الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوثيقة، فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال، والمال قرين الروح، والإنفاق جهاد بالمال، فناسب أن يذكر الجهاد الذي هو أسمى من بذل المال، لأنه يستقيم به الدين، ويحتاج إلى بذل المال والنفس.
التفسير والبيان:
فرض عليكم معشر المسلمين قتال الكفار، فرض كفاية إن تحققت الحاجة، فإن لم تتحقق ودخل العدو بلاد المسلمين، كان فرض عين. قال الجمهور: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، ثم استمر الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام، فيكون فرض عين. وقال عطاء: فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما استقر الشرع، صار على الكفاية
(1)
.
والقتال مكروه لكم وشاق عليكم طبعا، لما فيه من بذل المال وتعريض النفس إلى الهلاك، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بما يكلف به الإنسان، فهو قد يرضى بتناول المرّ لما فيه من النفع. ولعلكم تكرهون شيئا طبعا، وفيه خير ونفع لكم فيما بعد، لأن فيه إما الظفر والغنيمة، أو الشهادة والأجر، ومرضاة الله، وفي الجهاد إعلاء كلمة الإسلام ورفع منارة الحق والعدل ودفع الظلم، ولعلكم تحبون شيئا كترك القتال، وهو في الواقع شر لكم، لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر، وتسلط الأعداء على بلاد المسلمين وأموالهم، واستباحة حرماتهم، وقد يؤدي ذلك إلى القضاء عليهم.
والله يعلم أنه خير لكم في عاجل أمركم، ولا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، وأنتم لقصور علمكم لا تعلمون ما يعلمه الله، فلا تركنوا إلى القعود عن واجب الجهاد، فإنه شر لكم، لأن الدنيا قامت على التدافع، وبادروا إلى ما يأمركم به ربكم، واحذروا الميل مع طباعكم وأهوائكم، فقد سبق في علم الله أنه سيظهر دينه
(1)
البحر المحيط: 143/ 2
وينصر أهله على قلتهم، ويخذل المبطلين على كثرتهم، كما قال:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} [البقرة 249/ 2].
والله الذي فرض عليكم القتال يعلم أيضا أن هؤلاء الأعداء لا ينفع معهم إلا القتل والتشريد والإذلال، حتى لا يعودوا إلى الاعتداء على المسلمين أبدا.
وقد اختلف العلماء فيمن كتب عليهم القتال في هذه الآية:
فقال الأوزاعي وعطاء: نزلت في الصحابة، فهم الذين كتب عليهم الجهاد.
وقال الجمهور: إن القتال فرض على جميع المسلمين بحسب الحاجة أو الحال، فإن كان الإسلام غالبا فهو فرض على الكفاية، وإن كان العدو غالبا فهو فرض على الأعيان، حتى يتحقق النصر. وهذا هو الراجح،
قال النّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» .
وهذه الآية أول آية فرض فيها القتال، وذلك في السنة الثانية للهجرة، إذ كان القتال على المسلمين محظورا في مكة، ثم أذن الله لهم في مقاتلة المقاتلين من المشركين بعد الهجرة إلى المدينة، بقوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج 39/ 22]، ثم أبيح القتال لكل المشركين، ثم فرض الجهاد.
وأحدثت قضية قتل الحضرمي على يد سرية عبد الله بن جحش اضطرابا وتساؤلا، حكاه القرآن، فقال تعالى: يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام وهو رجب، هل هو حلال أو حرام؟.
فقل لهم: نعم، القتال فيه كبير الإثم والجرم وهو أمر مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ، ولكن صد قريش عن سبيل الله بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، والكفر
بالله، والصد عن المسجد الحرام (مكة) بمنع المسلمين من الحج والعمرة، وإخراج أهله من مكة وهم النّبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، كل ذلك أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام، والفتنة أشد من القتل، فأعمالهم المنكرة وفظائعهم الوحشية مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم أكبر بكثير من قتل الحضرمي، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخف الضررين وأهون الشرين.
وما يزال أولئك المشركون أو الكفار على الشر والمنكر وقتال المسلمين حتى يردوهم عن دينهم، ويحاولوا استئصال الإسلام من قلوبهم. ومن يوافقهم ويرتد عن دينه، ويموت كافرا ولا يتوب بالرجوع إلى الإسلام، فقد بطل عمله، وذهب ثوابه وأجره، وصار هباء منثورا، وأصبح من أهل النار خالدا فيها، وهذا جزاء الكافرين المرتدين.
وأما المجاهدون في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأمثاله، فهم الذين صدقوا بالله ورسله، وفارقوا الأهل والأوطان، وتركوا مساكنة المشركين في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فهاجروا خوفا من الفتنة في الدين، ولإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وحاربوا في سبيل الله، ولحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأولئك يطمعون في رحمة الله، وأولئك هم الكمّل، فالله يجازيهم أحسن الجزاء، ويستر ذنوبهم، ويرحمهم بفضله وإحسانه، وهو الغفور الرحيم بهم وبأمثالهم.
هذا المعنى على أن السائلين من الصحابة.
وهناك رواية أخرى
(1)
: وهي أن وفدا من المشركين سأل النّبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام، وحينئذ يكون المعنى: أن المشركين متناقضون، يتمسكون بحرمة الشهر الحرام، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك: من الصد عن
(1)
اختلف في السائلين عن ذلك، فقال الحسن البصري وغيره: إن الكفار هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة العيب على المسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقال آخرون: المسلمون سألوا عن ذلك، ليعلموا كيف الحكم فيه (أحكام القرآن للجصاص: 322/ 1).