الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} التضوين في الكلمة الأولى والأخيرة للتفخيم، وقوله:{مِنْ رَبِّهِمْ} لإظهار مزيد العناية بهم.
{هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فيه قصر الصفة على الموصوف، أي لا مهتدي غيرهم.
المفردات اللغوية:
{بِالصَّبْرِ} الصبر: توطين النفس على احتمال المكاره، أي استعينوا على الآخرة بالصبر على الطاعة والبلاء. {وَالصَّلاةِ} خصّها بالذكر لتكررها وعظمها، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي من الملائكة: الاستغفار، ومن الله: الرحمة. {مَعَ الصّابِرِينَ} أي معهم بالعون. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنمتحننّكم، من الابتلاء: وهو الاختبار والامتحان ليعلم ما يكون من حال المختبر، والمراد: نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم، بالخوف من العدو: ضد الأمن، {وَالْجُوعِ}: القحط، {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ}: بالهلاك {وَالْأَنْفُسِ} بالقتل والموت والأمراض {وَالثَّمَراتِ} بالجوائح، أي لنختبرنكم، فننظر أتصبرون أم لا {وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ} على البلاء بالجنة. والمصيبة: كل ما يؤذي الإنسان في نفس أو مال أو أهل. ونقص الثمرات: قلتها.
{صَلَواتٌ} مغفرة، والصلاة من الله: التعظيم وإعلاء المنزلة. {وَرَحْمَةٌ} نعمة، والرحمة: اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء والرضا بالقضاء.
سبب نزول الآية (154):
نزلت في قتلى بدر، وكانوا بضعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، والسبب أن الناس كانوا يقولون للرجل يقتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس: قتل عمير بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت:{وَلا تَقُولُوا..} . الآية.
التفسير والبيان:
كان تحويل القبلة فتنة للناس، لاختبارهم وتمييز المؤمن الحق من المنافق الكاذب، فهو نعمة وليس نقمة، ولكن السفهاء وأهل الكتاب استغلوا هذا الحادث العظيم، وقاموا بحملة من الافتراءات والوشايات لزرع الحقد والبغضاء في النفوس ضدّ المؤمنين، وقد علم الله أن ذلك يستتبع جهودا مكثفة منهم لتأليب
الناس على المؤمنين، وسيؤدي هذا إلى القتال حتما، ثم حدث القتال فعلا في سلسلة من المعارك الضارية.
فأبان سبحانه في هذه الآيات أن النعمة قد تقترن بالبلاء وألوان المصائب، ولكن لا دواء لتحمل المصيبة ومقاومة الأعداء من المشركين وأهل الكتاب إلا بالاستعانة بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تقوية الإرادة وتحمل المشقة والثبات على المصاعب، وأن الله مع الصابرين، أي بالعون والنصرة والرعاية والتأييد، فلما فرغ سبحانه من بيان الأمر بالشكر، شرع في بيان الصبر، والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكرها، أو في نقمة فيصبر عليها.
وأما الاستعانة بالصلاة فلأنها أم العبادات، وهي طريق الصلة بالله ومناجاته واستشعار هيبة الله وجلاله، وهي مفزع الخائفين، وسبيل تفريج كرب المكروبين، واطمئنان نفوس المؤمنين،
قال صلى الله عليه وسلم: «جعلت قرة عيني في الصلاة» .
وإذا استعان المؤمن بالصبر والصلاة التي تملأ القلب خشية وخشوعا لله، وتبعد النفس عن الفواحش والمنكرات، هانت عليه المصاعب، وتحمّل كل شدة ومشقة، وقاوم كل عناء وكرب.
لذا أمر الله بهما فقال: استعينوا على نصر دينكم وشعائركم، وعلى كل ما تلاقونه من مكاره ومصائب، بالصبر الذي يتغلب به على كلّ مكروه، وبالصلاة التي تعزز الثقة بالله تعالى وتهوّن الخطوب. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ} [البقرة 45/ 2].
وإنما خصّ الصبر لأنه أشدّ شيء باطني على النفس، وخصّت الصلاة، لأنها
أشدّ عمل ظاهري على الإنسان، إذ فيها انقطاع عن الدنيا، واتجاه إلى الله،
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر-اشتد عليه-فزع إلى الصلاة، وتلا هذه الآية.
إن الله ناصر الصابرين ومجيب دعائهم ومفرج كروبهم، والواقع أن الأعمال الفردية والأعمال الجماعية العظيمة لا تحقق ثمارها إلا بالثبات والكفاح الدائم، وعدة ذلك كله الصبر.
ولا تقولوا عن شهداء الكفاح والجهاد الخالص: إنهم أموات، بل هم أحياء في قبورهم حياة ذات طراز خاص ومعالم خاصة، ويرزقون رزقا على كيفية، الله أعلم بها، ولكنّا لا نستطيع إدراك حقيقة تلك الحياة بميزان الحسّ المشاهد، فهي حياة غيبية، في عالم آخر، وطراز آخر، وكلّ ما في الأمر أن الله تعالى أخبرنا عنها، فلا نبحث عنها، ويجب الإيمان بها، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ، عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران 169/ 3].
وفيما ذكر إشارة إلى أن المؤمن الذي يضحي بنفسه في سبيل نصر دينه ودعوة ربه هو من الشهداء الأبرار الذين يظفرون بجنان الخلد، وهم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، كما ثبت في الحديث الصحيح.
ثم أقسم الله تعالى فقال: والله لنصيبنكم أيها المؤمنون بشيء قليل من خوف العدو في القتال، والجوع بالجدب والقحط، ونقص الأموال بضياعها، والأنفس بموتها بسبب الاشتغال بقتال الكفار وغيره، والثمرات بقلتها، وقال الشافعي:
بموت الأولاد، وولد الرجل: ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، وذلك لتهدأ قلوب المؤمنين، وتطمئن لما قد يفاجئهم به المستقبل من أحداث، وليرضوا بقضاء الله
وقدره، إذا تعرضوا لمصيبة، وحدث كل هذا، فكان المؤمن يصبح فقيرا حينما يؤمن وتهجره أسرته، أو يخرج من دياره وماله حينما هاجروا إلى المدينة وتركوا مكة، وكان المقاتل يتبلغ بتمرات يسيرات، في أثناء الذهاب إلى المعارك، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك، وكان يعاني المرض ويتعرض للموت حينما استقر في المدينة وأصابه وباؤها وحمياتها التي كانت فيها، ثم حسن مناخها.
وبشر الصابرين الذين يؤمنون بالقضاء والقدر، ولكن لا تتحقق البشار:
إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، وهم يحتسبون الأجر عند الله قائلين:{إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} وتلك بشارة بحسن العاقبة في أمورهم، فيوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، ولهم من ربهم مغفرة لسيئاتهم، ورحمة خاصة بهم يجدون أثرها في برد القلوب وسكينة النفس عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين، لأن الكافر تضيق به الدنيا إذا نزلت به المصيبة، وقد يقتل نفسه، وما أكثر حوادث الانتحار في أوربا وأمريكا!! والصابرون بحق: هم المهتدون إلى الحق والصواب ونافع الأفعال، وهم الذين فازوا بخيري الدنيا والآخرة. والصبر يكون عند الصدمة الأولى
لحديث البخاري عن أنس: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» .
والبكاء أو الحزن مع الرضا والتسليم للقضاء والقدر لا ينافي الصبر والإيمان،
فقد جاء في الصحيحين أن النّبي صلى الله عليه وسلم بكى حينما مات ولده إبراهيم، فقيل له:
أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال: إنها الرحمة، ثم قال:«إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» .
والمذموم: هو فعل ما نهى عنه الشرع من لطم الخدود وشقّ الجيوب والدعاء بدعوة الجاهلية من النواح المحرم على الأموات، وفعل ما يستقبحه العقل من التفوه بكلمات تعبر عن السخط والاعتراض على ما قدّر الله وحكم به.
وقد وردت أحاديث وآثار كثيرة في الصبر وحدوده وقيوده والاسترجاع عند المصيبة، منها ما
رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون
(1)
، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عاقبته، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» .
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي موسى أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول:
قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون:
حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى-أنها لم تكن في ديني، الثانية-أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة-أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير» ، ثم تلا قوله تعالى:{أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
والخلاصة: إن الآيات والأحاديث التي وضعت نظام الدين حضت على الصبر والاسترجاع والقول بما يرضي الله، والاستسلام لقضاء الله وقدره، والرضا بحكمه، فحينئذ يجبر الله المصيبة، بأن يعوض خيرا منها، ويثاب الصابر بالقبول الحسن عند الله والفوز بالجنة.
(1)
إِنّا لِلّهِ إقرار بالعبودية والملك، وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالفناء والبعث من القبور.