الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
طهارة المجاهد بالماء وهو جريح
(1)
لا يختلف المجاهد في سبيل الله في الطهارة بالماء وهو جريح عن غيره من الجرحى، وإنما أفردته بالذكر لأنه الأكثر تعرضا للجراح فيحتاج إلىمعرفة كيفية الطهارة مع الجراح سواء كانت الطهارة من الحدث الأكبر أو من الأصغر، وله مع الجراح حالتان:
الحالة الأولى: أن تكون جراحة مكشوفة.
الحالة الثانية: أن تكون جراحة مستورة بحائل (2) .
فأما الحالة الأولى إذا كانت جراحة مكشوفة، فالأصل أن فرضه غسل العضو المجروح بالماء سواء كان من بدنه في الحدث الأكبر، أو من أعضاء وضوئه في الحدث الأصغر، إلا أن يخاف ضررا بغسله، فإن خاف ضررا بغسله فقد اختلف الفقهاء، رحمهم الله تعالى، في كيفية طهارته إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يغسل الصحيح من بدنه في الحدث الأكبر ومن أعضاء وضوئه في الحدث الأصغر، ويمسح بالماء على الجراح إذا لم يتضرر من ذلك وجوبا، ولا يحتاج إلى التيمم وهذا القول رواية عند الحنابلة هي الصحيح من المذهب اختارها ابن تيمية (3) .
(1) الجراحة: اسم للضربة أو الطعنة، يقال: رجل جريح من قوم جرحى وامرأة جريح وجرحه يجرحه جرحا أثر فيه بالسلاح. انظر: لسان العرب (2/422) مادة (جرح) والمحيط في اللغة (2/401) .
(2)
يأتي الحديث عن هذه الحالة، إن شاء الله في المسح على الجبيرة ونحوها.
(3)
الإنصاف (1/271) والروض المربع ص 45 والشرح الكبير (1/119) ومجموع الفتاوى (21/178) .
واستدلوا بما يلي:
1-
عموم قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (1) .
2-
ولأنه عجز عن غسله وقدر على مسحه، وهو بعض الغسل فوجب الإتيان بما قدر عليه، كمن عجز عن الركوع والسجود وقدر على الإيماء (2) .
3-
ولأنه إذا جاز مسح الجبيرة ومسح الخف وكان ذلك أولى من التيمم، فلأن يكون مسح العضو بالماء أولى من التيمم (3) .
القول الثاني: الجمع بين الغسل بالماء والتيمم، فيغسل الصحيح من بدنه في الحدث الأكبر، والصحيح من أعضاء وضوئه في الحدث الأصغر ويتيمم عن الجراح التي يضره غسلها، وبهذا قال الشافعية سواء قدر على مسح الجراح أم لا (4) والحنابلة إذا لم يمكن مسح الجراح بالماء (5) .
(1) الحديث بأكمله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، انظر: صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ح رقم (7288) وصحيح مسلم بشرح النووي كتاب الحج باب فرض الحج مرة في العمر ح رقم (1337) .
(2)
الشرح الكبير (1/119) .
(3)
مجموع الفتاوى (21/178) .
(4)
المجموع (2/333) روضة الطالبين (1/107) ومغني المحتاج (1/255) والحاوي الكبير (1/273) .
(5)
الروض المربع ص 45 والكافي في فقه الإمام أحمد (1/93) والمغني (1/236) وفي رواية إنه يجب الجمع بين المسح بالماء والتيمم للعضو المجروح. المبدع (1/212) والإنصاف (1/271) .
واستدلوا بما يلي:
1-
عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجل منا شجة في وجهه ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال:«قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جراحه خرقة ثم يمسح عليها ثم يغسل سائر جسده» (1) .
فهذا الحديث نص صريح في الجمع بين الماء والتيمم (2) .
2-
ولأن العجز عن إيصال الماء إلى بعض أعضائه لا يقتضي سقوط الفرض عن إيصاله إلى ما لم يعجز عنه قياسا على ما إذا كان عادما لبعض أعضائه (3) .
(1) أخرجه أبو داود في سننه مع عون المعبود، كتاب الطهارة، باب المجدور يتيمم ح رقم (332) قال في عون المعبود: رواية الجمع بين التيمم والغسل رواية ضعيفة لا تثبت بها الأحكام. (1/367) ورواه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة باب الجرح إذا كان في بعض جسده دون بعض، ح رقم (1075) وباب المسح على العصائب والجبائر ح رقم (1077) . قال البيهقي: ليس بالقوي (1/349) وقال في نصب الراية، قال الدارقطني: لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق وليس بالقوي (1/187) وأخرجه أبو داود في سننه من طريق ابن عباس ولم يذكر الزيادة التي في حديث جابر «إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جراحه» كتاب الطهارة باب في المجدور يتيمم ح رقم (333) وأخرجه ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب الجرح إذا كان في بعض الجسد دون بعض، ح رقم (1073) ، وأخرجه الدارمي، في باب المجروح تصيبه الجنابة (1/192) وقال في مجمع الزوائد: إسناده منقطع فإن الأوزاعي عن عطاء مرسل. فالحديث من طريق جابر رضي الله عنه فيه الزبير بن خريق وليس بالقوي ومن طريق ابن عباس فيه انقطاع وقد صحح الألباني رحمه الله الحديث من الطريقين انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته ج (2/805) ح رقم (4363) .
(2)
الحاوي الكبير (1/273) .
(3)
الحاوي الكبير (1/273) والمغني (1/337) .
3-
ولأنها طهارة ضرورة فلم يعف فيها إلا على قدر ما دعت إليه الضرورة، كطهارة المستحاضة (1) .
وقد اتفق أصحاب هذا القول أنه لا يلزم الترتيب بين العضو المغسول والعضو المتيمم له في الطهارة من الحدث الأكبر (2) لأن التيمم للعجز عن استعمال الماء في الجراح وهو متحقق على كل حال (3) .
واختلفوا في لزوم الترتيب في الطهارة من الحدث الأصغر.
فالصحيح عند الحنابلة (4) ، وقول عند الشافعية (5) أنه لا يلزم الترتيب.
واستدلوا بما يلي (6) .
1-
أن التيمم طهارة مفردة فلا يجب الترتيب بينها وبين الطهارة الأخرى، كما لو كان الجريح جنبا.
2-
ولأن في لزوم الترتيب حرج وضرر وذلك مدفوع بقوله تعالى:
…
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
(1) الحاوي الكبير (1/274) .
(2)
المجموع النووي (2/333) ومغني المحتاج (1/255) والمستوعب (1/288) والمغني لابن قدامة (1/337) .
(3)
المغني (1/337) .
(4)
الفروع لابن مفلح (1/217) ومجموع الفتاوى (21/466) .
(5)
الحاوي الكبير للماوردي (1/274) والمجموع (2/334) .
(6)
المغني (1/338) .
وفي قول عند الحنابلة (1) وقول عند الشافعية (2) أنه يلزم الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي تيمم بدلا عنه، وصفة الطهارة على هذا القول كما يلي (3) .
أ- إن كان الجرح في وجهه بحيث لا يمكنه غسل شيء منه لزمه التيمم أولا، ثم يكمل الوضوء.
ب- إن كان الجرح في بعض وجهه فله أن يغسل صحيح وجهه ثم يتيمم، أو العكس ثم يكمل وضوءه.
ج- إن كان الجرح في عضو آخر غسل ما قبله وجوبا، ثم تيمم ثم يكمل الوضوء.
د- إن كانت الجراح في وجهه ويديه ورجليه احتاج في كل عضو إلى تيمم في محل غسل الجراح.
ودليلهم مراعاة الترتيب فلا ينتقل عن العضو المعلول حتى يكمل طهارته أصلا وبدلا (4) .
وهذا القول فيه مشقة وحرج وهذا يتنافى مع قواعد الشريعة التي تدعو إلى رفع الحرج والمشقة، ثم فيه أنه يتيمم أربع مرات لطهارة واحدة وهذا لا دليل عليه. والله أعلم.
والقول الثالث: في كيفية طهارة الجريح أنه لا يجمع بين الغسل بالماء والتيمم، فإن كان أكثر بدنه في الحدث الأكبر وأعضاء وضوئه في الحدث الأصغر صحيحا غسل الصحيح ولا تيمم عليه للجريح، وإن كان الأكثر جريحا تيمم ولا غسل عليه للعضو الصحيح وبهذا قال الحنفية (5) والمالكية (6) .
(1) المغني (1/338) والفروع (1/217) والمستوعب (1/288) .
(2)
المجموع (2/335) ومغنى المحتاج (1/256) .
(3)
المغني (1/338) والمجموع (2/335) .
(4)
المغني (1/388) ومغني المحتاج (1/256) .
(5)
فتح القدير لابن الهمام (1/126) والبحر الرائق (1/284) وحاشية ابن عابدين (1/429) .
(6)
حاشية الدسوقي (1/163) ومواهب الجليل (1/531) وبلغة السالك (1/77) .
واستدلوا بما يلي:
1-
أن الأقل تابع للأكثر فالمجدور يكفيه التيمم ولم يقل أحد أن المجدور يغسل ما صح من بدنه بين الجراح فدل أن العبرة للأكثر (1) .
ونوقش هذا: بأن الاستدلال بالأغلب أصل لا يعتبر في الطهارة، فإنه لو غسل أكثر جسده من جنابة أو أكثر أعضاء وضوئه من حدث لم يجزه تغليبا للأكثر فكذلك هنا (2) .
2-
أنه لا يجمع بين الأصل والبدل على سبيل رفع أحدهما للآخر، فإذا كان الأكثر مجروحا لم يكن له بد من التيمم (3) .
ونوقش هذا: بأنه لا جمع بين بدل ومبدل لأن التيمم بدل ما لم يصل إليه الماء فلم يكن جمعا في محل بين بدل ومبدل (4) .
ويأتي على هذا القول ما إذا كان نصف أعضاء البدن في الحدث الأكبر ونصف أعضاء الوضوء في الحدث الأصغر صحيحا والنصف الأخر جريحا. اختلف الحنفية في هذه الحالة، فمنهم من قال: فرضه التيمم لأنها طهارة كاملة. ذكره في الاختيار، وقال عنه: حسن، وقال في فتح القدير: هو أشبه بالفقه (5) .
(1) المبسوط للسرخسي (1/122) .
(2)
الحاوي الكبير (1/273) .
(3)
المبسوط (1/122) والذخيرة (1/343) .
(4)
الحاوي الكبير (1/273، 274) والمغني (1/337) .
(5)
الاختيار الموصلي (1/23) وفتح القدير (1/126) .
ومنهم من قال: فرضه الغسل ومسح الجرح ما لم يضره، لأنها طهارة حقيقة وحكمية فكان الغسل مع المسح أولى، اختار هذا القول صاحب البحر الرائق، وقال: هو أحوط (1) وقال المالكية: يغسل الصحيح ويمسح الجريح (2) .
الترجيح
بعد ذكر أقوال الفقهاء رحمهم الله وأدلة كل قول ومناقشة ما أمكن مناقشته منها، فإن الأقرب إلى الرجحان القول الأول، حيث يغسل ما صح من بدنه في الحدث الأكبر ومن أعضاء وضوئه في الحدث الأصغر ويمسح الجراح بالماء ويكفيه ذلك عن التيمم سواء كان أكثر البدن أو أعضاء الوضوء صحيحا أم جريحا، لأن في هذا رفع للحرج والمشقة عن الجريح والمسح بالماء مع القدرة عليه أولى من التيمم، فإن لم يمكن المسح بالماء وخاف الضرر منه تيمم أولا لجميع الجراح في بدنه أو أعضاء وضوئه، ثم يغسل الصحيح من بدنه أو من أعضاء وضوئه، لأنه لما عجز عن مسح الجريح بالماء تيمم له حتى لا يبقى عضو دون تطهير. والله أعلم.
(1) البحر الرائق (1/285) والاختيار للموصلي (1/23) وفتح القدير (1/126) .
(2)
حاشية الخرشي (1/376)