الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نزول الآية (230):
أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقا بائنا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، فطلقها، فأتت النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه طلقني قبل أن يسمني، أفأرجع إلى الأول؟ قال:
لا حتى يمس، ونزل فيها:{فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فيجامعها {فَإِنْ طَلَّقَها} بعد ما جامعها {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا} .
التفسير والبيان:
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة 228/ 2] فهي واردة لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة، والعدد الذي لا رجعة فيه. والمعنى: إن عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان، أي اثنتان أو طلقتان فقط، وليس بعد المرتين إلا أحد الأمرين: الإمساك بالمعروف والمعاشرة الحسنة، أو التسريح لها بإحسان، بمعنى أن تتركها، حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، ولا تراجعها.
وقيل: المراد من الآية إيقاع الطلاق مفرّقا، لا مجموعا، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام، كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، بدليل
حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلق لكل قرء تطليقة» .
وقال مجاهد وعطاء وجمهور السلف وعلماء الأمصار: المراد من التسريح
بإحسان: الطلقة الثالثة، بدليل
حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره، أنه سأل النّبي صلى الله عليه وسلم، سمعت الله تعالى يقول:{الطَّلاقُ مَرَّتانِ} فأين الثالثة؟ فقال: أو تسريح بإحسان. ويكون قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} بيانا لهذا
(1)
.
والحكمة من جعل الطلاق مرتين وإثبات حق الرجعة بعد كل من الطلاق الأول والثاني: هو إعطاء الفرصة لإصلاح كل من الزوجين حاله، لأن الأوضاع تعرف بأضدادها، فلا يجد المرء مقدار النعمة ولذتها حتى يذوق طعم النقمة ويشعر بمرارتها، فقد يكون الرجل عصبي المزاج، حاد الطبع، سيء الخلق، فيتورط في الطلاق، مرة بعد أخرى، فتذكره الفرقة، وما تتركه الزوجة من وحشة وفراغ
(2)
، وما يتطلبه البيت والأولاد من خدمات، فيثوب لرشده، ويحد من سوء خلقه، ويصلح معاملته لزوجته، ويعاشرها بالمعروف كما أمر الله تعالى.
وقد تكون المرأة مهملة حقوق زوجها وبيتها وأولادها، مترفعة سادرة
(3)
في كبريائها، فإذا أحست بألم الفرقة، ووحشة الطلاق، وأدركت أخطاءها، عادت إلى الحياة الزوجية بوجه جديد، وسلوك أفضل من السابق.
(1)
قال ابن عطية: ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه: أولها-هذا الحديث، والثاني- أن التسريح من ألفاظ الطلاق، والثالث-أن فعّل تفعيلا، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل (البحر المحيط: 193/ 2 - 194).
(2)
قال الرازي في تفسيره الكبير (98/ 6): الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري، هل تشقّ عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه، فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع، لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المنحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
(3)
السادر: الذي لا يهتم ولا يبالي بما يصنع.
وعلى هذا النحو من التنازلات من كلا الزوجين، والعتاب الخفيف اللطيف، والتماس أوسط الحلول وأقربها إلى مصلحة الطرفين، والنظر البعيد إلى مستقبل الأسرة والأولاد، يمكن تجديد بنية العلاقات الزوجية، وتوجيهها وجهة معقولة متسمة بالحكمة والاتزان، ومراقبة الله تعالى في كل شيء، دون تفريط ولا إفراط، ولا بغي أو ظلم أو اعتداء من طرف على آخر، والله يحب المحسنين.
فإن اختار الرجل التسريح على الإحسان-وهو أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق الذي لم يشرع إلا للضرورة-، حرم عليه أخذ شيء مما أعطاها:
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة 229/ 2] سواء من مهر أو غيره، بل يجب عليه إهداؤها شيئا من الهدايا العينية أو النقدية زائدا عن حقوقها السابقة، عملا بقوله تعالى:{فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً} [الأحزاب 49/ 33] وهذا تحذير للرجال من إلحاق الظلم بالنساء وهضم حقوقهن.
ولكن يجوز للرجل أخذ ما تبذله المرأة من فداء مالي عن الطلاق، لتفتدي به نفسها، لأنه برضاها واختيارها دون إكراه، إذا كانت المرأة هي الطالبة لفراق زوجها، لكراهتها إياه، أو لسوء خلق منها أو منه، دون قصده الإضرار، لقوله تعالى:{وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق 6/ 65]، وخاف الزوجان تجاوز حدود الله-أي أحكامه-التي شرعها للزوجين من حسن العشرة وأداء الحقوق المطلوبة في ظل ولاية الرجل، بأن خافت المرأة الوقوع في المعصية مثل جحد نعمة العشرة أو الخيانة، أو خاف الرجل تجاوز الحدود في مؤاخذة الناشز، وهذا الفراق على عوض مالي من المرأة يسمى الخلع، وتجب بعده العدة كالطلاق، ولا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة، بخلاف الطلاق الرجعي، وقد حث النّبي صلى الله عليه وسلم على ترك طلب الخلع من المرأة من غير ضرورة،
روى أحمد والترمذي والبيهقي عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة سألت
زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» وقال:«المختلعات هن المنافقات»
(1)
.
ثم حرّم الله تعالى تحريما قاطعا تجاوز حدود الله التي حدها في العلاقات الزوجية وغيرها: وهي الأحكام المقررة المشتملة على الأوامر والنواهي، فلا يجوز تجاوز ما أحله إلى ما حرمه، وما أمر به إلى ما نهى عنه.
ثم حذر وأوعد المخالفين الذين يعتدون على أحكام الشرع، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويتعدون حدود الله، ووصفهم بأنهم الظالمون، ولا ظالم غيرهم.
ثم أبان تعالى حكم الطلاق الثالث الذي تصبح المرأة بعده بائنا بينونة كبري، فقال: فإن طلقها بعد الطلقتين السابقتين، فلا تحل له أبدا من بعد هذا الطلاق الثالث، حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به الدوام والاستمرار دون أن يقصد به مجرد تحليل المرأة المطلقة لزوجها، ولا بد في الزواج الثاني من الدخول الحقيقي بالمرأة (أي الجماع) عملا بما رويناه سابقا في قصة رفاعة، التي
رواها الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم بعبارة أخرى مشهورة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النّبي صلى الله عليه وسلم، وقال:«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك»
(2)
.
فإن طلقها الزوج الثاني بنحو طبيعي، وانقضت العدة، فيجوز للزوج الأول أن يعقد عليها عقدا جديدا، إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية
(1)
رواه أحمد عن أبي هريرة
(2)
العسيلة: هي أقل ما يكون من غشيان الرجل المرأة.
والتزام ما أمر الله به من المعاشرة الحسنة، فتلك حدود الله، وأما إن ظنا حين المراجعة أنهما يعودان لما كان، من إضرار بها، أو نشوز منها، فالرجوع ممقوت عند الله، وإن صح قضاء.
ويلاحظ أنه لم يقل: «إن علما أنهما يقيمان» لأن اليقين مغيب عنهما، لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن فسر الظن هاهنا بالعلم، فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه قام، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظنا
(1)
.
أما نكاح التحليل المؤقت: وهو الذي يقصد به تحليل المرأة لزوجها الأول بشرط أو اتفاق في العقد أو غيره بالنية، فهو زواج باطل غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول الذي طلقها، وهو معصية لعن الشرع فاعلها، سواء علم الزوج المطلّق أو جهل بذلك وهو رأي مالك وأحمد والثوري والظاهرية. وقال الحنفية والشافعية: هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط التحليل في العقد.
والرأي الأول أصح وأحق بالاتباع، لما
روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود، وابن ماجه عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له» .
وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلّل، قال:«لا، إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل، ثم تذوق العسيلة» .
وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك، فقال: كلاهما زان». وسأل
(1)
الكشاف: 279/ 1
رجل ابن عمر، فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلّها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته ثلاثا، ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
بهذا يتبين أن التحليل المؤقت ليس من شرع الله ولا دينه، وفيه مفاسد كثيرة، وهو زنى، وإن تم بعقد في الظاهر.
ثم ختم الله تعالى الآية بإعلان صريح: وهو أن هذه الأحكام هي حدود الله يبينها بأجلى بيان، ويوضحها بأتم وضوح، لقوم يدركون فائدتها، ويعلمون مصلحتها، فلا يحيدون عنها، ولا يتحايلون عليها، وإنما يعملون بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة المرجوة، فلا يضمر الرجل السوء أو يبيت الانتقام إذا راجع امرأته.
إن أحكام الله وشرعه ومنها الطلاق والرجعة منسجمة مع الحكمة والواقع، فقد تستعصي الحلول، فيلجأ إلى الطلاق، وما أكثر حوادث الطلاق في بلاد الغرب لأتفه الأسباب التي نستغربها أشد الغرابة في بلادنا. ويحدث الندم عادة وغالبا في الطلاق بين المسلمين والمسلمات إذا لم يكن هناك انحراف واضح أو سلوك معوج يصعب تقويمه، كالخيانة الزوجية أو السلوك المشبوه الذي يعجز الرجل عن إثباته، فيكون الطلاق حال الانحراف أو الشذوذ طريق الخلاص المحتوم، وتكون الرجعة في الأحوال التي تحتمل الإصلاح والتربية الناجعة.
وأما الأخطاء التي يرتكبها الرجل في الإقدام على الطلاق بغير وجه مشروع أو يسيء استعمال هذا الحق الممنوح له لأحوال اضطرارية أو استثنائية، فيتحمل