الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإنسان قد يكون شديد الحاجة، وكانت التجارة مظنة الحظر، فدفعا لذلك التوهم أباح الله تعالى الاتّجار في أثناء الحج، لأن ذلك سعي من أجل الرزق، والرزق أو الكسب فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافي الإخلاص في هذه العبادة، فلا مانع من انضمام قصد الاتّجار إلى الحج، وإنما الممنوع هو قصد التجارة فحسب. وقد تحرج المسلمون من التجارة في بادئ الأمر، خشية التأثير على العبادة، كما بيّنا في سبب النزول، فكانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا إثم فيه مع إخلاص العبادة.
التفسير والبيان:
لا إثم عليكم في طلب الرزق الحلال أثناء الحج من طريق البيع والشراء والكراء إذا لم يكن هو المقصود الأساسي بالذات، وإنما يجوز أن يكون تبعا للعبادة، إذ هو مع حسن المقصد عبادة أيضا، ولكن التفرغ لأداء المناسك أفضل وأكمل، لقوله تعالى:{وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة 5/ 98].
ويشترط أيضا لإباحة التجارة في الحج: ألا يترتب عليها نقصان في الطاعة، ولا تشغله عن أعمال الحج، لذا أمر الله تعالى بذكره بعد الوقوف بعرفات الذي هو أهم أركان الحج
للحديث النّبوي: «الحج عرفة»
(1)
، وبعد الإفاضة من عرفات: أي الاندفاع في السير بكثرة، فعلى الحاج إذا دفع إلى المزدلفة وبات فيها أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالتلبية والتهليل والدعاء والحمد والثناء، وإنما طلب منه الذكر خشية أن يتركه في هذا الموضع المبارك. والمشعر الحرام: هو الجبل الذي يقف عليه الإمام،
فقد روي: «عن النّبي صلى الله عليه وسلم لما صلّى الفجر بالمزدلفة، ركب ناقته، حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبّر، وهلل، ولم
(1)
رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقي عن عبد الرحمن بن يعمر.
يزل واقفا حتى أسفر جدا» أي دخل في الإسفار وهو بياض النهار، وورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال: كان الناس في هذه الليلة لا ينامون.
ثمّ بيّن الله سبحانه طريقة الذّكر، فقال: واذكروه كما علّمكم كيفيّة الذّكر، بأن يكون بتضرع وإخلاص وإنابة قلبية وخشوع وحضور القلب مع الله، وهذا هو الذّكر الحسن، كما هداكم هداية حسنة، وإن كنتم من قبل هذا الهدى من الضّالين عن الحق في العقيدة والعمل، إذ كنتم تعبدون الأوثان والأصنام، وتتخذونها وسطاء أو شفعاء عند الله، لتقربكم إلى الله زلفى.
ثم أمرت الآية قريشا وبعض القبائل بالإفاضة من عرفات، كما يفيض الناس منها ويقفون عليها، بعد أن كانوا يقفون في المزدلفة، ترفعا عن غيرهم.
روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس
(1)
كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة، ترفّعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.
وتحقيقا لمبدأ المساواة ونبذ الامتيازات في الإسلام أمر الله نبيّه بأن يقف مع المسلمين جميعا في عرفات، وأن يفيضوا منها إبطالا لما كانت عليه قريش.
ولما كانت أعمال الحج كثيرة، وهي لا تخلو عن تقصير، أمرهم بالاستغفار، فالله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يطلب ذلك منه مع التوبة الخالصة.
ثم أبطل الله تعالى عادة جاهلية أخرى وهي المفاخرة بأمجاد الآباء حيث إنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل، بعد الفراغ من أعمال الحج، كما بيّنا في سبب النزول، ويؤكده ما روى ابن عباس: أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم، يعدّ الواحد منهم أيام آبائه في السماحة، والحماسة، وصلة الرحم،
(1)
الحمس: مفرده أحمس: وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.
ويتناشدون فيها الأشعار، فلما أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام، أمرهم بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم.
وروى القفال عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، يوم الفتح، يستلم الركن بمحجنه، ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
«أما بعد، أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم حميّة الجاهلية وتفككها، يا أيها الناس، إنما الناس رجلان: برّ تقيّ كريم على الله، أو فاجر شقيّ هيّن على الله، ثم تلا:{يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ.} . الآية [الحجرات 13/ 49].
وخطب النّبي صلى الله عليه وسلم أيضا في حجة الوداع في ثاني أيام التشريق، فأرشد العرب إلى ترك تلك المفاخرات، وقال:«أيها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلّغت؟» قالوا: بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإبطال تلك العادة كان بالأمر بذكر الله ذكرا كثيرا مبالغا فيه، كما كانوا يذكرون آباءهم ومفاخرهم، بل أشدّ من ذكرهم آباءهم.
ثم ذكر ما يكون من الناس الذاكرين في الدعاء، ليأخذوا بأحسن الأحوال ويتركوا غيره، فقال: الناس في الحج قسمان:
قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا، والاستزادة من خيراتها، ويسكت عن الآخرة، وكأنها لا تخطر له ببال، ولا يهتم بشيء من أمورها، فيطلب الجاه والغنى والنصر على الأعداء ونحو ذلك من حظوظ الدّنيا، هذا القسم لا خلاق (لا حظّ) لهم في الآخرة، مما أعدّه الله للمتقين من رضوانه وجناته.
وقسم يحرص على طلب خيري الدّنيا والآخرة، فيقول: ربّنا هب لنا حياة طيبة سعيدة هانئة في الدنيا، وحياة راضية رغيدة مطمئنة في الآخرة، وطلب كلّ من سعادة الدّنيا والآخرة منوط بالعمل الطيب النافع، فالدّنيا تتطلب الجهد والسعي في سبيل الرزق، وحسن المعاملة والمعاشرة، والتّخلّق بمحاسن الأخلاق، والآخرة لا تنال إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وهذا القسم حريص على اجتناب المعاصي وأسباب العذاب في النار، فيقول: ربّنا احفظنا من شهوات نفوسنا، وباعد بيننا وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ووفقنا للعمل بما يرضيك، فإذا قام المؤمن بفرائض الله واجتنب المعاصي والمنكرات، وطلب سعادة الدارين، حقق الله له النجاح فيهما.
والحسنة في الدّنيا: هي الصّحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء. والحسنة في الآخرة: هي الفوز بالثواب والخلاص من العقاب.
ثم أشار الله إلى الفريقين: الذين طلبوا الدنيا، والذين طلبوا الدنيا والآخرة معا، فأبان أنّ كلاّ منهما يعطى حظّا مما طلب ودعا، وقيل: إن قوله: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ.} . راجع للقسم الثاني فقط، لأن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله:{وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} . وعلى كل حال يكون نوال الجزاء مبتدءا من الكسب، لأن {فَمِنَ} لابتداء الغاية، لا للتبعيض، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله، والله سريع الحساب، يوفي كلّ كاسب أجره عقب عمله، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطّلاع كل عامل على عمله، ويتمّ ذلك في لحظة،
فقد روي أن الله يحاسب الخلائق كلهم بمقدار لمحة البصر، وروي بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وفي الجملة: آية {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، وما دام الحساب محقق الوقوع، فهو قريب سريع.
وهناك شبيه لهذه الآية، وهي قوله تعالى:{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء 18/ 17 - 20]. وقوله عز وجل: {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا، نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى 20/ 42].
ثم أمر الله تعالى بذكره في أيام منى بعد الأمر السابق بذكره عند المشعر الحرام، وعند تمام أداء المناسك بعد منى، فقال سبحانه:{وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ} هي أيام منى أو أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى ثالث عشر، وهي الأيام التي يرمون فيها الجمار، وينحرون فيها الهدي والأضاحي.
والذكر في هذه الأيام يكون بالتهليل والتكبير عقب الصلاة وعند رمي الجمار وذبح القرابين، ويستوي في نوع هذا الذكر الحاج وغيره إلا أن غير الحاج يكبّر أيضا في يوم عرفة، والحاج يلبي، والمأثور من التّكبير:«الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا» . ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكبّر في فسطاطه بمنى، فيكبّر من حوله، حتى يكبّر الناس في الطريق.
وروي عن الفضل بن العباس قال: «كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع-مزدلفة-إلى منى، فلم يزل يلبّي حتى رمى جمرة العقبة» .
ويلاحظ أنه ورد الأمر بالذكر في الحج في هذه السورة في أيام معدودات، وفي سورة الحج في أيام معلومات:{لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ} (الآية: 28)، فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنّ
«المعلومات» هي العشرة الأوائل من ذي الحجة، آخرها النّحر، وأما «المعدودات» فهي ثلاثة بعد يوم النّحر، وهي أيام التشريق. وقد أكّد القفال هذا بما
رواه في تفسيره أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديا فنادى: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع-مزدلفة-قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج، وأيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه» ، و
روى أصحاب السّنن عن عبد الرحمن بن يعمر قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا ينادي: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع
(1)
-مزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه». ومذهب مالك أن أيام الرّمي معدودات وأيام النّحر معلومات، فيوم النّحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم.
ومعنى آية {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ.} .: أنّ من تعجل في الإتيان بالمطلوب في الأيام الثلاثة، بأن جعله في يومين، فلا إثم عليه، ومن تأخر، بأن لم يأخذ برخصة التعجيل، فلا إثم عليه، فالأفضل البقاء في منى والمبيت بها ثلاثة أيام وليال، لرمي الجمار
(2)
الثلاث في كلّ يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات، تأسّيا بفعل إبراهيم عليه السلام، وتمتاز جمرة العقبة بأنها ترمى وحدها يوم النحر أيضا. ويجوز الترخص والمبيت بمنى ليلتين الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ثم النّفر إلى مكة. ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني، فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر، ولا إثم عليه بترك الترخص.
هذا التخفيف والتخيير في التعجيل والتأخير، ونفي الإثم عن المستعجل
(1)
سميت جمعا: لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام.
(2)
الجمار: جمع جمرة: وهي مجتمع الحصى.