الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
إذن الوالدين في خروجه للجهاد
لا يخلو أن يكون الجهاد في حق الابن متعينا، أو غير متعين، ولا يخلو الوالدان أن يكونا مسلمين أو كافرين أو أحدهما مسلما والآخر كافرا.
فهنا حالات:
الحالة الأولى: أن يكون الجهاد متعينا في حق الابن.
وفي هذه الحالة لا يشترط إذن الوالدين لخروج الابن إلى الجهاد باتفاق الفقهاء (1) رحمهم الله تعالى فيما أعلم.
والأدلة على هذه الحالة ما يلي:
1-
قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] .
وقد تعددت الأقوال في معنى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} قال في جامع البيان: وأولى الأقوال أن يقال: إن -الله تعالى ذكره- أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافا وثقالا، وقد يدخل في الخفاف كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يسر بمال وفراغ من الاشتغال، وقادر على الظهر والركاب؟ ويدخل في الثقال من كان بخلاف ذلك (2) .
(1) بدائع الصنائع (6/58) وتبيين الحقائق (3/241، 242) وبداية المجتهد (1/384) والمعونة (1/602) وروضة الطالبين (10/214) والمغني (13/26) وحاشية الروض المربع (4/261) وابن حزم في المحلى بالآثار (5/341) إلا أنه قال: إذا كان بخروجه يضيعا أو أحدهما فلا يجوز له الخروج.
(2)
جامع البيان للطبري (6/378) .
والابن من ضمن المأمورين بالنفر لجهاد أعداء الله، فلا يمنعه من الخروج للجهاد عدم إذن والديه لعموم الآية.
2-
ولأن الجهاد في حقه فرض عين، وتركه معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله تعالى، كالصلاة والصوم والحج (1) لا طاعة لأحد في تركها.
ويؤيد هذا ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (2) .
الحالة الثانية: أن يكون الجهاد غير متعين في حق الابن.
وفي هذه الحالة لا يخلو أن يكون الوالدان مسلمين، أو كافرين، أو أحدهما مسلما والآخر كافرا.
فإن كان الوالدان مسلمين، أو أحدهما مسلما، والجهاد غير متعين على الابن، فلا خلاف فيما أعلم بين الفقهاء رحمهم الله تعالى على اشتراط إذن الوالدين في الخروج للجهاد (3) جاء في رحمة الأمة (واتفقوا على أن من لم يتعين عليه الجهاد لا يخرج إلا بإذن أبويه إن كان مسلمين)(4) .
(1) المغني (13/26) .
(2)
صحيح البخاري مع الفتح، كتاب أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، ح رقم (7257) ومسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء من غير معصية وتحريمها في المعصية ح رقم (1839) وح رقم (1840) .
(3)
بدائع الصنائع (6/58) والبحر الرائق (5/122) وبداية المجتهد (1/384) وبلغة السالك (1/356) وحاشية الخرشي (4/11) والأم (4/163) وروضة الطالبين
…
(10/211) والمغني (13/25) .
(4)
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص 528 ومشارع الأشواق لابن النحاس (1/99) والفروع (6/198) وحاشية الروض المربع (4/261) والمحلى بالآثار (5/341) .
يدل على ذلك ما يلي:
1-
عن عبد الله بن عمرو (1)
رضي الله عنهما قال: جاء رجل (2) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال (أحي والدك؟) قال: نعم، قال:«ففيهما فجاهد» (3) .
2-
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا (4) هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال:(هل لك أحد باليمن؟) قال: أبواي، قال:(أذنا لك؟) قال: لا، قال:«ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما» (5) .
ووجه الدلالة من الحديثين، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الابن ببر أبويه واستئذانهما للجهاد فإن لم يأذنا فإنه لا يخرج للجهاد وهذا دليل على تحريم الخروج بدون إذنهما (6) .
(1) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي أحد المكثرين في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة حديثه فأذن له توفي سنة 63 هـ.
انظر أسد الغابة (3/349) ت رقم (3090) والإصابة (4/192) ت رقم (4850) .
(2)
قال ابن حجر في الفتح: لعله جاهمة بن العباس بن مرداس السلمي (6/173) وانظر الإصابة (1/556) ت رقم (1054) .
(3)
صحيح البخاري مع الفتح كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين ح رقم
…
(3004) ومسلم بشرح النووي كتاب البر والصلة والأداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، ح رقم (2549) .
(4)
لم أقف على اسمه حسب ما اطلعت عليه.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، ح رقم (2530) وسعيد بن منصور في سننه كتاب الجهاد باب ما جاء فيمن غزا وأبواه كارهان ح (2334) والحاكم في المستدرك كتاب الجهاد ح رقم (2501) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ولم يوافقه الذهبي، وقال فيه دراج وهو واه، انظر: التلخيص بهامش المستدرك (2/114) وقال ابن القيم: ليس مما يستدرك على الشيخين فإن فيه دراجا أبا السمح، وهو ضعيف، انظر شرح سنن أبي داود لابن القيم بحاشية عون المعبود (7/146) ومع هذا فإن هناك أحاديث صحيحة تقوي هذه المعنى، كما في الحديث السابق.
(6)
أحكام إذن الإنسان في الفقه (2/619) .
3-
أن الجهاد في هذه الحالة فرض كفاية لأنه لم يتعين على الابن، وبر الوالدين فرض عين فكان مقدما على فرض الكفاية (1) .
إذا تقرر اشتراط إذن الوالدين المسلمين في حالة كون الجهاد غير متعين على الابن، فإن له في الإذن ثلاثة أحوال (2) :
الأول: أن يأذنا له جميعا فله الخروج للجهاد، فإن رجعا عن الإذن رد عليهما ما لم يلتق الزحفان، لأنه صار في حقه حينئذ فرض عين.
الثاني: أن يمتنعا عن الإذن فيمتنع عن الجهاد.
الثالث: أن يأذن أحدهما ويمتنع الآخر، فيغلب حكم المنع على الإذن فلا يخرج للجهاد أما إن كان الوالدان كافرين أو أحدهما كافرا.
فقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في اشتراط إذن الأبوين الكافرين إلى قولين:
القول الأول: لا يشترط إذن الأبوين الكافرين لخروج الابن إلى الجهاد، وبهذا قال: المالكية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) والحنفية في حالة ما إذا كان منعهما له كراهية قتال الكفار (6) .
واستدلوا بما يلي:
1-
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون معه وفيهم من له أبوان كافران من غير استئذانهما (7) منهم أبو بكر الصديق، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة (8) ،
(1) بدائع الصنائع (6/58) والمعونة (1/602) والمغني لابن قدامة (13/26) وسبل السلام (4/84) .
(2)
الحاوي الكبير (14/123) والمغني لابن قدامة (13/27) .
(3)
بلغة السالك (1/356) وحاشية الخرشي (4/11) .
(4)
الأم (4/163) وروضة الطالبين (10/211) .
(5)
المغني (13/26) والمبدع (3/315) .
(6)
البحر الرائق (5/122) وحاشية ابن عابدين (6/202) وشرح السير الكبير (1/135) .
(7)
المغني لابن قدامة (13/26) .
(8)
هو: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس القرشي، من السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين، شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم اليمامة، انظر: أسد الغابة
…
(5/70) ت رقم (5800) والإصابة (7/74) ت رقم (9760) .
وأبو عبيدة (1) رضي الله عنهم وقد قتل أباه يوم بدر (2) وغيرهم وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. فدل على عدم استئذان الوالدين الكافرين.
2-
ولأن الوالدين الكافرين متهمان في الدين، لأنهما لا يحبان قتال أهل دينهما، فلا عبرة بإذنهما (3) .
القول الثاني: أنه يشترط إذنهما لخروج ابنهما إلى الجهاد في سبيل الله وهو قول الحنفية (4) والمالكية (5) في حالة ما إذا وجدت قرينة تدل على أن منعهما من أجل الشفقة على ولدهما، لا من أجل قتال أهل الكفر.
واستدلوا بما يلي:
1-
عموم الأخبار (6) كحديث عبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم اللذين سبق ذكرهما (7) حيث أن الحديثين يدلان على وجوب الاستئذان من الأبوين من غير التفريق بين مسلم وكافر (8) .
(1) هو: عامر بن عبد الله بن الجراح أمين هذه الأمة، من العشرة المبشرين بالجنة من السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم توفي بالطاعون سنة 18 هـ انظر أسد الغابة (3/24) ت رقم (2705) والإصابة (3/475) ت رقم (4418) .
(2)
المعركة الحاسمة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبين كفار قريش في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة وقد انتصر المسلمون على الكفار، انظر زاد المعاد
…
(3/171) .
(3)
بلغة السالك (1/356) وروضة الطالبين (10/211) والأم (4/163) .
(4)
البحر الرائق (5/122) وحاشية ابن عابدين (6/202) وشرح السير الكبير (1/135) .
(5)
بلغة السالك (1/356) وحاشية الخرشي (4/11، 12) والفواكه الدواني (1/627) .
(6)
المغني (13/26) .
(7)
سبق ذكرهما.
(8)
أحكام إذن الإنسان في الفقه (2/621) .
ونوقش هذا: بأن الأحاديث التي تدل على وجوب الاستئذان مخصوصة بمن كان مسلما من الوالدين بدليل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وفيهم من له أبوان كافران من غير استئذانهما، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فدل على أن الإذن مخصوص بالمؤمنين منهما (1) .
3-
واستدلوا كذلك بما يلحقهما من المشقة لأجل الخوف على ابنهما من القتل (2) ونوقش هذا: بأنهما متهمان في الدين في جميع الأحوال وقد يتظاهران بالشفقة ويخفيان كراهيتهما لقتال أهل دينهما (3) .
الترجيح
والذي يظهر بعد عرض الأقوال والأدلة والمناقشة أن القول الأول هو الأقرب إلى الرجحان لفعل الصحابة رضي الله عنهم وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بل وقتل بعضهم لآبائهم كما فعل أبو عبيدة في غزوة بدر.
قال تعالى: {اتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [المجادلة: 22] . والله أعلم.
(1) المغني (13/26) وأحكام إذن الإنسان في الفقه (2/621) .
(2)
البحر الرائق (5/122) وحاشية ابن عابدين (6/202) وشرح السير الكبير (1/135) .
(3)
أحكام إذن الإنسان في الفقه (2/621) .