الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم الأخذ بقول الجمهور يمنع من تساهل الناس في قصر الصلاة وإفطار رمضان في أدنى خروج وأيسره.
وعلى هذا فإن الطيارين الذين يقومون بالدوريات يقصرون الصلاة إذا كانوا في سفر مسافته أربعة برد (ثمانية وأربعون ميلا) تقريبا فأكثر. وإن لم يكن ذلك فلا يجوز لهم القصر (1) والله أعلم.
الفرع الثاني
قصر الصلاة في السفن الحربية الثابتة في البحر
إذا كانت السفن الحربية ثابتة في عرض البحر وقد بعدت عن قواعدها مسافة القصر على ما رجحناه المسألة السابقة، فهل يأخذ المجاهدون على هذه السفن بأحكام السفر ومن ذلك قصر الصلاة ما داموا ثابتين أم ينقطع حكم سفرهم بثبوتهم في عرض البحر؟ لا يخلو حال المجاهدين على هذه السفن أن ينووا الإقامة مدة معينة باختيارهم وهم في حال سلم، أو لا ينووا الإقامة مدة معينة وهم في حال حرب، أو إقامة اضطرارية.
فأما الحالة الأولى: وهي أن ينووا الإقامة مدة معينة باختيارهم وهم في حال سلم وأمن، فقد اختلف الفقهاء في نية الإقامة مدة معينة هل تقطع أحكام السفر أم لا؟ إلى قولين:
القول الأول: أن نية الإقامة مدة معينة تقطع أحكام السفر وعلى هذا لا يجوز الأخذ بأحكام السفر فلا يجوز لهم قصر الصلاة، قال بهذا جمهور الفقهاء من الأئمة الأربعة وغيرهم (2) .
(1) وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالفتوى رقم 1660 في
…
(17/7/97 هـ) من ملف الفتاوى بالشئون الدينية في وزارة الدفاع.
(2)
بدائع الصنائع (1/268) والاختيار للموصلي (1/79) والمعونة (1/270) والمدونة
…
(1/119) وبداية المجتهد (1/172) والمجموع (4/241) والوسيط (2/245) والأم
…
(1/186) والمستوعب (2/391) والشرح الكبير (1/439) والمبدع (2/113) .
ثم اختلف أصحاب هذا القول في مقدار المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها انقطع عنه حكم السفر إلى أقوال:
فذهب الحنفية إلى أن المسافر إذا نوى الإقامة خمسة عشر يوما فأكثر انقطع حكم سفره، وعلى هذا لا يجوز له قصر الصلاة، ولا الأخذ بأحكام السفر الأخرى (1) لكنهم شرطوا أن يكون المكان الذي أقام فيه المسافر صالحا للإقامة، وعلى هذا الشرط لا يصح عندهم أن تكون السفن مكانا صالحا للإقامة، لأن السفن ليست موضعا صالحا للقرار في الأصل.
وعلى هذا يجوز لمن كانوا على السفن أن يأخذوا بأحكام السفر ومن ذلك قصر الصلاة وإن نووا الإقامة (2) . ولا دليل على هذا التفريق.
وذهب المالكية (3) والشافعية (4) ورواية عند الحنابلة (5) إلى أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر أتم صلاته ولم يجز له القصر، ولا فرق بين الإقامة في البر أو البحر. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين في الإقامة بمكة بعد قضاء النسك ثلاثة أيام، بعد أن كان محرما عليهم.
عن علاء بن الحضرمي رضي الله عنه (6) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث للمهاجر بعد الصدر» (7) .
(1) بدائع الصنائع (1/268) والاختيار للموصلي (1/79) .
(2)
بدائع الصنائع (1/271) وتحفة الفقهاء (1/151) .
(3)
المدونة (1/119) وبلغه السالك (1/172)
(4)
المجموع (4/241) والأم (1/186) .
(5)
المغني لابن قدامة (3/148) والإنصاف (2/329) .
(6)
هو: العلاء بن الحضرمي واسم الحضرمي عبد الله وقيل: غير ذلك بن عباد بن أكبر بن ربيعة الحضرمي، وهو من حضرموت، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم البحرين، وأقره أبو بكر في خلافته عليها، ثم عمر، يقال: أنه كان مجاب الدعوة، توفي سنة 14 هـ وقيل سنة 21 هـ انظر: أسد الغابة (3/571) ت رقم (3739) الإصابة (4/445) ت رقم (5658) .
(7)
صحيح البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه، ح (3933) وصحيح مسلم بشرح النووي كتاب الحج، باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر ح (1352) .
وجه الدلالة: أن أقل إقامة للمسافر لا ينقطع بها سفره ثلاثة أيام. قال في الأم: (فأشبه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقام المهاجر ثلاثا حد مقام السفر وما جاوزه كان مقام الإقامة)(1) .
وقال في فتح الباري: (ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر)(2) .
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا حجة في هذا لا بنص ولا بإشارة إلى المدة التي إذا اقامها المسافر أتم. ثم قياس إقامة المسافر على المهاجر باطلة، لأن المسافر أن يقيم أكثر من ثلاث بدون كراهية، بخلاف المهاجر فلا تناسب بين الإقامتين (3) .
وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى أن من نوى إقامة مدة يصلي فيها أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإلا قصر (4) وهي بالأيام أربعة، فإن زاد على ذلك أتم.
واستدل على ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجة الوداع لأربع خلون من ذي الحجة (5) فأقام في مكة أربعة أيام يقصر الصلاة وخرج في اليوم الثامن بعد أن صلى صلاة الصبح إلى مني، فإقامته بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة وعددها عشرون صلاة
(1) الأم (1/186) .
(2)
فتح الباري شرح صحيح البخاري (7/340) .
(3)
المحلى بالآثار لابن حزم (3/218) .
(4)
المستوعب (2/391) والشرح الكبير (1/439) والمبدع (2/113) والكافي في فقه الإمام أحمد (1/231) .
(5)
صحيح البخاري مع الفتح كتاب تقصير الصلاة باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته ح رقم (1085) .
وصبح يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة، فدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة قصر، ومن زاد على ذلك أتم (1) .
ونوقش بأنه لا دليل على أن مدة الإقامة أربعة أيام أو أكثر، فإنه صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة صبح رابعة من ذي الحجة، وكان يصلي ركعتين، ثم لو قدم صبح ثالثة أو ثانية أكان يتم، ويأمر أصحابه بالإتمام؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك (2) .
وذهب ابن حزم إلى أن من أقام عشرين يوما فأقل، فإنه يقصر ولا بد، ومن زاد على ذلك مدة صلاة واحدة فأكثر أتم ولا بد (3) .
لحديث جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك (4) عشرين يوما يقصر الصلاة) (5) .
(1) الكافي في فقه الإمام أحمد (1/231) والمغنى لابن قدامة (3/150) والمسائل الفقهية
…
(1/178) .
(2)
مجموع الفتاوى (24/138) .
(3)
المحلى بالآثار لابن حزم ص 51.
(4)
تبوك: موضع بين وادي القرى والشام، وقيل: بين الحجر وأول الشام، وتقع بين جبل حسمي غربا وجبل شرورى شرقا، توجه إليها النبي صلى الله عليه وسلم سنة 9 هـ وهي أخر غزواته، وهي الآن مدينة سعودية قرب الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية بينها وبين المدينة (680) كيلوا فيها كل المرافق المختلفة. انظر: معجم البلدان (1/17) ت رقم
…
(2445) وتوضيح الأحكام (2/203) .
(5)
أخرجه أبو داود في سننه مع شرحها عون المعبود، كتاب الصلاة، باب إذا أقام بأرض العدو يقصر، ح رقم (1232) وصححه ابن حزم في المحلى (3/221) وصححه النووي، قال في المجموع: رواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم فالحديث صحيح. المجموع
…
(4/240) وأخرجه ابن حجر في بلوغ المرام، باب صلاة المسافر والمريض ح رقم
…
(462) وقال: رواته ثقات، إلا أنه اختلف في وصله، وصححه ابن حبان. انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، باب ذكر الإباحة للمسافر إذا أقام في منزل أو مدينة، ح رقم (2738) .
ونوقش هذا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة لا يقصر أحد الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع (1) .
القول الثاني: عدم التحديد بمدة معينة إذا أقامها المسافر تنقطع عندها أحكام السفر، وإنما الناس مسافر فيترخص برخص السفر، أو مقيم لا يأخذ برخص السفر وهذا قول ابن تيمية، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، والشيخ ابن عثيمين وغيرهما من أهل العلم (2) .
واستدلوا: بأنه لا دليل على التحديد بمدة معينة إذا أقامها المسافر تنقطع عندها أحكام السفر.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فمن جعل للمقيم حدا من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة وإما عشرة وإما اثني عشر وإما خمسة عشر فإنه قال قولا لا دليل عليه)(3) .
وقال في موضع أخر: (والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة بعينها ليس هو أمرا معلوما لا بشرع ولا بلغة ولا بعرف)(4) .
وقال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: لم يحدد الله في كتابه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم المدة التي ينقطع بها حكم السفر. فمن القرآن قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ
(1) زاد المعاد (3/516) .
(2)
مجموع الفتاوى (24/137) والمختارات الجليلة لابن سعدي ص66 والشرح الممتع لابن عثيمين (4/531) .
(3)
مجموع الفتاوى (24/137) .
(4)
المرجع السابق.
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] .
وهذا خطاب عام يشمل كل ضارب، ومن المعلوم أن الضارب في الأرض أحيانا يحتاج إلى مدة، قال تعالى:{وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] فالذين يضربون في الأرض للتجارة مثلا، هل يكفيهم أن يقيموا أربعة أيام فأقل في البلد؟ ربما يكفيهم وربما لا يكفيهم (1) .
ومن السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقام مددا مختلفة يقصر فيها، فأقام في تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة (2) وأقام في مكة عام الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة (3) وأقام في مكة عام حجة الوداع عشرة أيام يقصر الصلاة. سئل أنس رضي الله عنه كم أقمتم في مكة؟ أي في حجة الوداع قال:(أقمنا بها عشرا)(4) .
مناقشة هذا القول:
أولا: ما قاله ابن تيمية رحمه الله يمكن حمله على المسافر الذي أقام وليس له نية إقامة معينة كالمقيم في حال الجهاد أثناء سفره، أو المقيم لحاجة لا يدري متى تنتهي، أو المقيم مكرها، ونحو ذلك.
(1) الشرح الممتع (4/533) .
(2)
سبق تخريجه.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، ح رقم (4298) .
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، كتاب تقصير الصلاة، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، ح رقم (1081) ومسلم بشرح النووي كتاب صلاة المسافرين وقصرها ح رقم (693) .
ويؤيد هذا ما جاء عنه حيث قال: (وأما من قال غدا أسافر أو بعد غد أسافر ولم ينو المقام، فإنه يقصر أبدا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشر يوما يقصر الصلاة وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة)(1) .
ثانيا: استدلال الشيخ ابن عثيمين بالقرآن والسنة نوقش بما يلي:
1-
صحيح أن الآية عامة في عموم الضارب في الأرض، فهي تدل على أن لكل ضارب القصر، وإنما المخالفة في جعل الإقامة نوع من أنواع السفر الذي دل عليه عموم الآية، فالله عز وجل لما علق حكم القصر في الآية على الضارب دون المقيم، والمقيم نقيض الضارب كما قال تعالى:{وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80] . فلا يصح إذا أن تكون الآية دليلا على أمرين متناقضين وهما القصر حال الضرب، والقصر لمن توقف ضربه وصار مقيما (2) .
2-
أن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك وبمكة عام الفتح كانتا بسبب الجهاد وليستا إقامة مقصودة من قبل معلومة البداية والنهاية، أما إقامته بمكة عام حجة الوداع فإنها إقامة مقصودة معلومة البداية والنهاية لمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق بين مكة والمدينة، وكم من الزمن يحتاجه المسافر لقطعه ولمعرفة وقت الذهاب إلى مني، وبهذا حمل الجمهور كل حديث على ما دل عليه (3) .
(1) مجموع الفتاوى (24/17) .
(2)
قصر الصلاة للمغتربين ص (98، 99) .
(3)
مجموع الفتاوى (24/137) والمختارات الجليلة لابن سعدي ص (66) والشرح الممتع لابن عثيمين (4/531) .
فالمدة التي قصر فيها بسبب الجهاد محمولة على أنه لم ينو الإقامة لظروف الجهاد، والمدة التي قصر فيها بسبب الإقامة المقصودة محمولة على القصر أربعة أيام فأقل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في إقامته بمكة في حجة الوداع.
الترجيح
بعد عرض الأقوال وأدلتها ومناقشة الأدلة يظهر أن الراجح قول الجمهور، أن التحديد بمدة معينة إذا نوى المسافر إقامتها تنقطع بها أحكام السفر، فلا يقصر الصلاة، لأن الأصل إتمام الصلاة والقصر إنما هو في حال السفر فإذا انقطع السفر بنية الإقامة انقطعت أحكامه.
والراجح في مقدار مدة الإقامة التي ينقطع بها السفر، هو ما ذهب إليه الحنابلة على المذهب أنه إذا نوى الإقامة باختياره أكثر من أربعة أيام فإن سفره ينقطع لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة بالأبطح (1) أربعة أيام يقصر الصلاة، فمن زاد على أربعة أيام، انقطع سفره، ولأن في ذلك احتياطا في العبادة.
وأما ما ذهب إليه المالكية، والشافعية أن من أقام أربعة أيام فأكثر يتم الصلاة واستدلالهم بمقام النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح، فإن ذلك مبني على أنهم لم يحسبوا يوم الرابع وهو يوم الدخول، ويوم الثامن وهو يوم الخروج، فجعلوا أكثر مدة يقصر عندها ثلاثة أيام تامة. وهذا الإخراج لا دليل عليه.
والمقام في المراسي في البحر كالمقام في البر لا يختلف (2) إلا عند الحنفية، فلم يعتبروا السفن مكانا صالحا للإقامة وسبق بيان قولهم.
(1) مكان معلوم بمكة، والأبطح والبطحاء الرمل المنبسط على وجه الأرض، انظر: معجم البلدان (1/95) ت رقم (131) ومعجم ما استعجم (1/87) .
(2)
الحاوي الكبير (2/375) والأم (1/188) .
إذا تقرر هذا، فإن المجاهدين على السفن الحربية الثابتة في عرض البحر إذا نووا الإقامة باختيارهم وهم في حال السلم أكثر من أربعة أيام فإنهم لا يقصرون الصلاة ولا يترخصون برخص السفر الأخرى، لأن سفرهم قد انقطع بهذه الإقامة، وإن نووا الإقامة أربعة أيام فأقل كان لهم الأخذ برخص السفر ومن ذلك قصر الصلاة، والله أعلم.
أما الحالة الثانية:
وهي: أن المجاهدين على هذه السفن الثابتة في البحر لم ينووا الإقامة مدة معينة، وهم في حال قتال يمكن أن يتحولوا عن أماكنهم في أي وقت حسب ما تدعوا إليه الحاجة، فإن سفرهم في هذه الحالة لا ينقطع بإقامتهم وإن طالت، ولهم قصر الصلاة والأخذ برخص السفر الأخرى، وإقامتهم في البحر كالإقامة في البر في حال الجهاد في سبيل الله، وهذا قول جمهور الفقهاء (1) .
جاء في حاشية الخرشي (2) : (العسكر يقصرون الصلاة بدار الحرب وإن نووا الإقامة مدة طويلة)(3) .
وجاء في المستوعب وغيره: (ومن نوى الإقامة لحاجة لا يعلم أنها تنقضي، كمن ينتظر خروج القافلة، أو استواء الريح إن كان سفره في البحر، أو انفتاح الحصن إن كان محاصرا له بحق، أو انقضاء الحرب إن كان محاربا بحق، قصر أبدا ولو أقام سنتين)(4) .
(1) بدائع الصنائع (1/271) والبحر الرائق (2/234) والمدونة (1/119) وبداية المجتهد
…
(1/172) والمجموع (4/241) والوسيط (2/246) والمستوعب (2/392) والمبدع
…
(2/114) ومجموع الفتاوى (24/17، 18) .
(2)
هو الإمام محمد بن عبد الله بن علي، أبو عبد الله الخرشي المالكي. ولد سنة 1010 هـ وتوفي سنة 1101 هـ له من التصانيف: الدرر السنية على حل ألفاظ الأجرومية، وشرح مختصر الشيخ خليل في الفروع وله الفوائد السنية شرح مقدمة السنوسية. انظر الديباج المذهب لابن فرحون ص 115.
(3)
حاشية الخرشي (2/219) .
(4)
المستوعب (2/392) وانظر: المبدع (2/114) والشرح الكبير (1/441) .
وجاء في المجموع: (إقامة المحارب على القتال بحق فيه قولان مشهوران عند الشافعية أحدها يقصر أبدا)(1) .
واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بما يلي:
1-
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين)(2) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة قصر الصلاة الرباعية طيلة إقامته، لأنه لم ينو إقامة معينة فلا يعلم متى تنتهي الحرب. وقد فهم هذا المعنى ابن عباس رضي الله عنهما حينما سأله رجل فقال: إنا نطيل القيام بالغزو بخرسان فكيف ترى، فقال:(صلى ركعتين وإن أقمت عشر سنين)(3) .
2-
عن جابر رضي الله عنه قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة)(4) .
وجه الدلالة: أنه قصر الصلاة صلى الله عليه وسلم مدة إقامته وهو لم ينو تلك الإقامة، وإنما حالة الحرب دعته إلى أن يقيم هذه المدة.
3-
ولأن الإقامة نية قرار والإقامة في الجهاد ليست كذلك، لأن حال المجاهدين متردد بين القرار والفرار والتحول، فهم في حال كر وفر والحرب سجال ومباغته (5) .
(1) المجموع (4/241) .
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب صلاةالتطوع والإقامة باب في المسافر يطيل المقام في المصر (2/341) ونصب الراية (2/185) والرجل الذي سأل هو أبي حمزة نصر بن عمران.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
البحر الرائق (2/234) والاختيار للموصلي (1/80) .
وذهب الشافعية في قول ثان عندهم (1) ، أن المجاهد كغيره فلا يقصر الصلاة إذا أقام أربعة أيام فأكثر وقد نوى الإقامة، أو لم ينو. وهذا القول مخالف لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، أنه أقام تسع عشر يوما في فتح مكة وعشرين يوما في تبوك يقصر الصلاة. ويمكن حمل هذا القول على حالة السلم إذا نوى إقامة معينة، وبهذا لا يحصل اختلاف مع الجمهور.
وذهب الشافعية في قول ثالث عندهم (2) أنه يقصر المجاهد ثمانية عشر يوما، أو سبعة عشر يوما، فإن زاد على ذلك أتم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح سبعة عشر أو ثمانية عشر يوما يقصر الصلاة (3) .
لكن الصحيح في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح أنها تسعة عشر يوما لما سبق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة)(4) .
(1) المبدع (4/241) والوسيط (2/248) ومغني المحتاج (1/519) .
(2)
الأم (1/187) والحاوي الكبير (2/374) .
(3)
أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب متى يتم المسافر، ح رقم (1229) ورقم (1230) ورقم (1232) عن ابن عباس رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصلاة، باب المسافر يقصر ما لم يجمع مكثا، ح رقم (5458) ورقم
…
(5460) ورقم (5462) .
(4)
سبق تخريجه وجمع بعض أهل العلم بين هذه الروايات بأن من قال تسع عشر عد يوم الدخول والخروج ومن قال: سبعة عشر لم يعد يوم الدخول والخروج ومن قال: ثمانية عشر لم يعد أحدهما، انظر: فتح الباري (2/715) والسنن الكبرى للبيهقي (3/216) .