الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب نزول الآية (159 وما بعدها):
نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد صلى الله عليه وسلم. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فكتموهم إياه، فأنزل الله هذه الآية.
المناسبة بين الآيات:
كان تحويل القبلة في الآيات السابقة نعمة كبري على المسلمين، إذ جعلتهم مستقلين عن التبعة لغيرهم، ومكنتهم من الإشراف على البيت الحرام، لتطهيره من الشرك والوثنية، ووجهت أنظار المسلمين نحو مكة-قلب الجزيرة والعالم، ولما أثنى الله على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المضنية للمال والبدن، ناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج، وهو السعي بين الصفا والمروة، لإتمام النعمة بالإشراف على مكة، والتذكير بأهميتها، وإقامة مناسك الحج فيها. وكل من الاتجاه إلى الكعبة والسعي هو أيضا إحياء لملة إبراهيم عليه السلام، فلا مسوغ بعدئذ لمعاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة، ولا داعي لمحاولتهم زرع الأحقاد والضغائن ضد المسلمين الذين أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة.
التفسير والبيان:
إن الصفا والمروة والسعي بينهما من علامات دين الله، ومن مناسك الحج والعمرة التي تدل على الخضوع لله وعبادته إذعانا وتسليما، يعبده عباده عندهما وما بينهما بالدعاء أو الذكر أو تلاوة القرآن، فمن حج البيت أو اعتمر، فلا إثم عليه ولا خوف من الطواف بهما، وإن كان المشركون يطوفون بهما، فإن طوافهم كان كفرا بسبب تعظيم الأصنام الجاثمة على صخرتي الصفا والمروة، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وإطاعة لأوامر الله تعالى.
ونفي الإثم والحرج أو الجناح عن السعي يشمل الواجب والمندوب، كما أن التطوع وهو فعل الطاعة يشمل الفرض والنفل. والسر في التعبير بنفي الجناح، مع أن السعي فرض عند الجمهور، وواجب عند الحنفية: هو لبيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون السعي من الشعائر، وأنه من مناسك إبراهيم، وأنه لا مانع منه في الإسلام لتغير قصد الطائفين، ونفي الجناح لا ينافي الإيجاب المقرر شرعا.
وأما التعبير بالشعائر: وهي ما تعبّدنا الله به كالصلاة ومناسك الحج، فللدلالة على وجوب التنفيذ والطاعة، وممارسة العبادة، وإن لم نفهم معناها تمام الفهم، أو ندرك سرها، ولا يقاس عليها غيرها. أما غير الشعائر كالمعاملات من بيع وإجارة وشركة ورهن ونحوها، فهي مشروعة لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل فهمها وإدراك مقاصدها، فيجري فيها القياس بحسب المصلحة.
وإقامة شعائر الحج فرض في العمر مرة، ومن تطوع خيرا بأن أكثر من الطاعة وزاد عن الواجب الأصلي، فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، ويثيب على القليل بالكثير، فلا يبخس أحدا ثوابه، وهو عليم بقصده وإرادته وبمن يستحق هذا الجزاء.
وفي التعبير عن الجزاء الحسن بالشكر تربية على فضائل الأخلاق، إذ إن منفعة عمل العبادة عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه، فهل يليق بعدئذ كفران النعمة الإلهية وعدم شكرها؟! إن شكر المعروف وتقدير النعمة سمة أهل الوفاء والإخلاص، بل هو سبب لزيادة النعمة ودوامها وإسبال الستر الإلهي على العبد الشاكر الطائع.
وقد حمل العلماء الشكر على الثواب والجزاء بطريق المجاز، لأن الشكر بمعنى مقابلة الإحسان والنعمة بالثناء والتقدير محال على الله، إذ ليس لأحد عند ربه
يد ونعمة، ولا حاجة لله تعالى لعمل العباد. وأثبت السلف صفة الشكر لله، فهي صفة تليق بجلاله وكماله.
ثم عاد القرآن إلى كشف موقف أهل الكتاب (اليهود والنصارى) في عناد النّبي صلى الله عليه وسلم ومعاداتهم إياه، ولا سيما علماء اليهود وأحبارهم، وما تضمنه موقفهم من أنهم يعرفون النّبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون.
إن الذين يكتمون ويخفون ما أنزل الله-إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه، كالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الموجودة في سفر التثنية، وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، ووضع شيء مكذوب من عندهم مكانه، سواء في التوراة والإنجيل-جزاؤهم الطرد من رحمة الله، وغضب الله عليهم، ولعنهم من الملائكة والناس أجمعين.
وحكمة هذا الجزاء: أن ما أنزل الله من البينات والهدى، كان لخير الناس وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، عن طريق إيراد الأدلة الواضحة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وتبيان حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به، فإذا كتموا ما أنزل، وحجبوا الحقائق عن الأعين، أوقعوا الناس في ضرر جسيم، وشر عميم، وعطلوا الكتب السماوية، وفوتوا ما تؤتيه من ثمار وغايات طيبة مرجوة منها.
والآية عامة في كل كاتم ومكتوم، يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم، ومنه كتمان العلم الذي فرض الله بيانه للناس، كما
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية. والمراد من قوله تعالى: {ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى} : كل ما أنزله الله على الأنبياء من الكتب والوحي والدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة.
والمراد من قوله: {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ} إما التوراة