المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيمراحل تشريع الجهاد بالنفس في سبيل الله - أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله عز وجل في الفقه الإسلامي - جـ ١

[مرعي الشهري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد:

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعريف الجهاد، وبيان أنواعه

- ‌المطلب الأولتعريف الجهاد

- ‌المطلب الثانيأنواع الجهاد

- ‌المبحث الثانيمشروعية الجهاد بالنفس في سبيل الله ومراحله

- ‌المطلب الأول: مشروعية الجهاد بالنفس في سبيل الله

- ‌المطلب الثانيمراحل تشريع الجهاد بالنفس في سبيل الله

- ‌المبحث الثالثفضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله

- ‌المبحث الرابعأهداف الجهاد بالنفس في سبيل الله

- ‌المبحث الخامسالتعريف بالمجاهد، وشروطه، وحكم الجهاد في حقه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمجاهد

- ‌المطلب الثانيشروط المجاهد

- ‌المطلب الثالثحكم الجهاد في حقه

- ‌الباب الأولأحكام المجاهد بالنفس في العبادات

- ‌الفصل الأولأحكام المجاهد في الطهارة

- ‌المبحث الأولطهارة المجاهد بالماء وهو جريح

- ‌المبحث الثانيطهارة أعضاء المجاهد المقطوعة

- ‌المبحث الثالثتيمم المجاهد

- ‌المطلب الثانيتيمم المجاهد في الأسر إذا منعه العدو من استعمال الماء

- ‌المطلب الثالثتيمم المجاهد بالغبار

- ‌المطلب الرابعتيمم المجاهد بغير التراب مما هو من جنس الأرضكالرمل والحصى ونحو ذلك

- ‌المبحث الرابعمسح المجاهد

- ‌المطلب الأول: المسح على الخفين ونحوهما

- ‌الفرع الأولالمراد بالخف في اللغة والشرع

- ‌الفرع الثانيجواز المسح على الخفين للمجاهد

- ‌الفرع الثالثمسح الجاهد على الخف المصنوع من غير الجلود

- ‌الفرع الرابعتوقيت المسح على الخفين للمجاهد في سبيل الله

- ‌المطلب الثانيالمسح على الجبيرة

- ‌الفرع الأولمشروعية المسح على الجبيرة

- ‌الفرع الثانيكيفية المسح على الجبيرة

- ‌المسألة الأولى: المسح على جميع أجزاء الجبيرة

- ‌المسألة الثانيةالجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم

- ‌المطلب الثالثمسح المجاهد على ما يوضع على الرأس

- ‌الفصل الثانيأحكام المجاهد في الصلاة

- ‌المبحث الأولأحكام المجاهد في صلاة الخوف، وفيه ثمانية عشر مطلبا:

- ‌المطلب الأولمشروعية صلاة الخوف

- ‌المطلب الثانيشروط صلاة الخوف

- ‌المطلب الثالثوقت صلاة الخوف

- ‌المطلب الرابعكيفية صلاة الخوف

- ‌المطلب الخامسالصلاة على الدواب والآليات إيماء

- ‌المطلب السادسترك التوجه إلى القبلة في صلاة الخوف

- ‌المطلب السابعاشتراط الجماعة لصلاة الخوف

- ‌المطلب الثامنكيفية قراءة الإمام في صلاة الخوف

- ‌الفرع الأول: كيفية قراءة الإمام في صلاة الخوف من حيث السر والجهر

- ‌الفرع الثانيالتخفيف في القراءة

- ‌المطلب التاسعسهو الإمام في صلاة الخوف

- ‌المطلب العاشرقطع الصلاة لسماع صفارات الإنذار

- ‌المطلب الحادي عشرهجوم العدو أثناء الصلاة

- ‌المطلب الثاني عشرالمشي في صلاة الخوف

- ‌المطلب الرابع عشرحمل السلاح في صلاة الخوف

- ‌المطلب الخامس عشرحمل السلاح المتنجس في صلاة الخوف

- ‌المطلب السادس عشرحصول الأمن أثناء صلاة الخوف

- ‌المطلب السابع عشرحصول الأمن بعد صلاة الخوف

- ‌المطلب الثامن عشرالصلاة لخوف ثبت توهمه

- ‌المبحث الثانيأحكام المجاهد في قصر الصلاة وجمعها

- ‌المطلب الأول: قصر الصلاة للمجاهد

- ‌الفرع الأول: قصر الصلاة للطيارين الذين يقومون بدوريات على الثغور

- ‌الفرع الثانيقصر الصلاة في السفن الحربية الثابتة في البحر

- ‌الفرع الثالثقصر الصلاة في السفن الحربية المتحركة في البحر

- ‌الفرع الرابعقصر الصلاة للمجاهد وهو في الأسر

- ‌المطلب الثانيالجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما للمجاهد

- ‌المبحث الثالثأحكام المجاهد في الجنائز

- ‌المطلب الأول: ما يستحق به المجاهد وصف الشهادة

- ‌الفرع الأولالتعريف بالشهيد

- ‌الفرع الثانيموت المجاهد بعد خروجه للجهاد وقبل المعركة

- ‌الفرع الثالثموت المجاهد في الأسر

- ‌الفرع الرابعموت المجاهد بعد انتهاء المعركة

- ‌الفرع الخامسموت المجاهد متأثراً بإصابته في المعركة

- ‌الفرع السادسإذا قتل خطأ من قبل مسلم

- ‌الفرع السابعقتل المجاهد نفسه خطأ

- ‌المطلب الثانيغسل الشهيد

- ‌الفرع الأولغسل الشهيد إذا قتل في ميدان المعركة

- ‌الفرع الثانيغسل الشهيد إذا قتل جنبا

- ‌الفرع الثالثغسل الشهيد يحمل وفيه رمق حياة ثم يموت

- ‌الفرع الرابعغسل الشهيد يحمل ويبقى أياما ثم يموت

- ‌الفرع الخامسغسل الشهيد الملوث بالمواد الكيمائية

- ‌المطلب الثالثتكفين الشهيد

- ‌الفرع الأولفيما يكفن فيه الشهيد

- ‌الفرع الثانينزع الدروع والحديد والخفاف ونحو ذلك عنه

- ‌الفرع الثالثفي كيفية تكفين الشهيد

- ‌الفرع الرابعفي تكفين المجاهد الملوث بالمواد الكيمائية

- ‌المطلب الرابعالصلاة على الشهيد

- ‌الفرع الأولالصلاة على الشهيد إذا قتل في ميدان المعركة

- ‌الفرع الثانيالصلاة عليه إذا حمل وفيه رمق حياة ثم مات

- ‌الفرع الثالثالصلاة عليه يبقى أياما بعد الإصابة ثم يموت

- ‌الفرع الرابعالصلاة على من رجع عليه سلاحه فقتله

- ‌الفرع الخامسالصلاة على من اختلط بموتى الكفار

- ‌المطلب الخامسدفن الشهيد

- ‌الفرع الأولدفنه وعليه شيء من السلاح، والحديد ونحو ذلك

- ‌الفرع الثانيدفن أكثر من شهيد في قبر واحد

- ‌الفرع الثالثنبش قبر الشهيد

- ‌الفرع الرابعإبقاء الشهيد في الثلاجة مدة طويلة

- ‌الفرع الخامسكتابة اسم المجاهد وفصيلة دمهوتعليقها في العنق أو في اليد حتى يعرف

- ‌الفصل الثالثأحكام المجاهد في الزكاة

- ‌المبحث الأولأحكام المجاهد في الزكاة

- ‌المطلب الأولأخذ المجاهد من الزكاة

- ‌المطلب الثانيإخراج الزكاة من مال المجاهد في غيبته

- ‌المبحث الثانيأحكام المجاهد في الصوم

- ‌المطلب الأولإفطار المجاهد في نهار رمضان

- ‌الفرع الأول: إفطار المجاهد المسافر للجهاد

- ‌الفرع الثانيإفطار المجاهد المقيم

- ‌الفرع الثالثإجبار المجاهد على الفطر في نهار رمضان

- ‌المطلب الثانيصوم الأسير إذا لم يعرف بدء الشهر أو التبست عليه الأشهر

- ‌المبحث الثالثأحكام المجاهد في الحج

- ‌المطلب الأولفضل الجهاد على الحج

- ‌المطلب الثانيترك الجهاد للحج بأهله

- ‌الفصل الرابعأحكام المجاهد في باب الجهاد

- ‌المبحث الأولخروج المجاهد للجهاد

- ‌المطلب الأولإذن الإمام في خروجه للجهاد

- ‌المطلب الثانيإذن الوالدين في خروجه للجهاد

- ‌المطلب الثالثإذن الدائن في خروجه للجهاد

- ‌المطلب الرابعإذن القائد في الخروج من المعسكر

- ‌المطلب الخامسخروج المجاهد مع القائد الفاجر

- ‌المطلب السادسخروج النساء مع المجاهد

- ‌المطلب السابعخروج المجاهد بالقرآن إلى أرض العدو

- ‌المبحث الثانيأحكام المجاهد في مواجهة العدو

- ‌المطلب الأولما قبل بدء المعركة والالتحام بالعدو

- ‌الفرع الأولدعوة العدو إلى الإسلام قبل القتال

- ‌الفرع الثانيالإنذار بالهجوم

- ‌الفرع الرابعمعرفة مواقع العدو وقدراته عن طريق الاستطلاع للأخبار

- ‌الفرع الخامسالحرب النفسية والخديعة بالعدو

- ‌المسألة الأولى: الإعلام

- ‌المسألة الثانيةإظهار القوة

- ‌المسألة الثالثةإشاعة الفرقة وبث الرعب بين العدو

- ‌المسألة الرابعةمخادعة العدو

- ‌الفرع السادسالاستعانة بالكفار في قتال العدو

الفصل: ‌المطلب الثانيمراحل تشريع الجهاد بالنفس في سبيل الله

‌المطلب الثاني

مراحل تشريع الجهاد بالنفس في سبيل الله

تمهيد:

لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة إلى المدينة بقتال الكفار، وإنما أمر بالعفو، والصفح وتحمل الأذى، والمجادلة بالتي هي أحسن، والصبر، قال تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} [المزمل: 10] وقال تعالى:

{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1) رحمه الله (فكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورا أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا. قال تعالى في سورة الفرقان وهي

(1) هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المعروف بابن تيمية الحنبلي، ولد بحران سنة 661 هـ، وانتقل مع والده إلى دمشق، فتعلم واشتهر وبرع في الفقه وأصوله والتفسير والحديث وغيرها من العلوم، له مؤلفات كثيرة منها: مجموع الفتاوى، ومنهاج السنة، والاستقامة وغيرها، توفي رحمه الله مسجونا في قلعة دمشق سنة 728 هـ. انظر البداية والنهاية لابن كثير (132/552) الأعلام للزركلي (1/144) .

ص: 35

مكية {فلا تطع- كبيرا} [الفرقان: 52] وكان مأمورا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك

) (1) .

وقال الجصاص (2) رحمه الله: (ولم تختلف الأمة أن القتال كان محظورا قبل الهجرة)(3) .

إذا تقرر هذا فإن الجهاد بالنفس في سبيل الله شرع بعد الهجرة النبوية إلى المدينة وقد نقل ابن حجر (4) في الفتح الاتفاق على ذلك (5) فقال: (.. فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا)(6) .

(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/74) .

(2)

هو: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، على جانب كبير من الفقه والزهد والورع، من مؤلفاته، الفصول في الأصول، وأحكام القرآن، وشرح مختصر الطحاوي وغيرها، توفي رحمه الله في بغداد سنة 370 هـ، انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/220) ت رقم (155) ومعجم المؤلفين (1/205) ت رقم (1499) .

(3)

أحكام القرآن للجصاص (1/311) .

(4)

هو: الحافظ أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي المصري المولد والمنشأ والوفاة المعروف بابن حجر، ولد سنة 773 هـ، محدث وأديب له تصانيف في الحديث والتاريخ والفقه منها: فتح الباري شرح صحيح البخاري، والإصابة في تمييز الصحابة، وشرح الإرشاد في فروع الفقه الشافعي وغيرها، توفي سنة 852 هـ انظر: معجم المؤلفين (1/210) ت رقم (1552) والأعلام للزركلي (1/178) .

(5)

ذكر ابن القيم رحمه الله أن هناك طائفة قالت إن الإذن بالجهاد كان بمكة وغلط هذا القول ورده من وجوه منها:

أ- أنه لم يكن لهم شوكة في مكة يتمكنوا بها من القتال.

ب- أن سياق آية الإذن بالجهاد يدل على أن الإذن كان بعد الهجرة قال تعالى: {الذين أخرجوا- بغير حق..} [الحج: 40] انظر: زاد المعاد (3/70) .

(6)

فتح الباري (6/46) ونيل الأوطار للشوكاني (7/209) .

ص: 36

وجاء في تفسير ابن كثير (.. وإنما شرع الله الجهاد في الوقت الأليق به، لأنهم لما كانوا في مكة كان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمون وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم.. فلما استقروا بالمدينة، وأفاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه شرع الله جهاد الأعداء..)(1) .

وقد تدرج الجهاد بالنفس في سبيل الله في ثلاث مراحل هي:

المرحلة الأولى: إباحة القتال في سبيل الله دون أن يفرض (2) .

يدل على هذه المرحلة قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40] .

قال غير واحد من السلف، هذه أول آية نزلت في الجهاد (3) .

ووجه الدلالة من الآية: أن الإذن معناه الإباحة، والمباح هو: ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل (4) .

(1) تفسير القرآن العظيم (3/219) لابن كثير وهو: الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي، برع في الفقه، والتفسير والنحو، واشتغل بالحديث، من مؤلفاته، البداية والنهاية، وجامع المسانيد وتفسير القرآن العظيم، وغيرها، توفي رحمه الله بدمشق سنة 774 هـ. الأعلام للزركلي (1/320) ومعجم المؤلفين

(1/373) ت رقم (2778) .

(2)

أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية. د/ علي بن نفيع العلياني ص 142.

(3)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/218) .

(4)

أحكام القرآن لابن العربي (3/300) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/12) .

ص: 37

فهذه المرحلة لك أن تقاتل الأعداء، ولك أن لا تقاتلهم ولا شيء عليك، وهذه مرحلة إعداد وتهيئة للمرحلة التالية لها، وهي المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية:

الأمر بقتال من قاتل المسلمين من الكفار والكف عمن كف عن قتالهم (1) ويمكن أن تسمى مرحلة الدفاع (2) .

(1) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ص 143.

(2)

توقف عند هذه المرحلة بعض من كتب عن الجهاد وخاصة في هذا العصر وجعلوها المرحلة النهائية للجهاد ومن ثم قالوا: إن الجهاد للدفاع فقط ومنهم على سبيل المثال الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه السياسة الشرعية ص 74 وسيد سابق في كتابه فقه السنة (3/119) ، وظافر القاسمي في كتابه الجهاد والحقوق الدولية العامة ص 172 والدكتور/ سعيد رمضان البوطي في كتابه الجهاد في الإسلام. وغيرهم واستدلوا بأدلة هذه المرحلة.

وقد رد العلماء على من حصر الجهاد في سبيل الله على الدفاع فقط. انظر على سبيل المثال في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب رحمه الله عند تفسير سورة التوبة، والشيخ صالح اللحيدان في كتاب الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع، وعبد الملك البراك في كتابه ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد وغيرهم كثير لا يتسع المجال لبسط ردودهم هنا.

ويمكن مناقشة استدلال من حصر الجهاد على الدفاع فقط: بأن هذه مرحلة من مراحل تشريع الجهاد أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله، والكف عمن كف عنه، ثم جاءت المرحلة الأخيرة بعد نزول سورة براءة بقتال الكفار مطلقا حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ويخضعوا لحكم الإسلام جاء في الصارم المسلول لابن تيمية عن الزهري (كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل براءة يقاتل من قاتله ومن كف يده عاهده وكف عنه) ص 137. وما نذكره في المرحلة الأخيرة من مراحل تشريع الجهاد من الأدلة من الكتاب والسنة واتفاق الفقهاء على أن الجهاد ليس للدفاع فقط ما يكفي على رد مثل هذا القول. وسيأتي ذلك قريبا إن شاء الله.

ص: 38

يدل على هذه المرحلة ما يلي:

1-

قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] .

فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى بقتال من قاتلهم من الكفار، والكف عمن كف عنهم (1) .

2-

قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90] .

أي: إن اعتزلوكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عنهم وألقوا إليكم السلم، فإن الله لم يجعل لكم عليهم طريقا فلا تعرضوا لهم (2) .

ويدل على هذه المرحلة من السنة:

ما جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة، فعند قدومه إلى المدينة لم يبدأ بقتال، وإنما كان يوادع، ويتألف الناس حتى اليهود، ولم يعهد أنه قاتل عدوه وهو لم يقاتله (3) .

وقد كتب بينه وبين اليهود كتابا جاء فيه (.. وإنه من تبعنا من اليهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم

) (4) .

(1) جامع البيان للطبري (2/195) .

(2)

جامع البيان للطبري (4/201) .

(3)

زاد المعاد (3/65) وص (159) والصارم المسلول لابن تيمية ص 137.

(4)

زاد المعاد (3/65) وسيرة ابن هشام (2/502) .

ص: 39

هكذا كانت هذه المرحلة، مرحلة دفاع ومعاهدات وتألف للناس، فلما قوي أمر المسلمين وكثر جمعهم وقويت نفوسهم بما شاهدوه من نصر الله في بدر وغيرها، جاءت المرحلة الحاسمة والنهائية في مراحل تشريع الجهاد بالنفس، وهي المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة: الأمر بقتال جميع الكفار وابتداؤهم بالقتال أينما كانوا حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (1)

عن يد وهم صاغرون (2) ويخضعوا لحكم الإسلام، ويدخلوا في حماية المسلمين.

ويدل على هذه المرحلة الكتاب، والسنة، ويؤيد ذلك أقوال الفقهاء من الأئمة الأربعة، وغيرهم.

أولا: من الكتاب:

1-

قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] .

(1) جاء في المصباح المنير: الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة والجمع جزي ص 100.

وفي كشاف القناع: (مأخوذة من الجزاء وهي: مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا)(2/434) .

وقد اتفق الفقهاء أن الجزية تقبل من أهل الكتاب دون غيرهم. واختلفوا في غيرهم فالحنفية قالوا: تؤخذ الجزية من جميع الكفار إلا مشركي العرب فلا تقبل منهم، والمالكية قالوا: تؤخذ من جميع الكفار إلا كفار قريش، وقال الشافعية، والحنابلة: تؤخذ من أهل الكتاب دون غيرهم، وقال ابن حزم: تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس، انظر في ذلك بدائع الصنائع (6/78) وتحفة الفقهاء (3/307) والمقدمات (1/376) والحاوي الكبير (14/284) وكشاف القناع (2/435) والمحلى بالآثار (5/413) .

(2)

الصغر والصغار هو: الذل والهوان، والصاغر الرضي بالذل والضيم، انظر لسان العرب (4/459) مادة (صغر) .

ص: 40

والمعنى: فاقتلوهم حيث ثقفتموهم من الأرض، في الحرم وغير الحرم، وفي الأشهر الحرم وغيرها، وأسروهم، وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ومن دخول مكة، واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم وأسرهم من قاتلنا منهم ومن لم يقاتلنا (1) .

2-

وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .

هذه الآية أمر بقتال الكفار وخص أهل الكتاب لكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع خصوصا محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته، فلما أنكروا تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، ثم القتال إلى أن يسلموا، أو يعطوا الجزية بدل القتل (2) .

3-

وقوله سبحانه {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] .

المراد بالفتنة: الشرك والكفر.

والمعنى: إن انتهوا عن الشرك والكفر، إما بالإسلام، أو إعطاء الجزية، فكفوا عنهم (3) .

(1) جامع البيان للطبري (6/320) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/89) وأحكام القرآن للجصاص (1/313) .

(2)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/332) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/101) .

(3)

الجامع لأحكام القرآن (2/351) وجامع البيان للطبري (2/200) وتفسير القرآن العظيم (1/216) و (2/296) .

ص: 41

ثانيا: السنة.

الأدلة من السنة على هذه المرحلة كثيرة منها:

1-

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (1) .

2-

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال (2) لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل..» (3) .

ثالثا: أقوال الفقهاء من الأئمة الأربعة وغيرهم.

اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على ابتداء الكفار بالقتال وإن لم يبدؤنا وعلى قتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، ويدخلوا في حماية المسلمين.

جاء في أحكام القرآن للجصاص (ولا نعلم خلافا بين الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين..)(4) .

(1) سبق تخريجه.

(2)

الدجال: الكذاب المموه انظر المصباح المنير ص 189.

وشرعا: رجل مموه يخرج في أخر الزمان يدعي الربوبية وخروجه ثابت بالسنة والإجماع. انظر: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص 56.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب الغزو مع أئمة الجور، ح رقم (2532) وفي سنده يزيد بن أبي نشبه في معنى المجهول. انظر نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي (3/377) .

(4)

أحكام القرآن للجصاص (2/278) .

ص: 42

وجاء في اللباب شرح الكتاب (وقتال الكفار واجب، وإن لم يبدؤنا للنصوص العامة)(1) . وفي مختصر المزني (فمن كان منهم أهل أوثان، أو من عبد ما استحسن غير أهل الكتاب، لم تؤخذ منهم الجزية، وقوتلوا حتى يقتلوا، أو يسلموا ومن كان منهم أهل كتاب قوتلوا حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(2) .

وفي المغنى لابن قدامة: (ويجب في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم..)(3) .

ويقرر ابن القيم (4) رحمه الله أن هذه المرحلة من مراحل الجهاد بالنفس في سبيل الله هي آخر ما استقر عليه الأمر في الجهاد بالنفس فيقول (ولما نزلت سورة براءة.. أمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب، حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام،

(1) اللباب في شرح الكتاب (4/115) وانظر المبسوط للسرخسي (10/2) .

(2)

مختصر المزني ص (270) والمزني هو: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني، صاحب الإمام الشافعي وناصر مذهبه من مؤلفاته: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمنثور، وغيرها، توفي رحمه الله في مصر سنة 264 هـ انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (1/196) . والأعلام (1/329) .

(3)

المغنى لابن قدامة (13/8) وابن قدامة هو: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الملقب بموفق الدين، من أئمة المذهب الحنبلي في زمانه، من مؤلفاته المغني والكافي والمقنع والعمدة وغيرها، توفي بدمشق سنة620 هـ رحمه الله انظر الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب (4/133) ، ت رقم (272) ، (والأعلام (4/67)) .

(4)

هو: الإمام الحافظ، شمس الدين أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الدمشقي المشهور بـ ابن قيم الجوزية ولد في بيت فضل وعلم سنة 691 هـ في دمشق ونهل من شتى العلوم وبرع في التفسير والحديث ولازم شيخه ابن تيمية ونهل من علمه/ من مؤلفاته. إعلام الموقعين، وإغاثة اللهفان، ومدارج السالكين، وغيرها كثير. توفي رحمه الله سنة 751 هـ بدمشق انظر: البداية والنهاية (14/659) وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/447) ت رقم (551) .

ص: 43

وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم.. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم.. فاستقر أمر الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة والمحاربون له خائفون منه فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب..) (1) .

وجاء في ظلال القرآن لسيد قطب (2) رحمه الله في معرض بيان مراحل الجهاد والرد على من يقول: إن الجهاد للدفاع فقط (والسمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية، فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، لا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا

(1) زاد المعاد (3/159) .

(2)

هو: سيد بن قطب بن إبراهيم مفكر إسلامي، ولد في أسيوط بمصر سنة 1324 هـ، وتخرج في كلية دار العلوم وعمل في جريدة الأهرام، ثم مدرسا للغة العربية ثم موظفا في ديوان وزارة المعارف، وابتعث إلى أمريكا لدراسة برامج التعليم ولما عاد انتقد البرامج المصرية، وكان يراها من وضع الإنجليز وطالب ببرامج إسلامية، ثم استقال وانضم إلى الإخوان المسلمين، فسجن ثم أعدم سنة 1387 هـ من مؤلفاته: النقد الأدبي والعدالة الاجتماعية، ومشاهد القيامة في القرآن، ومعالم في الطريق وغيرها. انظر الأعلام للزركلي (3/147) ومعجم المؤلفين (1/804) ت رقم (5961) .

ص: 44

يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون وهم مهزومون: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع) .

ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلا بتخليته عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد لا يقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة.. بعد تحطم الأنظمة السياسية، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها (1) .

ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (2) رحمه الله (الطور الثالث: جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله.. ثم يقول: وهذا هو الذي استقر عليه أمر الإسلام، وتوفي عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل

(1) في ظلال القرآن لسيد قطب (3/1432) .

(2)

هو: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز، ولد بمدينة الرياض سنة 1330 هـ فقد بصره وهو في العشرين من عمره، حفظ القرآن الكريم قبل البلوغ، تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض، ولازم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وأخذ عنه العلوم الشرعية ما يقارب عشر سنوات. تولي عدة أعمال منها: القضاء والتدريس ورئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم عين رئيسا عاما لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ثم مفتيا عاما للمملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء، وبقي في هذا العمل إلى أن توفي رحمه الله يوم الخميس 27 محرم 1420 هـ له مؤلفات عدة منها: الفوائد الجلية في المباحث الفرضية، والتحذير من البدع، والعقيدة الصحيحة وما يضادها، والدروس المهمة لعامة الأمة، وغيرها. انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (1/9) وانظر كذلك: الإنجاز في ترجمة الإمام عبد العزيز بن باز لعبد الرحمن بن يوسف.

ص: 45

الله فيه قوله عز وجل في سورة براءة وهي آخر ما نزل {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] ) (1) .

إذا تقرر بما تقدم من أدلة الكتاب الكريم والسنة المطهرة وأقوال الفقهاء أن المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد في سبيل الله بالنفس هي قتال الكفار مطلقا وغزوهم في بلادهم وإن لم يقاتلونا حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية ويخضعوا لحكم الإسلام، ويدخلوا في حماية المسلمين.

إذا تقرر هذا، فإن هذه المرحلة ليست ناسخة لما سبقها من مراحل الجهاد (2) وإنما هذه المرحلة الأخيرة يصار إليها إذا كان المسلمون في قوة وعندهم الاستطاعة على قتال الأعداء، أما إذا كانوا في حالة ضعف، فإن لهم أن يعملوا بما يناسب حالهم من مراحل الجهاد من المدافعة والمصالحة مع الأعداء، حتى تتغير أحوالهم.

(1) فضل الجهاد والمجاهدين للشيخ بن باز رحمه الله ص25.

(2)

ما ذكره علماء السلف أن سورة براءة آخر ما نزل وأن آيات الأمر بالجهاد فيها ناسخة لما سبق من المراحل لا يعني ما فهمه المتأخرون من علماء الأصول من أن النسخ: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخ. وإنما يعنون بالنسخ معنى عاما يشمل تقييد المطلق وتخصيص العام وبيان المبهم والمجمل، وبهذا يظهر أن الخلاف في معنى النسخ لا في كون مراحل الجهاد قبل المرحلة الأخيرة منسوخة، وأنه لا ثمرة لهذا الخلاف، لأن الجميع يلتقون في جواز العمل بمراحل الجهاد حسب ما تقتضيه مصلحة الأمة. والله أعلم، انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/29) والموافقات للشاطبي (3/81) ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص 548، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 122 وشرح الكوكب المنير لابن النجار (3/526) وشرح مختصر الروضة للطوفي (2/251) .

ص: 46

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون)(1) .

ويقول سيد قطب رحمه الله: (إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة، ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد عن طريق الاجتهاد المطلق أي الأحكام هو أنسب للأخذ به.. مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها متى أصبحت الأمة الإسلامية في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول سورة التوبة، وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة المشركين، أو أهل الكتاب)(2) .

ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله (وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن الطور الثاني لم ينسخ بل هو باق يعمل به عند الحاجة إليه، فإذا قوي المسلمون واستطاعوا بدء عدوهم بالقتال وجهاده في سبيل الله فعلوا ذلك عملا بآية التوبة وما جاء في معناها، أما إذا لم يستطيعوا ذلك فإنهم يقاتلون من قاتلهم واعتدى عليهم ويكفون عمن كف عنهم عملا بآية النساء وما ورد في معناها، وهذا القول أصح وأولى من القول بالنسخ)(3) .

(1) الصارم المسلول لابن تيمية ص 244.

(2)

في ظلال القرآن (3/1580) .

(3)

فضل الجهاد والمجاهدين ص 26.

ص: 47