الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
إذن الدائن في خروجه للجهاد
المجاهد المدين له مع الجهاد حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الجهاد متعينا في حقه.
الحالة الثانية: أن يكون الجهاد غير متعين في حقه.
فأما الحالة الأولى: أن يكون الجهاد متعينا في حقه.
فلا خلاف فيما أعلم بين الفقهاء (1) رحمهم الله تعالى أنه لا يشترط إذن الدائن لخروج المجاهد للجهاد، سواء كان الدين حالا، أم لا، وسواء كان معسرا، أم موسرا.
والأدلة على ذلك ما يلي:
1-
قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] .
وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بالخروج للجهاد خفافا وثقالا، وجاء في معنى {خِفَافًا وَثِقَالا} أي: فقراء وأغنياء إذا تعين عليهم الجهاد (2) . فلا يشترط إذن المدين.
2-
ولأن الجهاد إذا كان فرض عين لا يحتمل التأخير وقضاء الدين يحتمل، والضرر في ترك الخروج أعظم من الضرر في الامتناع عن قضاء الدين، لأن الضرر في ترك الخروج يرجع إلى كافة المسلمين فالواجب الاشتغال بدفع أعظم الضررين (3) .
(1) شرح السير الكبير (4/212) والفتاوى الهندية (2/190) والمقدمات الممهدات
…
(1/351) وحاشية العدوى بهامش حاشية الخرشي (4/11) وروضة الطالبين (10/214) ومغني المحتاج (6/22) والمغني (13/28) وكشاف القناع (2/373) .
(2)
الجامع لأحكام القرآن (8/136) وجامع البيان للطبري (6/377) تبيين الحقائق (3/242) والكافي في فقه أهل المدينة المالكي (1/462) .
(3)
شرح السير الكبير (4/212) .
3-
ولأن الجهاد إذا تعين يعتبر فرضا وتركه معصية (1) .
الحالة الثانية: أن يكون الجهاد غير متعين في حقه.
وفي هذه الحالة لا يخلو الدين من صور:
الصورة الأولى: أن يكون الدين حالا عليه، وفي هذه الصورة لا يخلو المدين الذي حل عليه الدين أن يكون موسرا أو معسرا.
فإن كان موسرا فلا خلاف - فيما أعلم - بين الفقهاء أنه ليس للمدين الموسر الذي حل عليه الدين أن يخرج للجهاد بغير إذن الدائن حتى يقضي الدين، أو يترك وفاءه، أو يقيم كفيلا (2) .
والأدلة على ذلك ما يلي:
1-
عن أبي قتادة (3) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فضل الجهاد فقام رجل فقال: يا رسول الله أرايت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر. إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك» (4) .
(1) كشاف القناع (2/373) .
(2)
البحر الرائق (5/121) وحاشية ابن عابدين (6/204) وبلغة السالك (1/356) والذخيرة (3/395) وروضة الطالبين (10/210) والأم (4/163) والحاوي الكبير
…
(14/121) والمغني (13/27) والمبدع (3/315) .
(3)
هو: الحارث وقيل: النعمان، وقيل اسمه: عمرو والأول أشهر بن ربعي بن بلدمة الأنصاري الخزرجي اتفقوا على أنه شهد أحدا وما بعدها، واختلفوا في شهوده بدرا، كان يقال له. فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بالكوفة، وقيل: بالمدينة سنة 54 هـ على الأرجح. انظر الإصابة (7/272) ت رقم (10411) وتهذيب التهذيب (12/224) ت رقم (945) .
(4)
صحيح مسلم مع شرح النووي، كتاب الإمارة باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين ح رقم (1885) .
وجه الدلالة من الحديث: أن الدين من حقوق الآدميين، والجهاد والشهادة في سبيل الله لا يكفره (1) فدل على وجوب قضائه قبل الخروج للجهاد أو استئذان صاحب الحق.
2-
ولأن فرض الدين متعين عليه والجهاد على الكفاية، وفروض الأعيان مقدمة (2) .
3-
ولأن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس، فيفوت الحق بفواتها (3) .
إما إن كان معسرا والدين حالا عليه، فقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى هل يستأذن الدائن أم لا؟ إلى قولين.
القول الأول: يشترط إذن الدائن في الخروج للجهاد.
وهو قول الحنفية (4) والحنابلة (5) ووجه عند الشافعية (6) وقول بعض المالكية (7) واستدلوا بما يلي:
1-
حديث أبي قتادة السابق ذكره قريبا (8) .
2-
ولأن الجهاد يقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها (9) ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز بغير إذن الدائن.
(1) شرح صحيح مسلم (13/33) .
(2)
الحاوي الكبير (14/121) .
(3)
المغني (13/28) .
(4)
البحر الرائق (5/121) وحاشية ابن عابدين (6/204) .
(5)
المغني (13/27) وكشاف القناع (2/372) .
(6)
روضة الطالبين (10/210) وحاشيتا قليوبي وعميرة (4/328) .
(7)
وهو قول ابن عبد البر كما في الكافي (1/464) وانظر: الفواكه الدواني (1/627) .
(8)
سبق تخريجه.
(9)
المغني (13/28) والحاوي الكبير (13/121) .
القول الثاني: لا يشترط إذن الدائن في الخروج للجهاد إذا حل عليه الدين وهو معسر، وبهذا قال المالكية (1) والشافعية على الصحيح (2) .
ويمكن أن يستدل لهم بما يلي:
1-
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر بإنظار المعسر وهي عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر (3) والمجاهد المعسر بدين حال من جملة الناس فينظر ولا يمنعه ذلك من الخروج للجهاد.
ونوقش هذا الدليل: بأن الجهاد يقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها (4) بخلاف إنظار المعسر إلى حين الميسرة في حال الأمن، فليس فيه فوات للحق.
2-
واستدلوا كذلك بأن المعسر لا تتوجه له المطالبة بالدين في الحال (5) .
ويمكن مناقشته بما نوقش به الدليل السابق.
الترجيح
الذي يظهر رجحان القول الأول الذي يشترط إذن الدائن في خروج المجاهد للجهاد إذا كان معسرا، والدين حالا عليه، والجهاد في حقه غير متعين، لما سبق من حديث أبي قتادة، وأن الدين لا يكفره شيء حتى الشهادة في سبيل الله، ولأنه بخروجه للجهاد يعرض نفسه للخطر فيفوت الحق بفوات نفسه، والله أعلم.
(1) الذخيرة (3/395) والمقدمات لابن رشد (1/351) وحاشية الخرشي (4/11) .
(2)
روضة الطالبين (10/210) وحاشيتا قليوبي وعميرة (4/328) ومغني المحتاج (6/20) .
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/354) .
(4)
المغني (13/28) وكشاف القناع (2/372) .
(5)
روضة الطالبين (10/210) ومغنى المحتاج (6/20) .
الصورة الثانية: أن يكون الجهاد غير متعين عليه والدين مؤجلا.
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في هذه الصورة إلى قولين:
القول الأول: لا يجوز له الخروج إلى الجهاد دون إذن الدائن، إلا أن يترك وفاء لدينه، أو يقيم كفيلا يقضي عنه، أو يوثق الدين برهن.
وبهذا قال الحنابلة على المذهب (1) وهو وجه عند الشافعية (2) .
واستدلوا بما يلي:
1-
أن عبد الله بن عمرو بن حرام (3) رضي الله عنه خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد (4) وقضاه عنه ابنه بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينكر فعله، بل مدحه (5) وقال:(ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه)(6) وجه الدلالة: أن عبد الله بن حرام أقام ابنه جابرا كفيلا يقضي عنه دينه فجاز له الخروج وعليه دين.
جاء في أسد الغابة: (ولما أراد يخرج إلى أحد دعا ابنه جابرا فقال: يا بني إني لا أراني إلا مقتولا في أول من يقتل.. وإن علي دينا فاقض عني ديني)(7) .
(1) المغني (13/27) وكشاف القناع (2/372) والإنصاف (4/122) .
(2)
روضة الطالبين (10/211) والوسيط في المذهب (7/9) .
(3)
هو: عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة، الأنصاري الخزرجي السلمي، شهد العقبة وبدر، واستشهد يوم أحد. انظر: الإصابة (4/162) ت رقم (4856) وأسد الغابة
…
(3/242) ت رقم (3084) .
(4)
صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الاستقراض، وأداء الديون باب إذا قضي دون حقه، أو حلله فهو جائز، ح رقم (2395) ولفظه عن كعب بن مالك (أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين)
(5)
المغني (13/27) ومشارع الأشواق (1/101) والمبدع (3/315) .
(6)
صحيح البخاري مع الفتح كتاب المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد، ح رقم (4078) ومسلم بشرح النووي، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن حرام، ح رقم (2471) .
(7)
أسد الغابة (3/243) .
2-
ولأن الجهاد يقصد منه الشهادة التي تفوت بهاالنفس، فيفوت الحق بفواتها (1) فلا يجوز الخروج إلا بإذن صاحب الدين.
القول الثاني: يجوز له الخروج إلى الجهاد دون إذن الدائن إذا لم يحل الدين. وبهذا قال: الحنفية بشرط أنه يعلم بالظاهر أنه يرجع قبل حلول الدين (2) والمالكية (3) والصحيح عند الشافعية (4) وقول للحنابلة (5) .
واستدلوا بما يلي:
1-
القياس على السفر لغير الجهاد بجامع عدم حلول الدين، فإذا جاز لمدين أن يسافر لغير الجهاد بغير إذن الدائن، فكذاك له أن يخرج للجهاد بغير إذن الدائن (6) .
ونوقش بأنه قياس مع الفارق إذ الخروج للجهاد مظنة الشهادة وفوات النفس الذي يفوت بفواتها الحق، والسفر لغير الجهاد بخلاف ذلك (7) .
2-
أن الدين قبل حلوله لا يتوجه الحق للدائن بمطالبة المدين (8) وإذا كان الأمر كذلك فلا يحق له منعه من الخروج للجهاد ولا يشترط طلب إذنه.
ويمكن مناقشته: بأن السفر للجهاد فيه خطر على النفس التي تعلق بها الدين وهذا يؤدي إلى الضرر بالدائن وضياع ماله، فلا يجوز الخروج إلا بإذنه وعلمه.
الترجيح
الراجح والله أعلم القول الأول الذي منع الخروج للجهاد إلا بإذن الدائن حتى يتمكن من استيفاء دينه، لعظم شأن الدين واهتمام الشرع بأدائه.
(1) المغني (13/28) وكشاف القناع (2/372) .
(2)
البحر الرائق (5/121) وحاشية ابن عابدين (6/204) وشرح السير الكبير (4/209) .
(3)
الذخيرة (3/395) والمقدمات الممهدات (1/351) .
(4)
روضة الطالبين (10/211) والوسيط في المذهب (7/9) .
(5)
الإنصاف (4/122) والمبدع (3/315) .
(6)
المهذب مع تكملة المجموع (21/128) وأحكام إذن الإنسان في الفقه (2/637) .
(7)
المغني (13/28) والحاوي الكبير (14/122) وأحكام إذن الإنسان في الفقه (2/637) .
(8)
البحر الرائق (5/122) وحاشية ابن عابدين (6/204) والمبدع (3/315) .