الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
أوضح الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يفسد في الأرض ويخرب العامر، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته، وأتبع ذلك هنا بأن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفرق والانقسام، فأمرهم بقوله: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب انقادوا إلى الله تعالى في كل شيء، وادخلوا في الإسلام كله، وخذوا الإسلام بجملته، ولا تخلطوا به غيره، وافعلوا كل ما أمركم به الإسلام من أصول وفروع وأحكام دون تجزئة أو اختيار
(1)
، كالعمل بالصلاة والصيام مثلا، وترك الزكاة والحدود، وتناول الخمر، وأخذ الربا، وفعل الزنى، ونحوه مما نراه الآن.
وحافظوا على وحدة الإسلام وجمع كلمة المسلمين، كما قال الله تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.} . [آل عمران 103/ 3] واحذروا التنازع والاختلاف، كما قال عز وجل:{وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوتكم [الأنفال 46/ 8] وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» .
ولا تتبعوا طرق الشيطان في التفرق في الدين أو في الخلاف والتنازع، فهذه
(1)
قال أبو حيان: إن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه، فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام وألا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بأنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة (البحر المحيط: 120/ 2).
وسائله ووساوسه التي يزخرفها أو يزينها للناس، يسوّل لهم المنافع والمصالح.
ويصرف الشخص عن الحق والهداية، ويفرق بين الجماعة، كما حدث من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وحرفوا وبدلوا، ونقصوا وزادوا، فتمزقت وحدتهم، وسلّط الله عليهم الأعداء.
والسبب في تحذيرنا من اتباع خطوات الشيطان: أنه العدو اللدود الظاهر العداوة، فإن جميع ما يدعو إليه هو الضلال والباطل بعينه.
ثم توعد الله من حاد عن جادة الاستقامة، فأعلمهم أنكم إن ملتم عن الحق، وابتعدتم عن صراط الله وهو الإسلام، بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات القاطعات، وسرتم في طريق الشيطان، طريق الخلاف والنزاع والتفريق، فإن الله عزيز لا يغلب، أو غالب على أمره، لا يعجزه الانتقام منكم، حكيم في صنعه، لا يهمل المذنب، وإنما يعاقبه ويؤاخذه في الدنيا والآخرة.
وهكذا الحكم في كل الأفراد، إذا لم يلتزموا طريق الاستقامة، ولم يتحصنوا بدرع متين من الأخلاق، وأهملوا شرع الله كله أو بعضه، فلن يوفقوا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم زاد في التهديد والوعيد، فأورد هذا الاستفهام: ما ينتظر هؤلاء المكذبون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد إثباتها بالأدلة والبراهين الساطعة، وأولئك الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من العذاب في ظلل من الغمام (السحاب) حيث ينتظرون الخير، تنكيلا بهم، وتأتيهم الملائكة وتنفذ ما قدره الله وأراده لهم، وهو أمر قضاه الله وأبرمه، فلا مفرّ منه، والمرجع في كل الأمور في النهاية إلى الله يوم القيامة، فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول مبدئ الخلائق، وهو الآخر تصير إليه الأمور.
وحكمة إنزال العذاب في الغمام الذي هو مظنة الرحمة والأمل في الخير، هو إنزاله فجأة من غير سابق إنذار، كما في آية أخرى:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان 25/ 25].
وهذا يومئ للمؤمن بأن يبادر إلى التوبة وإصلاح الحال، حتى لا يفاجئه العذاب، ويأتيه بغتة وهو لا يشعر، فإذا لم تفاجئه القيامة، فاجأه الموت، أو المرض الذي يعجزه عن العمل الصالح، كما جاء في آية أخرى:{وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر 54/ 39 - 55].
ثم فتح الله سبيل الحوار والمناقشة مع بني إسرائيل عن الآيات العديدة التي حدثت على يد رسلهم، كي يكون ذلك باعثا لهم على الإيمان برسالة النّبي صلى الله عليه وسلم التي قامت على مثل تلك الآيات أو المعجزات. فقال:
سل يا محمد بني إسرائيل سؤال تقريع وتبكيت وتوبيخ لهم عن الآيات الكثيرة التي جاءت على أيدي رسلهم الكرام، مثل موسى وعيسى عليهما السلام، فهي تدل دلالة قاطعة على صدقهم، ومثلها المعجزات الدالة على صدقك، فهي متنوعة وكثيرة تؤدي إلى الاقتناع والتصديق بالنبوات. فهل لهم أن يتعظوا ويتدبروا، ويقلعوا عن جحودهم بالحق وطغيانهم؟ وإلا حلّ بهم من النكال مثل ما حلّ بأسلافهم.
ثم هدد كل من يغيّر سنن الله، فقال: ومن يغير نعمة الله وهي الأدلة والبراهين الدالة على الحق والخير والهداية، من بعد ما وصلت إليه وعرفها، ويجعلها من أسباب ضلاله وكفره وعصيانه، فله العذاب الشديد، والعقاب الصارم، والجزاء المحتم، لأنه من سنن الله العامة القائمة على العدل والإنصاف،
تمييزا بين المحسن والمسيء، والله شديد العقاب لمن خالف وأساء، رؤف رحيم بمن أطاع وأحسن.
ولكن طبيعة الكافرين الجاحدين قائمة على حب الدنيا حبا شديدا، وتحسينها في أعينهم، وتمكّن محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وفتنوا بمباهجها وزخارفها، وآثروها على كل شيء، حتى ما عند الله من نعيم مقيم، لأنهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا بالآخرة، ثم يتبعون التأويلات والأوهام والآمال الكاذبة التي علقت في خواطرهم.
وتراهم يسخرون من المؤمنين، ويستهزئون بالفقراء منهم، كابن مسعود وعمار وصهيب، ويعجبون: كيف ترك هؤلاء لذات الدنيا وعذبوا أنفسهم بالعبادات؟ كما يعجبون من الأغنياء، كيف لا يتقلبون في النعيم، ويستعدون لما بعد الموت، بتصحيح الاعتقاد، وإصلاح الأعمال، والتخلق بفضائل الأخلاق؟ ويتلخص موقفهم أو نظرتهم بأنه موقف مادي، لا أثر فيه للروحانية.
ثم ردّ الله على هؤلاء الساخرين الذين يظنون أنهم في لذاتهم ودنياهم خير من أهل اليقين والإيمان، ومفاد الرد:
إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين فترة من الدهر، بالمال أو المنصب والجاه، أو العزة والسلطان وكثرة الأنصار والأتباع، فإن المتقين سيكونون أعلى رتبة منهم في الآخرة، وأعلى مقاما عند ربهم، فهم في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما قال الله تعالى:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا} [مريم 63/ 19].
وقد تساءل الزمخشري عن السبب في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قال: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} ؟ ثم أجاب: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن
التقي، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك
(1)
.
هذا هو الجزاء المفضل الخالد في الآخرة، أما الدنيا فليس الارتفاع فيها خالدا، وإنما هو موقوت، بل هو في الحقيقة شيء حقير، يغتر بها سذاج الناس، أو السطحيون العاديون، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء.
والله سبحانه يرزق من فضله من يشاء، ولو كان كافرا فاسقا، ويقدر الرزق أو يقلله على من يشاء، ولو كان مؤمنا طائعا، ويعطي الرزق عطاء كثيرا جزيلا، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما
جاء في الحديث:
(2)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنفق بلالا، ولا تخش من الله ذي العرش إقلالا»
(3)
وقال الله تعالى: {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} [سبأ 39/ 34] فيكون لكلمة الحساب في الآية (212) وجهان: التقدير أي من غير تقدير له، أو كناية عن السعة وعدم التقتير والتضييق، كما يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي ينفق كثيرا.
وتكرر معنى هذه الآية في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء 18/ 17 - 21]. ويلاحظ أنه لم يسترط السعي لرزق الدنيا، لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز أو ارتفاع أثمان ما يملك من عقار
(1)
الكشاف: 269/ 1
(2)
حديث قدسي متفق عليه عن أبي هريرة بلفظ «أنفق أنفق عليك» .
(3)
رواه الطبراني في الكبير والقضاعي في مسنده عن ابن مسعود، وكذا البزاز.