الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
صوم الأسير إذا لم يعرف بدء الشهر أو التبست عليه الأشهر
لا يخلو حال الأسير في معرفته شهر رمضان من حالتين:
الحالة الأولى: أن يعرف شهر رمضان من بين الشهور لكنه لا يعرف بدء الشهر.
الحالة الثانية: أن لا يعرف شهر رمضان من بين الشهور.
فأما الحالة الأولى: إذا لم يعرف بدء شهر رمضان برؤية الهلال أو سؤال من يثق به فإن الواجب في حقه إكمال شعبان ثلاثين يوما، ثم يصوم رمضان ويكمله ثلاثين يوما، ثم يفطر، قال الشوكاني ولا خلاف في ذلك (1) .
يدل على ذلك ما يلي:
1-
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (2) .
2-
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة» (3) .
(1) نيل الأوطار (4/191) وانظر كذلك حاشية الخرشي (3/25) .
(2)
صحيح البخاري مع الفتح كتاب الصيام باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلام فصوموا رقم (1907) .
(3)
أخرجه أبو داود في سننه مع عون المعبود كتاب الصيام باب إذا أغمي الشهر، ح رقم (2323) والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصيام، باب النهي عن استقبال شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، ح رقم (7950) قال البيهقي: وصله جرير عن منصور بذكر حذيفة فيه، وهو ثقة حجة وأخرجه النسائي في سننه بشرح السيوطي كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على حديث منصور، ح رقم (2125) وح رقم (2126) قال النسائي: أرسله الحجاج بن أرطاة وجاء في نصب الراية نقلا عن صاحب التنقيح أن الحديث صحيح ورواته ثقات (2/439) .
وأما الحالة الثانية: أن تلتبس عليه الأشهر فلا يعرف شهر رمضان من بين الشهور، فهل يسقط عنه الصوم أم لا؟
ذهب الجمهور من العلماء أنه لا يسقط عنه صوم رمضان لبقاء التكليف في حقه، وتوجه الخطاب إليه (1) .
وذهب ابن حزم إلى أنه يسقط عنه صوم رمضان إذا أشكل عليه معرفته (2) لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فلم يوجب الله صيامه إلى على من شهده وبالضرورة من جهل وقته لم يشهده قال تعالى: {يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
والذي يظهر أن قول الجمهور هو الراجح، أن صيام رمضان لا يسقط لعدم معرفته الشهر، بل يبقى في ذمته حتى يقدر على صيامه، لأنه أهل للخطاب والتكليف.
إذا تقرر أنه لا يسقط عنه صوم رمضان، فكيف يصومه مع التباس الأشهر عليه؟ اتفق الفقهاء على أنه يجب على الأسير أن يجتهد ويتحرى قدر وسعه في معرفة شهر رمضان (3) وله بعد هذا التحري والاجتهاد حالتان:
الحالة الأولى: أن يغلب على ظنه ويترجح عنده أحد الشهور أنه رمضان.
الحالة الثانية: أن تتساوى عنده الاحتمالات فلا يترجح عنده شيء.
فأما الحالة الأولى: إن غلب على ظنه وترجح عنده أحد الشهور أنه رمضان فإنه يصومه بناء على هذا الظن. ثم له بعد صومه هذا الشهر حالتان:
الأولى: أن لا ينكشف له الحال ويبقى على صومه الذي صامه بناء على اجتهاده وظنه وفي هذه الحالة صومه صحيح ويجزئه عند عامة الفقهاء (4) .
(1) الموسوعة الفقهية (28/84) بدائع الصنائع (2/231) وحاشية الخرشي (3/26) والمجموع (6/296) والمستوعب (3/405، 406) والمغنى (4/423) .
(2)
المحلى بالآثار (4/410) .
(3)
بدائع الصنائع (2/231) والمبسوط (3/59) وحاشية الخرشي (3/6) والفواكه الدواني (1/470) والمجموع (6/296) والأم (2/101) والمستوعب (3/405) والمغنى (4/3) .
(4)
بدائع الصنائع (2/231) وحاشية الخرشي (3/27) والمجموع (6/296) والمغني (4/422) .
لأنه أدى فرضه باجتهاده أشبه المصلي يوم الغيم إذا اشتبه عليه الوقت (1) . وخالف ابن القاسم (2) من المالكية فقال: لا يجزئه لاحتمال وقوعه قبل رمضان، ولا تبرأ الذمة إلا بيقين (3) .
والراجح ما ذهب إليه عامة الفقهاء؛ لأنه غلب على ظنه أنه رمضان بعد اجتهاد وتحري، وغلبة الظن تبنى عليها الأحكام ولم يظهر له خلاف ظنه فيبقى صومه صحيحا حتى يظهر خلاف ذلك.
الثانية: أن ينكشف الحال ويعلم الشهر الذي صامه فله في هذه الحالة أربع صور.
الصورة الأولى: أن ينكشف له الحال أن الشهر الذي صامه كان موافقا لشهر رمضان، وفي هذه الصورة صومه صحيح ويجزئه عند عامة الفقهاء (4) لأنه أدرك مقصوده بالتحري، ولأن المتحري مأمور بالصيام وجازم بنيته (5) .
وخالف الحسن بن صالح (6) وابن القاسم، فقالا: لا تجزئه لأنه صامه على شك كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان (7) .
(1) الكافي في فقه الإمام أحمد (1/392) والمغني (4/422) والمجموع (6/296) .
(2)
هو: أبو عبد الله، عبد الرحمن بن القاسم المصري من أصحاب مالك، وممن نقل الكثير من آرائه له المدونة وعنه أخذها سحنون ثقة أخذ عنه إصبغ وسحنون وغيرهم، أنفق أمولا كثيرة في طلب العلم، توفي بمصر سنة 191هـ انظر شذارات الذهب (1/329) وتهذيب التهذيب (6/227) ت رقم (503) .
(3)
حاشية الخرشي (3/27) .
(4)
بدائع الصنائع (2/231) والمبسوط (3/59) والفواكه الدواني (1/470) وحاشية الخرشي (3/26) والمستوعب (3/405، 406) والمغنى (4/422) والمجموع (6/296) والأم (2/101) .
(5)
المبسوط (2/59) والفواكه الدواني (1/470) والكافي في فقه الإمام أحمد (1/392) والمجموع (6/296) .
(6)
هو: الحسن بن صالح بن حي (واسم حي حيان) بن شفي بن هني، ونسبه البخاري فقال الحسن بن صالح بن حي بن مسلم بن حيان الهمداني الثوري الكوفي، كان سفيان الثوري سيء الرأي فيه، كان يترك الجمعة خلف أئمة الجور ويرى الخروج عليهم، وثقة ابن معين، توفي سنة 169 هـ سير أعلام النبلاء (7/361) وطبقات ابن سعد
…
(6/375) .
(7)
الفواكه الدواني (1/470) والمجموع (6/296) والمغني (4/422) .
ونوقش هذا: بأن الأسير أدى فرضه باجتهاده في محله، فإذا أصاب أجزأه، وفارق يوم الشك، لأن يوم الشك ليس محلا للاجتهاد (1) .
ويظهر أن خلافهما خارج محل النزاع، لأن المسألة التي معنا أنه صام رمضان بغلبة الظن المبني على الاجتهاد والتحري، فلا مدخل للشك هنا. والله أعلم.
الصورة الثانية: أن ينكشف له الحال أن الشهر الذي صامه وافق بعد رمضان، وفي هذه الصورة صومه صحيح ويجزئه في قول الفقهاء (2) لأنه وقع قضاء لما وجب عليه فصح، كما لو علم (3) .
وخالف الحسن بن صالح فقال: لا يجزئه.
لأنه صامه على شك (4) . وقد سبق مناقشة قوله في الصورة الأولى.
وكون الشهر الذي صامه وافق بعد رمضان يكون قضاء، يحتمل أن يكون الشهر الذي صامه بعد رمضان ناقصا وكان رمضان ثلاثين يوما، فيلزمه قضاء ما بقي ليتم عدة رمضان الذي يجب صيامه، ويحتمل أن يكون الشهر الذي صامه بعد رمضان شوال، وفي هذه الحالة يجب عليه قضاء يوم العيد، لأنه يحرم صومه إذا كان رمضان كاملا ثلاثين يوما (5) وكذا لو كان الشهر الذي صامه ذو الحجة يجب عليه صيام يوم عن يوم العيد، لأنه يحرم صومه إذا كان رمضان كاملاً ثلاثين يوماً وثلاثة أيام عن أيام التشريق على القول بحرمة صيامها (6) .
(1) المجموع (6/296) والمغني (4/422) .
(2)
بدائع الصنائع (2/231) وحاشية الخرشي (3/26) والمدونة (1/206) والمجموع
…
(6/296) والأم (2/101) والمغني (4/422) والكافي في فقه الإمام أحمد (1/392) .
(3)
الكافي في فقه الإمام أحمد (1/392) .
(4)
المجموع (6/296) والمغني (4/422) .
(5)
حاشية الخرشي (3/26) والمغني (4/423) والمجموع (6/296) وفقه الصيام د/ محمد هيتو ص 48.
(6)
قال البغوي: اتفق أهل العلم على أن صيام أيام التشريق لا يجوز لغير المتمتع واختلفوا في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم ثلاثة أيام في الحج فمذهب الحنفية، وظاهر مذهب الشافعي لا يجوز، وقول مالك وأحمد يجوز. انظر: شرح السنة (6/352) .
الصورة الثالثة: أن ينكشف له الحال أن الشهر الذي صامه وافق قبل رمضان، فلا يجزئه صومه عن رمضان في قول عامة أهل الفقه (1) لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها (2) .
وقال بعض الشافعية يجزئه، كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله (3) .
ونوقش هذا: بأنه لا يسلم ذلك إلا إذا أخطأ الناس كلهم لعظم المشقة عليهم، أما إن وقع الخطأ من بعضهم لم يجزئه (4) ويظهر أن وقوع الخطأ منهم جميعا بعيد جدا.
الصورة الرابعة: أن يوافق ما صامه بعض من رمضان أو بعده.
فما وافق رمضان أو بعده أجزأه، وما كان قبل رمضان لم يجزئه على ما سبق بيانه وخلاف الفقهاء في ذلك (5) .
الحالة الثانية: إذا اجتهد الأسير وتحرى معرفة شهر رمضان ولم يترجح عنده شيء وتساوت الاحتمالات.
اختلف الفقهاء في هذه الحالة، هل يلزمه الصوم أم لا؟
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن من لم يغلب على ظنه دخول رمضان فإنه لا يلزمه صومه، وإن صامه لم يجزئه وإن وافق رمضان، لأنه صامه على شك (6) .
وذهب المالكية في قول عندهم، أن الاحتمالات إذا تساوت عند الأسير في معرفة شهر رمضانه فإنه يتخير شهرا ثم يصومه، فإن زال الالتباس وكان الشهر الذي صامه بعد رمضان أجزأ، وإن كان قبله لم يجز، حتى وإن وافق رمضان (7) .
(1) بدائع الصنائع (2/231) والمبسوط (3/59) والمدونة (1/206) وحاشية الخرشي
…
(3/26) والمجموع (6/297) والأم (2/101) والمستوعب (3/405) والمغني (4/422) .
(2)
نفس المراجع السابقة في هامش رقم (1) .
(3)
المجموع (6/297) والأم (2/101) .
(4)
المغني (4/423) .
(5)
هناك بعض الصور منها. لو لم يعرف الليل من النهار. يلزمه التحري والصوم ولا قضاء عليه، فلو ظهر أنه كان يصوم الليل ويفطر النهار، وجب عليه القضاء، لأن الليل ليس وقتا للصوم، انظر: مغني المحتاج (2/153) والمجموع (6/298) .
(6)
المجموع (6/296) والمغني (4/423) والذخيرة (2/503) ومواهب الجليل (3/335) .
(7)
حاشية الخرشي (3/26، 27) ومواهب الجليل (3/335) .
وقال أبو حامد (1) من الشافعية: يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين ويلزمه القضاء، كالمصلي إذا لم تظهر له القبلة بالاجتهاد فإنه يصلي ويقضي (2) .
ويمكن مناقشة قول المالكية: بأن الظن معتبر في الأحكام الفقهية، والشك غير معتبر ولا يبنى عليه حكم، فلا يجوز التسوية بينهما.
ونوقش أبو حامد: بأن من لم يعلم دخول رمضان بيقين ولا ظن لم يلزمه صيامه، كمن شك في وقت الصلاة فإنه لا يلزمه أن يصلي، وأما في القبلة فقد تحقق دخول وقت الصلاة وعجز عن شرطها فأمر بالصلاة بحسب الإمكان لحرمة الوقت (3) . واعتذر النووي لأبي حامد، فقال: لعل أبا حامد أراد إذا علم أو ظن أن رمضان قد جاء أو مضى ولم يعلم ولا ظن عينه (4) .
الترجيح
يظهر رجحان قول الجمهور أن الأسير إذا اشتبهت عليه الأشهر واجتهد وتحرى في معرفة رمضان فلم يصل إلى شيء، واستوت عنده الاحتمالات، أنه لا يلزمه الصوم حتى يعلم أو يغلب على ظنه أن هذا الشهر رمضان، لأن الصيام مع الشك لا يجوز، والله أعلم.
(1) هو: أحمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني، درس فقه الشافعي علي ابن المرزبان أقام ببغداد واشتغل بالعلم حتى انتهت إليه رئاسة الشافعية، كان يحضر درسه سبعمائة متفقه، شرح مختصر المزني في نحو خمسين مجلدا وله كتاب في أصول الفقه، توفي سنة 406 هـ رحمه الله. انظر: طبقات الفقهاء الشافعية (1/373) والبداية والنهاية (12/437) . حلية العلماء للقفال (2/184) .
(2)
المجموع (6/299) .
(3)
المجموع (6/299) ، ومغني المحتاج (2/153) .
(4)
المجموع (6/299) .