الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهم وبغيرهم من المؤمنين، فلا يؤاخذهم بما سلف، لأن رحمته وسعت كل شيء.
ومعنى {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} : أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف، ويطالب بالفيئة أو الطلاق، ولهذا قال:{فَإِنْ فاؤُ} . وإن عزموا الطلاق، فلم يفيئوا إلى نسائهم، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، وبما ارتكبوه مما يحرم أو يحلّ، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن أرادوا إيذاء النساء ومضارتهن، فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي مثل حملهن على إقامة حدود الله، فالله يغفر لهم.
ومجمل الحكم: أن من حلف على ترك قربان امرأته واستمر على امتناعه أربعة أشهر، فإما أن يفيء إلى زوجته، ويحنث في يمينه، ويكفّر عنها، وإما أن يطلق، فإن أبى الطلاق طلّق عليه القاضي. أي له الخيار بين أمرين: الفيئة أو الطلاق. والفيئة أفضل من الطلاق، لأن الله جعل جزاءها المغفرة والرحمة، وهدد في حال الطلاق بأن الله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم وأفعالهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} على أن الإيلاء يختص بالزوجات.
ويلزم الإيلاء كلّ من يلزمه الطلاق، فالحرّ والعبد والسكران يلزمه الإيلاء، وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصي غير المجبوب، والشيخ الكبير إذا كان فيه بقية قوة ونشاط. أما المجبوب:
فللشافعي فيه قولان: قول: لا إيلاء له، وقول: يصحّ إيلاؤه، والأول أصح.
ويصحّ إيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة، ويقع إيلاء الأعجمي كالعربي بلغته.
واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين:
فقال الشافعي في الجديد: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفا، فليحلف بالله أو ليصمت» .
وقال الحنفية والمالكية: يصحّ الإيلاء باليمين، أو بالحلف على ترك الوط ء بالطلاق أو العتاق، أو نذر التصدق بالمال أو الحج، أو الظهار، لقول ابن عباس:«كلّ يمين منعت جماعا فهي إيلاء. وكلّ من حلف بالله أو بصفة من صفاته، فقال: أقسم بالله أو أشهد بالله، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمّته، فإنه يلزمه الإيلاء اتفاقا» . وأضاف المالكية: أنه لا تشترط اليمين في الإيلاء، فإذا امتنع الرجل من الوط ء بقصد الإضرار من غير عذر، ولم يحلف، كان موليا، لوقوع الضرر.
وقال الحنابلة على الرواية المشهورة: لا يكون الإيلاء بالحلف بالطلاق والعتاق، بدليل قراءة أبي وابن عباس:«للذين يقسمون» بدل {يُؤْلُونَ} .
فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى، بأن قال: إن شاء الله، فالأصح لدى المالكية وفقهاء الأمصار: ليس بمول، لأن الاستثناء يحلّ اليمين، ويجعل الحالف كأنه لم يحلف.
وكذا إن حلف بالنّبي أو بالملائكة أو بالكعبة ألا يطأها، أو قال: هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها: ليس بمول، في رأي مالك وغيره.
واختلف العلماء في صفة اليمين التي يكون بها الحالف موليا.
فقال جماعة (علي وابن عباس والزهري): لا يكون موليا إلا إذا حلف على ترك الوط ء إضرارا بها، أما إذا حلف لا على وجه الإضرار، فلا يكون موليا، لأن الله جعل مدة الإيلاء مخرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته، فإذا لم يقصد الضرر، وإنما قصد الصلاح والخير، لم يكن موليا، فلا معنى لتحديد الأجل، حتى تتخلّص من مساءته.
وقال آخرون: إنه يكون موليا، سواء أحلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أم لمصلحة.
وقال بعضهم: ليست يمين الإيلاء مقصورة على الحلف بترك الوط ء، بل تكون بالحلف على غيره أيضا، كأن يحلف ليغضبنها، أو ليسوءنها، أو ليحرمنها، أو ليخاصمنها، كل ذلك إيلاء.
واختلف الفقهاء في الفيء:
فقال الجمهور: هو غشيان المرأة الذي امتنع عنه، لا فيئة له إلا ذلك، فإن كان هناك عذر من مرض أو سفر، ومضت مدة الإيلاء دون وط ء، بانت منه في رأي طائفة، وقال الأكثرون منهم المالكية: لا تبين منه، وارتجاعه صحيح وهي امرأته.
وقال الحنفية: الفيء إما بالفعل وهو الجماع في الفرج، وإما بالقول: كأن يقول: فئت إليك، أو راجعتك، وما أشبه ذلك.
وأما الطلاق بعد ترك الفيء في الإيلاء ففيه اختلاف أيضا:
فقال الحنفية: الفيء يكون قبل مضي المدة، فإذا مضت الأربعة الأشهر بدون فيئة، وقع الطلاق طلاقا بائنا.
وقال الجمهور: لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة، فإن مضى الأجل، لا يقع به طلاق، وإنما ترفع المرأة الأمر إلى القاضي، فإما فاء وإما طلّق، أي إن الطلاق يقع بتطليق الزوج، أو القاضي إذا رفعت الزوجة الأمر إليه.
ومنشأ الخلاف: اختلافهم في تأويل آية: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فرأى الحنفية: إن فاءوا في هذه الأشهر، فإن الله غفور رحيم لما أقدموا عليه من الحلف على الإضرار
بالزوجة، وإن لم يفيئوا في هذه الأشهر، واستمروا في أيمانهم، كان ذلك عزما منهم على الطلاق، ويقع الطلاق بحكم الشرع. ويكون معنى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} أي بترك الفيئة، وقد شبهوا مدة الإيلاء بالعدة. والمولى عنها بالرجعية، وشبهوا الطلاق بالطلاق الرجعي. وكان الإيلاء في الجاهلية طلاقا، فأقره الشرع طلاقا، وزاد فيه الأجل.
والمعنى عند الجمهور: للذين يحلفون يمين الإيلاء انتظار أربعة أشهر، فإن فاءوا بعد انقضاء المدة، فإن الله غفور رحيم، وإن قصدوا إيقاع الطلاق، فإن الله سميع لطلاقهم، عليم بما يصدر عنهم من خير أو شرّ، فيجازيهم عليه. وقد شبهوا أجل الإيلاء بالأجل الذي يحدد في العنّه (العجز الجنسي)، لأن الإيلاء ضرر بالزوجة، فإن رفعه الزوج وإلا رفعه الشرع كما في أي ضرر يتعلق بالوط ء، وهذا هو الظاهر، لأن قوله:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة
(1)
.
ولا فرق في لزوم الإيلاء بين المرأة المدخول بها وغير المدخول بها.
ولا يشترط في المولي عند الجمهور: أن يكون مسلما، فيصح إيلاء المسلم والكافر، ولكن لا تلزمه الكفارة بالحنث عند الحنفية، وتلزمه الكفارة في رأي الشافعية والحنابلة. واشترط المالكية أن يكون المولي مسلما، فلا يصح إيلاء الذّمي، كما لا يصحّ ظهاره ولا طلاقه، لأن نكاح أهل الشرك لديهم غير صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع، حتى تلزمهم كفارات الأيمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء، لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم، حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وط ء زوجته، ضرارا من غير يمين.
(1)
روى مالك والبخاري عن ابن عمر قال: «إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق، وإما أن يفيء» .