الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الأول
دعوة العدو إلى الإسلام قبل القتال
سبق في الحديث عن مراحل الجهاد في سبيل الله، أن المرحلة الأخيرة التي استقر عليها أمر الجهاد في سبيل الله، هي قتال الكفار حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية وهم صاغرون (1) .
لكن، هل يقاتلون دون أن يدعوا إلى الإسلام، أم لا بد من دعوتهم أولا؟ لا يخلو حال الكفار من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون دعوة الإسلام لم تبلغهم.
الحالة الثانية: أن تكون دعوة الإسلام قد بلغتهم.
الحالة الأول: أن تكون دعوة الإسلام لم تبلغهم.
لم أجد بين الفقهاء (2) رحمهم الله تعالى فيما اطلعت عليه خلافا أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فإنه يجب دعوته قبل القتال.
قال في بداية المجتهد: (شرط الحرب بلوغ الدعوة باتفاق، فلا يجوز حربهم حتى تبلغهم الدعوة وذلك شيء مجمع عليه من المسلمين)(3) .
(1) راجع مراحل تشريع الجهاد فيما سبق في هذا البحث.
(2)
المبسوط (10/6) وفتح القدير (5/195) والمدونة (2/2) والكافي في فقه أهل المدينة (1/466) والمعونة (1/604) والأم (4/239) وروضة الطالبين (10/239) والمغني (13/29) وكشاف القناع (2/369) .
وقد ذكر الشوكاني قولا ولم ينسبه لأحد أن دعوة الكفار قبل القتال لا تجب مطلقا انظر: نيل الأوطار (7/231) وقد تابع في ذلك الصنعاني في سبل السلام (4/89) قال النووي عن هذا القول: إنه باطل. انظر: شرح صحيح مسلم (11/280) .
(3)
بداية المجتهد (1/389) .
إلا أنه في حالة معالجة الكفار للمسلمين بالقتال، فإنهم يقاتلون في هذه الحالة من غير دعوة لضرورة الدفاع عن الأنفس والأعراض (1) .
واستدل الفقهاء على وجوب دعوة من لم تبلغه الدعوة بما يلي:
1-
عن بريدة (2) رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش، أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:.. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا، فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..)(3) .
وجه الدلالة من الحديث: أنه بدأ صلى الله عليه وسلم بالأمر بدعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم والأمر يقتضي الوجوب فدل على وجوب دعوتهم أولا إذا لم تبلغهم الدعوة.
2-
ولأن بالدعوة إلى الإسلام قبل القتال يعلمون ماذا يقاتلون عليه، فربما ظنوا أن من يقاتلهم لصوصا يريدون أموالهم وسبي ذراريهم فإذا علموا أنهم يقاتلون على الدعوة إلى الدين، ربما أجابوا وانقادوا للحق من غير قتال (4) .
الحالة الثانية: أن تكون دعوة الإسلام قد بلغتهم.
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في هذه الحالة إلى قولين:
(1) زاد المعاد لابن القيم (2/369) والمدونة (2/2) والمعونة (1/604) .
(2)
هو: بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث، الأسلمي المروزي، أسلم عام الهجرة وشهد غزوة خيبر، وفتح مكة، وكان معه اللواء حدث عنه ابنه سليمان، وعبد الله وغيرهما سكن البصرة ثم نزل مرو بخرسان، ومات بها سنة 62 هـ انظر سير أعلام النبلاء (2/469) . ت رقم (91) وأسد الغابة (2/209) ت رقم (398) .
(3)
مسلم بشرح النووي، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الأمراء على البعوث ح رقم
…
(1731) .
(4)
المبسوط (10/6) فتح القدير (5/196) والمعونة (1/604) .
القول الأول: لا يجب دعوتهم إلى الإسلام وقد بلغتهم الدعوة وإنما يستحب ذلك، إلا إذا علم أنهم بالدعوة يستعدون ويتحصنون فلا يدعون.
قال في فتح القدير: (ما لم يعلم أنهم بالدعوة يستعدون أو يحتالون أو يتحصنون..)(1) . وإن غاروا عليهم دون دعوة جاز ذلك.
وهذا قول جمهور الفقهاء (2) .
واستدلوا بما يلي:
1-
عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق (3) وهم غارون وأنعامهم تسقي على الماء فقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية (4)) (5) .
2-
عن سهل بن سعد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه حين أعطاه الراية يوم خيبر (6) انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه..) (7) .
(1) فتح القدير (5/196) .
(2)
المبسوط (10/6) والكفي في فقه أهل المدينة (1/466) وروضة الطالبين (10/239) والمغني (13/30) وكشاف القناع (2/369) .
(3)
بطن شهير من خزاعة وهو المصطلق بن سعيد بن عمرو بن ربيعة، وقيل: المصطلق لقب انظر: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب ص 192 وفتح الباري (5/214) .
(4)
هي: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب الخزاعية المصطلقية، وقعت في السبي يوم غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق فأعتقها وتزوجها صلى الله عليه وسلم ماتت سنة (50هـ) وقيل: 56 هـ انظر: الإصابة (8/72) ت رقم (11008) وتهذيب التهذيب (12/436) ت رقم
…
(2754) .
(5)
صحيح البخاري مع الفتح، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا، ح رقم
…
(2541) ، ومسلم بشرح النووي، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة ح رقم (1730) .
(6)
خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام انظر: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع (2/146) وفتح الباري (7/589) .
(7)
البخاري مع الفتح، كتاب المغازي باب غزوة خيبر ح رقم (4209) .
وجه الدلالة من الحديثين: أن الكفار قد بلغتهم الدعوة وقد أغار عليهم كما في الحديث الأول، فدل على جواز قتال الكفار الذي بلغتهم الدعوة (1) والإغارة عليهم دون دعوة إلى الإسلام، وفي حديث سهل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى الإسلام وقد بلغتهم الدعوة، فدل على استحباب دعوتهم إذا لم يكن في ذلك ضرر على المسلمين.
القول الثاني: يجب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم وإن كانت الدعوة قد بلغتهم وهذا المشهور عند المالكية (2) .
جاء في الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي:
(ودعوا وجوبا للإسلام ثلاثة أيام بلغتهم الدعوة أم لا، ما لم يعاجلونا بالقتال)(3) .
ويمكن أن يستدل لهذا القول: بما سبق من حديث بريدة رضي الله عنه (4) .
وجه الدلالة من الحديث: أن ظاهر الحديث يدل على أن الأمر بالدعوة جاء عاماً يشمل من بلغتهم الدعوة ومن لم تبلغهم.
ويمكن مناقشته: بما سبق من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المطلق)(5) . فهذا الحديث يخصص عموم حديث بريدة.
الترجيح
الذي يظهر أن القول الأول هو الراجح، أنها لا تجب دعوتهم إذا بلغتهم الدعوة، وإنما تستحب لأن فيه جمعا بين الأحاديث التي فيها أمر بالدعوة قبل القتال والتي فيها الإغارة على العدو ثم إن من بلغته الدعوة لم يعد له عذر، لكن استحباب دعوته وتكرارها أفضل إن ترتب على ذلك مصلحة، وإن كانت دعوة العدو يترتب عليها ضرر، بأن يستعد للمجابهة، أو يتحصن ونحو ذلك، فالأفضل عدم الدعوة والله أعلم.
(1) شرح صحيح مسلم للنووي (11/280) وسبل السلام للصنعاني (4/89) وشرح السنة للبغوي (11/8) .
(2)
حاشية الدسوقي (2/176) ويظهر أن المالكية فرقوا بين من يطمع من استجابته فتجب دعوته، ومن لا يطمع في استجابته فلا تجب دعوته، انظر: المدونة (2/2) .
(3)
الشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي (2/176) .
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.