرر ولا ضرار.

ثم إن القواعد الناهية قد تترك بالتعامل المستمر.

وقد ذكر النسفي اتفاق فقهاء عصره عليه.

وذكر شيخ الإسلام بيرم (أن احتياج الناس الشيء وتعاملهم به أصلان كبيران في المذهب وفي قاعدة الحاجة تتنزل منزلة الضرورة من الأشباه، ومنها الإفتاء بصحة بيع الوفاء.

ومما لا ريب فيه أن الناس إذا كانت لهم حاجة إليه في العصور السابقة على فضلها فهم إليه في هذا العصر على وضوح اختلاله أحوج) .

من رسالة محمد بيرم الثاني في بيع الوفاء، مخطوطة (1) .

الحيلة في بيع الوفاء:

قد رأينا أن بعض الفقهاء يعرفون بيع الوفاء بأنه عقد أحدث تحيلًا لتحصيل الأرباح من طريق مباح. وقال عنه آخرون هو بيع تعارفه أهل هذا الزمان احتيالًا للربا.

(1) شيخ الإسلام محمد بيرم الثاني ولد 16 ذي القعدة الحرام 1162هـ الملاقي 28 من شهر أكتوبر 1748م. عالم جليل، فقيه كبير اشتهر بالتعمق العلمي مع الصلاح والتقوى تولى قضاء تونس والإفتاء بها. له من التآليف رسالته في بيع الوفاء، ورسالة في الوصية، وأخرى في تراجم المفتيين بتونس، ورسالة في تراجم سلاطين آل عثمان وبايات تونس. توفي في 16 جمادى الأولى سنة 1247هـ الملاقي 23 أكتوبر 1831م. ورسالته عن بيع الوفاء اعتمدت كتبًا في المذهب الحنفي ثبت لها الاصطفاء كالخانية والعمادية وجامع الفصولين والبزازية وغيرها. رتبها على مقدمة وعشرة فصول عنون فصلها الأول بما يرجح الوفاء إليه من العقود. وأما المقدمة فحوت اسمه ومسماه والتعريف به وبحكمه واختلاف الفقهاء في شأنه. وهذه الرسالة المخطوطة من أجلِّ ما ألف في موضوع بيع الوفاء.

ص: 1458

فالحيلة إذًا موجودة في عقد بيع الوفاء تكسوه سماحة الحيلة وتبعده عن شبهة الحرمة وتعبِّد الطرق طرق الفتوى لتسهيل حركية التعامل به.

والحيل التي حفل بها تاريخ الفقه الإسلامي والتي يسميها اليوم علماء القانون الحيل القانونية هي فتاوى يطلقها الفقهاء إزاء حدوث مشاكل ونزول قضايا يصعب حلها وقد توقع أصحابها في ضيق وحرج. فيقع السعي للتخلص منها بالطرق والمسالك الملتوية ويفزع إليها الفقهاء لإيجاد الفتوى فيما يطرح عليهم من أسئلة.

وقد ألف فيها أبو بكر أحمد بن عمر بن مهير الشيباني الخصاف الفقيه الحنفي المتوفى 261هـ/ 875م ببغداد كتابًا مطبوعًا سماه ((الحيل والمخارج)) .

كما خصها شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 بحديث طويل الذيل في كتابه ((إعلام الموقعين)) ج5 من صفحة 340، وهو يقسم الحيل إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول حيل محرمة من كبائر الإثم وأقبح المحرمات وهي من التلاعب بالدين، فهي حرام في نفسها لكونها كذبًا وزورًا وحرام من جهة المقصود بها وهو إبطال حق أو إثبات باطل، وأبرز مثال لها نكاح المحلل ((التياس)) .

والقسم الثاني أن تكون الحيلة مشروعة وما تفضي إليه مشروعًا وتكون بسلوك واتخاذ الأسباب المشروعة توصلًا إلى الكسب الحلال وهذا القسم قد لا يعد من الحيل على حد تعريف الفقهاء.

والقسم الثالث أن يحتال توصلًا للحق أو توصلًا لدفع مظلمة بطريقة مباحة لم توضع في الأصل موصلة إلى ذلك بل وضعت لغيره فتتخذ طريقًا لهذا المقصد الصحيح.

والفرق بين هذا القسم والذي قبله أن الوسيلة في الأول وضعت موصلة إلى نفس الغاية فسالكها يسلك الطريق المعهود وفي الثاني الوسيلة كانت تفضي إلى غيره فيقع التوصل بها إلى من توضع له.

والعبارة الجامعة أن الحيل منها ما هو من نوع يعد هدمًا لمقاصد الشريعة في التحليل والتحريم وهذه محرمة قطعًا، ومنها ما هو من النوع الذي يسهل المقاصد وييسرها للوصول إلى الحقوق الشرعية من غير أن تقف القيود والشروط الفقهية في سبيل ذلك.

فالاحتيال للوصول إلى الحقوق الشرعية أو دفع المظالم والمضار قد يكون مباحًا إذا سلك طرقًا مباحة. ولذا فإن الحيل لا يمكن مطلقًا أن تقع في العبادات وإنما تقع في المعاملات.

ص: 1459

نعم قد تقع في الأيمان كما لو حلف شخص أن لا يشتري ثوبًا من فلان التاجر ثم تعلق غرضه بشرائه منه فإنه يوكل غيره على الشراء. فالعقد حينئذ يضاف للوكيل لأن الحالف أراد عدم مباشرة البائع لأمر ما حدث بينهما. فالتعامل معه بواسطة الوكيل لا يتنافي مع القسم إلا إذا كان الحالف ممن لا يشترون عادة بأنفسهم ولا ينزلون إلى الأسواق لقضاء مآربهم بل يعهدون بذلك إلى غيرهم. وقد أفتى محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة الخليفة هارون الرشيد وقال له: أما أنت فلا. ضرورة أن الرشيد كان يقصد عند القسم أنه لا يشتري منه بواسطة غيره وأن لا يكلف أحدًا بالشراء منه كما هي عادته في معاملاته إذ أنه لا يباشر هذه الشراءات بنفسه.

والصاحب القاضي أبو يوسف يرى أن التحايل لإسقاط حق الشفعة جائز بشرط أن يكون قبل الشفعة أي قبل طلبها من الشفيع لأن التحايل هنا يقصد به دفع الضرر ورفع المشقة ولا بأس بذلك لأنه أخذ العقار واشتراه وأصبح مالكًا له فانتزاعه من يده مضرة عليه حاصلة محققة بخلاف الشفيع فمضرته مظنونة وغير محققة وقد يكون الشريك الجديد أفضل من القديم ومن هنا فالصاحب القاضي أبو يوسف لا يرى مانعًا في الالتجاء إلى الكمشة المجهولة المعروفة لأنها سعي لمنع الشفعة قبل الأخذ بها بل هي سعي لدفع مضرة وتحصيل منفعة.

وعلى كلٍّ فهل يجوز وهل يسمح باتخاذ الحيل وحبكها وصنعها وانتشائها وتكييفها توصلًا إلى المقصد المطلوب إذا كان المقصد حلالًا في نفسه؟.

وأين محل عقد بيع الوفاء في كل تلك الأجواء؟ وهل أن الحيلة هي التي صنعته وكونته أم أن جلب المصلحة ودفع المضرة هو الذي مهد الطريق لإنشائه؟

والملاحظ أن كلام الإمام أبي يوسف إنما يتعلق بالحرمة والحلية والمنع والجواز والثواب والعقاب أما إذا اعترف الخصمان عند النزاع بالحيلة وتزويقها امتطاء إلى الهدف فإن القاضي سوف لا يقضي إلا بإبطال مفعولها ورد سعيهما. والقاضي إنما يحكم بالظاهر فإذا انكشفت أمامه الحقيقة اتبعها وطبق أصول الأحكام عليها غير ملتفت إلى صحة الهدف من مرضه.

ص: 1460

المذهب المالكي:

يعرف هذا العقد في كتب الفقه المالكي ببيع الثُنْيا بضم الثاء المثلثة وسكون النون كما يعرف ببيع وشرط.

قال ابن عرفة التونسي الفقيه المالكي: عمم ابن رشد لفظ الثنيا في بياعات الشروط المنافية للبيع، وقال في المقدمات بيع الشروط المسماة عند الفقهاء بيع الثنيا كالبيع على أن لا يبيعه ولا يهبه قال: إنه لا يجوز لأنه سلف جر نفعًا. - انتهى شرح الرصاع على حدود ابن عرفة -.

وقال القاضي الفقيه ابن عبد الرفيع التونسي في كتابه معين الحكام (1) : (لا يجوز بيع الثنيا وهي أن يقول له: أبيعك هذا الملك أو هذه السلعة على أني إن أتيتك بالثمن إلى مدة كذا أو متى آتيك بالثمن فالبيع مصروف علي ويفسخ ذلك ما لم يفت بيد المبتاع فتلزمه القيمة يوم قبضه) .

وهو يقول في حديثه عن الرهن 2/811: (ومن ارتهن شجرة واشترط ثمرتها ذلك العام فإن كان الدين من سلف لم يجز وإن كان من بيع والثمرة قد أزهت جاز وإن كان على غير ذلك لم يجز) .

ويتعرض ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد إلى بيع الثنيا فيقول: (في صحيح مسلم عن جابر: قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاوقة والثنيا ورخص في العرايا)(2) .

قال ابن رشد وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف إن جاء بالثمن كان سلفًا وإن لم يجىء كان بيعًا.

ومن المسموع نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف (3) واتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة، حتى يقول:(إن التحريم جاء من أجل اقتران البيع بالسلف) .

وإذا لحق الفساد البيع من قبل الشرط هل يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا؟

وذلك بناء على أصل معروف وهو هل أن الفساد حكمي أو معقول؟ فعلى الأول لا يرتفع بارتفاع الشرط وعلى الثاني يرتفع.

(1) 2/420، كتاب معين الحكام، طبع دار الغرب، تحقيق محمد بن عياد.

(2)

هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن ابن عيينة.

(3)

حديث النهي عن بيع وسلف في الموطأ: 2/657؛ وأبي داود: 2/139؛ والنسائي: 1/226؛ والترمذي: 1/160.

ص: 1461

ومالك يراه معقولًا خلافًا للجمهور الذي يتمسك بأن الفساد حكمي.

وهذا غير مهم في بحثنا لأننا ندرس موضوع الحلية والحرمة بصرف النظر عن الرجوع والعدول ونتائج ذلك.

وابن عاصم يتعرض إلى موضوع بيع الثنيا تعريفًا وحكمًا وتقسيمًا فيقول معرفًا:

والشرح للثنيا رجوع من

باع إليه عند إحضار الثمن

ومن هنا نفهم أن بيع الثنيا خلافًا لتعميم ابن رشد هو اشتراط البائع في صلب عقد البيع استرداده للمبيع عند إرجاعه للثمن.

وابن عاصم مثل سائر فقهاء المالكية يرى فساد هذا النوع من البيوعات والنهي عنها متبعًا في ذلك الإمام مالك وابن القاسم وغيرهما من الفقهاء:

والبيع بالثنيا لفسخ داع

والخرج بالضمان للمبتاع

ولا كراء فيه هبه لأجل

أو لا وذا الذي جرى به العمل

لكن إذا وقع البيع باتًّا ثم حصل الاتفاق بين المتعاقدين تطوعا على استرداد المبيع حين إحضار الثمن فهذا جائز يسوغ للمشتري الفوز بالغلة وعلة ذلك أن العقد كان صحيحًا جائزًا ثم حصل التطوع من المشتري على وجه المعروف الذي التزم بالإرجاع وإلى كل هذا يشير ابن عاصم بقوله:

وجاز إن وقع بعد العقد

طوعًا بحد أو بغير حد

وحيثما شرط على الطوع جعل

فالأحسن الكتب بعقد مستقل

والقول قول مدع للطوع

لا مدعي الشرط بنفس البيع

وهذا الاستثناء يرشد إلى تنازل المشتري وأن التزامه برد المبيع عند إرجاع الثمن إليه كان بعد حصول عقد البيع بعقد جديد التقت فيه الإرادتان بعد عملية البيع البات غير المشروط ثم حدث التطوع بالثنيا وأنشىء له كتب خاص به وعند الخلاف فالقول قول من ادعى التطوع بالشرط لا أنه حصل عند البيع مقارنًا له.

ص: 1462

وما أشار إليه ابن عاصم وامتطاه كثير من الفقهاء لتحليل هذا الصنف من العقود هو أمر يندر حدوثه ويعز وقوعه فالمتبايعان المتعاقدان كانا يرميان إلى نوع من رهن الانتفاع فيه مواصفات هذا العقد وفيه مواصفات أخرى تجعله كبيع عند انتهاء الأجل وعدم حصول التراجع بين الطرفين فلا يقع الالتجاء للحاكم لبيع المرهون وخلاص الدين.

وحينئذ فلا يمكن القول بانفصالهما واستقلالهما عن بعضهما بإرادتين واتفاقين وعقدين وكتبين. ولا يمكن أن يطمئن البائع صاحب الشيء للتفويت في متاعه بكتب صحيح له جميع مواصفات البيع القائم على أمل أن يقع بعد ذلك كتب أخر يمنحه حق الاسترجاع والتمتع بالثنيا فالمشتري قد يفوت عليه هذا الأمل فتضيع بضاعته وتخسر تجارته وتتحطم آماله.

ولا أحسب أن أحدًا الآن لا يضيق بهذه النظرية المبنية على الاحتيال ونكران الواقع هذا الواقع الذي يقتضي أن الاتفاق حاصل من أول الأمر على بيع الثنيا واستغلال ما فيه من منافع للطرفين بصرف النظر عن حليتها من حرمتها وأن الكتائب والإشهاد إنما تأتي للإثبات لا للإنشاء فلا يهم إطلاقًا جعل كتبين ينفرد أحدهما بالبيع ويخصص الآخر للتطوع بالثنيا.

وعلى كل فإن هذه الصورة حدوث التطوع بالثنيا بعد عقد البيع تبعدنا عن بيع الثنيا الذي يشترط فيه البائع في صلب العقد وفي بند من بنوده استرداد مبيعه حين يرد هو الثمن وهو العقد الذي يرى المالكية فساده وعدم جوازه.

وإذ كان المقصود من بيع الثنيا هو أن يسترد البائع العين بعد استغلاله لما قبضه من ثمن وأن يفوز المشتري بغلة المبيع مدة غيبة ماله عنه فهذا ظاهر في كون العملية إنما هي من باب الربا المحرم شرعًا لقوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .

ومن ثمة فالمالكية يحرمون هذا العقد ويكشفون عنه غطاء الحيل التي يكسوه بها بعض المتأخرين لتسويغه وتحليله وهي حيل مكشوفة ظاهرة جلية لا ينكرها حتى أصحابها. يقول الحطاب (1) : (وأما ما يقع في عصرنا هذا وما عمت به البلوى وذلك أن الشخص يبيع الدار بألف دينار - مثلًا - وهي تساوي أربعة آلاف أو خمسة ويشترط على المشتري أنه متى جاء بالثمن ردها إليه ثم يؤاجرها المشتري لبائعها بمائة دينار في كل سنة قبل أن يقبضها المشتري وقبل أن يخليها البائع من أمتعته بل يستمر البائع على سكناها إن كانت له مسكنًا أو على وضع يده عليها أو إجارتها ويأخذ منه المشتري الأجرة المسماة في كل سنة. فهذا لا يجوز بلا خلاف لأنه صريح الربا ولا عبرة بالعقد الذي عقداه في الظاهر لأنه إنما حكم بالغلة للمشتري في البيع الفاسد لانتقال الضمان إليه.

(1) هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المعروف بالحطاب ولد سنة 902هـ/ 1497م، ومات 954هـ/ 1547م. فقيه مالكي له عدة كتب منها كتاب مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، مطبوع في ست مجلدات.

ص: 1463

وهنا لم ينتقل الضمان لبقاء المبيع تحت يد بائعه فلا يحكم له بالغلة بل لو قبض المشتري المبيع وتسلمه بعد أن أخلاه البائع ثم آجره المشتري للبائع على الوجه المتقدم لم يجز لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو كما هو مقرر في بيوع الآجال وآل الحال إلى صريح الربا وهذا واضح لمن تدبره، والله أعلم (1) .

بقية المذاهب:

قد علمنا أن المالكية والحنابلة والمتقدمين من الحنفية والشافعية يرون فساد بيع الوفاء لأنه يرمي إلى الربا المحرم شرعًا.

فالمذاهب حينئذ تتفق في هذه الناحية على فساد هذا البيع وعدم جوازه لأن ما بني على فاسد محرم فهو فاسد محرم ولا يمكن التعامل به ولا الإفتاء بجوازه رغم تعامل بعض الناس به والتجائهم إليه وتحيلهم بامتطائه للتحصيل على القرض ولو كانت له فوائد هي عين الربا الذي حرم لمضار وخسائر ظاهرة وخفية ومحققة ومتوقعة فالمقترض يضع عقاره توثقة في مال يأخذه وليستغل الدائن منافع ذلك العقار استغلالًا يفضي إلى الربا الفاحش أحيانًا ثم إذا عجز المدين عن الخلاص والوفاء بالشرط ضاع عليه عقاره بجرة قلم.

(1) شرح ميارة على التحفة: 2/5، طبع المطبعة العامرة 1316هـ

ص: 1464

القوانين الوضعية:

نشير بادىء ذي بدء إلى أن هذه القوانين بصرف النظر عن مآخذها وأسانيدها ومراجعها واعتماداتها الفقهية تنظر إلى هذه الصفقات بعين الحرمة والمنع ومن زاوية التشنيع الصرف.

وقد أردنا أن نضيف إلى هذا البحث الفقهي حسب المنهج السابق كلمة تشرح نظر هؤلاء الفقهاء في القانون خاصة وأن بعض البلاد الإسلامية نسجت على منوال الدولة العثمانية وقننت قوانينها المدنية مقتبسة أحكامها من الشريعة الإسلامية السمحة.

وأحسب أن الاطلاع على ذلك إذا لم يكن فيه إيضاح وشرح لم تكن فيه مضرة ويمكن أن يناله الطرح خاصة وأن الاطلاع على الواقع واجب تفرضه كل الظروف ويُحتِّمه فهم الرأي الآخر لتدبر معانيه وفهم مراميه ودحض ما به من اعوجاج والحكم على الشيء فرع عن تصوره.

ونضع عينات توضح هذه الحرب التي حاربت بها القوانين الوضعية تلك العقود المعبر عنها ببيع الوفاء وبيع الثنيا وبيع العهدة وبيع الأمانة وبيع الطاعة وبيع المعاملة وهي كلها أسماء لمسمى واحد اختلفت حسب اختلاف المذاهب والأماكن وهو عقد أحدث تحيلًا للوصول إلى المرابيح المالية من طريق تكسوه الصفة الشرعية وتبعده عن المعاملات الربوية.

ننقل أولًا ملخص المناقشات حول هذا الموضوع من طرف اللجنة البرلمانية المصرية حسب مجموعة الأعمال التحضيرية.

يقول التقرير: (تناولت اللجنة بيع الوفاء وقد رأت بالإجماع أن هذا النوع من البيع لم يعد يستجيب لحاجة حيوية في التعامل إنما هو وسيلة ملتوية من وسائل الضمان تبدأ ستارًا برهن وينتهي الرهن إلى تجريد البائع من ملكه بثمن بخس) .

ص: 1465

والواقع أن من يعمد إلى بيع الوفاء لا يحصل على ثمن يتناسب مع قيمة المبيع بل يحصل عادة على ما يحتاج إليه من مال ولو كان أقل بكثير من هذه القيمة. ويعتمد غالبًا على احتمال وفائه بما قبض قبل انقضاء أجل الاسترداد ولكنه قل أن يحسن التقدير فإذا أخلف المستقبل ظنه وعجز عن تدبير الثمن خلال هذا الأجل ضاع عليه دون أن يحصل على ما يتعادل مع قيمته وتحمل غبنًا ينبغي أن يدرأه القانون عنه. ولذا رؤي أن تحذف النصوص الخاصة ببيع الوفاء وأن يستعاض بنص عام يحرم هذا البيع في أية صورة من الصور. وبهذا لا يكون أمام الدائن والمدين إلا الالتجاء إلى الوسائل التي نظمها القانون) .

لهذا جاءت المادة 465 من القانون المدني المصري الموضوع في أكتوبر 1949 قائلة: (إذا احتفظ البائع عند البيع بحق استرداد المبيع خلال مدة معينة وقع البيع باطلًا) .

أما القانون التونسي المدني الذي استمد أحكامه من الفقه الإسلامي والموضوع حوالي سنة 1317هـ/ 1899م وهو من أقدم القوانين المدنية هذا القانون كان يرخص في هذا الصنف المعروف ببيع الثنيا وقد عرفه بالفصل 684 بقوله: (بيع الثنيا هو أن يلتزم المشتري بعد إتمام البيع بأن يرد المبيع لبائعه عندما يرد له ثمنه) .

ونلاحظ هنا أن التقنين التونسي اقتفى في هذا ما جاء به الفقه المالكي من أنه إذا تم البيع باتًّا صحيحًا ثم اشترطت الثنيا على سبيل التطوع جاز ذلك وهو ما أشار إليه ابن عاصم في التحفة:

"وجاز إن وقع بعد العقد"

ضرورة إن عقد البيع كان صحيحا

لا شائبة منه أو جاء عقد آخر عقبه اتفق فيه الطرفان على استرجاع المبيع إذا رجع الثمن.

ص: 1466

ومع ذلك فإن هذه العقود التي تقع تفضي غالبًا إلى حيل وخزعبلات تضيع معها حقوق الضعفاء المساكين وتجر الربح الوفير إلى أرباب المال. ولذا فقد تدارك القانون المدني التونسي هذا الأمر وحجر عقد بيع الثنيا أو بيع الوفاء وذلك حسب قانون مؤرخ في 7 رجب سنة 1377هـ الملاقي 28 جانفي 1958 نشر بالرائد الرسمي عدد 9 لنفس العام.

وكان القانون المدني الفرنسي القديم يمنع التعامل بمثل هذا العقد ثم أجازه حسب الفصل 1659 ونصه: (إمكانية استرجاع المباع هو اتفاق يمكن البائع من استرجاع مبيعه على شرط إرجاع ما يقبضه طبق ما ورد بالفصل 1673) .

وهذا الفصل الأخير حدد شروط ذلك والإجراءات المتبعة.

وقد لاحظ عبد الرزاق السنهوري (1) أن القوانين العربية حرمت هذا الصنف من العقود وجعلته من العقود الباطلة طبق المادة 465 من القانون المدني المصري. وضرب مثلًا لذلك بالتقنين المدني السوري المادة 433 والقانون المدني الليبي المادة 454 والقانون المدني العراقي المادة 454.

لكن هناك في التقنينات العربية التي أبقت عليه مثل القانون اللبناني المادة 473 وما بعدها.

والقانون المغربي المادة 585 وما بعدها في أحكام بيع الثنيا وشروطه.

لكن نلاحظ أن كلًّا منها يجعل بيع الثنيا يقع التطوع به بعد انعقاد البيع الصحيح التام فالمادة 473 لبناني تقول: إن البيع مع اشتراط حق الاسترداد أو البيع الوفائي هو الذي يلتزم فيه المشتري بعد البيع التام أن يعيد المبيع إلى البائع مقابل رد الثمن.

والمادة 585 من القانون المدني المغربي تنص على: (البيع مع الترخيص للبائع في استرداد المبيع أو بيع الثنيا هو الذي يلتزم المشتري بمقتضاه بعد تمام انعقاده بأن يرجع المبيع للبائع في مقابل رد الثمن) .

وهكذا نرى أن القوانين الوضعية في غالبها لا تنظر بعين الرضا إلى هذا الصنف من العقود ولذا فقد حجرتها وأبطلتها.

(1) الوسيط: 4/143 وما بعدها.

ص: 1467

المحور الأخير: هل ينتفع الاقتصاد من بيع الوفاء:

للجواب عن هذا التساؤل نقول إن الاقتصاد نوعان نوع حر لا يخضع في معادلاته إلا لقيود قليلة لا مفعول لها سلبيًّا عن اتساع دائرته وأهم شيء فيه هو عدم تحريمه للربا وحتى إذا أقلقه أمره حينًا فإنه يحد من ارتفاعه فيرضى رب المال والمستهلك. وهذا موضوع نتجنب الخوض فيه إذ لا ناقة لنا في ساحته ولا جمل.

والظاهر أن هذا النوع من الاقتصاد في غير حاجة إلى تقنين بيع الوفاء والتعلق بأهدابه وامتطائه وصولًا إلى المرابيح والفوائد.

أما إذا راجعنا اقتصادنا الإسلامي وهو نوع آخر له طرقه وأخلاقياته وأساليبه وقيوده وشروطه وحدوده فإننا سوف نخضع إلى قواعدنا الإسلامية العامة ومقاصد شريعتنا السمحة التي لا تقبل التغيير والتبديل لانبنائها على أسس ثابتة متينة تصلح لكل زمن (والله سبحانه حد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها) .

والقرآن دستورنا وأساس نظام حياتنا الذي نبني عليه كل الأحكام التفصيلية التي جاءت بها قواعده العامة.

ولا بد حينئذ من نبذ كل ما يخالف أحكامه ونصوصه الواضحة بصرف النظر عن المنافع والمرابيح التي تهز الأسواق وتضفي عليها لونًا من الازدهار يعم طائفة ويقضي على غيرها والقرآن حرم الخمر رغم منافعها الاقتصادية وانتفاع جماعة من أرباحها المالية (وحق يضر خير من باطل يسر) . والأمر بعد ذلك موكول إلى الاجتهاد الصحيح الصادر عن رجال العلم والفقه.

فمن قرأ الكتب المعتمدة وتفقه وفهم معاني ذلك وعرف الأحوال التي بنيت عليها مسائلها من الكتاب والسنة وأحكم وجهة النظر ولم يخف عليه ناسخ القرآن من منسوخه ولا سقيم السنة من صحيحها إذا نظر فيها وكان معه من اللسان ما يفهم به معنى الخطاب جاز له أن يفتي دون حيل ولا خزعبلات فيما ينزل ويحدث من القضايا التي لا نص فيها. والله الموفق للصواب.

محمود شمام

عفى عنه

ص: 1468