الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح.
فسمّى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نيّة وقول وعمل. وقال محمد بن إسحاق:
{وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم نبيكم، قال القرطبي: وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين.
ثمّ ختم الله الآية بقوله: {إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} لإفادة التعليل لما قبلها، أي للطف رأفته وسعة رحمته نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين، أو لا يضيع إيمان من آمن، وهذا المعنى أظهر كما قال أبو حيان
(1)
.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإيمان الحقيقي أو التسليم التامّ لله يقتضي الإذعان لأوامر الله والخضوع لمشيئته واختياره، فإذا أمر الله بالاتّجاه في الصلاة نحو جهة معينة، ثم أمر بالتّحول عنها إلى جهة أخرى، امتثل المؤمن ذلك تمام الامتثال، ولم يخالجه أي شكّ في أوامر الله، ولم يعقب عليها، فالجهات كلّها لله، ولله ملك المشارق والمغارب وما بينهما، والعبرة إنما هي في تمحيض القصد والاتّجاه إلى الله تعالى، ولله أن يأمر بالتّوجه إلى أي جهة شاء، فلا داعي لتعليق الجهال وضعاف العقل والإيمان على تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة. وقد تمّ تحويل القبلة بعد الهجرة إلى المدينة، قالوا كما في البخاري: حوّلت بعد ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وكان تحويلها-كما قال سعيد بن المسيّب-قبل غزوة بدر بشهرين.
وذلك في رجب من سنة اثنتين.
ودلّت هذه الآيات على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا،
(1)
البحر المحيط: 427/ 1
وأجمعت عليه الأمة إلا من شذّ، وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها في أحد القولين الآتيين نسخت مرتين.
ودلّت أيضا على جواز نسخ السّنة بالقرآن الكريم، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السّنة، ثمّ نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون:{كُنْتَ عَلَيْها} بمعنى أنت عليها.
واختلف العلماء حين فرضت الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين:
فقال ابن عباس: إلى بيت المقدس، وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة.
وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة على النّبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، ولم يزل يصلّي إليها طوال مقامه بمكة، على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة، صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال ابن عبد البر: وهذا أصح القولين عندي.
والسبب أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود، فتوجه إلى قبلتهم، ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبيّن عنادهم وأيس منهم، أحبّ أن يحوّل إلى الكعبة، فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام.
وقد روى الأئمة- واللفظ لمالك-عن ابن عمر كيف تمّ التحويل، قال:
بينما الناس بقباء
(1)
في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
(1)
قباء: قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، بها أثر بنيان كثير، وفيها مسجد التقوى.
أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.
وخرّج البخاري عن البراء: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلّى أول صلاة صلاّها العصر، وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلّى مع النّبي صلى الله عليه وسلم، فمرّ على أهل المسجد، وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صلّيت مع النّبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا، ولم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل:{وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} .
ففي هذه الرواية: صلاة العصر، وفي رواية مالك: صلاة الصبح.
ويستفاد من الآية وهذه الأحاديث أمور ثلاثة:
1 -
من لم يبلغه الناسخ يظل متعبّدا (مطالبا) بالحكم الأول، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلّون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي، فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة، فالناسخ رافع للحكم الأول، لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حقّ من لم يبلغه.
2 -
دلّ ذلك على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف، معلوم بالتواتر من عادة النّبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للآفاق، ليعلّموا الناس دينهم، فيبلّغوهم سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي.
3 -
فهم مما ذكر أن القرآن الكريم كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء، وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة 3/ 5].
وكما أن الكعبة وسط الأرض، وفي مركز قطب الدائرة للكرة الأرضية، كذلك جعل الله المسلمين أمّة وسطا، دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط:
العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، فهم خيار عدول أوساط في الموقع والمناخ والطباع والشرائع والأحكام والعبادات ومراعاة دوافع الفطرة، والجمع والتوازن بين مطالب الجسد والروح، وبين مصالح الدنيا والآخرة. لذا استحقوا الشهادة على الأمم، وكانوا سبّاقين للأمم جميعا بالاعتدال والتوسط في جميع الشؤون، والتوسط منتهى الكمال الإنساني الذي يعطي كل ذي حق حقه، فيؤدي حقوق ربّه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه وغيره من أبناء المجتمع، أقارب أم أباعد.
وأداء الشهادة على الناس في المحشر يكون للأنبياء على أممهم، كما
ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبّيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمّته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمّته، فيشهدون أنه-أي نبيهم-قد بلّغ. ويكون الرّسول عليكم شهيدا (مزكيّا معدّلا)، فذلك قوله عز وجل:
{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} إلخ، القصة المذكورة سابقا هنا في التفسير.
وهذا إنباء من الله تعالى في كتابه بما أنعم على الأمة الإسلامية من تفضيلها باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعل المسلمين أولا مكانا، وإن كانوا آخرا زمانا، كما
قال عليه الصلاة والسلام: «نحن الآخرون السابقون» وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول شخص على غيره إلا أن يكون عدلا.
ودلّ هذا أيضا على صحّة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا، شهدوا على الناس، فكل عصر شهيد على من بعده.
وشهادة الرسول على أمته معناها: الشهادة بأعمالهم يوم القيامة، أو الشهادة لهم بالإيمان، أو الشهادة عليهم بالتبليغ لهم.
وأما تحويل القبلة: فهو اختبار المؤمنين، ليظهر صدق الصادقين، وريب المرتابين، كما هو الشأن في ألوان الاختبار الإلهي بأنواع من الفتن، كما قال لله تعالى:{الم* أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ *فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [العنكبوت 1/ 29 - 3].
والقصد من العلم في قوله تعالى: {إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} وقوله:
{فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ.} . هو علم الظهور والوقوع، لا أن العلم مسبوق بالجهل، فعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، وهو يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ومتى تقع، وأين تقع، ولكنه برهان وحجة على الناس من أعمالهم وتصرفاتهم نفسها.
وأما من مات وهو يصلّي إلى بيت المقدس، فثوابه محفوظ كامل غير منقوص، لا يضيعه الله له أبدا، لأن الله واسع الرأفة، شامل الرحمة، فلا يكتفي بدفع البلاء عن المؤمنين المنفذين أوامره، بل يعاملهم بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل.
واختلف العلماء في تأويل: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} فقال بعضهم:
معناها: وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجه إلى القبلة، وتصديقكم لنبيكم، وقال آخرون: المراد به صلاتكم إلى بيت المقدس. وتسمية الصلاة إيمانا إما مجاز، أو إنها تسمى حقيقة إيمانا، كما قال الفقهاء، فهي من أركان الإيمان وعهد