الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما ذكر الله تعالى ما قاله سفهاء اليهود عند تحويل القبلة، ذكر في هذه الآيات أن إعراض أهل الكتاب عن رسالة النّبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن لشبهة تحتاج إلى إزالة، وإنما لعناد ومكابرة، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من جحود أهل الكتاب الذين طمع في إسلامهم، وتضايق من تكذيبهم.
التفسير والبيان:
كثيرا ما نرى تردد نظرك في جهة السماء، حينا بعد حين، متشوقا للوحي، متلهفا لتحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أن النّبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ذلك، بل كان ينتظره فقط، وهو في هذا لا يعدّ معارضا أمر ربه، لأن صفاء نفسه يجعله يتطلع إلى ما يظنه خيرا، ويقدر فيه مصلحة.
ولكونك تتطلع إلى التحويل، لنمكننك من استقبال قبلة تحبها غير بيت المقدس، لهدف سليم في نفسك هو أن يجتمع الناس على قبلة مخصوصة واحدة، فتتحد قلوبهم، ويتحقق من وراء ذلك خير عظيم. فاصرف وجهك نحو أو تلقاء المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة.
وفي ذكر {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} دون الكعبة، مع أنها القبلة على ما ثبت في الأحاديث، إشارة إلى أنه يكفي للبعيد الذي لا يعاين الكعبة محاذاة جهة القبلة حين الصلاة. ويؤكده الأمر الإلهي لعموم المؤمنين، وهو قوله تعالى:{وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي وفي أي مكان كنتم، فاستقبلوا جهته بوجوهكم في الصلاة، وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من {فَوَلِّ وَجْهَكَ} ويدل على أن المصلي في مختلف البقاع يتجه نحو القبلة، سواء أكان إلى الشرق أم إلى الغرب، وإلى الشمال أم إلى الجنوب الجغرافي، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
والسبب في تأكيد الأمر باستقبال المؤمنين القبلة بعد أمر النّبي بها، مع أن
خطاب النّبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته: هو الاهتمام بشأن قبلة الكعبة، فإنها حادث عظيم، كان نقطة تحول في وضع أساس الاستقلال في عبادة المسلمين، وإنهاء الاتجاه نحو قبلة بيت المقدس، ولكي تشتد عزيمة المؤمنين وتطمئن قلوبهم، فيقضون على الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ويضربون بأقوالهم عرض الحائط، ويثبتون على اتباع الرسول، ولدفع توهّم أن القبلة باتجاه الشام. لكل هذا كان التصريح بعموم الحكم في عموم الأمكنة:
{وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .
ثم عاد القرآن لمناقشة أهل الكتاب الذين اشتركوا في تحريك الفتنة العظمى بعد تحويل القبلة، فقال: إن أهل الكتاب الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا-بما أنزل إليهم في كتبهم في شأن النّبي محمد صلى الله عليه وسلم والبشارة به، وأنه سيصلي إلى القبلتين: بيت المقدس وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتبع ملته-أن تحويل القبلة حق لا شك فيه، وأنه أمر الله، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق، وترويج الباطل، وما الله بغافل عن أعمالهم، بل مجازيهم عليها.
وجيء بجملة: {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ} اعتراضا بين الكلامين:
المتقدم عنها والمتأخر لوعد الفريقين ووعيدهم.
ثم أوضح القرآن سبب الفتنة وإعراض الكتابيين عن دعوة الإسلام، تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له، فقد أخبره أولا أنهم يعلمون أنه الحق وهم يكتمونه ولا يعملون بمقتضاه، ثم سلاه عن قبولهم الحق باتخاذ موقف معين: وهو التزام موقف المعارضة عنادا ومعاداة، فقال: ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة على أن الحق وهو تحويل القبلة من ربهم، أملا في اتباع قبلتك، ما اقتنعوا ولا صدقوا به، ولا اتبعوك، عنادا منهم ومكابرة، فهم لن يتبعوا قبلتك رغم البرهان الساطع على الحق الإلهي المأمور به، وهو توجهك إلى
الكعبة
(1)
، ولن يكون منك اتباع قبلتهم بعد اليوم، قطعا لأطماعهم في الاتجاه إلى بيت المقدس، وكيف يرجى ذلك، فهم ليست لهم قبلة واحدة، فعيسى كانت قبلته مع موسى، ولكن بعد موت عيسى وتحريف الإنجيل اتخذ النصارى قبلة أخرى. وأما أنت يا محمد فعلى قبلة إبراهيم الذي يقدره جميع أهل الملل، فهي الأجدر بالاتباع، ولا فائدة ترجى من اتباع قبلتهم.
وكل من اليهود والنصارى لا يغيّر الاتجاه إلى قبلته، فلا تترك اليهود قبلتها وتتجه نحو المشرق، ولا تترك النصارى قبلتها وتتجه نحو الغرب، لأن كلاّ منهم متمسك برأيه، حقا كان أو باطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، وإنما يسير على منهج التقليد الأعمى.
ثم هدد الله نبيه، لتعرف أمته خطر مخالفة كلام الله، واتباع أهواء الناس، فقال: ولئن اتبعت يا محمد ما يريده أهل الكتاب، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم، وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين واضحا، والعلم القاطع الذي لا شك فيه وهو الدلائل والآيات التي تفيدك العلم وتحصله، لتكونن من الظالمين أنفسهم، المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة، وهذا في الحقيقة خطاب للمؤمنين لاستبعاد خاطر أو فكرة اتباع أهواء القوم استمالة لهم.
وجملة {إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ} هي جواب القسم المحذوف، الذي أو أومأت إلى تقديره اللام في {لَئِنْ} ودلّ على جواب الشرط.
ودليل معرفة الحق من قبل أهل الكتاب: أنهم يعرفون النّبي صلى الله عليه وسلم بما بشرت به كتبهم، وذكرته من صفات لا تنطبق على غيره، فهم يعرفون النّبي كمعرفتهم التامة بأبنائهم. وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا هذا الحق الواضح الذي يعلمونه من كتبهم، وهو نبوة محمد، وأن الكعبة قبلة.
(1)
البحر المحيط: 430/ 1