الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بزعامة أو إمارة جالوت الجبار الذي كان قائدهم وبطلهم الشجاع الذي يهابه الناس. وتم فعلا اختيار سبعين أو ثمانين ألفا من شباب بني إسرائيل، وخرج معهم لقتال الأعداء.
ولكن حكمة القائد طالوت ومعرفته بهم وتشككه في صدقهم وثباتهم، دفعته إلى اختبارهم في أثناء الطريق وفي وقت الحر بالشرب من نهر بين فلسطين والأردن، فتبين له عصيان الأكثرين، وطاعة الأقلين، فتابع الطريق وتجاوز النهر مع القلة المؤمنة، ولكن بعضهم قالوا حين مشاهدة جيش جالوت العظيم:
لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فرد عليهم الآخرون بأنه كثيرا ما غلبت الفئة القليلة فئات كثيرة بإذن الله.
وكان من حاضري الحرب داود بن يسّى الذي كان شابا صغيرا راعيا للغنم، لا خبرة له بالحرب، أرسله أبوه ليأتيه بأخبار إخوته الثلاثة مع طالوت، فرأى جالوت يطلب المبارزة، والناس يهابونه، فسأل داود عما يكافأ به قاتل هذا الفلسطيني، فأجيب بأن الملك يغنيه غنى جزيلا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرا.
فذهب داود إلى طالوت يستأذنه بمبارزة جالوت أمير العمالقة وكان من أشد الناس وأقواهم، فضن به وحذره، فقال: إني قتلت أسدا أخذ شاة من غنم أبي، وكان معه دب فقتلته. ثم تقدم بعصاه وخمسة أحجار ماس في جعبته، ومعه مقلاعه، وبعد كلام مع جالوت، رماه داود بحجر، فأصاب جبهته فصرع، ثم تقدم منه وأخذ سيفه، وحزّ به رأسه، وهزم الفلسطينيون، فزوجه الملك ابنته «ميكال» وجعله رئيس الجند.
فقه الحياة أو الأحكام والعبرة من هذه القصة:
ذكر أن التابوت أنزله الله على آدم عليه السلام، ثم وصل إلى يعقوب عليه
السلام، فكان في بني إسرائيل، يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا، فغلبوا على التابوت، غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه، وسلبوا منهم التابوت.
وهذا أدل دليل على أن العصيان سبب الخذلان، كما أوضح القرطبي
(1)
.
وظاهر بداية الآية: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ..} . وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوة هذا النبي الذي كان معهم
(2)
.
ودل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} على مبدأ سد الذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، لذا لم يقل:«ومن لم يشرب منه» .
ودل ذلك أيضا على أن الماء طعام، وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به، فوجب أن يجري فيه الربا، وهو الصحيح من مذهب مالك، وهو أيضا مذهب الشافعي، فلا يجوز بيع الماء متفاضلا، ولا يجوز إلى أجل، والعلة فيه: كونه مأكولا ومتحد الجنس. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل. ولا يجوز بيعه كذلك عند محمد بن الحسن، لأن علته في الربا الكيل والوزن، وهو مما يكال ويوزن.
ودفع الله الناس بعضهم ببعض قد يكون بجماعة في مواجهة أخرى، وقد يكون بالفرد الواحد،
قال ابن عمر: قال النّبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء» ، ثم قرأ ابن عمر:{وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة 251/ 2]، و
روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم» .
(1)
تفسير القرطبي: 247/ 3
(2)
البحر المحيط: 261/ 2
وقوله تعالى: {وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} بيان واضح أن دفعه سبحانه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة.
ونبه تعالى نبيه بقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} على أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل.
وفي هذه القصة القرآنية أحكام عامة أهمها ما يأتي:
1 -
إن الشعور بالظلم والذل والاستعباد هو الذي يولد الانفجار، وإن الأمم إذا اعتدي عليها لا سبيل إلى استرداد عزتها إلا بتوحيد صفوفها تحت قيادة زعيم عادل وقائد باسل، كما فعل بنو إسرائيل حينما تغلب عليهم أهل فلسطين.
2 -
إن أول من يتنبه للخطر والضرر اللاحق بالأمة هم خواصها وعلماؤها وأشرافها وأهل الفضل فيها، كما حدث من ملأ بني إسرائيل حينما طلبوا تنصيب ملك عليهم.
3 -
يظن الجهال أن أحق الناس بالزعامة والقيادة أصحاب النفوذ والثروة، كما زعم بنو إسرائيل:{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ} مع أن الأجدر بالقيادة أهل العلم والخبرة والمقدرة الشخصية والخلق الكريم.
4 -
إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار القائد أو الرئيس، فيجب أن يكون هناك مرجح وحاسم للخلاف، وكان ذلك المرجح هو ما يختاره نبي بني إسرائيل بطلب الملأ منهم، والمرجح في الإسلام بعد النبي رأي أهل الحل والعقد:
وهم العلماء وأصحاب المكانة في الأمة.
5 -
تتجلى شروط الإمامة في اختيار الأكفاء، لقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وإذا انضم إلى ذلك قوة العصبة والقبيلة
والنفوذ كان أولى،
لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش»
(1)
.
6 -
دل قوله تعالى: {وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ} على أن التوفيق الإلهي في اختيار القائد قائم على العدل التام والسنة الحكيمة ورعاية المصلحة العامة.
7 -
إن من أوليات شروط النصر والغلبة توافر الطاعة التامة للقائد من قبل الجنود، وهذا ما أخذت به قوانين الجيوش الحالية.
8 -
إن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة بقوة الإيمان والصبر والثبات وإطاعة القواد. والمقصود بالإيمان: هو الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه، وانتظار الثواب العظيم، وتحقيق المكانة العالية للشهداء في الجنة.
9 -
إن الدعاء في وقت الشدة وفي أثناء المعركة مفيد ومحقق للغاية، لأن الدعاء آية الإيمان، والعون على الثبات، كما قال الله تعالى:{وَلَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً..} . الآية، وقال:{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ} وقال الله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال 45/ 8].
10 -
إن نظرية تنازع البقاء وبقاء الأصلح تشبه إلى حد كبير قوله تعالى:
{وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} وقوله عز وجل:
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد 17/ 13].
انتهى الجزء الثاني
(1)
رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب.