الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلاج الطبي
إعداد
الدكتور محمد عدنان صقال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن علاقة المريض بالطبيب هي علاقة ثقة متبادلة وموقف الطبيب تجاه صحة المريض هو موقف شخصية ملتزمة تقدم النصح والدواء فالمطلوب من الطبيب ليس فقط معاينة العضو المصاب والاهتمام به حصرًا بل كذلك عليه أن يهتم ويعتني بكامل الحالة الصحية العامة لمريضه، أي أن المطلوب هو وجود شخصية إنسانية تقف أمام كلية المريض وليس أن يتصرف إزاء عضو المريض فقط ولا حتى إزاء الحالة كطبيب نفساني فقط.
إن ثمة سؤالاً يطرح نفسه دائمًا كيف يمكن للطبيب أن تكون مهمته عادلة ومنطقية أمام كثير من الأمراض وخاصة المستعصية منها، وذلك يقودنا بشكل منطقي إلى التساؤل ماذا تعني هذه الإنسانية الكاملة التي يجب على الطبيب أن يتعامل معها؟ ما هي الوسائل التي يمتلكها الطبيب لتمكنه من مساعدة هذا الإنسان المريض؟.
إن حياة الإنسان منذ بدايتها حتى نهايتها تكون مرتبطة بالأمل، الأمل في أن يأخذ مكانه تحت الشمس، الأمل الذي يجعله يكد ويعمل، الأمل الذي يجعله يؤمن بالشفاء، أما إذا فقد هذا الأمل فستكون الحياة عذابًا وشقاء.
إن الخطوة الأولى والتي تقود إلى اللقاء بين المريض والطبيب تحصل عادة بمبادرة من المريض عندما يذهب ((بطلب)) إلى الطبيب وأغلب المرضى يبحثون عن الطبيب الذي يساعدهم في العودة إلى صحتهم الجيدة ومضمون هذا ((الطلب)) رغم وضوح وعلنية صياغته فإنه يختلف من مريض إلى آخر وذلك حسب مفهوم كل مريض عن الصحة التي يبحث عنها.
لقد عرف ميثاق منظمة الصحة العالمية (WHO) الصحة بما يلي: ((هي حالة الاستقرار الكامل والشعور بالرضى التام في الحالات الجسمية والنفسية والاجتماعية)) .
وفي هذه الحالة فمن يستطيع منا أن يعتبر نفسه معافى. فحسب هذا التعريف فإن كل الناس دائمًا مرضى أي ((الإنسانية مريضة)) .
إن أصعب الأمور على الطبيب عندما يقف حائرًا أمام مريضه هو يرى أن إمكانية إنقاذ هذا المريض تبدو وكأنها مستحيلة ولكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يبوح بهذه المعلومة المدفونة بصدره، وما أكثر مثل هذه الحالات الميؤوس منها.
كان لي زميل أصيب بتشمع الكبد زرته في بيته وكان هو رئيس أطباء المستشفى الذي كنت أعمل فيه بألمانيا قلت له: كيف حالك؟ فأجابني بابتسامة ملؤها السخرية تعلو شفتيه أتسألني أنت عن حالتي، لو سألني غيرك لأجبته بالجواب المعهود إنني بصحة جيدة، أما أنت، أنت الذي تعرف مرضي وتعرف عاقبة دائي، أما سمعت بتشمع الكبد، شكرًا على مجاملتك. كانت يداه ترتجفان، لن أنسى منظره ولن أنسى صوته المرتجف المتقطع ولم أنس تمتمته الأخيرة ((إنني أتمنى الموت)) .
مسكين أيها الطبيب ومسكين أيها المريض، كم سيكون المشوار صعبًا وكم سيكون الحوار عقيمًا وما أصعب على الإنسان من أن يقول غير ما يعتقد وأن يمنع من إظهار ما يعتلج بصدره.. فالمريض ينظر إلى الطبيب أنه الملاذ الأخير لإنقاذه ويبني الآمال والمعنويات عليه، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع الطبيب فعل أي شيء تجاهه.
مريض آخر شاب أصيب بما يعرف عن موت الدماغ وبقي فترة طويلة يعيش هذا الإنسان على الأجهزة الاصطناعية كان كل شيء ساكنًا لا حراك ولا منعكس فيه إلا ذلك القلب الذي كان يدق ويدق ويدق، ومرت الأيام، ولن أنسى تلك الأم المسكينة التي كانت تزرع في كل زاوية من زوايا المستشفى دمعة وآهة وحسرة، أما الوالد المفجوع فكان ثمة سؤال يتردد على شفتيه، إلام سيبقى ولدي هكذا، إلام سنبقى معذبين؟ إنني أشعر أننا نسير إلى الهلاك قبله، وفي يوم من الأيام حضر والد المصاب لعيادتي وأخبرني أنه أصبح مقتنعًا أن حالة ابنه ميؤوس منها ووافق على نزع الأجهزة حتى تنتهي هذه المأساة.
مرت لحظات وكأنني أصبت بوجوم عميق أجل ولكن من هذا الفارس الذي سيطلق ما يسمونه خطأ رصاصة الرحمة، ولا أكتمكم سرًّا أنني كنت جبانًا كلما تقدمت لاقتلاع الأجهزة، شعرت برهبة وخوف شديدين ولن أنسى ذلك الصباح الذي دخلت غرفة المريض لأجد أن كل الأجهزة قد انتزعت منه وأن قلب هذا الشاب قد توقف ولم أعرف من الذي قام بهذا العمل وأن الذي أراحني فيما بعد هو القرار رقم (5) الذي صدر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الذي جاء فيه:
((إذا تعطلت جميع وظائع دماغه تعطلًا نهائيًّا وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا العطل لا رجعة فيه وأخذ دماغه في التحلل وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة والله أعلم)) .
أيها الأخوة الأفاضل:
هناك أمثلة كثيرة على حالات كثيرة ميؤوس علاجها وقد تضيق الصفحات إذا استرسلت بسرد كثير من الأوراق، فالسرطان المنتشر مثلًا مرض ميؤوس منه والإيدز (نقص المناعة المكتسبة) مرض ميؤوس منه أيضًا على الأقل حتى يومنا هذا.
ماذا سيفعل الطبيب، إن الأمر شائك وأن هناك تساؤلات عديدة قد يحار المرء في أن يجد الجواب وقلبه مطمئن كل الاطمئنان، ثم ما هو حكم الشرع، هل يجب الاستمرار بالعلاج رغم الحكم بانتهاء الأمل في الشفاء ((تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له الدواء)) صدق رسول الله أو كمال قال.
أليس التداوي واجبًا أمن أنه مباح يجوز تركه وبذلك نكون قد حكمنا عليه - أي الجسد - بالذبول والفناء، وتركنا شرطًا شرعيًّا، حيث إننا لم نحافظ على هذا الجسم الذي خلقه الله في أحسن تقويم.
ماذا يستطيع الطبيب أن يفعل أمام هذه الحالات التي تمر أمامه كل يوم ليس لديه إلا مجال واحد أن يترك المريض يعيش بقناعات يوحيها إليه على أن مرضه بسيط وأن الشفاء قادم لا محالة ومن ثم يضطر لإعطائه صنفًا من الدواء حتى تكتمل الناحية الطبية والنفسية معًا، كما أن هناك أمرًا يجب أن لا نغفل عنه وأن يؤخذ بعين الاعتبار ألا وهو الشروط المادية والمعنوية التي يجب أن تنسجم مع قرار المجتمع الذي نعيش فيه.
فمثلًا بالغرب وعلى الأخص بأمريكا عندما تلد المرأة طفلًا مشوهًا، فتراهم جميعًا متفقين حتى يتخلصوا من هذا الوليد وأن لا يكون عالة عليهم، أما المجتمع الإسلامي فهو مؤمن بقدره مع الله وهو يعلم أنه إن أقدم على ذلك فجزاؤه النار ومن هنا كانت الطمأنينة والرضا بقدر الله.
ولن أنسى ذلك الأب لطفل أصيب بداء عضال حتى أوشك على الموت وأصبح ميؤوسًا منه، قلت له: إن ولدك يشرف على الهلاك فتبسم وقال: إنني على يقين أن الشافي هو الله وإنكم معشر الأطباء لن تستطيعوا أن تفعلوا شيئًا عندما تكون إرادة الله قد قضت وهو فعال لما يريد.
ومن هنا كانت نعمة الإيمان والتسليم لقضاء الله في المجتمع الإسلامي أمرًا يحل كثيرًا من الأمور التي يعاني منها كثير من المرضى والأطباء على سواء، في مجتمعات ثانية، إن التصرف في مثل هذه القضايا الحساسة يتطلب إلى جانب السند العلمي القاطع، الطمأنينة العاطفية والرضا الوجداني وقد كان هناك طبيب مرموق ومختص كان يرقد في مشفاه إنسان جَزَمَ هو وشلة من الأطباء بأنه قد مات موتًا دماغيًّا بالأدلة العلمية التي لا ريب فيها واتجه إلى أهله ينعاه لهم ويؤكد ذلك لهم بالأدلة العلمية المقنعة، ثم حاول أخذ موافقتهم للاستفادة من قلبه لإسعاف مريض آخر واقتنع الأهل ووافقوا، ولكن الأطباء ما أن باشروا بتهيئة الأسباب لاستخراج قلب قريبهم المتوفى دماغيًّا حتى ارتفع العويل والصراخ، وثار الأهل وهاجموا، ومن ثم حيل بين الأطباء وتنفيذ ما اتفقوا عليه. ذلك لأن هذه الدلائل العلمية للموت أقنعت عقول أقارب الميت ولكنها لم تهيمن على عواطفهم ووجدانهم. إن الناس كانوا ولا يزالون يعتدون بموت القلب دون أن يكتفوا بموت الدماغ الذي لا يدركه إلا أصحاب الاختصاص والشارع يؤيدهم في هذا الاحتياط والتأكد حتى لا تشيع أنها ميتة ظالمة بين الناس فتنبثق من ذلك الفتنة والظنون السيئة. وهذا كما هو واضح ليس تكذيبًا لقرار الأطباء كما أن القول بالموت الدماغي ليس تطورًا علميًّا لمعنى الموت بحيث تطور الأحكام الشرعية وفقًا لذلك ولكنه إيثار من الشارع لاتباع القناعات العامة إغلاقًا لباب الفتنة ودرءًا للظنون السيئة أن تشيع في الناس بعضهم البعض.
ويجب أن لا ننسى أن الأساس في كل ذلك هو مراقبة الله عز وجل في تنفيذ مثل هذه الأحكام والحرص على ممارستها وتطبيقها على الوجه الذي يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية والحكمة التي يتوخاها الشارع من شرع لعباده، فإن لم يتحقق هذا الأساس التنفيذي، فإن جهود الباحثين والمجتهدين تظل على الغالب نظرية، هذا إن لم نقل إنها قد تصبح وسائل تحت سلطان الكثيرين لتحقيق المآرب الدنيوية والوصول إلى كثير من المبتغيات غير المشروعة.
لقد قالوا إن الموت هو مفارقة الروح للبدن مفارقة تامة وبكلمة أهم هو انقطاع الحياة عن البدن انقطاعًا تامًّا (1) .
ولا شك في أن محاولة تحديد اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان في الدنيا تحديدًا دقيقًا من الناحية الشرعية أصعب من البحث في معرفة الزمن الذي تبدأ منه تلك الحياة ومن هنا نرى أن قضيتنا هذه ليس فيها نص من قرآن أو سنة يمكن اتخاذه منطلقًا للبحث (2) .
أيها الأخوة المحترمون:
هناك أمر آخر يجب أن يكون خاتمة بحثنا هذا وهو ((مدى توقف العلاج مع إذن المريض)) .
هل نحن الأطباء ملزمون بتحقيق رغبة المريض في إنهاء العلاج له أو الاستمرار فيه وبصورة أعم من ذلك هل يجب أن نحصل على إذن من المريض بتطبيق العلاج والكف عنه متى شاء؟ إن هناك أمورًا قد تكون خطيرة جدًّا فمثلًا طفل في السابعة من عمره تبين لنا بعد إجراء خزعة على ورم في ساقه بأنه مصاب بسرطان العظام ومن الناحية الطبية يجب استئصال الطرف قبل أن ينتشر الداء وعندها لا دواء له إن هذا المريض طفل لم يبلغ سن البلوغ وعليه فيتحتم علينا أخذ موافقة الأهل وعندما فوجئوا بالحقيقة تحكمت العاطفة على العقل ورفضوا بتر الطرف وبعد سنتين عم المرض وانتشر وتوفي هذا الطفل المسكين من هو المسؤول يا ترى؟ هل الطبيب الذي كان مقصرًا بإقناع الأهل، أو الأهل؟ كيف لنا أن نحدد المسؤول على التتابع عند اشتراك الجناة مع التتابع؟ إنني أرى أن المسؤول الأول والوحيد هو ذاك الأب الجاهل المسكين.
(1) قاضيا فقهية معاصرة: ص126 البوطي.
(2)
بداية الحياة الإنسانية - د. محمد نعيم ياسين: ص173.
فعندما يكون الإنسان لا يتمتع بأهلية كاملة يستقل بها بإدارة شؤون نفسه كالطفل والمجنون، فمن الثابت أن هذا الصنف من الناس لا يملك أن يستقل بالتصرف في هذا الأمر الذي هو أخطر شؤونه الشخصية. ثم ما هو موقف الشرع من هذا الأب الذي كان سببًا في موت ابنه. وإنني هنا لست بموطن المدافع عن الأطباء، فقد يخطئون وقد تكون الشهوة المادية دافعًا خطيرًا لاستعجال القرار. ولكن عندما يكون هناك إجماع من قبل عدد من الأطباء المختصين وأصدروا حكمًا بالإجماع فيجب أن يكون ثمة قوانين تدين مثل هؤلاء الناس الذين لا ينصاعون لأوامر الأطباء ويتسببون في حدوث ما لا يحمد عقباه، بل وأمر من ذلك عندما يكون المريض بالغًا وليس مجنونًا وخرج من إجماع الأطباء ثم كانت الكارثة، هل هذا يختلف عن الذي يلقي بنفسه في أتون من النار قصد الانتحار مع الفارق في القصد والهدف والجريمة والوضع النفسي.
إننا بحاجة يا أخوتي إلى طبيب مسلم يخشى الله كما أننا بحاجة إلى مجتمع يرقى بتفكيره إلى الشعور بالمسؤولية وأن يتمتع بقوة روحية عالية تبعده عن الجهل وتجعل منه فردًا يميز الخبيث من الطيب عندها يبقى المجال مفتوحًا لأن يلتقي الإنسان بأخيه الإنسان وعندها يتم تبادل مثل هذه العلاقة الإنسانية بشكلها المتكافىء والالتزام والشعور بالمسؤولية من كلا الطرفين عندها يحق للمرء أن يتساءل فيما إذا كانت الشخصية الطبية في حد ذاتها تتطور بشكل بشري ومبرر لتصبح قوة مخلصة بدون أن تتقمص شخصية الساحر العجيب أو حتى دون أن تقوم بأية إيحاءات موجبة أو تقدم أي تضليل وتزييف للحقائق.
والله المستعان أن يوفقنا باحثين ومنفذين لرعاية هذه الأسس على خير وجه، إنه نعم المستعان ونعم النصير والحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد عدنان صقال
العلاج الطبي
1– علاج الحالات الميئوس منها.
2– مدى توقف العلاج على إذن المريض.
جمع وترتيب
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
الكويت – محكمة التمييز
بسم الله الرحمن الرحيم
أولًا – علاج الحالات الميؤوس منها:
اليأس كما في لسان العرب القنوط وقيل: نقيض الرجاء وقيل: اليأس إحدى الراحتين (1) وعلى هذا فإن المفهوم من العنوان أن المطلوب هو حكم علاج من وصل إلى هذه المرحلة التي يئس فيها المريض من الشفاء أو يئس الطبيب نفسه من جدوى علاجه: هل يسوغ له ترك علاجه؟ وهل يعتبر الطبيب مقصرًا إن هو لم يقم بأي عمل إجابي نحوه؟ وأرى أن لهذه الحالات ثلاث صور:
الأولى: أن يصل المريض بسبب مرضه إلى هذه الحالة التي يعبر عنها الفقهاء بأنها حركة مذبوح فلا يبقى معه سمع ولا إبصار ولا حركة اختيار بالأسباب العادية من غير جناية عليه.
الثانية: أن يصل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار بالجناية عليه.
الثالثة: بالنسبة للأمراض التي لم يصل الطب إلى علاج لها.
والكلام عليها ينبغي أن تقدم لها مقدمة فتبين أولًا مذاهب العلماء في التداوي ثم نذكر مذاهب العلماء وأقاويلهم على الصور المشار إليها.
أولًا – مذاهب العلماء في التداوي:
1– التداوي جائز أي مباح.
2– فعل التداوي أفضل من تركه وبه قال بعض الشافعية، قال النووي في شرح مسلم إنه مذاهب الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف (2) وقطع به ابن الجوزي والقاضي وابن عقيل.
3– مذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب.
4– مذهب مالك يستوي فعله وتركه.
وفى الحديث قال صلى الله عليه وسلم: عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا، فقالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: الهرم، رواه أبو داود والترمذي وصححه.
(1) أساس البلاغة للزمخشري.
(2)
شرح النووي على مسلم 14/191، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي.
وفى مسند الإمام أحمد عن عروة بن الزبير عن خالته عائشة الصديقة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه فكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه.
وفى المسند أيضًا عن أنس مرفوعًا: إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا.
وقيل: فعل التداوي واجب. زاد بعضهم: إن ظن نفعه.
قال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأمة إنما أوجبه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
وأحاديث الأمر بالتداوي للإباحة والإرشاد دون الوجوب كما فيه علة غير واحد.
وحرم الدواء بمحرم أو كان في مفرداته شيء محرم أبو حنيفة ومالك وكذا الشافعي في المسكر (1) .
ثانيًا: أما بالنسبة لمذاهب الفقهاء وأقوالهم فيمن وصل حالة يئس فيها المريض والطبيب من جدوى العلاج.
فقد فرق العلماء بين الصورتين الأولى والثانية المشار إليهما، فبالنسبة لمن أوصله مرضه إلى حالة اليأس فقد قالوا: إن من وصل إلى سكرات الموت وبدت أمارته عليه وتغيرت أنفاسه لا يحكم له بالموت فلا تشرع زوجته في العدة ولا تنتهى عدتها ولو ولدت حينئذ ولا تجب مؤنة تجهيزه ولا يجوز تجهيزه ولا تصح الصلاة عليه ولا يجوز دفنه ولا ينتقل ماله للوراث (2) .
أما من وصل إلى تلك الحالة بسبب الجناية عليه فقد نص الشافعية على أن من وصل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار بالجناية عليه أعطي حكم الأموات مطلقًا فيجوز تجهيزه ودفنه ويجوز تزوج زوجته حينئذ إذا انقضت عدتها كأن ولدت عقب صيرورته إلى هذه الحالة وأنه لا يرث من مات عقب هذه الحالة وتقسم تركته قبل موته (3) .
ورتبوا على ذلك أن من اعتدى على حياة الأول يعتبر قاتلًا يجب عليه القصاص وأن من اعتدى على الثاني لا يعتبر قاتلًا، بل يعتبر الأول الذي أوصله إلى هذه الحالة هو القاتل، أما الثاني فيعزر.
(1) غذاء الألباب، للفارسي: 1/398.
(2)
منهاج الطالبين: 4/103، 104.
(3)
نهاية المحتاج: 7/250.
واختلف المالكية: فيمن وصل إلى حركة المذبوح على قولين:
الأول: يرث ويورث.
الثاني: لا يرث ولا يورث.
وقالوا: لو أجهز شخص على منفوذ القاتل من غيره فقيل يقتل به الأول ولا يرث ولا يورث.
والثاني يقتل به الثاني ويرث ويورث.
والثالث يقتص من الأول ويرث ويورث وهو أحسن الأقوال.
وفي سماع أبي زيد أنه يقتل به الثاني ولا يكون على الأول إلا الأدب لأنه من جملة الأحياء ويرث ويورث إلى أن قال: ولو قيل يقتلان به جميعًا لأنهما قد اشتركا في قتله لكان له وجه (1) .
الخلاصة:
أنت ترى أن المسألة خلافية سواء في التداوي وتعاطي العلاج أو في مدى جدوى العلاج فيمن وصل الحال به إلى درجة القنوط واليأس من علاجه ولكن الذي يظهر لي على ضوء ما كتب فيه الأئمة من الآداب التي ينبغي مرعاتها عند من وصل إلى حالة الاحتضار وذلك في الصورة الأولى أن تتبع معه تلك الآداب، منها:
أن يحضره إذ ذاك أحسن أهله وأصحابه هديًا وخلقًا ودينًا وسمتًا ووقارًا فيلقنه كلمتي التوحيد برفق بأن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله جهرًا ثم يسكت ساعة ثم يعيدها ثم كذلك إلى أن يقضي.
ومنها أن يكثر الدعاء له وللحاضرين لكن بخفض صوت وحسن سمت ووقار لأن الملائكة يحضرون ويؤمنون على دعاء الداعي وهذا من المواطن التي يرجى فيها قبول الدعاء. قالوا: وينبغي لمن يلقنه أن لا يضجر ولا يقلق إن طال الأمر عليه، وأنه لا يحسن البكاء بحيث يسمعه المحتضر.
(1) الخرشي على خليل: 8/7، 8.
فإذا قضى الميت فليشتغل من حضره بحقه ويأخذ في إصلاح شأنه فمن ذلك أن يغمض عينيه إلى غير من الأمور التي ذكروها في كتبهم (1) .
الثالثة - أما بالنسبة للأمراض الأخرى التي لم يصل الأطباء إلى علاج لها عدا الحالتين المشار إليهما فإنه لا ينبغي للطبيب أن يدخل اليأس في نفس المريض فقد ذكر ابن الحاج في آداب الطبيب أنه وقع له مع بعض الأطباء أنه كان يتردد عليه في مرض كان به ويصف له أشربة وأدوية ينفق فيها نفقة جيدة فطال الأمر عليه قال: فقطعته وعوضت موضوع تلك النفقة خبزًا أتصدق به بنية امتثال الشفاء في دفع ذلك المرض فما كان إلا قليل وفرج الله عني وحصلت العافية فلما أن خرجت لقيت الطبيب فسألته عما كان يكتبه من الأشربة والأدوية وأي منفعة كانت فيها لذلك المرض فقال: والله ما فيها شيء إلا أنه يقبح بالطبيب أن يخرج من عند المريض ولا يصف له شيئًا لئلا يوحشه بذلك (2) .
أما بالنسبة للصورة الثانية وهي من وصل إلى حالة اليأس من علاجه لسبب جناية وقعت عليه وقرر الأطباء ذلك لا حرج على الطبيب ولا على ذويه أن كفوا عن علاجه لأنه في حكم الأموات كما سبق. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثانيًا – مدى توقف العلاج على إذن المريض:
إن الإجابة على هذا الاستفسار يتوقف على ما كتبناه في الموضوع السابق خاصة فيما يتعلق في حكم العلاج وقد ذكر صاحب منظومة الآداب في هذا الشأن قوله:
وترك الدواء أولى وفعلك جائز
ولم يتقن فيه حرمة مفرد
قال شارحها السفاريني: إن ترك التداوي أفضل من التداوي.
ونقل في رواية المروزي: العلاج رخصة وتركه أعلى درجة منه وأن تعاطي المريض الدواء جائز أي مباح لا حرام ولا مكروه وقد سبق أن بينا خلاف العلماء في هذه المسألة وأن الرأي الذي عليه جماهير العلماء أن فعل التداوي أفضل من تركه وعند مالك يستوي فعله وتركه. وعلى هذا فإن المريض أو وليه إذا طلب من الطبيب توقف العلاج فإنه لا شيء على الطبيب إن هو استجاب لهذه الرغبة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
(1) المدخل لابن الحاج: 3/229، 233.
(2)
المدخل لابن الحاج: 4/136.
المناقشة
العلاج الطبي
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
العلاج الطبي بمسائله التي طرقت بحثًا هو موضوع هذه الجلسة المسائية - بإذن الله تعالى - والعارض هو الأستاذ الدكتور محمد علي البار، والمقرر هو الشيخ يوسف المحمدي. فليتفضل الطبيب محمد علي البار.
أحدهم يقول:
المحمدي غير موجود.
الرئيس:
إذن المقرر هو الدكتور عدنان الصقال.
الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الحمن الرحيم
أصحاب السماحة والفضيلة والسعادة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحمد لله خالق الداء والدواء ومصرف الأسباب كيف يشاء، والصلاة والسلام على نبي الهدى وآله ومن اهتدى والقائل:((ما أنزل الله داء إلا وأنزل له الشفاء)) [أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه]، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال:((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علم ذلك من علمه وجهله من جهله إلا السام)) [أخرجه الحاكم]، وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وأحمد والنسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: ((نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا ووضع له الشفاء غير داء واحد. قالوا ما هو؟ قال: الهرم)) . وتداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالتداوي والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومستفيضة، ورغم ورود الأحاديث الكثيرة في الحث على التداوي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تداوى وأمر صحابته وأهل بيته بالتداوي إلا أن الأمة مجمعة على جواز ترك التداوي في بعض الحالات، قال الإمام الذهبي في الطب النبوي: فصل: التداوي أفضل أم تركه؟ أجمعوا على جوازه - أي التداوي - وذهب قوم إلى أن التداوي أفضل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((تداووا)) ، ولأنه كان يديم التطبب في صحته ومرضه، ثم قال: فالمنصوص عن أحمد أن تركه - أي التداوي - أفضل. نص عليه في رواية المروزي، فقال: العلاج رخصة وتركه درجة.
ثم قال: والدليل عليه ما رواه ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: ادع الله أن يشفيني. فقال: ((إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت صبرت فلك الجنة، فقالت: يا رسول الله أصبر)) [أخرجه البخاري ومسلم] . وقال صلى الله عليه وسلم ((سبعون ألفًا يدخلون الجنة لا حساب عليهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) ، وفي رواية:((هم الذين لا يتطببون ولا يسترقون)) [أخرجه البخاري] .
قال الذهبي: ونقل علاء الدين بن البيطار رحمه الله: أجمع المسلمون أن التداوي لا يجب.. وعن أحمد وجه في الوجوب نقله أحمد ابن تيمية. ويحمل الحديث ((تداووا)) على الإباحة، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيبًا؟ قال: قد رآني، قالوا فما قال؟ قال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي، قيل: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قيل: أفلا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفع مقدوراتي، قال الإمام الذهبي معلقًا على ذلك: التوكل اعتماد القلب على الله وذلك لا ينافي الأسباب ولا التسبب بل التسبب ملازم للتوكل فإن المعالج الحاذق يعمل ما ينبغي ثم يتوكل على الله في نجاحه، وكذلك الفلَّاح يحرث ويبذر ثم يتوكل على الله في نمائه ونزول الغيث. قال الله تعالى:{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]، وقال عليه الصلاة والسلام:((اعقلها وتوكل)) ، وقال صلى الله عليه وسلم:((أغلقوا الأبواب)) وقد اختفى الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا، ثم قد تكون العلة مزمنة ودواؤها موهومًا قد ينفع وقد لا ينفع. انتهى كلام الإمام الذهبي. وقد أجيب أن ما فعله أبو بكر الصديق وأبو الدراء رضي الله عنهما كان في مرض الموت وقد علما أن الطب لا يغني في ذلك شيئًا.
متى يجب التداوي؟
يبدو - والله أعلم - أن هناك بعض الحالات التي يجب فيها التداوي ونضرب لها بعض الأمثلة:
الأول: الأمراض الوبائية المعدية التي ينتقل ضررها إلى الآخرين والتداوي منها ممكن، ويغلب على الظن حصول البرء والشفاء، ومثال ذلك مرض السل الذي يمكن أن يقضي على المريض وينتقل للآخرين، بينما علاجه ممكن وخاصة في المراحل الأولى والمتوسطة، بل يمكن علاج كثيرٍ من الحالات المتقدمة وعلى أقل تقدير يمكن إيقاف المرض عند حده ومنع العدوى، وكذلك الجذام حيث يمكن إيقاف المرض عند حده ومنع العدوى، وهناك العديد من الأمراض التي تفرض الدول والمجتمعات القيود على المصاب بها، وتفرض عليه التداوي ومثالها الدفتريا (الخناق) والتيتانوس (الكزاز) والكوليرا والتيفوئيد والحمى الشوكية وغيرها، وتفرض الدول الغربية وبعض الدول الأخرى وجوب التبليغ عن الأمراض الجنسية التي كانت تسمى الزهرية، وفي هذه الحالات يتم التبليغ عمن اتصل بهم المريض جنسيًّا، وتقوم السلطات الصحية بالاتصال بهؤلاء لمداواتهم، وإذا تركنا جانبًا موضوع الأمراض الجنسية وأن هذه القوانين الغربية تكشف بعض الأسرار الخاصة لغرض الوصول إلى جميع الأفراد الذين اتصل بهم المصاب، ومحاولة مداواتهم ثم معرفة الأفراد الآخرين الذين كانت لهم علاقة جنسية بهؤلاء المصابين حتى تتسع الدائرة، فإننا لا نجد صعوبة في فهم القوانين والمراسيم الخاصة بالأمراض المعدية، والتي تفرض الدول التداوي والتبليغ عنها لوقاية المجتمع بأسره، ويجب التداوي في الحالات للأسباب التالية:
1-
أن عدم التداوي في الحالات التي توفر دواؤها هو نوع من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر منهي عنه لقوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [البقرة: 195] .
2-
أن الضرر سينتقل إلى الآخرين وخاصة الأهل والمحيطين بالمريض حيث ينتقل الميكروب من المريض إلى السليم المخالط، وقد ورد النهي عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) ، وبقوله:((لا يورد ممرض على مصح)) .
3-
المشقة التي تحصل له ولأهله ولذويه بتمريضه وتلبية حاجاته.
4-
خسارة المجتمع لعضو عامل في المجتمع، وفقدان أيام العمل وإطالة أمد المريض.
كذلك يجب التداوي في الأمراض غير المعدية والتي يمكن التداوي منها، مثال ذلك: التهاب الزادة الدودية إذ أن تركها قد يؤدي إلى انفجارها وإلى حدوث ما لاتحمد عقباه مع أن إجراء العملية الجراحية أمر ميسر والبرء شبه متيقن، والمضاعفات من العملية والتخدير نادرة الحدوث، وهكذا كل مرض يمكن مداواته بالجراحة أو بالعقاقير أو غيرها من وسائل العلاج إذا تيقن أو غلب على الظن حصول البرء والشفاء بالتداوي، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.
متى يجوز عدم التداوي؟
1-
الأمراض التي لا دواء لها: هناك مجموعة من الأمراض التي ربما يظهر أنه يجوز فيها عدم التداوي، الأمراض التي لا دواء لها وأن دوائها فيه مخاطر كثيرة وأن فائدة التداوي مظنونة، ولا يغلب على الظن حصول الشفاء، بل إن الأمل في حصول الشفاء ضئيل، ومثالها حالات السرطان والأورام الخبيثة بعد انتشارها في الجسم، فإن التداوي بالجراحة أو العقاقير الكيماوية أو الأشعة لا يؤدي في هذه الحالات إلى الشفاء، بل ربما لا يؤدي ذلك إلى تخفيف المرض ولإيقافه عند حده، ولا منع الإعاقة وإيقاف الألم، وقد تكون كلفة التداوي على المريض وأهله مما يزيد في معاناتهم وحرجهم، وقد لا يستفيد من هذه المحاولات إلا المستشفيات وأصحابها.
2-
الأمراض التي لا تضر إلا صاحبها ولا تؤدي في الغالب إلى إعاقة أو زمانة أو تعطيل وظائف الشخص، وبالتالي لا تشق على من حوله، فيتحملها راضيًا مطمئنًا محتسبًا للأجر والثواب ومثالها الشقيقة والصداع.
3-
الأمراض التي لا تستطيع الوسائل الطبية المتاحة أن تقضي عليها، والتداوي بالتالي مشكوك الفائدة، وغاية الطبيب أن يخفف من الأعراض والآلام، ومع هذا فإن العقاقير المستخدمة ذات أضرار مع إدمان استخدامها، والمريض بالخيار في الصبر على الألم والبعد عن أضرار العقاقير أو تعاطي الدواء، مع توقع حدوث بعض الأضرار نتيجة الاستمرار في تعاطي هذه العقاقير، مع العلم أن حصول الشفاء أمر مستبعد وغير متوقع ومثالها الأمراض الرثية أي الروماتزمية والأمراض المناعية الذاتية.
من الذي يقرر التداوي من عدمه؟
1-
في الأمراض المعدية والسارية التي يتعدى ضررها إلى الآخرين تحدد الدولة متمثلة في وزارة الصحة الأمراض التي يجب التبليغ عنها ومداواتها ومتابعتها، ويحتاج بعضها إلى الحجر الصحي في مستشفيات خاصة مثل مستشفيات الحميات.
2-
حالات الجنون التي يتعدى فيها الضرر إلى الآخرين، أو أن المصاب قد يضر نفسه دون أن يعقل، ويلقي بها إلى التهلكة، وفي هذه الحالة هناك مراسيم خاصة لإدخال هذا المصاب مستشفى الأمراض العقلية.
3-
في الحالات المرضية التي لا يتعدى ضررها إلى المخالطين للمجتمع فإن الذي يقرر قبول التداوي من عدمه هو المريض نفسه، إذا كان بالغًا، عاقلًا راشدًا ولا يجوز الاعتداء على هذا الحق بأي شكل من الأشكال إلا في حالات فقدان الوعي وحالات الإسعاف.
4-
إذا كان المريض قاصرًا أو مختلًّا عقليًّا أو فاقدًا للوعي والإدراك، فإن هذا الحق ينتقل إلى وليه، ومع ذلك لا يجوز للولي أن يمنع القاصر أو المجنون أو المغمى عليه من تلقي العلاج إذا كان في ذلك إنقاذ لحياته.
5-
يتعين على الطبيب أو الهيئة الطبية أن تقدم الشرح الكافي للمريض أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي الذي ينوي القيام به، وللأسف فإن الواقع العملي في معظم الحالات في العالم الثالث لا تلتزم بهذه النقطة، بل نجد أن الإجراءات الطبية بل والعمليات الجراحية تتم دون إذن المريض في بعض الأحيان، دون إذن المريض البالغ العاقل الراشد، ولا يتم تقديم الشرح الكافي للمريض أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي إلا فيما ندر، وعن أخذ التوقيع للموافقة على إجراء العملية أو التخدير فإن المريض يمضي على ورقة معدة سلفًا دون أن يذكر فيها نوع العملية ولا تفصيلها ولا نوعية التخدير وهو أمر مخالف للأنظمة.
وتقوم بعض الدول بانتهاك حقوق الإنسان بانتظام ومن ذلك تعقيم الرجال والنساء قصرًا في الصين والهند - في عهد ماوتسي تونج وأنديرا غاندي - ووضع اللولب دون إذن المرأة في مستشفيات مصر في عهد عبد الناصر.
ويشترك الأطباء والهيئة الطبية في السجون في ممارسات لا إنسانية في بعض بلدان العالم الثالث، كما يستخدم هؤلاء - أي المساجين - في حقل التجارب الطبية دون إذنهم.
إذن ولي القاصر أو المجنون أو المغمى عليه
لا بد من إذن ولي القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي في الحالات التي لا تستدعي تدخلًا سريعًا لإنقاذ حياة المريض أو إنقاذ عضو من أعضائه، ولا يعتد بعدم إذن الولي في الحالات التي تهدد حياة القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي، فإذا كان القاصر أو المجنون أو المغمى عليه يحتاج إلى إجراء عمليه جراحية لإنقاذه، أو يحتاج إلى نقل دم وكان الولي يرفض مثل ذلك الإجراء، فإن على الطبيب أن يقوم بهذا الإجراء الطبي ولا يلتفت إلى معارضة الولي، هذه هي الإجراءات السارية في كثير من البلدان، وفي مثل هذه الحالات ينبغي أن يؤكد ذلك طبيبان، ولا يحق للولي أن يمنع مداواة مولاه وخاصة إذا كان في ذلك خطر على حياته، ولكن قد لاتكون الخطورة على الحياة وإنما على الصحة، فهل يبقى للولي مثل هذا الحق وبالتالي يستطيع منع مداواة مولاه؟ وهناك حالات الولادات المتعسرة أو الولادات التي يصاب فيها الطفل أثناء الطلق بما يعرف طبيًّا (بحرج الجنين) ، وتستوجب هذه الحالات إجراء عملية قيصرية لإنقاذ الطفل، ومع ذلك يرفض الأبوان أو الأب إجراء هذه العملية، فهل يحق للأطباء في هذه الحالة إجراء العملية دون إذن لإنقاذ الجنين؟ وتقرر بعض الدول ذلك إذا وافق طبيبان مختصان على وجوب إجراء هذه العملية لإنقاذ الجنين، فما هو الموقف الفقهي في مثل هذه الحالة؟ وما هو الموقف عندما تكون الولادة متعسرة ويكون الخطر محدقًا بحياة الحامل ووليدها؟ وهناك حالة الطفلة المصابة بفشل كلوي ويرفض والدها أن يجري لها عمليات الغسيل الكلوي نتيجة تجربة سابقة معالجة أحد أبنائه أو أقاربه، ومن المعلوم أن الغسيل الكلوي ليس علاجًا شافيًا للفشل الكلوي، بل هو علاج يعطي المصاب فسحة من الوقت ليعيش حياة مع ما فيها من منغصات المرض بدرجة معقولة، وحتى يمكن إجراء عملية نقل الكلى التي تعتبر نسبة نجاحها عالية نسبيًّا، فهل يحق للولي أن يرفض علاج ابنته المصابة بالفشل الكلوي باعتبار أن ذلك ليس علاجًا شافيًّا وإنما هو إجراء مؤقت لإعطاء فسحة من الوقت؟
ومثلها أيضًا حالة سرطان في اليد أو القدم أو الأطراف ويمكن التداوي بالبتر ويرفض الولي ذلك؟. وهل من حق الولي أن يتبرع بكلية أو نخاع طفله لينقذ طفله الآخر مع العلم أن التبرع من الإخوة وخاصة التوائم المتماثلة يعطي أفضل النتائج؟ وليس في هذا التبرع خطر على حياة الطفل المتبرع منه بل هناك احتمال ضئيل بالإصابة بمستقبل الأيام، فهل يجوز للأب أن يتبرع بنخاع أو كلية طفله لإنقاذ طفله الآخر؟ هذا مع العلم أن مجمعكم الفقهي الموقر قد أفتى في دورته الرابعة بالقرار رقم 1 د 4/8/88 بشرط كون الباذل كامل الأهلية؟
من هو الذي لا يعتد برضاه؟
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة، الصبي حتى يحتلم، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق)) ، وعليه فإن معظم القوانين تجعل رضا القاصر والمجنون وفاقد الوعي لا يعتد به، ولكن هناك اختلافًا في تحديد سن القاصر، حيث نجد أن معظم قوانين الدول العربية والإسلامية تجعل السن القانونية ثمانية عشر عامًا، وبعضها يجعل سن الرشد واحدًا وعشرين عامًا. فعلى سبيل المثال، حدد القانون الكويتي المدني (الفقرة الثانية من المادة 96) سن الرشد بواحدٍ وعشرين عامًا ميلادية كاملة، ومع هذا فقد أباح القانون الكويتي للشخص العاقل الذي أتم ثمانية عشر سنة ميلادية أن يتبرع بإحدى كليتيه.
وتعتبر بعض البلاد البلوغ كافيًا لإعتبار رضا الشخص إذا كان عاقلًا، ونحن نعرف أن بلوغ الصبي يحدث فيما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة، أما الصبية فقد تحيض في سن أقل من ذلك، قال الإمام الشافعي: أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة يحضن لتسع، وهو مذهب الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد، وعند الأحناف أقل سن للحيض سبع سنوات، فهل إذا بلغت الصبية تسع سنوات وحاضت في تلك السن يعتبر رضاها كاملًا أم لا بد من إذن الولي في أمر التداوي حتى تبلغ سنًّا محددة؟ وثار في الغرب جدل حول ما يفعله بعض الأطباء من وصف وسائل منع الحمل مثل الحبوب للفتيات القاصرات أقل من ثمانية عشر عامًا، دون إذن مسبق من ولي أمر الفتاة والمشكلة لدينا أفظع حيث أن معظم الدول لا تفرض رقابة على الصيدليات، بل ويشجع كثير من الدول صرف حبوب منع الحمل بدون وصفه طبية، وهو أمر بالغ الخطورة ومناف للأعراف والأنظمة الطبية، ويعرِّض المستعملة لمخاطر مضاعفة في بعض الحالات ويستطيع - للأسف أي إنسان أن يشتري من أي صيدلية حبوب منع الحمل دون أي وصفة في معظم بلدان العالم الثالث ويستخدم بعض السجناء في عمليات التبرع بالدم قسرًا، كما يستخدمون أحيانًا في مجال التجارب الطبية دون إذنهم، وهذه كلها صور من الممارسات التي يعتدي فيها على حقوق الإنسان.
ومما يستتبع إذن المريض إذنه في التبليغ عن حالته إلى رب العمل، أو إلى شركة التأمين، أو إذنه في نشر المعلومات عنه في الصحافة أو في المجلات العلمية إذا كان ذلك فيه ما يشير إلى شخصية بصورته أو علامة من علاماته، ولا بد من إذن المريض البالغ العاقل الراشد في مجال إجراء التجارب الطبية مع وجوب شرح كافة الملابسات والمخاطر التي قد تنجم عن مثل ذلك الإجراء.
ولا يكتفى بإذن ولي القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي في مجال التجارب الطبية بل لا بد من إذن الشخص ذاته، ولا يعتبر إذنه مالم يكن بالغًا عاقلًا راشدًا، وتفرض كثير من الأنظمة الإذن الكتابي مع الإشهاد في جميع الحالات التي تستوجب إجراء عملية جراحية وإعطاء المخدر وإجراء الفحوصات التي تدخل إلى جسم المريض، مثل المناظير ومثل أخذ عينة الكبد أو الكلى أو الأمعاء، ومثل قسطرة الشرايين، وكل إجراء فيه تدخل في جسم المريض، وأي علاج كيماوي لمعالجة السرطان أو المعالجة بالأشعة، في حالات تصوير المريض بالآلة أو الفديو ما عدا التصوير الذي لا يشمل الوجه بل يقتصر على المناطق التي لا يمكن أن يستدل بها على الشخص، ولا بد من إذن المريض حين الاستفادة من الإجراء والأنسجة التي تم إزالتها في أثناء عملية أو ولادة أو سقط، ولا حاجة للإذن في الأنسجة والإفرازات التي تشكل خطرًا على الصحة العامة، وبالتالي يجب التخلص منها.
علاج الحالات الميؤوس منها
كما أسلفنا يجوز للمريض أن يرفض التداوي - بالنسبة لأوضاع القوانين فأنا لا أتحدث من الناحية الفقهية لأن الأمر إليكم - يجوز للمريض أن يرفض التداوي وخاصة في الحالات التي لا يستطيع الطب فيها أن يفعل الكثير، وفي بعض الحالات يطيل الطب أمد المعاناة كما أنه قد يطيل عملية الموت والنزع، وقد أسلفنا القول في أن الأمة قد أجمعت على جواز ترك التداوي للأحاديث الوادرة في الباب، وخاصة إذا كان هذا المرض لا يتعدى إلى الآخرين، والأمل في شفائه محدود أو منعدم أو أن فائدة التداوي مظنونة موهوبة لا متيقنة ولا راجحة، وفي هذه الحالات يحق للمريض أن يرفض التداوي متى كان عاقلًا بالغًا راشدًا.
ولكن هل يحق لولي أمر ناقص الأهلية مثل الطفل أو المجنون أو المغمى عليه أن يقرر نيابة عن المريض ترك التداوي؟
وهل يحق للأطباء في المستشفيات وغيرها أن يقرروا أن هذه الحالة ميؤوس منها وأن الطب بوضعه الحالي لا يستطيع أن يقدم شيئًا وبالتالي يتوقف الأطباء عن محاولاتهم؟ وعلى سبيل المثال هناك طفل مصاب بعاهات شديدة وموه الدماغ - أي باستسقاء كبير جدًّا في دماغه - ومصاب بأنواع من الشلل ولا أمل في إجراء العملية لأن الدماغ قد ضمر، فهل تجري لمثل هذا الطفل العملية؟ وهل إذا أصيب هذا الطفل بالتهاب رئوي حاد يبادر إلى علاجه؟ ومعلوم أن الالتهاب الرئوي يمكن مداواته ولكن حالة المريض الخطيرة لا يمكن مداواتها، فهل يترك المريض دون علاج حتى يتخلص مما هو فيه؟ وهل إذا أذن الولي في مثل ذلك الإجراء وهو ترك التداوي من الالتهاب الرئوي أو التهاب المجاري البولية أو أي نوع من الحميات أو الإسهال، وكلها يمكن مدواتها يعتبر ذلك نوعًا من القتل؟
وهناك الشيخ الهرم المصاب بأنواع من الشلل وجلطة في القلب وفشل في وظائف الكلى فهل يدخل في برنامج الغسيل الكلوي وعدد الآلات محدود ويحتاج لها من هم في مقتبل العمر من الذين يعانون من الفشل الكلوي؟ وهل إذا أصيب مثل هذا الشخص بتوقف مفاجئ لضربات قلبه يبادر إلى إسعافه أم يترك مثل هذا الشخص ليستريح من هذه المعاناة؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي أو التهاب في المجاري البولية أو التهاب في الزائدة يبادر إلى مداواته طبيًّا وجراحيًّا حسبما تستدعي الحالة أم يترك دون تدخل؟
وهناك المريض الذي أصيب دماغه إصابات بالغة أدت إلى فقدان الوعي فقدانًا كاملًا ومع هذا لا يزال جزء من دماغه يعمل، وخاصة جذع الدماغ، وبالتالي لا يدخل في تعليق موت الدماغ، وهو يعيش عن طريق التغذية بالأنبوب عبر المعدة، والقسطرة لإفراز البول وقد يحتاج إلى المنفسة باستمرار أو من حين لآخر، ولا أمل في استعادته للوعي والإدراك ولا أمل في تحسن حالته، ويتعرض مثل هذا الشخص لالتهاب رئوي أو جلطة في القلب وتوقف في النبض، فهل يتم إسعافه أو يترك ليلاقي حتفه؟.
في بعض المستشفيات يقرر الأطباء بصورة جماعية ماذا سيفعلون في هذه الحالة وبالتالي توضح تعليماتهم إلى الأطباء المناوبين وهيئة التمريض ترك مثل هذا الشخص بدون علاج، وفي أماكن أخرى يتم تكوين لجان أخلاقية مكونة من بعض الأطباء وما يسمونه رجال الدين، وشخصيات اعتبارية، ولكل مستشفى لجنة من هذه اللجان تقرر ما ستفعله لكل حالة على حسبها، وفي هذة الحالات جميعًا لا يؤخذ رأي المريض لأنه لا يستطيع أن يبدي مثل هذا الرأي بسبب فقدان الوعي أوسوء حالته الصحية، كما لا يؤخذ في معظم هذه الحالات رأي ولي أمر- أي ولي أمر المريض - وإنما يتم الأمر بين الأطباء أو اللجان الطبية الأخلاقية.
وبعض الأسئلة المطروحة هي:
1-
هل من حق المريض البالغ العاقل أن يقرر أنه لا يريد إجراء نوع معين من العلاج أو يرفض العلاج بكل أنواعه؟ وخاصة في الحالات التي ليس فيها مرض معدٍ وتلك الحالات التي لا يستطيع الطب أن يقدم فيها شيئًا كثيرًا؟
2-
هل من حق الأطباء أن يقرروا التوقف عن العلاج ومنع إسعاف المريض المدنف إذا أصيب بجلطة في القلب أو توقف في قلبه أو أصيب بالتهاب في الرئة أو الزائدة أو غير ذلك؟
3-
هل من حق ولي أمر المريض الميؤوس منه أن يتفق مع الأطباء على إيقاف العلاج ومنع الإسعاف في مثل هذه الحالات؟
4-
هل من حق اللجنة الأخلاقية في المستشفى والمكونة من الأطباء ورجال مجتمع وما يسمونهم رجال دين أن يوقفوا العلاج للحالات الميؤوس منها؟ كما يكون من حقها إيقاف الإسعاف؟
هذه بعض الأسئلة المقدمة إلى أصحاب الفضيلة والسماحة راجين منهم أن يفيدونا ويعلمونا ما يفعل الأطباء في مثل تلك الإجراءات؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا وقبل طرح الموضوع للمناقشة نرحب بالفريق الطبي الذي حضر من جامعة أم القرى برئاسة الطبيب أمين صالح كشميري وفي الوقت الذي نرجو أن يستفيدوا، كذلك نرجوا ألا نعدم من تداخلاتهم في مجال الطب في هذا الموضوع.
وفي الواقع أن العرض الذي تفضل به الطبيب الأستاذ محمد علي البار هو، على عادته في شموله ودقته - جزاه الله خيرًا وأثابه - ولكن كثير من الأسئلة التي أوردها وأثارها غير مغطاة في هذه البحوث، والبحوث الثلاثة الموجودة تكاد تلتقي في عدة نقاط، والأسئلة التي أثارها العارض هي مهمة دقيقة، وأذكر أن مجموعة منها سبق وأن نوقش في منظمة الطب الإسلامي في الكويت، وربما كان الطبيب محمد علي البار موجودًا آنذاك في مظلة المنظمة، وعلى كل فهل ترون أن يتحدد النقاش فيما غطته البحوث أو أن يتناول الجوانب التي أثيرت؟
يترك هذا للمداولة. تفضل الطبيب الصقال.
الدكتور محمد عدنان صقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة شكرًا للدكتور محمد علي البار الذي أفاض في هذا الموضوع، ولكن لي ملاحظة: إن الدكتور محمد علي البار قد قرأ ما كتب فقط وكان حريًّا به أن يستعرض بقية الأراء التي وردت من بقية الزملاء، كالزميل علي محمد يوسف المحمدي. وإنني مضطر ألا أعيد ما قاله، ولكن أريد أن أضع بعض النقاط في هذا الموضوع، الموضوع الذي كتبنا فيه محصور فقط في الحالات الميؤوس منها، وتوقف العلاج على إذن المريض.
الحالات الميؤوس منها: حالات عديدة منها تموت الدماغ وفشل الكلية والسرطانات المنتشرة وتشميع الكبد، إلى آخره، وهناك عاملان، عامل علاجي وهو التداوي بوجوبه أو عدمه وقد شرحه الزميل أخي الدكتور محمد علي البار، ولكن هناك عامل نفسي كان يجب أن نقف عنده وهو عندما نقول للمريض: إن مرضك ميؤوس منه ولا علاج له فإنك قد أمته مرتين، المرة الأولى في المرض الذي هو فيه، والمرة الثانية لأنه يعلق الآمال على الطبيب، فهو بذلك يكون كمن يريد أن يتخلص من هذه الحياة.
التداوي وقد ذكره الدكتور البار، وإنه مال مع وجوب التدوي عملًا بالحديث الشريف ((تداووا عباد الله)) وكذلك أنه يجب أن نأخذ بالأسباب، فقصة مريم:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآية [مريم:25]، تعتمد على العمل. وكذلك سيدنا يعقوب عليه السلام عندما نصح أولاده. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:((اعقلها وتوكل)) .
أما بالنسبة لإذن المريض: فإنني أحب أن أسرد حادثة جرت معي في المشفى وهي أن هناك طفلًا صغيرًا كان في الثانية من عمره، وأن هذا الطفل كان مصابًا بورم في الساق، وعندما أجرينا له عملية ((خذع)) من هذا الساق فتبين أن هناك سرطانًا في العظام، وأبلغنا الأب بأنه يجب أن يبتر الطرف السفلي، طبعًا الأب لم يوافق على ذلك، وبكى وصاح ثم ذهب إلى الطبيب آخر وثالث ورابع وكان الجواب نفسه، لم يرض الأب ببتر هذا الطرف ثم بعد مرور سنتين توفي هذا الطفل، السؤال المطروح: من هو المسؤول يا ترى؟ - طبعًا الأب - ولكن ما هو حكم الشرع في هذه الحادثة؟ أو ما هو حكم القانون في مثل هذه الحوادث، قرأت في كتاب من نصائح الإمام الشافعي رضي الله عنه لتلميذه يونس بن عبد الأعلى، قال له: لا تسكن بلدة ليس فيها عالم أو ليس فيها طبيب. ومن هنا نرى وجوب التداوي، كثير من الناس يقول: إنه يتوكل على الله فكلنا متوكلون على الله، ولكن كما قال بعض غلاة الصوفية بأن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل الله عليه من بلاء! وقسم ثان قال: التداوي وتركه أفضل، ولا نريد أن ندخل في هذا الموضوع.
أنا أريد أن أركز على الناحية النفسية، وأخالف أخي الدكتور البار، بأنه مهما كانت الحالة ميؤوسًا منها فلا يجوز لنا نحن الأطباء أن نقول للمريض: إن مرضك ميؤوس منه والأفضل ألا نقول للمريض، بل ندعه أن يترك هكذا حتى يموت، يبقى المريض معلقًا بالطبيب حتى آخر لحظة من سكرات الموت، ويبقى الإنسان يعيش على الأمل، وأما إذا قطعنا هذا الحبل بين الطبيب والمريض فإننا حينذاك نكون كمن يسدد - وهذا خطأ - رصاصة الرحمة إليه أو يريد أن ينهي حياة المريض وهذا بالشرع غير جائز كما تعلمون.
هناك ناحية ثانية، حادثة ثانية: هناك طفل مجنون وهذا الطفل كان له أخ، والمراد أن تنقل الكلية من الأخ السليم إلى الأخ المريض، من المجنون إلى العاقل، وتم نقل هذه الكلية بموافقة ذوي المريض، ولكن المجنون لا يستطيع أن يقرر مثل هذه الأشياء الشخصية لأنه ليس عاقلًا، فأعتقد أن هذه أيضًا جناية، ولا يجوز شرعًا أن تمتد يد الطبيب حتى إذا وافق الأهل على انتزاع مثل هذا العضو لنقله إلى شخص آخر، فهذا ليس حقًّا مكتسبًا لذوي المريض.
هناك بعض الحالات التي تستدعي التدخل السريع، مثل الحوادث التي يكون فيها خطر على المريض، فيجب على الطبيب أن يتدخل دون إذن المريض، وقد ذكر ذلك أخونا الدكتور البار.
أخيرًا إنني أقول رفقًا بالأطباء، فلا تحرموهم من ضم صوتكم إليهم بوجوب التداوي لأن الجهل كبير وكبير جدًّا، فمنهم من يؤمن بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان وليست من الشرع في شئ، وهناك من يدوس على ظهر المريض حتى يخلصه من الدسك، وهناك أشياء كثيرة تعرفونها نعيشها هناك، وإننا نريد أن نكون واقعيين وأن تكون قراراتنا منسجمة مع الواقع الذي نعيشه. وشكرًا.
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع أن هذا الموضوع لم يكتب فيه مَن كنا نود أن يسهموا فيه، لما نعرفه عنهم من اطلاع واسع وقدرة على العطاء. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن المجتمع نفسه يظهر أنه لم يول هذا الموضوع اهتمامًا كبيرًا كما كان شأنه في الموضوعات الأخرى، حيث بسط القول وبين العناصر مفصلة في الموضوعات التي طلب من الخبراء والعلماء الكتابة فيها، بينما أجمل في هذا الموضوع واكتفى بعرض العنوان. وبناء على هذا العرض كان بحثي خاصًّا في جزئيات بسيطة ولهذا حصرتها في ثلاثة صور. والسيد العارض لفت نظري إلى موضوع أهم وهو الحالات المرضية المعدية أو التي يخشى منها على صحة الآخرين فمثل هذه الصورة أعتقد لا يختلف اثنان في أنه لا بد أن يعالج مثل هذا الإنسان حماية له وحماية لغيره، والقرارات الصادرة في بعض الدول نحت هذا المنحى، أما الصور التي عرضت لها وهو فهمي من العنوان علاج الحالات الميؤوس منها. فعلاج الحالات الميؤوس منها قسمتها إلى ثلاثة أقسام أو صورتها بثلاث صور.
الصورة الأولى: أن يصل الإنسان بمرضه العادي إلى هذا الحال أي إلى حالة الاحتضار، ففي مثل هذه الحالة - في حالة الاحتضار - لا نستطيع إلا أن نخضع لإرادة الله عز وجل وهنا الفقهاء أو العلماء الذين كتبوا في هذه الحالة بينوا الآداب التي تتبع مع المريض وهي تلقينه، والجلوس معه، وإبعاد الأطفال والنساء وما إلى ذلك، وفي مثل هذه الحالة إذا وصل إلى هذه الدرجة فما على الطبيب ولا على المريض الذي يكون فاقد الوعي ولا إرادة له، إنما بالنسبة لأهله وغيرهم لا عليهم إن هم طلبوا من الطبيب ترك العلاج.
الصورة الثانية: الذي وصل إلى هذه الحالة بالجناية عليه، أو بالاعتداء عليه كأن يكون في حادث سيارة أو مشاجرة أو كذا ووصل إلى درجة، والفقهاء في هذه الحالة يذكرون أن من وصل إلى (حركة المذبوح) ، بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار، فإذا كان بالجناية عليه فالواقع أن الشافعية لهم رأي غريب في هذا الموضوع ورأي جريء جدًّا، لا أعلم هل الأطباء يوافقون عليه أم لا؟ يعتبرونه في هذه الحالة ميتًا، ولو كانت فيه حركة حياة، قالوا: إنه يجوز دفنه والصلاة عليه، ولو كانت امرأته حاملًا ووضعت ففي هذه الحالة حلت الأزواج. واعتبروا الاعتداء عليه حتى لو جاء شخص وأجهز عليه لا يعتبر أنه أجهز على حي إنما يعتبر أنه مثل بميت، وإنما الذي أوصله إلى هذه الحالة هو الذي يعتبر جانيًا عليه. ولعلماء المالكية في هذه المسألة رأيان، رأي كالشافعية ورأي يعتبرونه حيًّا ويعتبرون من اعتدى عليه يعتبر معتديًا على حياة إنسان حي.
الصورة الثالثة: التي صورتها في بحثي هي الحالات المرضية التي لا علاج لها، والتي يقطع الأطباء بأنه لا علاج لها عندهم ففي مثل هذه الحالة في مدخل ابن الحاج ذكر صورة من هذه الصور، فإنه كان يتعاطى العلاج عند طبيب وأن الطبيب ظل معه مدة طويلة يصف له أدوية ويتقاضى منه أجرًا على هذا العلاج، حتى أن المريض نفسه يئس من علاجه وصرف الطبيب وقال: نويت أن أنفق بعض ما كنت أنفقه على الطبيب على الفقراء والمساكين طلبًا للسنة وطلبًا للعلاج، فما مضى وقت حتى شفي من هذا المرض، فوجدت الطبيب فسألته: لماذا كنت تصف لي هذه المدة ولم أكن أجد منفعه منه؟ قال: والله لم أكن أجد لمرضك هذا دواء إلا أنه يقبح بالطبيب أن يخرج من عند المريض ولا يصف له شيئًا لئلا يوحشه بذلك.
فمثل هذه الحالة، فكما أشار إليه الطبيب الفاضل أنه لا يحسن للطبيب أن يقطع المريض من الأمل، ويجب أن يعطيه أملًا والأعمار بيد الله سبحانه وتعالى. هذا ما ذكرته في هذا الشق من البحث. أما الشق الآخر وهو مدى توقف العلاج على إذن المريض.
في المبحث السابق بحثت كما بحث الأخ العارض حكم العلاج عند الفقهاء، فالقلة الذين ذهبوا إلى وجوب العلاج وإنما الأكثرية ومنهم المالكية. قالوا: يستوي العلاج وعدمه. والشافعية وجماعة من الفقهاء يقولون: إن العلاج أولى، وبعضهم قال: ترك العلاج أولى.
وعلى هذا فإن رغب المريض أو وليه أن يوقف الطبيب العلاج فإنه لا بأس على الطبيب إن هو استجاب لهذا الطبيب ووقف عن العلاج وشكرًا.
الشيخ محمد رأفت:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين.
وبعد:
ما ذكره الأستاذ الكريم الطبيب البار يجعلني أركز على بعض النقاط، منها ما ذكر من الأحاديث النبوية الشريفة والتي ظاهرها التعارض، وما ذكره من استنباط الإمام أحمد في قوله في التداوي، والواقع أن هذه الأحاديث يمكن الجمع بينها بسهولة ويسر، وكذلك يوجه الاستنباط الذي استنبطه الإمام أحمد وغيره من الأئمة في أن الشفاء من الله سبحانه:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] .
وهذا لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب وأن يسلك الإنسان سبيل العاقبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل الله العافية، وطلب منا أن نسأل العافية، فلا تعرض الأحاديث بالصورة التي يفهم منها أن يضرب بعضها بعضًا وإنما في جمعها وتوجيهها يجمع بينها دون تعارض.
الأمر الآخر في مسألة طلب الإذن من المريض أو من وليه.
في الواقع ليس هناك إنسان يرفض العافية، والإنسان إذا أصيب بنوع من الألم أو بنوع من المرض يريد الشفاء ويريد العافية ولكن المسألة في ثقة هذا الإنسان فيمن يتوجه إليه بطلب الدواء أو بطلب العافية، وفي هذه الحالة الإسلام جعل أمامنا تقدير الخبرة وتقدير العلم، والإنسان العادي لا يستطيع أن يقول بكلمة صواب في أمر العلاج، وإنما يقول ذلك الخبراء والأطباء المتخصصون، ولذلك فإن الثقة في الإنسان الطبيب هي التي ينبغي أن تكون محل العناية والتقدير، فنترك للمريض الفرصة في أن نجعل أمامه هذه الثقة في الخبراء المتخصصين، ولا بأس أن يعرض الأمر على أكثر من خبير متخصص في هذا الأمر الطبي، فإذا أجمع الخبراء المتخصصون في الطب، فلا مجال للتوقف عن العلاج لطلب إذن المريض أو إذن وليه، وإنما يصبح الواجب دفع الضرر، ودفع الضرر لا يقدره المريض وإنما يقدره الطبيب المختص الذي تتحقق فيه هذه الثقة.
أما مسألة القطع باليأس فأنا أضيف صوتي إلى صوت الأستاذ الكريم الذي ينبه الأطباء لخطورة هذه المسألة النفسية، الإنسان لا يقطع الأمل إلى آخر لحظة، والقرآن الكريم لما ضرب لنا المثل بأيوب عليه السلام وأنه وصل إلى حالة يمكن أن يقال فيها: إنها حالة ميؤوس منها، لم ييأس من رحمة الله، وعقب القرآن الكريم أن ما حدث لأيوب من هذا الإعجاز يمكن أن يحدث لكل عبد صالح، قال تعالى في سورة الأنبياء:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} . [الأنبياء:83،84]
فالأمل يظل مصاحبًا للإنسان إلى آخر لحظة، ولذلك فإن الأطباء لا نستطيع أن نقول لهم أوقفوا العلاج، وإنما من العلاج أيضًا عدم إعطاء الدواء إذا كان غير مفيد، فهم يفعلون ذلك بحكم الخبرة، يقدمون الدواء المناسب، ويتوقفون في الوقت المناسب، دون الدخول في تفصيل لا يفهمه المريض، ولا يفهمه أهل المريض، وإنما يقدمون ما تمليه الخبرة وما يمليه الموقف الذي لا يقدره إلا هم في هذه الحالة.
النقطة الأخيرة في مسألة التبرع بالأعضاء: مسألة التبرع بالأعضاء اتسع القول فيها الآن إلى درجة قد تخيف كثيرًا من الناس، وأن الإنسان إذا دخل إلى المستشفى في حالة حادث عارض، أو في حالة يقال فيها إنه أصيب بموت الدماغ، فإنه يخشى على نفسه أن يؤخذ منه، أو أن يسلك بعض الناس سبيل الإتجار بالأعضاء، وأن يشتهر في حياة الناس البنوك التي تبيع الأعضاء، وبدلًا من أن يباع الإنسان كما كان يباع رقيقًا يباع في صورة مقطعة بدلًا من الجملة، ولذلك أنا أحب أن يصدر التوجيه في أن تهتم الأمة - وقد عنينا بعقد الاستصناع بالأمس - أن تهتم الأمة أيضًا في توجيه أبنائها إلى الكشف والتصنيع للآلات والأدوات حتى نصل في وقت من الأوقات إلى التغطية التي نطمح إليها وتغنينا عن الأخذ لأعضاء الإنسان الذي يتعرض لحادث أو غيره. هذا ما أحببت أن أذكره وشكرًا.
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإنني أميل إلى الأخذ برأي جمهور العلماء في العمل بالتداوي والبحث عن الشفاء ما وسعنا إلى ذلك سبيلًا، وأقسم الأمور إلى ثلاث نقاط أو أربع.
أولًا: بالنسبة للأمراض المعتادة يحسن التداوي منها عملًا بالتوجيهات القرآنية الكريمة العديدة من مثل قوله تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} . [التوبة: 105]
من باب الأخذ بالأسباب، وقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [البقرة: 195] .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)) . ومما لا شك فيه أن الصحة والشفاء من الأمراض يساعد على العبادة وعلى طاعة الله والتقرب إليه عز وجل.
ثانيًا: المحافظة على النفس من جميع جوانبها تقع ضمن الضرورات الخمس المعروفة بمقاصد الشريعة، أو بالكليات، والتي من أجلها فرض الله تعالى الفرائض المعروفة وحد بسبب الاعتداء عليها الحدود والعقوبات المقررة.
ثالثًا: أما الحالات الميؤوس منها فأرى أنه لا يجوز التوقف فيها أو الاكتفاء فيها برأي طبيب واحد أو طبيبين أو نحو ذلك، وإنما يوكل الأمر في قرار أن هذا المرض وهذه الحالة وصلت إلى مرحلة اليأس إلى لجنة طبية من كبار المستشارين أو الاستشاريين وعدم الاكتفاء برأي طبيب خصوصًا إذا كان مبتدئًا في هذا المجال.
رابعًا: أما مسألة الاستئذان فغير واردة ولا تجوز في الحالات الشديدة أو في الحالات الطارئة، يعني مثل حوادث السيارات مثلًا، أما إذا كانت حالة المريض مستقرة، وهو في بيته فهذا أمره متروك إلى نفسه وهو مسؤول عن صحته وعن أحواله أمام الله عز وجل. وصلى الله على سيدنا محمد. وشكرًا.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
هناك نقطتان، النقطة الأولى: تتعلق بمسألة التداوي هل هو واجب أو جائز؟ أنا أميل في الحقيقة إلى أنه واجب إذا كان المرض مرضًا قد يؤدي إلى هلاك أو إلى شديد أذى، وهذا طبقًا للأصول العامة التي تحكم هذه القضية، فالله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [البقرة: 195] . ويقوم جل وعلا: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . [النساء: 29]
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي سأل الناس وقالوا له: لا بد أن يتوضأ لا بد أن يستعمل الماء فاستعمله فمات، قال:((قتلوه قاتلهم الله فهلا سألوا إن جهلوا إنما دواء العي السؤال))
…
شدد في أمر هذا الرجل في الوضوء وفي الغسل في حالة تؤدي إلى موته، كل الأصول العامة في الشرع يفهم منها وجوب المحافظة على النفس، ووجوب المحافظة على الأعضاء ولأجل ذلك أوجب الله سبحانه وتعالى أكل الميتة للمضطر، والرخصة قد تصل إلى الوجوب، وهذا يدل على المحافظة على النفس، إذن الأصول العامة كلها تدل على الوجوب إذا كان التداوي مأمون العاقبة، وأيضًا مضمونًا ظنًّا قويًّا، فهنا يجب التداوي بلا شك، ويجب حمل كل الآثار وكل الأخبار التي وردت بسوى ذلك على أنها إما أن تكون قضايا عينية، وإما أنها تحض على التوكل على الله سبحانه وتعالى بالقلب، والتوكل - كما يقول أبو حامد الغزالي - هو فعل قلبي هو حالة نفسية، وليس معنى التوكل كما يقول: أن يكون الإنسان خرقة في مهب الرياح أو لحمًا على وضن، ليس هذا هو التوكل، فإن هذا المقام الجليل لا يحصل بمراغمة أمر الله سبحانه وتعالى فالله سبحانه وتعالى أمر بالعمل وكيف يطلب الولد من لم يتزوج؟ وكيف يطلب الحصاد من لم يبذر؟ كل هذا يدل على أن العمل واجب وأن العلاج واجب.
هذه القضية أعتقد أن الأولى أن نقول فيها بالوجوب، إذا كان المرض شديدًا يخاف على المرء من ذهاب النفس أو ذهاب عضو أو تلف وظيفة من وظائف الأعضاء، يعني إذا كان في مرتبة الضرورات.
ويجب أن نبين في نفس الوقت هنا حقيقة التوكل ونظهر أن التوكل ليس بترك الدواء، والنبي صلى الله عليه وسلم داوى وكوى - كي أسعد بن زرارة رضي الله عنه - وردت كثير من الأحاديث تتعلق بالدواء وقال للآخر:((صف له داءك يصفه الحارث بن كلدة - وكان طبيبًا كافرًا)) . إذن لا بد من التداوي.
النقطة الثانية: هي مسألة الميؤوس منه وكما قال الأخ الذي تكلم قبلي: لا بد أن يقرر ذلك جمع من الأطباء، ألا يقرره طبيب واحد وفوق كل ذي علم عليم، وألا ييئسه فقد ورد في آداب عيادة المريض أن نقول له: لا بأس طهور، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه إني أراك بارئًا يا خليفة رسول الله، قال: وإني مع ذلك لدنف قالها أبو بكر مجيبًا له. فهذا يدل على أن المريض ينبغي أن نعطيه أملًا وألا نقطع أمله وطمعه في الحياة.
النقطة الثالثة: هي إعطاء الأعضاء، أنا لا أرى أي شخص يمكنه أن يتبرع بعضو شخص آخر أو يبيعه، ولو كان أبًا ولو كان أخًا ولو كان المتبرع بعضوه قاصرًا، إن هذا الشخص لا يملك أعضاء هذا الشخص الآخر، ولو كان مجنونًا. لا يجوز أبدًا بحال من الأحوال أن يتبرع بعضو منه لشخص آخر، والقاعدة هي أنه لا ننزل ضررًا بشخص لفائدة شخص آخر (لا ضرر ولا ضرار) ، فإنزال الضرر بهذا الشخص ولو كان مريضًا أو متخلفًا عقليًّا لفائدة شخص آخر، هذا أمر حرام وملكية الأعضاء هي من ملكية الانتفاع والله سبحانه وتعالى سخر هذه الأعضاء للإنسان لينتفع بها وليست لتعطى لغيره، وقد أفتى المجمع فيما أعتقد في الأعضاء المزدوجة بجواز التبرع لشخص، وإن كان عندي توقف في هذا ولكن الأمر الآن يتعلق بتبرع شخص آخر، هذا الأمر لا يجوز، وهذه القضايا في غاية الدقة والطبيب عليه أن يراقب الله سبحانه وتعالى في معاملته مع المريض ولا يحتاج إلى إذن في الحالة الخطيرة كما قال الأخ الذي سبقني في الكلام.
خلاصة القول: أولًا: إن التداوي في الحالات الضرورية واجب شرعًا، وكل الأحاديث التي وردت بخلاف ذلك فإن الأصول العامة والأحاديث الأخرى تحكم عليها، والأصول العامة مقدمة على النصوص الجزئية، هذا أمر مسلم به ومقاصد الشريعة واضحة.
ثانيًا: أنه لا يجوز تبرع شخص بعضو شخص آخر ولو كان قاصرًا أو مجنونًا (وشتى أنواع القصور) .
ثالثًا: هو أن المريض لا يجب أن نحمله على اليأس من روح الله ومن رحمة الله: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف 87] و {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] . فيجب أن يبقى له أمل. وشكرًا.
الدكتور أمين صالح كشميري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر فضيلة الدكتور بكر أبو زيد على ترحيبه بفريق جامعة أم القرى، وفي الواقع ليس منا طبيب ولذلك نجد أنفسنا في حل من أن نقول للأطباء رفقًا بالمرضى والمصابين، إنما شدنا إلى هذا الاجتماع الكريم كوننا نتعامل مع وظائف الأعضاء، وهو العلم الذي يعنى بمحور هذه القضايا التي نحن بصدد نقاشها فأقول وبالله التوفيق: إن أي رأي فقهي يجب أن يتوفر فيه عنصر الثبات، وكثير من الأمور التي طرحت في الأبحاث المقدمة التي تفضل بها الإخوة الكرام مشكورين، لا تراعي موضوع ثبات الفتوى الشرعية، التي في رأيي ينبغي أن تكون إحدى العناصر الهامة والأساسية، لأن المشكلات التي يتناولها البحث متغيرة وليست ثابتة، إذ ليس كل ما يقطع به الأطباء، أو كل ما يقطع الأطباء بعدم رجاء برئه لا يبرأ، وإذا لم يبرأ اليوم فإنه قد يبرأ غدًا، والذي يستعصي اليوم قد يصبح في الغد القريب أمرًا ميسورًا وفي متناول الطب والأطباء. والأبحاث تترى والإخوة الباحثون في هذا المجال يعرفون هذا، ولعل من أشد الحالات إلحاحًا في بيان جوانبها الفسيولوجية موضوع (المتوفى دماغيَّا والأجنة المشوهة) وهذه الأمور الآن، الأبحاث تشير إلى أنه ما كان يعتقد في السابق حتى الأمس القريب أن خلايا الدماغ - الخلايا العصبية - إذا تلفت لا تسترد ولا يمكن الاستعاضة عنها، الآن بالإمكان زرع - ولو في مستوى التجارب الحيوانية في المعمل - خلايا دماغية من أجنة الحيوانات غير البالغة - أقول الخلايا الدماغية غير الناضجة - إلى أدمغة الحيوانات التي أحدث فيها التلف مخبريًّا في المعمل وبالتالي نمت الخلايا وازدهرت والآن هذا الموضوع أصبح لا يشكل مفاجأة بالنسبة للمتعاملين مع هذه الأمور في هذا الخصوص، فتعرفون أيها الإخوة الكرام أن من مقاصد الشريعة أنها ترمي إلى إنقاذ النفس البشرية في كل مراحلها وتحت أي ظرف من الظروف وهذا يشكل جزءًا من القسم الذي يؤديه الطبيب عند تخرجه.
فهذا الذي طرح من حيث وجود ظروف معينة أو حالات مرضية معينة، يبحث الآن عن رآي فقهي للتوقف عن علاجها أو بذل الجهد في إنقاذها أو استنقاذها، هذا يتنافى مع هذه المقاصد ولا شك، وأميل إلى رأي الإخوة الأفاضل الذين تحدثوا قبلي بأن هذا لا ينبغي أن لا يعطى إلا القدر الذي نوليه إياه من حيث كونه يتعارض مع هذه المقاصد، خصوصًا وأن الأسباب التي أثيرت حول هذا الموضوع في جلها هي نسبية، مثلًا الشخص المتوفى دماغيًّا يقال أننا نتركه ليتوفى لتخفيف معاناته، والمعاناة نسبية، معاناته أو معاناة أهله، هي نسبية ما أراه أنا مجهدًا بالنسبة لي يراه الآخر غير مجهد، وقد يتحمله بصدر رحب، كأن يقال مثلًا توفير أجهزة غسيل الكلى لمرضى آخرين، هذه أيضًا أمور نسبية وما قد أجده مكلفًا الآن أنا يجده غيري غير مكلف أو في المستقبل القريب ويصبح في المتناول وبأيسر السبل وبأزهد الأثمان.
النقطة التي كنت أتطلع إلى إدخالها ضمن هذا النقاش وهي في الحقيقة تعتبر من النقاط التي يقف عندها الكثير، وهي موضوع (تطعيم الأطفال) إذ أنها جزء كبير من هذا النقاش الذي نحن بصدده، بل ربما تكون من أشد الأمور إلحاحًا وتضع الوالدين أمام حيرة إذ أن بعض التطعيمات التي تعطى للأطفال قد يترتب عليها بعض الحالات المرضية، والرأي غير وارد أن نقول: إنه رأي الشخص المعني هو وهو الطفل، إذ إنه في أغلب الأحوال يكون دون الستة شهور من العمر، إذ لا يملك أن يعطي رأيًا فضلًا عن أن يقطع بإعطائه تطعيمًا أو لا، حتى وإن كان بعضهم ما فوق السنتين أو الثلاث يظل الوالد أو الوالدة أو الوالدان معًا هما اللذان يقرران هل يعطى الطفل أو لا يعطى؟ ونحن نعرف جميعًا أن هناك بعضًا من ولاة الأطفال أو الوالدين أو الوالد في الغالب من يقرر ألا يعطي طفله التطعيم، إما إمعانًا في التوكل وقد أفاد الإخوة الكرام في هذا الصدد وأظهروا فيه ما يغني ويشفي، ولا أستطيع أن أدلي بدلوي في ذلك، إنما القول بأن بعض التطعيمات لها تأثير على الدماغ، وأضرب بذلك مثلًا (السعال الديكي) لا يزال هناك تساؤل حول إمكانية إحداث هذا التطعيم لهذا النوع من المرض تلف معين في الدماغ، صحيح أن النسبة متدنية لكنها لا تزال موجودة. من الذي يملك القرار في هذا؟ هو أحد الوالدين. فإذن المسألة جديرة بأن تؤخذ في الاعتبار وأن ينظر إليها وتوضع تحت الضوء للنقاش. وشكرًا لكم.
الشيخ الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة في هذا الموضوع، ولقد كنت أعددت عنه بحثًا مستعجلًا، فيما أن الجماعة قرأوا بحوثهم فأنا أذكر ملاحظاتي فقط، وهي تدور حول أربع نقاط:
أولًا: حكم التداوي (مشروعية التداوي) .
ثانيًا: حكم دواء الأجنبية للأجنبي والعكس.
ثالثًا: هل يجوز التداوي بالنجس؟
رابعًا: هل يجوز أو يمكن أن يشترى النجس للدواء؟
حول النقطة الأولى أقول وبالله أستعين: إن الأحاديث الصحيحة الواردة في الأمر بالدواء، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له، كانت أحاديث كثيرة وصحيحة، أما الأحاديث التي منها: حديث البخاري ومسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره) ، وحديث مسلم (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى) أو كما قال. وهناك أيضًا أحاديث كثيرة في هذا المجال.
أما الأحاديث التي تقول بعدم التداوي، فهذه إنما هي للورع، وذكر البهيقي رحمه الله أنها تحمل على الورع فقط لمن علم أو لم يتيقن من أن المرض سيؤدي به إلى الموت، فحينئذ لا خلاف عند جميع الأئمة أن الدواء جائز، والإمام أحمد الذي قال: إن الأفضل غيره (لم يذكر منعه) .
ثانيًا: نتكلم عن النقطة الثانية وهي دواء الأجنبية لأجنبي أو العكس، هذا يجوز عند الضرورة، لأن نظر الأجنبي للأجنبية حرام وكذلك لمسه لها، فإذا لم يوجد طبيب من جنس المعالج، أو لم يوجد طبيب محرم للمرأة أو العكس، وكانت الضرورة ملحة جاز للمرأة أن تداوي المريض.
ثالثًا: المسألة الثالثة هي الدواء بالمحرم.
الدواء بالمحرم منعه الإمام مالك والحنابلة واستدلوا بحديث ((إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام)) رواه أبو داود وحديث أم سلمة ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) رواه الطبراني وقال الهيثمي: إسناده منقطع ورجاله رجال الصحيح، وهذا كله في غير حالة الضرورة الملحة، أما عند الضرورة التي تهدد حياة المسلم فإنه لا مجال للتردد في إباحة التداوي بالنجس إذا لم يوجد دواء طاهر غيره، وذلك يتوقف على قول الأطباء المهرة المختصين، ولا سيما في شيء قد أثبتت التجربة الشفاء به كالإسعاف بالدم الذي أصبح لاغنى عنه في الطب الحديث، الأصل في ذلك قوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . [الأنعام:119]
قال القرطبي: والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيصير مباحًا، وعليه فإنه يجوز للمسلم أن يتبرع ببعض دمه لمضطر لذلك الدم إذا كان لا يضر بصحته وله الأجر في ذلك.
أما المسائل الأخرى كالأعضاء وغير ذلك فإن الحقيقة أن التجربة لم تثبت، لأن المسألة لا بد أن يكون شيئًا مجربًا فأما نقل عضو إلى مريض آخر
…
اللهم إلَّا إذا كانت الكلية فإن الأطباء قد جربوا أنها لا تضر بمن انتزعت منه وتشفي الذي زرعت له ورأينا ذلك كثيرًا.
رابعًا: ثم بعد ذلك نتكلم عن بيع الدواء النجس: - مثلًا هذا الدم - لو افترضنا وهذا يفعله كثير من المستشفيات لأن المريض ربما يكون في حالة خطيرة وربما لا يوجد في ذلك الوقت الدم الذي ينقل له كما هو الواقع في كثير من البلاد خصوصًا حوادث السير - إذا لم يوجد ذلك فإنني أيضًا أرى أن من اضطر لبيع بعض دمه أنه يجوز له أن يبيعه لمضطر يعالج به، والدليل في ذلك أقوال عند المالكية، قول عند المالكية، قال الفقيه المالكي ابن عاصم رحمه الله:
ونجس صفقته محظورة
ورخصوا في الزبل للضرورة
قال التسولي: محظورة أي ممنوعة على المشهور وقيل بجواز بيعه وهي رواية ابن وهب، والمراد بالزبل هنا زبل محرم الأكل، وقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يكره بيع رجيع بني آدم ولم أسمع منه في الزبل شيئًا وأرى أنه لا بأس به. وقال أشهب: أكره بيع رجيع بني آدم إلا من اضطر إليه، والمبتاع أعذر في شرائه من بيعه، بعد ذلك عقب الحطاب على هذا الكلام قال: ويتحصل في بيع العذرة أربعة أقوال: المنع لمالك، وعلى فهم الأكثر من أن الكراهة على التحريم، والكراهة على فهم أبي الحسن وهو ظاهر اللخمي من أن الكراهة على بابها، والجواز لابن الماجشون، والفرق بين الاضطرار فيجوز وعدمه فيمنع وهو قول أشهب، ومعلوم أن نجاسة العذرة أشد من نجاسة الدم إذ لا يعفى عن شيء منها عند الجمهور.
إذن هذه المسألة أريد أن تدرس لأنني مررت بها مرورًا عابرًا، وأرجوا أن تدرس لأنها في الحقيقة ملحة جدًّا. أقول قولي هذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ ناجي محمد عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم
كان الدكتور البار - جزاه الله خيرًا - طرح بعض الأسئلة وأراد الجواب عليها فالذي يحضرني من الجوانب لهذه الأسئلة، هل يحق للولي أن يرفض علاج ابنته المصابة بالفشل الكلوي؟، أقول استنادًا إلى قوله صلى الله عليه وسلم ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ومنها ((والرجل راع في بيته وهو مسؤول عن زوجه وولده)) فلا يجوز للولي أن يرفض علاج القصر الذين عنده سواء كانوا صغارًا أو مجانين، وإذا رفض العلاج فإنه.. يأثم، بل أقول: يعزل عن الولاية لأنه مهمل في رعاية من هم في ولايته وتنتقل الولاية إلى الأبعد، هذا بالنسبة لهذا السؤال. السؤال الآخر، يعني إذا كان بعض الصغار في المستشفى هل يجوز إهمالهم؟. أقول: ينتقل الواجب من واجب كفائي إلى واجب عيني، فلا يجوز إهمالهم ولا ينتظر إذن أوليائهم في معالجتهم.
طرح سؤالًا آخر: وهو إطالة النزع أو الموت ببعض العقاقير أو العلاجات، أقول: إن هذا من الرجم في في المستقبل في علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، والأعمار بيد الله تعالى فيجب إعطاؤهم العقاقير التي يحتاجونها، وإن كان في قناعة الأطباء أن هذه العقاقير لا أمل منها في شفاء هذه الأمراض، وأما ما ذكره من أنه هل يجوز للجنة الطبية أن تقرر عدم معالجة بعض المهرمين؟. قضية الهرم هذا أمر نسبي فيختلف مفهوم الهرم من إنسان إلى إنسان فلا يجوز إهمالهم ولا يجوز أن يتركوا يعانون من ألم الأمراض.
ذكر سؤالًا آخر: من عنده ضمور بالدماغ ولا أمل من الاستمرار في حياته، هل يجب معالجته من الأمراض الأخرى كالفشل الكلوي وغير ذلك؟. أقول يكفيه ألم مرضه فلماذا يزاد في آلامه؟ وقد يكتب الله له الشفاء، فيجب أن يقدم له العلاج قدر الاستطاعة. والله أعلم وشكرًا.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
هي بضع نقاط أولاها حكم التداوي:
ذكر بعض الإخوة الزملاء أن جمهرة الفقهاء يرون أن التداوي واجب، والذي أعرفه العكس، فإن جمهور الفقهاء يرون أنه مباح، وبعضهم ذهب إلى أنه واجب، والمسألة فيها تفصيل، هذا التفصيل نأخذه من نوع العلاج، هناك العلاج الوقائي أو الطب الوقائي فهذا واجب قطعًا لأنه من منع الإلقاء في التهلكة وتجنب التلف، وهذا الأدلة عليه كثيرة وواضحة وأبرزها حديث (الطاعون) ومنع الإنسان من الدخول إلى الأرض الموبوءة وأمر هذا معروف، فكل ما كان من وقاية الإنسان في الوقوع في التلف أو في المهلكة فهذا واجب لأن التقحم في ذلك يعتبر من باب قتل النفس أو الانتحار، ولا يفترق أو يبتعد كثيرًا عن امتناع الإنسان عن الطعام أو الشراب وسد الرمق، فذلك قطعًا واجب لأنه متيقن عادة أن الإنسان إذا لم يأكل يموت ويتلف نفسه فيجب عليه أن يأكل ويشرب، وكذلك يجب عليه أن يتقي المهالك، فينطبق هذا على كل ما يندرج تحت الطب الوقائي ومنه - كما قلنا - عدم الدخول إلى الأماكن الموبوءة ومنه تخريجا التطعيم، لأن تطعيم وتلقيح الصغار والأصحاء في حال الأوبئة يعتبر نوعًا من الحجر وعدم الدخول في تلك المناطق أو في تلك الظروف.
أما الطب العلاجي فينقسم إلى نوعين: نوع يتيقن عادة أن الإنسان إذا لم يعالج نفسه من المرض يموت ويتلف، وذلك كما مثل له الفقهاء بأن الإنسان إذا جرح ونزف دمه فيجب عليه أن يربط هذا الجرح ويرقأ هذا الدم، لأنه لو تركه سيؤدي به قطعًا إلى الموت فهو نظير الامتناع عن الطعام والشراب، فهذا أيضًا من الواجب.
يبقى عندنا دائرة ضيقة أو محدودة وهي العلاج المظنون، الذي لا يقطع ولا يتيقن بأنه يؤدي إلى البرء والشفاء، فهذا الذي اختلف فيه العلماء، والذي أعلمه أن أكثرهم يرون أنه من المباح، وبعضهم يرى أنه مندوب، ولعل القول بالندب هو أولى.
والدليل على أنه غير واجب أنه من باب الظنون، والظنون في الشرع تنقسم إلى أنواع، فالظنون في الاعتقادات ممنوع منعًا تامًّا، والظنون في العمليات واجب العمل بها، وهذا معروف لأن معظم الأحكام العملية الشرعية مأخوذ فيها بالظن الغالب، أما الظنون في الأمور العادية، فإن الأمر فيها يبقى على دائرة الاستواء، فلا يرقى إلى درجة الوجوب، والدليل على ذلك - أيضًا - عمل الصحابة، فكثير من الصحابة أصيبوا بأمراض وبعضهم إما لم يأت بالطبيب، وبعضهم امتنع، وبعضهم رد الطبيب، وهذه حوادث معروفة، ولنا أن نستشهد أو نستأنس بامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يلد بالدواء حينما صار في حالة الاحتضار، فلا نستطيع أن نجزم في هذه الأمور المظنونة بأن نقول: إن المعالجة منها واجبة لأنها كما قلنا مظنونة والحديث نفسه يقول ((تداووا عباد الله فما من داء إلا أنزل الله له دواء، فإذا أصيب دواء الداء)) ، إذا أدرك ووقع الطبيب عليه. إذن الأمر في دائرة الظن، وأحيانًا التداوي فيه من المعاناة وفيه من الشدة أكثر من الداء، فكيف نجبر من به داء ممكن أن يحتمله ويعايشه أن يتداوى؟ نقول له: أنت مندوب لك ذلك، وكما قال الشاعر: وأخف من بعض الدواء الداء.
كذلك ينبغي أن يستثنى ما فيه تعدي الضرر إلى الغير، فإذا كان المرض معديًا أو متلفًا لغيره فهذا يجب عليه لأنه ((لاضرر ولا ضرار)) ، فإذا امتنع عن التداوي يجبر.
هناك أمر يجب أن يراعى أيضًا وهو الفرق بين الإنسان الذي يذهب إلى الطبيب بنفسه، (طبيب مثلًا خاص) ، والذي يتم في المستشفيات التي يعتبر فيها الأطباء موظفين وملزمين بعمل من ولي الأمر، حينما يأمر بالمباح يرقى هذا المباح إلى درجة الواجب، طبعًا ولي الأمر لا يستطيع أن يغير الأحكام وإنما طاعة ولي الأمر واجبة فيصبح هذا المباح في درجة الواجب، فإذا كان الأطباء ملزمين بحسب تعليمات ولي الأمر بأمور يجب أن يراعوا هذه الأمور من باب الواجب الوظيفي الذي يلزمهم.
نقطة ثانية: وهي مسألة بث الأمل في المريض وإبعاد شبح اليأس عنه، هذا طبعًا مطلوب حتى في الحالات التي يتيقن فيها أن سيتلف، وفي ذلك حديث شريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل)) فإن ذلك يطيب نفسه ولا يغير من الأمر شيئًا - معنى الحديث - وهذا طبعًا قاعدة أساسية في هذا الباب، وهذا أيضًا متلائم ومنسجم مع عدم التيقن، فكما نتيقن بعدم الشفاء نتيقن بعدم التلف، فالطبيب هو رجل يبذل جهده، فهو لا يستطيع أن يقول: لا شفاء البتة، ولا يستطيع أن يقول: هناك تلف البتة، فلذلك ينبغي أن يفسح له في الأجل ويدخل عليه أو يديم لديه الأمل.
الحالات الميؤوس منها كما سمعت من الزميل الدكتور محمد عدنان صقال أن كثيرًا من الحالات التي كان يظن أو يجزم بأنها ميؤوس منها كالصرع مثلًا أصبحت الآن في نظر الأطباء مقدورًا على علاجها ومتمكنًا منها، وبعض هذه العلاجات قطعية، فهذه مسألة تحتاج إلى النظر، هل نجعلها في حكم تناول الطعام والشراب وسد الرمق، أم أنها تبقى في دائرة المظنون على النطاق الفردي؟ يعني هذه الحالة أصبحت غير ميؤوس منها كمبدأ، ولكن لا يخفى أن هناك أعراضًا ذاتية متفاوتة بين إنسان وآخر، فضلًا عن أخطاء الأطباء. وفي أخطاء الأطباء يقول أحد الشعراء ليخفف عنهم الحرج:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار
أخيرًا الإذن: ومسألة الإذن هذه، طبعًا، منظمة تنظيمًا كاملًا في الولاية، فهناك ما يسمى ((ولاية التطبيب)) ، ومعروف أن أحكام الولاية على ناقصي الأهلية أو عديميها أن لهم التصرفات النافعة، أو التي تدور بين النفع والضرر، وليس لهم أن يقدموا على تصرف ضار بهذا المولى عليه، فمثلًا هذا الأب الذي أذن بأن يؤخذ من ولده المجنون إلى ولده السوي، هذا مخطئ ومتصرف على عكس ما تقتضيه الولاية، لأن هذا تصرف ضار ضررًا محضًا وهذا ممنوع على الولي لأن مهمته الرعاية والنفع، أو ما يظن أنه فيه نفع ولو كان فيه احتمال الضرر، والله أعلم.
الشيخ عبد القادر العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الإخوة الباحثين على هذه الأبحاث القيمة الطيبة. من ناحية حكم التداوي نستطيع أن نجمع بين الأحاديث - فاختلاف العلماء معروف - لأنه في حالة الخطورة إذا كانت حياة الإنسان مهددة، وهناك ظن غالب، يكون واجبًا، وفي غير ذلك يكون مباحًا، ولا داعي لأن نختلف كثيرًا في هذا الأمر، ونحن اجتمعنا مع بعض الإخوة وهم اتفقوا على هذا الكلام ومنهم علماء كبار.
مسألة أخرى: جاءت في بحث الدكتور محمد علي - حفظه الله - وهي مسألة هل يعتد برضا الإنسان البالغ بالاحتلام أو الحيض؟. هذه النقطة أيضًا في حاجة لبحث المجمع وفي حاجة إلى جواب فيها، لأن المرأة إذا بلغت الحيض على تسع سنوات مثلًا، اختلف العلماء في البلوغ معروف من ناحية السن، الأحناف والجمهور، لكن يلاحظ أن الفقهاء جميعًا أجمعوا على مسألة الاحتلام بالنسبة للذكر، والحيض بالنسبة للأنثى، أريد أن أسأل الأطباء: هل هناك ارتباط بين الإدراك وبين هذه العلامات؟ لأنه أمامنا - أيضًا - في المحاكم - ونحن نحتار - وحصلت حوادث فعلًا، فتاة حاضت وهي في سن تسع سنوات، وعليها مطالبة بالقصاص، عل نقيم حكم الإعدام عليها ونقتص منها وهي بنت تسع سنين؟ أو ذكر وهو ابن اثني عشرة سنة مثلًا؟ نريد من المجمع أن يبحث هذه النقطة ويخرج بقرار لأن هذا تترتب عليه أحكام خطيرة جدًّا.
المسألة التي أريد أن أقول فيها شيئًا وهي مسألة علاج المرأة للرجل وبالعكس الرجل للمرأة: هذه أيضًا عند الحاجة أجازها الفقهاء، وفي كتب الحنابلة أمر معروف ومشهور، ولكن الحاجة تقدر بقدرها، ماذا يرى؟ وماذا يلمس في الجسم؟ فحسب الحاجة ولا يمكن للطبيب أن يتجاوز الحاجة. هذان هما الأمران، وأركز على مسألة البلوغ والاحتلام وأريد من المجمع - إن شاء الله - أن يتوصل إلى رأي سديد في هذا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيح أحمد بن حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد سمعت هذه المداولات والمداخلات في هذه القضية، وحضرني الحديث في بعض النقاط تتعلق ببعض ما سمعته.
أما قضية التداوي:: فأولى ما يصرف إليه نظر الفقهاء في وقتنا هذا هو ما ذهب إليه الأكثرون من أن التداوي ينحصر وجوبه فيما إذا كان ترك الدواء يفضي إلى إتلاف النفس لأن كل واحد أمين على نفسه، ومن أجل المحافظة على النفس أباح الله تبارك وتعالى تناول ما يضطر إليه الإنسان من المحرمات، وهذا الاضطرار لا يتقيد بالمخمصة وإن جاء في القرآن الكريم قوله سبحانه:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] .
ذلك لأن الاضطرار في المخمصة هو الغالب المعتاد وقد قال العلماء: إن المنطوق إذا ورد مورد الأغلب المعتاد فلا ينظر إلى مفهومه أي لا يحتج بمفهومه، والإنسان مأمور بأن يحافظ على حياته وعلى حياة غيره حسب إمكانه، فلو أن أحدًا أصابه نزيف بين أناس آخرين، أليس من الواجب عليهم أن يسعفوه بقدر طاقتهم وقدرتهم؟ فكذلك هذا الذي يتمكن من العلاج، عليه أن يحافظ على نفسه بقدر ما يقدر، ويدخل في هذا الباب كثير من المسائل التي نوقشت، منها معالجة المرأة للرجل ومعالجة الرجل لها، ومع ما ذكره أصحاب الفضيلة المشائخ من القيد، وهو أن يكون ذلك في حالة الضرورة، و ((الضرورة تقدر بقدرها)) ، أرى أن يضم إلى ذلك قيد آخر وهو وجود المحرم لها إن أمكن وجوده، لأجل العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ألا يخلو الرجل بامرأة إلا مع ذي محرم، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة إلا مع ذي محرم)) ، فلا بد من وجود ذي المحرم، هذا مع إمكان وجود ذي المحرم، أما إذا تعذر وجوده، فإسعاف الرجل أو إسعاف المرأة كل منهما أمر واجب مع الضرورة.
العلاج بالمحرمات أيضًا مما يدخل في هذا الباب: وما جاء في الروايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم من منع التداوي بالمحرمات، إنما ذلك فيما كان حرامًا، ومع الاضطرار إلى الحرام لا يكون حرامًا عندما يضطر إليه المضطر هو في حقه حلال، بدليل الآية الكريمة {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . [الأنعام:119]
مسألة نقل الأعضاء: المجمع وصل إلى فتوى في هذه القضية، ولا أريد أن أعيد الكرة مرة أخرى فيها ولكنني أقول: لا بد من أن توضع لها ضوابط، لأن عدم وضع الضوابط لهذه القضية يفضي بكثير من الناس إلى بيع أعضائهم، والإنسان ليس مالكًا لجسمه إنما يملك منفعته، فلا يملك جسمه حتى يتصرف فيه، ومن المعلوم أن في بعض البلاد الفقيرة يبيع الناس أعضاءهم، فهذه القضية لا بد من أن يوضع لها ضوابط حتى لا يتجاوز الناس الحدود فيها، وحتى لا ينقلب الإنسان إلى رقيق يباع ويشترى في الأسواق، تباع أعضاؤه وتشترى في الأسواق، على أن إهمال وضع الضوابط قد يفضي إلى انتهاك حرمات الإنسان، كما سمعنا أن بعض الناس قد يتسرعون إلى أخذ أعضاء المريض عندما ييأسون من حياته، على أن اليأس من الحياة لا يعني موت ذلك المريض، فهناك كثير من الحوادث التي وصلت بالأطباء إلى اليأس، ولكن مع ذلك لطف الله تبارك وتعالى كان أدق من فهم الأطباء وإدراكهم، وأنا بنفسي جاءني ولي أمر فتاة يأمرني بأن أعقد زواجها لشاب، وكان الشاب والفتاة يدرسان معًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد خطبها وأصيبت بمرض سرطان الدم - والعياذ بالله - حتى تساقط شعر رأسها، ولكن من أجل وفاء ذلك الشاب لها أحب أن يقترن بها مع ذلك، فجاءني ولي أمرها وعقدت زواجهما، وقد سمعت أن أقارب الفتاة أخبروا بأنها لن تعيش أكثر من عام، وكان عقد هذا الزواج منذ عشرة أعوام وما سمعت عنها أنها ماتت بل سمعت عنها أنها ولدت أكثر من ولد، والأمر لله سبحانه وتعالى فلا ينبغي للأطباء أن ييئسوا أحدًا من الحياة، لأن الموت والحياة بيد الله سبحانه وتعالى فالطبيب يتكلم في حدود معرفته والغيب لله سبحانه وتعالى، إنما ينظر بحسب الأسباب التي هيئت له ولا يعرف ما وراء الأسباب إنما هو معروف لله سبحانه وتعالى الذي يخلق الأسباب والمسببات، فوضع ضوابط لمثل هذه القضايا لا بد منه، وأسأل الله تعالى التوفيق للجميع، شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
شكرًا، وأذكر الشيخ على أن قرار المجمع الذي صدر بنقل الأعضاء هو مقرون بالضوابط التي توصل إليها المجمع ومنها ما أشرتم إليه.
وبهذا ترفع الجلسة لأداء صلاة المغرب، ثم نعود بعد الصلاة إن شاء الله تعالى.
الشيخ عابد بن محمد السفياني:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد استفدت مما عرضه المشايخ الفضلاء فيما يتعلق بالمسائل المطروحة، ولكني أرى أن هذه المسائل كثيرة، ولذلك هناك من المسائل فيما يتعلق بالتداوي وحكمه، ومن المسائل ما يتعلق بالإذن، وهناك من البحوث ما تطرق إلى مسألة الميؤوس من حياته، وذكرت هناك مسائل لهذه النقطة الثالثة، والظاهر أن منها ما يتعلق بالميؤوس من حياته، ومنها ما يتعلق بالميؤوس من علاجه في ذلك المرض على الخصوص.
ولذلك فإن الأستاذ البار لم يشر إلى هذه المسألة، وهي مسألة الميؤوس من حياته بمسألة موت الدماغ على الخصوص، لأن المجمع قد وصل فيها إلى حكم هو معلوم، ولذلك لا تدخل في مسائل البحث المعروض في هذا اليوم، وأما المسائل الميؤوس من شفائها فإنها لا تتعلق أيضًا بمسائل البحث وهو الميؤوس من حياته.
أما مسألة التداوي والإطالة فيها فإنها على ما فيها من الفائدة، فإن الإخوان عندما يتحدثون عن التداوي، لا بد من ملاحظة أمور كثيرة وهي أمور المسلمين عامة، فإن النصوص التي وردت في التداوي لها مقاصد كما هو معلوم، وتحدث الإخوان عن مسألة التداوي فيما يتعلق بالأمور الضرورية وما يتبعها، ولذلك ذهبوا إلى التفصيل، والرأي القائل بالتفصيل هنا والنظر فيه من حيث الضرورات وما يتبعها، يجعل المسألة واضحة ولا نحتاج إلى ترجيح كثير بين النصوص التي وردت في مسألة وجوب التداوي أو الدالة على أنه من الأمور المباحة.
أيضًا من الناحية العملية لا نحتاج إلى أن نطيل في هذه المسألة كثيرًا، لأننا ندرس من الناحية العملية حالات واقعية، والأصل في الناس طلب التداوي كما هو معلوم، فنحن ننظر في مسائل عملية يحتاجها الطبيب ويحتاجها الإنسان على وجه العموم.
النقطة المهمة في الموضوع هي: استكمال المباحث في مسألة الإذن من الناحية الفقهية الشرعية، فإن التساؤلات التي أثارها الأستاذ البار، تساؤلات مهمة جدًّا تتعلق بها أحكام كثيرة، لكن في الأبحاث التي قدمت ليس هناك تأصيل شرعي كامل فيما يتعلق بمسائل الإذن وما يحتاج إليه الناظرون في هذه المسألة من تقعيد وتأصيل واستكمال لكلام أهل العلم في هذا الباب.
هناك نقطة أشار إليها الدكتور البار وقرأتها في بحثه، ومن المستغرب أنها إلى الآن لم تحظ بالاهتمام المطلوب، وهي مسألة بيع حبوب الحمل، وأرجو أن يهتم الإخوان بها ويهتم المجمع بها، لأن الكفار قد اهتموا بهذه الحالة مع أننا نعلم أن شرائعهم في خصوص المحافظة على العرض ليست شيئًا يذكر في هذا الباب، ومع ذلك فإنهم قيدوها بقيود، وما زالت تباع بين المسلمين، وترتبت عليها مضار كثيرة، ولم يهتم بها العلماء الاهتمام المطلوب، مع أن الضرر الذي ينبني عليها في المال والعرض والنفس ضرر بالغ جدًّا، والشارع لا يهمل مثل هذه الأمور كما هو معلوم، فالذي تواطأ عليه الناس في العالم الإسلامي بيعها بأسعار زهيدة وبدون ضوابط، حتى الضوابط التي جعلها الكفار لأنفسهم لا يلتزم بها في التعامل مع هذه الحبوب، ومعلوم ما يترتب عليها من أخطار. فلا بد من النظر في تحديد الشروط التي تمكن الأفراد من شرائها، مع أن هناك من سيخرج عن هذه القيود وعن هذه الشروط، لكن على الأقل يكون توجه هام وتحديد شرعي بحيث لا يشتريها إلا من يحمل ورقة من الطبيب، وأن يكون بالغًا أو مأذونًا له بحيث تترتب هذه القيود الشرعية، حتى ينكف عن المسلمين من ذلك شر كثير بالغ لا حاجة لي أن أشير إلى كثير من مظاهره فهي معلومة وكثيرة جدًّا.
أكتفي بهذا المقدار، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ أحمد علي طه ريان:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع الذي نتحدث عنه، موضوع العلاج الطبي، فيه جوانب متعددة وفيه نقاط كثيرة حاولت أن أجد الجواب لبعضها ومنها ما يلي:
النقطة الأولى: ما يتعلق بنقل الكلية من أخ مجنون مولى عليه إلى أخ سليم، هذه النقطة كان تكلم فيها الأخ الدكتور عبد الستار وعالجتها بالقاعدة الفقهية المعروفة وهي قاعدة ((المولى عليه إذا كان التصرف نافعًا نفعًا محضًا أو ضارًّا ضررًا محضًا أو كان بين النفع والضرر)) ، لكني أقول فيها تفصيل؛ لأن الولي قد يكون وليًّا أيضًا على الطفل الآخر وعن الأخ الآخر، ففي هذه الحالة تتغير القاعدة، بدل أن نجري عليه القاعدة العامة نجري عليه قاعدة ((ارتكاب أخف الضررين)) بمعنى إذا قال الأطباء: إن نقل الكلية من المجنون إلى الأخ السليم ليس فيه خطورة على الأخ المجنون، وفيها إنقاذ حياة الأخ الآخر الذي هو ليس بمجنون، حينئذ نبقى أمام القاعدة الهامة وهي قاعدة ((ارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما)) . وكما قلت: هذا مقيد بما إذا كان الأطباء قد قالوا: إن نقل الكلية من المجنون إلى الآخر ليس فيه خطورة على حياته، أما إذا كان الأخ الآخر ليس في ولاية الولي بل قد يكون كبيرًا، حينئذ تنتفي هذه القاعدة ونطبق القاعدة التي طبقها الأخ الدكتور عبد الستار وهي القاعدة الثلاثية ((إذا كان التصرف ضارًّا ضررًا محضًا أو نافعًا نفعًا محضًا أو يتردد بين الضرر والنفع)) ، وهذا بالنسبة للنقطة الأولى.
أما النقطة الثانية: وهي حالة ما يقال فيه أو ما يقوله بعض الأطباء من اليأس من حالة الشفاء، هذا رأي طبي صحيح قد يصل إلى مرحلة اليقين بالنسبة للأطباء، لكن لا ينبغي لنا أن نقنط من رحمة الله، وهناك قاعدة شرعية تقول:((لا يترك الأمر اليقيني إلى أمر ظني)) فحياة الإنسان أمر يقيني، مهما قال الأطباء من اليأس من حياته فهو لا يزال في نظري، وبناء عليه فيحافظ على هذه الحياة المؤكدة ويترك ما يقال من اليأس من الشفاء لأن هذه مظنة، والظن لا يلجأ إليه ويترك الأمر المؤكد اليقيني. هذا بالنسبة للنقطة الثانية.
أما النقطة الثالثة: وهي موضوع الاستئذان في التداوي، معلوم أن بعض الحالات لا يحتاج فيها إلى استئذان وهي الحالات التي يصعب أخذ إذن المريض فيها كالإسعافات الضرورية كما يحدث في الحوادث ونحوها. أما الحالات العادية التي يكون الإنسان فيها مريضًا مرضًا عاديًّا ونستطيع أن نأخذ رأيه، ينبغي أن نقف عند إذنه، لأنه قد يكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، في بعض صفاتهم ممن يدخل الجنة بغير حساب، وقال صلى الله عليه وسلم من صفاتهم أنهم:((لا يرقون ولا يسترقون)) ، يعني قد يكون عند المريض استمساك بهذا، فينبغي أن يترك هذا لرأيه وإذنه. ومعلوم كما نحفظ عن سيدنا أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - حين قيل له في مرض موته: أنأتي لك بطبيب؟ فقال: إن الطبيب أمرضني، وأبى أن يؤتى له بطبيب. وكلام الإمام أحمد في ذلك معروف.
النقطة الأخيرة: وهي في حالة التداوي بالمحرمات، الواقع أن هذه المسألة فيها تفصيل عند الفقهاء، هناك نوع من المحرمات لا يجوز التداوي به قطعًا وهو الخمر - ينبغي التفصيل في موضوع المحرمات - الخمر هذه لا يجوز التداوي بها قطعًا، نعم في حالة الإساغة بالغصة معروف قول الفقهاء فيه، لكن في غير ذلك لا يجوز، وقال فيها الإمام عبد الرحمن بن قاسم راوي المدونة لما قيل له في التداوي بالخمر في حالة استعصاء المرض، رفض وقال:(لا تزيده إلا شرًّا) وكذلك روي مثل هذا القول عن الحافظ ابن حجر رحمه الله.
أما التداوي بغير الخمر من المحرمات ففيه الخلاف بين الفقهاء، فمنهم من قال بالجواز ومنهم من قال بعدم الجواز، وهذه يرجع فيها إلى الأطباء، والله تعالى أعلم.
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته الغر الميامين.
عندي أربع نقاط في هذا الموضوع:
أولًا: بالنسبة لحكم التداوي: معلوم أن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى إباحة التداوي، ومنهم الإمام مالك رضي الله عنه في قوله: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه، لكن نرى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قالت له الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوي؟ قال:((نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدًا وهو الهرم)) ، فهذا الحديث - قول النبي صلى الله عليه وسلم ((تداووا)) يشير إلى استحباب التداوي، فهو أمر لكن صرفه عن الوجوب وقائع الأحوال وأقوال للنبي صلى الله عليه وسلم سمعنا بعضها من الزملاء الذين ألقوا أبحاثهم، لكن كلام الفقهاء تبعًا لقواعد الشرع أن التداوي يكون واجبًا إذا غلب على الظن الشفاء وتعين الدواء لهذا المرض، وأولى من هذا إذا قطع الأطباء بوجوب التداوي وإلا أدى إلى الوفاة أو قطعت العادة كحالة الضرورة، ولذلك لو امتنع المضطر عن أكل الميتة مع تمكنه حتى مات فإنه يموت آثمًا - والله أعلم، طبعًا الإثم أمره إلى الله - لأنه من باب إلقاء النفس في التهلكة. ولذلك من الخطأ ما عده كثير من الأصوليين، عدوا من أنواع الرخص، أي من نوع إباحة فعل المحرم (أكل الميتة) وهو في الحقيقة من العزائم لأنه في هذه الحال لا يوجد إلا حكم واحد وهو وجوب الأكل، فهو عزيمة. لكن لا بد أن نفرق بين هذه الحال وحال الامتناع عن العلاج، الامتناع عن العلاج لو غلب على الظن الشفاء به فترك المريض العلاج فمات فإنه يموت غير آثم - إن شاء الله - لأن العلاج والشفاء ليس يقينًا قاطعًا على سبيل الإطلاق. ولذلك لم يعتبره الفقهاء في هذه الحال منتحرًا.
ثانيًا: القضية الثانية قضية التداوي بالمحرم والنجس: الحقيقة أن الموافق لمقتضى القواعد الشرعية ومراعاة لأسلوب التطبيق في هذا العصر هو، قول الشافعية في جواز التداوي بالمحرم إذا تعين طريقًا للشفاء، يستدل لهذا بما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنيين بل أمرهم أن يتداووا بأبوال الإبل.
ثالثًا: القضية الأخرى وهي قضية - في تقديري - مهمة وتحتاج من المجمع إلى أن يدرسها بتفصيل وهي قضية أشار إليها الدكتور البار على طريقة الأسئلة، وهي ما يمكن أن نسميه بالتزاحم في أولوية العلاج، وهذا يحدث كثيرًا في حالات حوادث السيارات وما أشبهها. وذكر الدكتور سؤالًا يريد الجواب عنه وهو قضية الشيخ الكبير المصاب بأنواع من الشلل وجلطة في القلب ولم توجد أجهزة كافية للمحتاجين للعلاج. نقول - يعني - هنا تبعًا لاستحضارنا لبعض القواعد في هذه العجالة، إنه إذا كان الشيخ الكبير أو غيره تحت الأجهزة فهو أولى بالعلاج واستمراره، أما إذا لم يكن تحت العلاج وأحضر جمع من الأشخاص مرة واحدة، ولم يمكن تشخيص أحوالهم، فهنا تبعًا للقواعد إن كان بينهم رحم وعرف فتقدم الأم ثم الأب ثم الأبناء، وإن لم يكن بينهم رحم وأحضروا مرة واحدة فيقدم منهم الأسبق فالأسبق، لكن إن شخصت أحوالهم وغلب على الظن أن بعضهم ميؤوس منه فيقدم غير الميؤوس منه صغيرًا كان أو كبيرًا.
يمكن أن يبتنى هذا الاجتهاد السريع على عدة قضايا:
1-
على أقوال الفقهاء في تقديم حق الأبوين على الزوج عند التعارض وذكروا هذا في حال مرض الأبوين أو أحدهما، ورفض الزوج فيقدم حق الأبوين.
2-
يمكن أن يخرج أيضًا من وجه على تقديم المحافظة على حياة الأم، تقدم على الجنين إذا لم يمكن إخراجه حيًّا إلا بوفاتها لأن حياتها متيقنة وحياته متوهمة.
3-
ممكن أن يخرج على قاعدة (يتحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد) .
4-
ممكن أن يخرج - أيضًا - على قضية (يقدم اليقين على الظن) .
هذه بعض القضايا المهمة - في الحقيقة - والتي لم يسبق أن - كما أعلم - طرحت في مجمع الفقه، ربما أكثر القضايا المطروحة وكثير من الأسئلة سبق الإجابة عنها، ولذلك نقترح أن مثل هذه القضايا التفصيلية يستكتب بها الباحثون المتخصصون مرة ثانية وتعرض في دورة أخرى - والله أعلم -.
الشيخ محمد هشام برهاني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. وبعد:
الحقيقة هنا مداخلة بسيطة في هذا الموضوع تتعلق أولًا بمسألة العلاج الحرام. كل الصور التي سمعناها وذكرت في البحوث تناولت الواجب: المباح: المندوب: لكنها لم تتكلم عن العلاج الحرام، هناك عمليات جراحية تدخل في باب التجميل، جراحات التجميل التي يجريها كثير من الناس لبعض التشوهات أو لمجرد الزينة ولمجرد تغيير الخلق، فهنا يمكن أن يكون مباحًا ويمكن أن يكون مكروهًا ويمكن أن يكون حرامًا، هذا الجانب لم يغط في البحوث ولم تجر فيه مداخلة في هذه الجلسة.
هناك أمر آخر - أيضًا - أرى أنه لا بد أنه يذكر وهو حالة الضمان، حين يترتب على العلاج ضرر إما بسبب خطأ من الطبيب المعالج يقع في نفس المريض، أو بسبب تابع للمريض كالأم الحامل حين تتعاطى دواء فيؤثر على حملها وجنينها، فلا بد أن يذكر - أيضًا - هذا الأمر في جملة البحوث التي تدخل في هذا الموضوع، والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عمر يوسف حمزة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحقيقة لا أريد أن أكرر ما ذكره من تحدث قبلي، وبخاصة في موضوع العلاج وحكم التداوي، لأنني أرى أن هذه المسألة قد شغلت حيزًا كبيرًا من وقت البحوث والمناقشات، ولكني أود أن أشير في هذه المسألة إلى أن حكم العلاج ينزل بحسب الأحوال المختلفة، والإخوة كثير منهم قال: إن العلاج واجب، وبعضهم قال: إن العلاج مباح، وهذا هو الأصل، الأصل في العلاج أنه مباح يعني يجوز الإقدام عليه ليس ممنوعًا منه، هذا في أصله، لكن تعتريه بعد ذلك أحكام معينة بحسب الأحوال، قد يكون مندوبًا وقد يكون واجبًا كما أشار إلى ذلك من سبقوني وبخاصة الأخ الدكتور عبد الستار أبو غدة، فمسألة العلاج لا ينبغي أن تكون مثار نقاش لأنها تنزل على أحوال مختلفة تأخذ في كل حال حكمًا معينًا، ثم مسألة الضرورات هذه ينبغي أن تقدر بقدرها وأن تضبط بحسب الحاجة التي تدعو إليها في مسألة التداوي بالأمور المحرمة عندما يتعين ذلك سببًا للعلاج.
فالموضوع الثاني الذي أريد أن أتحدث عنه بشكل مفصل نوعًا ما هو القضية التي أشار إليها الدكتور البار في مسألة علاج الحالات الميؤوس منها، وبخاصة عندما يصل هذا اليأس إلى درجة كبيرة كما في حالة موت الدماغ أو نحو ذلك.
الدكتور أثار قضية في رأيي أنها لم تحسم في مسألة ترك علاج من كانت هذه حاله، وعقب على ذلك الدكتور الصقال، والحقيقة أنني أثني على ما ذكره الدكتور الصقال وما عقب عليه وأيده أيضًا كلام الشيخ رأفت، لأن هذه المسألة تتعلق بمقاصد الشريعة في الحفاظ على الأنفس من ناحية، ومن جانب آخر - أيضًا - لها علاقة بالجوانب الخلقية وبالجوانب التي اهتمت بها الشريعة من تكريم بني آدم كما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} ، [الإسراء: 70] فإن من يطبق هذه الأمور، ومن ينظر في مسألة علاج الميؤوس منه من عدمه كما أشير إلى ذلك، وأن بعض الجهات تشكل لجنة للنظر في هذه الأمور، وبعض الجهات تتركها مفتوحة، هذه مسألة خطيرة في نظري، وأرى أن المجمع لا ينبغي أن يقول بحال من الأحوال بجواز هذه المسألة، ولا أن يجعلها محلًّا قابلًا للنظر، لأن من يطبقون هذه المسائل مختلفون، فيهم المتشدد وفيهم المتساهل، وفيهم صاحب الدين والخلق، وفيهم العاري من ذلك، والعياذ بالله، وفيهم المهتم وفيهم المتساهل، فإذا تركنا هذا الباب مفتوحًا على مصراعيه أفسدنا كثيرًا، وسنجد أن هناك حالات كثيرة يمكن أن تعالج، نجد أنها لسبب أو لآخر أو لأدنى ملابسة يترك علاجها، ونجد أيضًا في بعض الأحيان أن بني آدم يمتهنون لأقل الأسباب، قد يرى الممرض الذي ينقذ العلاج مثلًا أنه متعب أو منهك وأن هذا المريض الذي يقيم في المستشفى - مثلًا - قد أزعجهم وآذاهم وأنهم دائمًا في كل يوم يسهرون على راحته ويسهرون على علاجه، فقد يصل إلى ملل بسبب هذه الحال، وفيما لو فتحنا الباب فيترك علاجه، ومع اتساع مجال العلاج الطبي وكثرة المرضى وكثرة الطباء وكثرة الصيادلة وكثرة الممرضين، أخشى أننا نقع في مفسدة كبيرة، فلذلك نلتزم القول بعدم جواز ترك العلاج في مثل هذه الحالة حتى ينتهي هذا المريض إلى الموت الكلي الذي يعرفه الناس، وهو مفارقة الحياة ولهذا علامات ظاهرة، فأرجو أن نهتم بهذه القضية وألا نفتح الباب، ودرء المفاسد في الشريعة - كما يقولون - مقدم على جلب المصالح، وهذه قاعدة كلية. وقد جاء أيضًا في الحديث أن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا وكسر عظمه ميتًا ككسر عظمه حيًا، فلذلك لا ينبغي بحال من الأحوال أن نتساهل في مسألة علاج الميؤوس منه. هذه جوانب - ظاهرة عامة - لكن أريد - أيضًا - أن أضيف إليها ما أشار إليه كثير من الإخوة من أن الشفاء بيد الله سبحانه وتعالى وكثيرًا ما انتقلت حالات ميؤوس من علاجها إلى مرحلة الأمل، وخرج كثير من الناس من المراحل الحرجة الخطرة في العلاج بعد اليأس المطبق إلى مرحلة الأمل المشرق، وخرجوا من المستشفيات ونحن نعلم حوادث كثيرة في هذا، فلذلك لا ينبغي بحال من الأحوال فتح هذا الباب ولو لم نفتح الباب ولو لم نحصل من سده إلا على منع الفساد ودرئه، لكان هذا سببًا قويًّا يقتضي أن نقفل هذا الباب حتى لا يعم الفساد. وصلى الله على نبينا محمد.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتبين من خلال المناقشات التي جرت في موضوع (العلاج الطبي) أنها على قسمين، قسم تناولته المناقشات بإفاضة أو باقتضاب، وهو حكم العلاج الطبي، والمريض الميؤوس منه، بحكم إخباره، وعلاج الرجل للمرأة، وعلاج المرأة للرجل، والعلاج بالمحرمات.
وقسم آخر وفيه قضايا مهمة جديدة وجديرة أن يعتني بها المجمع، كالطب التجميلي والتداوي بالروحيات، وحكم التداوي بالرقية من القرآن، أو من غير القرآن إلى غير ذلك من المسائل.
وقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة من أصحاب الفضيلة المشائخ: الشيخ الخليلي، الشيخ عبد الستار، الشيخ عجيل، الشيخ حمزة، والطبيبان البار والصقال، وأن يأخذوا في الاعتبار هذين القالبين:
الأول: ما جرت فيه المناقشة فيستخلصوا ما يمكن الوصول إليه في القرار من خلال ما دار فيها.
والثاني: أن يجعلوا بيانًا في المسائل التي تعطى أولوية النقاش وإعداد البحوث فيها ومناقشتها في دورة أو في دورات لاحقة - إن شاء الله تعالى -.
هذا وإن ما ذكر من أن حكم العلاج فيه أقوال استغرقت أحكام التكليف الخمسة بين التحريم - وهذا قول لا اعتبار له - أو الكراهة أو الوجوب أو الندب أو الإباحة، قد يبدو في هذا وفي حكم إخبار الميؤوس أن هذا مما يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان ولكل حالة لبوسها وهذا مما يتقدر بقدره.
وبالنسبة للميؤوس منه فمعلوم أن الأطباء هم مجتهدون كغيرهم ممن يصدر الأحكام، وكالفلكيين الذين يصدرون الأخبار عن ولادة الشهر، والمجتهد معرض للخطأ والصواب، ولهذا طرق الفقهاء ضمان الطبيب على الخطأ، وكونت (لجان خطأ الأطباء) ومنها في المملكة لجنة قضائية في وزارة الصحة لخطأ الطبيب، وأذكر على سبيل المثال قضية مهمة كانت وقعت في إحدى الجهات، وهو أن طبيبًا قرر الأطباء فيه موت جذع المخ، من ثلاث لجان طبية متعاقبة على مستويات عالية، ثم بعد ذلك سأل الأطباء ورثته عن أن يأخذوا بعض أعضائه، فامتنعوا وأخذوا والدهم إلى بيتهم، وجلس قرابة شهر تحت علاجات بدون أجهزة إنعاش، ثم بعد ذلك شفاه الله سبحانه وتعالى وكنت على سبيل الصدفة دعيت إلى إلقاء محاضرة في زراعة الكلى - وبهذه المناسبة فاصلة بسيطة، لأنها كثيرًا ما دارت على ألسنة الإخوان: الكلية بضم الكاف وإن شئتم لضبطها هي كخصية، كلاهما بالضم - فقدر أن هذا المسؤول الكبير شفاه الله سبحانه وتعالى وأعرف أنه - خبري فيه من مدة عام - أنه لا يزال حيًّا سويًّا. فالطبيب كغيره هو مجتهد والأطباء - كما ذكر الشيخ حمزة - يختلفون في علمهم وفي أمانتهم إلى غير ذلك، فهذه الأمور ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار عندما يقرر رأي في هذا وأنهم كغيرهم ممن يجتهد في إصدار الأحكام من الأطباء والقضاة والمفتين إلى غيرهم ممن يصدرون الأحكام الاجتهادية. وبهذا ترفع الجلسة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 69/5/7
بشأن
العلاج الطبي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((العلاج الطبي)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر:
أولًا - التداوي:
الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من ((حفظ النفس)) الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع.
وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:
- فيكون واجبًا على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.
- ويكون مندوبًا إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
- ويكون مباحًا إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.
- ويكون مكروهًا إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.
ثانيًا - علاج الحالات الميؤوس منها:
(أ) مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله.
وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب في رعايته وتخفيف آلامه والنفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.
(ب) إن ما يعتبر حالة ميؤوسًا من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعًا لظروف المرضى.
ثالثًا - إذن المريض:
(أ) يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتبر إذن وليه حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقًا لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه.
على أنه لا يعتبر بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر.
(ب) لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية.
(ج) في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر لا يتوقف العلاج على الإذن.
(د) لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي (كالمساكين) . ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر.
ولا يجوز إجراء الأبحاث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الأولياء.
والله أعلم.
ويوصي مجلس المجمع:
الأمانة العامة للجميع بالاستكتاب في الموضوعات الطبية التالية لطرحها على دورات المجمع القادمة:
- العلاج بالمحرمات وبالنجس، وضوابط استعمال الأدوية.
- العلاج التجميلي.
- ضمان الطبيب.
- معالجة الرجل للمرأة، وعكسه، ومعالجة غير المسلمين للمسلمين.
- العلاج بالرقي (العلاج الروحي) .
- أخلاقيات الطبيب (مع توزيعها على أكثر من دورة إن اقتضى الأمر) .
- التزاحم في العلاج وترتيب الأولية فيه.
- بحث أنواع من المرض تنتهي غالبًا بعجز الأطباء أو ترددهم في العلاج، وأمثلة ذلك:
* شخص قد استشرى السرطان في جسمه فهل تتم معالجته أم يكتفى بالمسكنات والمهدئات فقط؟
* طفل مصاب باستسقاء كبير في الدماغ (موت الدماغ) مصحوب بأنواع من الشلل والدماغ قد ضمر (لا تزال مناطق من الدماغ تعمل) ، فهل تجري لمثل هذا الطفل العملية؟ وهل إذا أصيب هذا الطفل بالتهاب في الزائدة أو التهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟
* شيخ هرم قد أصيب بجلطة بالقلب ومصاب بنوع من الشلل ثم أصيب بفشل كلوي فهل تتم معالجة الفشل الكلوي بالديلزة (الإنقاذ) ؟ وهل إذا توقف قلبه فجأة تتم محاولة إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يتم علاجه أم يترك؟
* الشخص الذي أصيب دماغه بإصابات بالغة ومع هذا لا تزال بقية من الدماغ تعمل (لم يدخل في تعريف موت الدماغ) وهو فاقد للوعي ولا أمل في تحسن حالته، فهل إذا أصيب مثل هذا الشخص بتوقف في قلبه يتم إسعافه أم يترك؟ وهل إذا أصيب بالتهاب رئوي يعالج؟ ومن هو الذي يقرر التوقف عن العلاج في مثل هذه الحالات أهي لجنة من الأطباء؟ أم لجنة أخلاقية أم الأطباء مع الأهل؟
- بيان موقف الشريعة والسنة من هذه الأحوال والأنواع.
والله ولي التوفيق.