المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في التعارض] - التقرير والتحبير على كتاب التحرير - جـ ٣

[ابن أمير حاج]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَارُضِ]

- ‌[مَسْأَلَة جَرْيِ التَّعَارُضِ بَيْنَ قَوْلَيْنِ وَنَفْيِهِ]

- ‌[مَسْأَلَة لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَالرُّوَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ يَلْحَقُ السَّمْعِيَّيْنِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة وَيَكُونُ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ كَالْقَوْلِ]

- ‌[مَسْأَلَة جَوَازِهِ أَيْ النَّسْخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَوَازِ النَّسْخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ حُكْمِ فِعْلٍ لَا يَقْبَلُ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ السُّقُوطَ]

- ‌[مَسْأَلَةُ لَا يَجْرِي النَّسْخُ فِي الْأَخْبَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْحُكْمُ بِلَا بَدَلٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ التَّكْلِيفِ بِتَكْلِيفٍ أَخَفَّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مَمْنُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْإِجْمَاعُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا رُجِّحَ قِيَاسٌ مُتَأَخِّرٌ لِتَأَخُّرِ شَرْعِيَّةِ حُكْمِ أَصْلِهِ عَنْ نَصٍّ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ فَحَوَى مَنْطُوقٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ النَّاسِخِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ بَعْدَ تَبْلِيغِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا زَادَ فِي مَشْرُوعٍ جُزْءًا أَوْ شَرْطًا لَهُ مُتَأَخِّرًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يُعْرَفُ النَّاسِخُ بِنَصِّهِ عليه السلام عَلَيْهِ وَضَبْطِ تَأَخُّرِهِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ انْقِرَاضُ الْمُجْمِعِينَ لَيْسَ شَرْطًا لِانْعِقَادِهِ وَلَا لِحُجَّتِهِ]

- ‌[لَا يَشْتَرِطُ لِحُجِّيَّتِهِ أَيْ الْإِجْمَاعِ انْتِفَاءَ سَبْقِ خِلَافٍ مُسْتَقِرٍّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّتِهِ أَيْ الْإِجْمَاعِ عَدَدُ التَّوَاتُرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّتِهِ أَيْ الْإِجْمَاعِ مَعَ كَوْنِ الْمُجْمِعِينَ أَكْثَرَ مُجْتَهِدِي ذَلِكَ الْعَصْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ عَدَالَةُ الْمُجْتَهِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيَّةِ كَوْنُهُمْ أَيْ الْمُجْمِعِينَ الصَّحَابَةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ النَّبَوِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِالشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاع بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَفْتَى بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَوْ قَضَى بِهِ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَسَكَتُوا بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ]

- ‌[تَنْبِيهٌ لَوْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ هَذَا مُبَاحٌ وَأَقْدَمَ الْبَاقِي عَلَى فِعْلِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا أُجْمِعَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْجُمْهُورُ إذَا أَجْمَعُوا أَيْ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى دَلِيلٍ لِحُكْمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا إجْمَاعَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا أَيْ مُجْتَهِدُو عَصْرٍ دَلِيلًا سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُكَافِئِ لَهُ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ارْتِدَادِ أُمَّةِ عَصْرٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ظُنَّ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ دِيَةُ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ يَتَمَسَّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَاعِ يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ حُجِّيَّتُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[أَرْكَانُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ]

- ‌[فِي الشُّرُوطِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ وَشُرُوطِهَا وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا]

- ‌[الْمَرْصَدُ الْأَوَّلُ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةُ]

- ‌[تَتِمَّةٌ تَقْسِيمَ لَفْظُ الْعِلَّةِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَجَازِ]

- ‌[الْمَرْصَدُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[تَنْبِيهٌ قَسَّمَ الْمُصَحِّحُونَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَانِعِ إلَى خَمْسَةٍ]

- ‌[لَا يُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيلِ انْتِفَاءِ حُكْمٍ بِوُجُودِ مَانِعٍ]

- ‌[فَصْلٌ تَقْسِيم الْقِيَاسَ بِاعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْقُوَّةِ إلَى جَلِيٍّ وَخَفِيَ]

- ‌[مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ الْحُدُودُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَكْلِيفُ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ الْمَنَاطِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ النَّصِّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ يَكْفِي فِي إيجَابِ تَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ]

- ‌[خَاتِمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ]

- ‌[الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ فِي الِاجْتِهَادِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ التَّقْلِيدِ وَالْإِفْتَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَنَّهُ عليه السلام مَأْمُورٌ فِي حَادِثَةٍ لَا وَحْيَ فِيهَا بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طَائِفَةٌ لَا يَجُوزُ عَقْلًا اجْتِهَادُ غَيْرِ النَّبِيّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْعَقْلِيَّاتُ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمْعٍ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَيْ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ]

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي وَاقِعَةٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ فِيهَا إلَى حُكْمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَاقِعَةٌ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لَهَا ثُمَّ تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَصِحُّ فِي مَسْأَلَةٍ لِمُجْتَهِدٍ بَلْ لِعَاقِلٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَوْلَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُنْقَضُ حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ التَّعْرِيضِ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ]

- ‌[مَسْأَلَة التَّقْلِيد الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ إحْدَى الْحُجَجِ الْأَرْبَعِ الشَّرْعِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَة غَيْر الْمُجْتَهِدِ المطلق يَلْزَمهُ التَّقْلِيد وَإِنَّ كَانَ مجتهدا فِي بَعْض مَسَائِل الْفِقْه]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاتِّفَاقُ عَلَى حِلِّ اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالِاجْتِهَادِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إفْتَاءُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ الْمُقَلِّدُ فِيمَا قَلَّدَ الْمُجْتَهِدَ]

- ‌[إجْمَاعُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَنْعِ الْعَوَامّ مِنْ تَقْلِيدِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ]

- ‌[خَاتِمَة]

الفصل: ‌[فصل في التعارض]

[فَصْلٌ فِي التَّعَارُضِ]

(فَصْلٌ فِي التَّعَارُضِ) وَأَشَارَ إلَى وَجْهِ ذِكْرِهِ بَعْدَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ (وَغَالِبُهُ فِي الْآحَادِ) وَ (هُوَ) أَيْ التَّعَارُضُ لُغَةً (التَّمَانُعُ) عَلَى سَبِيلِ التَّقَابُلِ تَقُولُ: عَرَضَ لِي كَذَا إذَا اسْتَقْبَلَكَ مَا يَمْنَعُك مِمَّا قَصَدْته، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّحَابُ عَارِضًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ شُعَاعَ الشَّمْسِ وَحَرَارَتَهَا مِنْ الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ (وَفِي الِاصْطِلَاحِ اقْتِضَاءُ كُلٍّ مِنْ دَلِيلَيْنِ عَدَمُ مُقْتَضَى الْآخَرِ) وَفِيهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (فَعَلَى مَا قِيلَ) وَالْقَائِلُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِنَا كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَأَتْبَاعِهِ (لَا يَتَحَقَّقُ) التَّعَارُضُ (إلَّا مَعَ الْوَحَدَاتِ) الثَّمَانِ وَحِدَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِهِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْإِضَافَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وَالشَّرْطِ وَقِيلَ التِّسْعُ وَالتَّاسِعَةُ وَحِدَةُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَمَا عُرِفَ فِي الْمَنْطِقِ وَرُدَّتْ إلَى الْإِضَافَةِ وَالْجَمِيعُ إلَى وَحْدَتَيْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِهِ وَإِلَى وَحْدَةِ النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْمَنْطِقِ أَيْضًا فَالتَّعَارُضُ (لَا يَتَحَقَّقُ فِي) الْأَحْكَامِ (الشَّرْعِيَّةِ لِلتَّنَاقُضِ) حِينَئِذٍ وَالشَّارِعُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ لِكَوْنِهِ أَمَارَةَ الْعَجْزِ (وَمَتَى تَعَارَضَا) أَيْ الدَّلِيلَانِ (فَيُرَجَّحُ) أَحَدُهُمَا إذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ لَهُ (أَوْ يُجْمَعُ) بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَحْمَلٍ بِطَرِيقَةٍ يَتَحَقَّقُ (مَعْنَاهُ) أَيْ التَّعَارُضِ (ظَاهِرًا) أَيْ يَكُونُ التَّعَارُضُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرَ اقْتِضَاءِ الدَّلِيلَيْنِ (لِجَهْلِنَا) بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا (لَا) حَقِيقَتِهِ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَصَدْرُ الشَّرِيعَةِ (وَهُوَ) أَيْ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ هَذَا هُوَ (الْحَقُّ) فَيُفَرَّعُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (فَلَا تُعْتَبَرُ) الْوَحَدَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَوَّبَ لَهُ صُورَةُ الْمُعَارَضَةِ لَا حَقِيقَتُهَا لِاسْتِحَالَتِهَا

ص: 2

عَلَى الشَّارِعِ فَلَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِهَا بِتَحَقُّقِ الْوَحَدَاتِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ الْمُعَارَضَةُ الْمُمْتَنِعَةُ وَالْكَلَامُ فِي إعْطَاءِ أَحْكَامِ الْمُعَارَضَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الشَّرْعِ وَهِيَ مَا تَكُونُ صُورَةً فَقَطْ مَعَ الْحُكْمِ بِانْتِفَائِهَا حَقِيقَةً.

وَقَوْلُهُ أَيْضًا (وَلَا يُشْتَرَطُ تَسَاوِيهِمَا) أَيْ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ (قُوَّةً) لَا كَمَا قِيلَ يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْأَضْعَفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَقْوَى فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَا تَمَاثُلَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى التَّعَارُضِ حَقِيقَةً.

وَقَوْلُهُ أَيْضًا (وَيَثْبُتُ) التَّعَارُضُ (فِي) دَلِيلَيْنِ (قَطْعِيَّيْنِ وَيَلْزَمُهُ) أَيْ التَّعَارُضُ فِي قَطْعِيَّيْنِ (مَحْمَلَانِ) لَهُمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ (أَوْ نَسْخُ أَحَدِهِمَا) بِمُعَارَضَةِ الْآخَرِ إنْ عُلِمَ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ (فَمَنَعَهُ) أَيْ التَّعَارُضُ (بَيْنَهُمَا) أَيْ الْقَطْعِيَّيْنِ (وَإِجَازَتُهُ فِي الظَّنَّيْنِ) كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَعَلَّلَهُ الْعَلَّامَةُ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ لَا يُعْمَلُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي طَرَفِ النَّفْيِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ (تَحَكُّمٌ) لِجَرَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ بِعَيْنِهِ فِي الظَّنِّيَّيْنِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ لَا فِي تَحَقُّقِهِ فِي الْوَاقِعِ وَهِيَ كَمَا تُوجَدُ فِي الظَّنِّيَّيْنِ تُوجَدُ فِي الْقَطْعِيَّيْنِ وَفِي الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ (وَالرُّجْحَانُ) لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ الْقَطْعِيَّيْنِ أَوْ الظَّنِّيَّيْنِ إنَّمَا هُوَ (بِتَابِعٍ) أَيْ بِوَصْفٍ تَابِعٍ لِذَلِكَ الرَّاجِحِ كَمَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَدْلٌ فَقِيهٌ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَدْلٌ غَيْرُ فَقِيهٍ (مَعَ التَّمَاثُلِ) أَيْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقَطْعِ وَالظَّنِّ لَا بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ

(وَمِنْهُ) أَيْ التَّمَاثُلُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فِي الثُّبُوتِ السُّنَّةُ (الْمَشْهُورَةُ مَعَ الْكِتَابِ حُكْمًا) أَيْ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ تَقْيِيدِ مُطْلَقِهِ وَتَخْصِيصِ عُمُومِهِ وَجَوَازِ نَسْخِهِ بِهَا وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْجَصَّاصِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُمَاثِلُهُ مِنْ حَيْثُ إكْفَارِ جَاحِدِهِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ كَمَا سَلَفَ فِي مَوْضِعِهِ (فَلَا يُقَالُ النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ) ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ النَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ بِوَصْفٍ غَيْرِ تَابِعٍ فَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا أَوَّلًا (بِخِلَافِ عَارِضِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ النَّصِّ (فَقَدَّمَ) النَّصَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ صُورَةُ التَّعَارُضِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَحَقُّقُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (إذْ حُكْمُهُ) أَيْ التَّعَارُضِ صُورَةً (النَّسْخُ إنْ عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ) فَيَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُتَأَخِّرُ (فَ) الْحُكْمُ (التَّرْجِيحُ) لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِطَرِيقِهِ إنْ أَمْكَنَ (ثُمَّ الْجَمْعُ) بَيْنَهُمَا إنْ أَمْكَنَ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ إعْمَالَ كِلَيْهِمَا فِي الْجُمْلَةِ حِينَئِذٍ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ كِلَيْهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُتَقَدِّمُ وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (تُرِكَا) أَيْ الْمُتَعَارِضَانِ (إلَى مَا دُونَهُمَا) مِنْ الْأَدِلَّةِ (عَلَى التَّرْتِيبِ إنْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ مَا دُونَهُمَا بِأَنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ آيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُتْرَكَانِ إلَى السُّنَّةِ إنْ كَانَتْ وَلَمْ تَكُنْ مُتَعَارِضَةً فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ أَوْ وُجِدَتْ لَكِنْ مُتَعَارِضَةً فَفَخْرُ الْإِسْلَامِ تَرَكَهَا إلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُفْصِحْ بِمَا يُصَارُ إلَيْهِ أَوَّلًا مِنْهُمَا وَلَفْظُ السَّرَخْسِيِّ يُصَارُ إلَى مَا بَعْدَ السُّنَّةِ فِيمَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَذَلِكَ الْحُكْمُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ فَقِيلَ فِي الْأَوَّلِ إشَارَةٌ إلَى تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ وَفِي الثَّانِي إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ وَفِي التَّقْوِيمِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ إلَى الرَّاوِي انْتَهَى.

وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ كَمَا سَتَرَى ثُمَّ ظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ أَمَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ، فَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ اتِّفَاقًا ثُمَّ إنَّمَا يَتَسَاقَطُ الْمُتَعَارِضَانِ حَيْثُ لَا تَرْجِيحَ وَلَا جَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ إلَى مَا دُونَهُمَا حَيْثُ وُجِدَ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا وَبِأَحَدِهِمَا عَيْنًا لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ ثُمَّ لَا ضَرُورَةَ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا أَيْضًا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَهُوَ مَا دُونَهُمَا فَلَا يَقَعُ الْعَمَلُ بِمَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا دُونَهُمَا حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ الْتَحَقَتْ بِمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا ائْتَزَرْتُ الدَّلِيلَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُتَعَرَّفُ بِهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ.

(وَإِلَّا) إذَا لَمْ يُوجَدْ دُونَ الْمُتَعَارِضَيْنِ دَلِيلٌ آخَرُ يُعْمَلُ بِهِ أَوْ وُجِدَ التَّعَارُضُ فِي الْجَمِيعِ (قُرِّرَتْ الْأُصُولُ) أَيْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَارَضِينَ (أَمَّا) فِي التَّعَارُضِ (فِي الْقِيَاسَيْنِ) إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْعَمَلِ (فَبِأَيِّهِمَا شَهِدَ قَلْبُهُ) أَيْ أَدَّى تَحَرِّي الْمُجْتَهِدِ إلَيْهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَيْهِ (إنْ) طَلَبَ التَّرْجِيحَ وَظَهَرَ لَهُ أَنْ (لَا

ص: 3

تَرْجِيحَ) وَلَا يَسْقُطَانِ لِأَدَاءِ تَسَاقُطِهِمَا إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ بَعْدَ الْقِيَاسِ يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الَّذِي هُوَ مُضْطَرٌّ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالْعَمَلُ بِلَا دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ بَاطِلٌ وَكُلٌّ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ لِوَضْعِ الشَّارِعِ إيَّاهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا فِي إصَابَةِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَمِنْ حَيْثُ الْأَوَّلُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَمِنْ حَيْثُ الثَّانِي وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَا كَمَا فِي النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي فَوَجَبَ الْعَمَلُ مِنْ وَجْهٍ وَسَقَطَ مِنْ وَجْهٍ فَقُلْنَا يُحَكِّمُ رَأْيَهُ وَيَعْمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ لِقَلْبِ الْمُؤْمِنَ نُورًا يُدْرِكُ بِهِ مَا هُوَ بَاطِنٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ثُمَّ إذَا عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بِالتَّحَرِّي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخَرِ لِصَيْرُورَةِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَالْآخَرِ خَطَأً فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَ التَّحَرِّي كَأَنْ يَتَبَيَّنَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ لِظُهُورِ خَطَئِهِ حِينَئِذٍ حَيْثُ اجْتَهَدَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ تَقَعْ حَاجَةٌ إلَى الْعَمَلِ يُتَوَقَّفُ فِيهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَلِهَذَا صَارَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ وَأَقْوَالٌ وَأَمَّا الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ إحْدَاهُمَا صَحِيحَةٌ وَالْأُخْرَى لَا، وَلَكِنْ لَمْ تُعْرَفْ الْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا وَدُفِعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسَيْنِ جَمِيعًا بِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّينَ بَعْدَ السُّنَّةِ قَبْلَ الْقِيَاسِ كَالْقِيَاسَيْنِ فَلَا يُصَارُ عَنْهُمَا إلَى الْقِيَاسِ) أَيْ قَوْلُهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ أَوْ لَا فَفِيمَا يُمْكِنُ حَمْلُ تَعَارُضِهِمَا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِطَرِيقَةٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرَجِّحٌ عَمِلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُصَارُ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ حِينَئِذٍ عَنْ رَأْيٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَتَحَاجُّوا بِالسَّمْعِ ظَهَرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا عَنْ اخْتِلَافِ رَأْيٍ وَلَا رَأْيَ فِي الشَّرْعِ إلَّا الْقِيَاسُ فَصَارَ قَوْلَاهُمَا كَقِيَاسَيْنِ تَعَارَضَا وَلَا مُرَجِّحَ وَفِي ذَلِكَ يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَكَذَا هَذَا فَإِنْ قِيلَ جَازَ أَنَّا لَوْ صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ ظَهَرَ لَنَا قِيَاسٌ آخَرُ غَيْرُهُمَا قُلْنَا قَدَّمْنَا أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِ فَهُوَ كَالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَجِّحِ فَالْقِيَاسُ الثَّالِثُ مَحْكُومٌ بِمَرْجُوحِيَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِيَاسَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا قَوْلَاهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ أَصْلًا وَأَيْضًا يَكُونُ الْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ ثَالِثٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَصِيرِ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا وَلَا مُرَجِّحَ غَيْرَ وَاقِعٍ بَلْ الْوَاقِعُ الْإِطْلَاقَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَا يُصَارُ فِي مُعَارَضَتِهِمَا إلَى الْقِيَاسِ بَلْ يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.

(وَالْجَمْعُ فِي الْعَامَيْنِ بِحَمْلِ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ) كَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لَا تَقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا مُرَجِّحَ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ وَالثَّانِي عَلَى الذِّمِّيِّينَ (أَوْ) عَلَى (الْقَيْدِ) أَيْ عَلَى قَيْدٍ غَيْرِ قَيْدِ الْآخَرِ كَإِذَا لَمْ يَكُونُوا ذِمَّةً فِي الْأَوَّلِ وَإِذَا كَانُوا ذِمَّةً فِي الثَّانِي (وَكَذَا) الْجَمْعُ (فِي الْخَاصِّينَ) يُحْمَلُ كُلٌّ عَلَى قَيْدٍ غَيْرِ قَيْدِ الْآخَرِ (أَوْ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْمَجَازِ) وَالْآخَرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ (وَفِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَلَا مُرَجِّحَ لِلْعَامِّ) عَلَى الْخَاصِّ مَوْجُودٌ (كَإِخْرَاجٍ مِنْ تَحْرِيمٍ، وَلَا الْخَاصِّ) أَيْ وَلَا مُرَجِّحَ لَهُ عَلَى الْعَامِّ مَوْجُودٌ (كَمِنْ إبَاحَةٍ) أَيْ إخْرَاجٍ مِنْهَا (فَبِالْخَاصِّ) أَيْ فَالْعَمَلُ بِهِ (فِي مَحَلِّهِ) أَيْ الْخَاصِّ نَفْسِهِ (وَالْعَامِّ) أَيْ وَالْعَمَلُ بِهِ (فِيمَا سِوَاهُ) أَيْ سِوَى مَحَلِّ الْخَاصِّ (فَيَتَّحِدُ الْحَاصِلُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (وَمِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِهِ) أَيْ بِالْخَاصِّ (مَعَ اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ وَعَلَى الْحَنَفِيَّةِ حَمْلٌ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ وَمَعْرِفَةُ التَّأَخُّرِ لِيَنْسَخَ الْآخَرُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَمَّا لَوْ وُجِدَ مُرَجِّحٌ لِلْعَامِّ فَقَطْ قُدِّمَ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ لِلْخَاصِّ فَقَدْ قُدِّمَ عَلَى مَا يُعَارِضُهُ مِنْ الْعَامِّ (وَقَدْ يُخَالُ) أَيْ يُظَنُّ (تَقَدُّمَ الْجَمْعِ) بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ عَلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (لِقَوْلِهِمْ الْإِعْمَالُ أَوْلَى مِنْ الْإِهْمَالِ وَهُوَ) أَيْ الْإِعْمَالُ (فِي الْجَمْعِ) بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ لَا فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْآخَرِ (لَكِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ خِلَافُهُ) أَيْ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ اطِّرَادِ تَقَدُّمِ الْجَمْعِ عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا فَقَدْ (قَدَّمَ عَامِّ «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ» (عَلَى) خَاصِّ (شُرْبِ الْعُرَنِيِّينَ

ص: 4

أَبْوَالَ الْإِبِلِ) الْمُفْصِحِ بِهِ حَدِيثُهُمْ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ الْحَدِيثَيْنِ فِي آخِرِ الْبَحْثِ الرَّابِعِ مِنْ مَبَاحِثِ الْعَامِّ (لِمُرَجِّحِ التَّحْرِيمِ) لِشُرْبِ أَبْوَالٍ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (مَعَ إمْكَانِ حَمْلِهِ) أَيْ عَامِّ «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ» (عَلَى) مَا (سِوَى) بَوْلِ (مَا يُؤْكَلُ) كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُبِيحُهُ مُطْلَقًا كَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَوْ لِلتَّدَاوِي فَقَطْ كَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله (وَعَامٍّ مَا سَقَتْ) أَيْ «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ»

(عَلَى خَاصِّ الْأَوْسُقِ) أَيْ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ الْحَدِيثَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ (لِمُرَجِّحِ الْوُجُوبِ) لِلْعُشْرِ فِي كُلِّ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ سَيْحًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ (مَعَ إمْكَانِ نَحْوِهِ) أَيْ حَمْلِ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ عَلَى مَا كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمَا (وَكَيْفَ) يُقَدِّمُ الْجَمْعَ مُطْلَقًا عَلَى اعْتِبَارِ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا (وَفِي تَقْدِيمِهِ) أَيْ الْجَمْعِ مُطْلَقًا عَلَيْهِ (مُخَالَفَةُ مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ) وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِلْمُخَالَفَةِ لَا لِمَا أَطْبَقَ وَإِلَّا لَكَانَ الْوَجْهُ الْقَلْبُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ هُوَ الْأَوْلَى (وَتَأْوِيلُ) أَخْبَارِ (الْآحَادِ) الْمُعَارِضَةِ ظَاهِرَ الْكِتَابِ (عِنْدَ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ) عَلَيْهَا (لَيْسَ مِنْهُ) أَيْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ ظَاهِرًا (بَلْ اسْتِحْسَانٌ حُكْمًا لِلتَّقْدِيمِ) لِلْكِتَابِ عَلَيْهَا (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (تَقْدِيمُ النَّصِّ عَلَى الظَّاهِرِ تَعَارُضًا فِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِ) مِنْ النِّسَاءِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لِلْأَحْرَارِ (أَيْ) قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي حِلِّ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَرْبَعِ (وَمَثْنَى إلَخْ) أَيْ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى قَصْرِ الْحِلِّ عَلَى الْأَرْبَعِ (فَيُرَجَّحُ النَّصُّ) عَلَى الظَّاهِرِ

(وَيُحْمَلُ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ) أَيْ النَّصِّ (اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (عَلَيْهِ) أَيْ نَفْيِ الْجَمْعِ بَعْدَ التَّرْجِيحِ وَعَلَى تَأْوِيلِ الْمَرْجُوحِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الرَّاجِحِ بِحَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الرَّاجِحِ وَلَيْسَ هَذَا جَمْعًا فَإِنَّ الْجَمْعَ أَنْ يُحْمَلَ كُلٌّ عَلَى بَعْضٍ، وَفِيهِ عَدَمُ إعْمَالِ الرَّاجِحِ فِي جَمِيعِ مَعْنَاهُ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ بَلْ أَعْمَلَ الرَّاجِحَ وَهُوَ النَّصُّ فِي كُلِّ مَعْنَاهُ وَهُوَ قَصْرُ الْحِلِّ عَلَى الْأَرْبَعِ ثُمَّ حَمَلَ الْمَرْجُوحَ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى هَذَا بِعَيْنِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ خَالَفُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْأَصْلَ (كَغَيْرِهِمْ) وَجَعَلُوا الْجَمْعَ قَبْلَ التَّرْجِيحِ حَتَّى يُصَارَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا رَاجِحٌ أَوْ عُرِفَ تَأَخُّرَهُ (مَنَعْنَاهُ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ لَيْسَتْ إلَّا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقُولِ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُبْدِيَ وَجْهًا عَقْلِيًّا وَيَعْمَلَ بِهِ وَيَدْفَعَ غَيْرَهُ إنْ أَمْكَنَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُمْ الْإِعْمَالُ أَوْلَى إلَخْ إنْ أُرِيدَ مَعَ الْمَرْجُوحِيَّةِ مَنَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ نَقْضُ الْأُصُولِ وَمُكَابَرَةُ الْعُقُولِ وَإِنْ أُرِيدَ عِنْدَ عَدِّهِمْ الرُّجْحَانَ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمَصِيرِ إلَى مَا دُونَهُمَا فَنَعَمْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَذَا وَاَلَّذِي فِي الْمِيزَانِ الْمُخَلِّصُ مِنْ التَّعَارُضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَرْجِعُ إلَى الرُّكْنِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مُمَاثَلَةٌ كَنَصِّ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ أَوْ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّةَ نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَة وَالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ الْآحَادِ أَوْ لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ وَاجِبٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمُتَيَقَّنِ بِخِلَافِهِ، وَلَا عِبْرَةَ لِلْمُرَجَّحِ بِمُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ وَلَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بَيْنَ خَبَرَيْ الْوَاحِدِ وَبَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الظَّنَّ أَوْ عِلْمَ غَالِبِ الرَّأْيِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ التَّزَايُدَ مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ بِوُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَأَمَّا بَيْنَ النَّصَّيْنِ كِتَابًا وَسُنَّةً مُتَوَاتِرَةً فِي حَقِّ الثُّبُوتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِثُبُوتِهَا قَطْعِيٌّ.

وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّزَايُدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ مِنْ حَيْثُ الْجَلَاءُ وَالظُّهُورُ، إلَّا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي مُوجِبَيْهِمَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْكَمًا وَالْآخَرُ فِيهِ احْتِمَالٌ فَالْمُحْكَمُ أَوْلَى وَثَانِيهِمَا مَا يَرْجِعُ إلَى الشَّرْطِ بِأَنْ لَا يَثْبُتَ التَّنَافِي بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَيُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَالْحَالِّ وَالْقَيْدِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّصَّيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا خَاصًّا وَالْآخَرُ عَامًّا فَأَمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ فَفِي الْخَاصَّيْنِ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى قَيْدٍ أَوْ حَالٍ أَوْ مَجَازٍ مَا أَمْكَنَ وَفِي الْعَامَّيْنِ مِنْ

ص: 5

وَجْهٍ يُحْمَلُ عَلَى وَجْهٍ يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَفِي الْعَامَّيْنِ لَفْظًا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى بَعْضٍ وَالْآخَرُ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ أَوْ عَلَى الْقَيْدِ وَالْإِطْلَاقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ بِأَنْ كَانَ الْمُكَلَّفُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ أَوْ مِنْ الِاعْتِقَادِ لَا غَيْرُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ فَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالطَّرِيقَيْنِ بِالتَّنَاسُخِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْعَامَّيْنِ وَالْخَاصَّيْنِ فَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ الْعَمَلُ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، وَالْبَيَانِ أَوْلَى وَالْمُعْتَزِلَةُ بِالتَّنَاسُخِ أَوْلَى وَمَشَايِخُنَا وَاخْتِيَارُ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ يَنْظُرُ إلَى عَمَلِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى التَّنَاسُخِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى التَّخْصِيصِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَمَلُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ اسْتَوَى عَمَلُهُمْ فِيهِ بِأَنْ عَمِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالْبَعْضُ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ فَيَعْمَلُ بِالْوَجْهِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَاصًّا وَالْآخَرُ عَامًّا فَإِنْ عُرِفَ تَارِيخُهُمَا وَبَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصِحُّ فِيهِ التَّنَاسُخُ فَإِنْ كَانَ الْخَاصُّ سَابِقًا وَالْعَامُّ مُتَأَخِّرًا نُسِخَ الْخَاصُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ سَابِقًا وَالْخَاصُّ مُتَأَخِّرًا نُسِخَ الْعَامُّ بِقَدْرِ الْخَاصِّ وَيَبْقَى الْبَاقِي وَإِنْ وَرَدَا مَعًا وَكَانَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ لَا يَصِحُّ فِيهِ النَّسْخُ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ وَهَذَا قَوْلُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ دِيَارِنَا وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ فِي الْفَصْلَيْنِ حَتَّى إنَّ الْخَاصَّ السَّابِقَ يَكُونُ مُبَيِّنًا لِلْعَامِّ اللَّاحِقِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ قَدْرِ الْمَخْصُوصِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ.

وَعَلَى قَوْلِ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ الْجَوَابُ فِيهِ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصْلُحُ فِيهِ التَّنَاسُخُ قَالُوا يُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ وَيُعْمَلُ بِالنَّصِّ الْعَامِّ بِعُمُومِهِ وَلَا يُبْنَى عَلَى الْخَاصِّ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِيهِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ.

(وَمِنْهُ) أَيْ التَّعَارُضِ صُورَةً فِي الْكِتَابِ وَالتَّعَارُضُ (مَا) أَيْ الَّذِي (بَيْنَ قِرَاءَتَيْ آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ الْجَرِّ) لِابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ (وَالنَّصْبِ) لِلْبَاقِينَ (فِي أَرْجُلِكُمْ) مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6](الْمُقْتَضِيَتَيْنِ مَسْحَهُمَا) أَيْ الرِّجْلَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قِرَاءَةِ الْجَرِّ (وَغَسْلَهُمَا) كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ (فَيُتَخَلَّصُ) مِنْ هَذَا التَّعَارُضِ (بِأَنَّهُ تُجُوِّزَ بِمَسْحِهِمَا) الْمُفَادُ بِ وَامْسَحُوا الْمُقَدَّرِ الدَّالِ عَلَيْهِ الْوَاوُ (عَنْ الْغَسْلِ) مُشَاكَلَةً كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ

قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَك طَبْخَهُ

قُلْت اُطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا

فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ (وَالْعَطْفُ فِيهِمَا) أَيْ الْقِرَاءَتَيْنِ (عَلَى رُءُوسِكُمْ) وَلَعَلَّ فَائِدَتَهُ التَّحْذِيرُ مِنْ الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذْ غَسْلُهُمَا مَظِنَّةٌ لَهُ لِكَوْنِهِ يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهِمَا فَعُطِفَتْ عَلَى الْمَمْسُوحِ لَا لِتُمْسَحَ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَادِ فَكَأَنَّهُ قَالَ اغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ غَسْلًا خَفِيفًا شَبِيهًا بِالْمَسْحِ وَإِنَّمَا قُلْنَا تُجُوِّزَ بِمَسْحِهِمَا عَنْ غَسْلِهِمَا (لِتَوَاتُرِ الْغَسْلِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم) لَهُمَا إذْ قَدْ (أَطْبَقَ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ) مِنْ الصَّحَابَةِ (وَيَقْرُبُونَ مِنْ ثَلَاثِينَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى غَسْلِهِ صلى الله عليه وسلم رِجْلَيْهِ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ أَسْعَفَ الْمُصَنِّفُ بِذِكْرِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مِنْهُمْ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ عُثْمَانُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَلِيٌّ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَعَائِشَةُ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُغِيرَةُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَوَاهُ السِّتَّةُ وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو أُمَامَةَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو بَكْرٍ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَنَفِيلُ بْنُ مَالِكٍ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَنَسٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو كَاهِلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ وَكَعْبُ بْنُ عَمْرو الْيَامِيُّ وَالرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَيْضًا زِيَادَةً عَلَى هَؤُلَاءِ عُمَرُ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَمُعَاوِيَةُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو رَافِعٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَتَمِيمُ بْنُ غَزِيَّةُ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأُمُّ سَلَمَةَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَعَمَّارٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ

ص: 6

رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَبَلَغَتْ الْجُمْلَةُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ، وَبَابُ الزِّيَادَةِ مَفْتُوحٌ لِلْمُسْتَقْرِئِ.

ثُمَّ الْمُرَادُ اتِّفَاقُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِي يَمْنَعُ الْعَقْلُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى نَقْلِ غَسْلِهِمَا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اتِّفَاقُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ هُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا حَتَّى إلَيْنَا وَلَيْسَ مَعْنَى التَّوَاتُرِ إلَّا هَذَا (وَتَوَارُثِهِ) أَيْ وَلِتَوَارُثِ غَسْلِهِمَا (مِنْ الصَّحَابَةِ) أَيْ لِأَخْذِنَا غَسْلَهُمَا عَمَّنْ يَلِينَا وَهُمْ ذَلِكَ عَمَّنْ يَلِيهِمْ وَهَكَذَا إلَى الصَّحَابَةِ وَهُمْ أَخَذُوهُ بِالضَّرُورَةِ عَنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنْقَلَ فِيهِ نَصٌّ مُعَيَّنٌ.

ثُمَّ النَّسْخُ فِي الْمَسْحِ الْمُقَدَّرِ لَهُمَا فِي الْآيَةِ مُنْتَفٍ اتِّفَاقًا فَتَعَيَّنَ تَجَوُّزُهُ فِيهِمَا عَنْ الْغَسْلِ لِإِمْكَانِهِ وَإِلْجَاءِ الدَّلِيلِ إلَيْهِ (وَانْفِصَالُ ابْنِ الْحَاجِبِ عَنْ الْمُجَاوَرَةِ) أَيْ عَنْ جَرِّ الْأَرْجُلِ بِالْمُجَاوَرَةِ لِقَوْلِهِ {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6](إذْ لَيْسَ) الْجَرُّ بِهَا (فَصِيحًا) أَيْ قَالَ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ (بِتَقَارُبِ الْفِعْلَيْنِ) أَيْ امْسَحُوا وَاغْسِلُوا (وَفِي مِثْلِهِ) أَيْ تَقَارُبِ الْفِعْلَيْنِ (تَحْذِفُ الْعَرَبُ) الْفِعْلَ (الثَّانِيَ وَتَعْطِفُ مُتَعَلِّقَهُ عَلَى مُتَعَلِّقِ) الْفِعْلِ (الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ) أَيْ مُتَعَلِّقَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ (مُتَعَلِّقُهُ) أَيْ الْفِعْلِ الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا وَرُمْحًا وَعَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا إذْ الْأَصْلُ وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا فَحُذِفَا وَعُطِفَ مُتَعَلِّقُهُمَا عَلَى مُتَعَلِّقِ مَا قَبْلَهُمَا، وَالْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْ امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ فَحُذِفَ اغْسِلُوا وَعُطِفَ مُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ أَرْجُلَكُمْ عَلَى مُتَعَلِّقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ رُءُوسَكُمْ فَبَعُدَ الْإِغْضَاءُ عَنْ الْمُنَاقَشَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ بِوُقُوعِهِ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي النَّظِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَلْ ضَمَّنَ مُتَقَلِّدًا مَعْنَى حَامِلًا وَعَلَفْتهَا مَعْنَى أَنَلْتُهَا وَالْتَزَمَ عَلَى هَذَا صِحَّةَ عَلَفْتهَا مَاءً بَارِدًا وَتِبْنًا لَمَّا أُلْزِمَ بِهِ لِقَوْلِ طَرَفَةَ

لَهَا سَبَبٌ تَرْعَى بِهِ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ

(غَلَطٌ) مِنْهُ وَهُوَ خَبَرُ انْفِصَالٍ (إذَا لَا يُفِيدُ) هَذَا مِنْهُ مَا قَصَدَهُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْقُرْآنِ (إلَّا فِي اتِّحَادِ إعْرَابِهِمَا) أَيْ إلَّا إذَا كَانَ إعْرَابُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَكَرَ فِي عَلَفْتُهَا وَسَقَيْتُهَا (وَلَيْسَتْ الْآيَةُ مِنْهُ) أَيْ مِمَّا اتَّحَدَ فِيهِ إعْرَابُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بَلْ هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرَ تَكُونُ الْأَرْجُلُ مَنْصُوبَةً؛ لِأَنَّهَا مَعْمُولُ اغْسِلُوا لِمَحْذُوفٍ فَحِينَ تُرِكَ إلَى الْجَرِّ الَّذِي هُوَ الْمُشَاكِلُ لِإِعْرَابِ الرُّءُوسِ (فَلَا يَخْرُجُ) جَرُّهَا (عَنْ الْجِوَارِ) بِجَرِّ رُءُوسِكُمْ فَمَا هَرَبَ مِنْهُ وَقَعَ فِيهِ

(وَمَا قِيلَ) أَيْ وَمَا فِي التَّلْوِيحِ عِلَاوَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا (فِي الْغُسْلِ الْمَسْحُ) وَزِيَادَةٌ (إذَا لَا إسَالَةَ) وَهِيَ مَعْنَى الْغُسْلِ (بِلَا إصَابَةٍ) وَهِيَ مَعْنَى الْمَسْحِ (فَيَنْتَظِمُهُ) أَيْ الْغَسْلُ الْمَسْحَ (غَلَطٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ) ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يَنْتَظِمُهُ وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى الْأَعَمَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُطْلَقُ الْإِصَابَةِ وَهِيَ إنَّمَا تُسَمَّى مَسْحًا إذَا لَمْ يَحْصُلْ سَيَلَانٌ (وَلَوْ جُعِلَ) الْغَسْلُ (فِيهِمَا) أَيْ الرِّجْلَيْنِ بِالْعَطْفِ (عَلَى وُجُوهِكُمْ) فِي الْقِرَاءَتَيْنِ وَقَدْ كَانَ حَقُّهُ النَّصْبَ كَمَا هُوَ إحْدَاهُمَا لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ (وَالْجَرُّ) لِأَرْجُلِكُمْ (لِلْجِوَارِ) لِرُءُوسِكُمْ (عُورِضَ بِأَنَّهُ) أَيْ الْجَرُّ (فِيهِمَا) بِالْعَطْفِ (عَلَى رُءُوسِكُمْ وَالنَّصْبُ) بِالْعَطْفِ (عَلَى الْمَحَلِّ) أَيْ مَحَلِّ رُءُوسِكُمْ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ النُّحَاةِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ النَّصْبُ (وَيَتَرَجَّحُ) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَيْ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ (قِيَاسٌ) مُطَّرِدٌ يَظْهَرُ فِي الْفَصِيحِ وَإِعْرَابٌ شَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَطْفِ عَلَى الْأَقْرَبِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ (لَا الْجِوَارِ) فَإِنَّهُ فِي الْعَطْفِ شَاذٌّ إذْ الْحَمْلُ عَلَى الشَّائِعِ الْمُطَّرِدِ حَيْثُ أَمْكَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّاذِّ (وَ) مِنْهُ مَا بَيْنَ (قِرَاءَتَيْ التَّشْدِيدِ فِي يَطَّهَّرْنَ) لِحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222](الْمَانِعَةِ) مِنْ قُرْبَانِهِنَّ (إلَى الْغُسْلِ وَالتَّخْفِيفُ) فِيهِ لِلْبَاقِينَ الْمَانِعَةِ مِنْ قُرْبَانِهِنَّ (إلَى الطُّهْرِ) أَيْ الِانْقِطَاعِ (فَيَحِلُّ) قُرْبَانُهُنَّ (قَبْلَهُ) أَيْ الِاغْتِسَالِ (بِالْحِلِّ الَّذِي انْتَهَى. مَا عَرَضَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ فَتُحْمَلُ تِلْكَ) أَيْ فَيُتَخَلَّصُ مِنْ هَذَا التَّعَارُضِ بِحَمْلِ قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ (عَلَى مَا دُونَ الْأَكْثَرِ) مِنْ مُدَّةِ الْحَيْضِ الَّذِي هُوَ الْعَادَةُ لَهَا لِيَتَأَكَّدَ جَانِبُ الِانْقِطَاعِ بِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ

ص: 7

مَقَامَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ لِتَوَهُّمِ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ تَارَةً وَيَدِرُّ أُخْرَى وَالْوَقْتُ صَالِحٌ لَهُ (وَهَذِهِ) أَيْ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ انْقِطَاعٌ بِيَقِينٍ، وَحُرْمَةُ الْقُرْبَانِ إنَّمَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْحَيْضِ فَلَا يَجُوزُ تَرَاخِيهَا إلَى الِاغْتِسَالِ لِأَدَائِهَا إلَى جَعْلِ الطُّهْرِ حَيْضًا وَإِبْطَالِ التَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ وَمَنْعِ الزَّوْجِ مِنْ حَقِّ الْقُرْبَانِ بِدُونِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْأَذَى وَالْكُلُّ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا التَّخَلُّصُ أَنْ لَوْ قُرِئَ فَإِذَا طَهُرْنَ بِالتَّخْفِيفِ كَمَا قُرِئَ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّشْدِيدِ لِيَكُونَ التَّخْفِيفُ مُوَافِقًا لِلتَّخْفِيفِ، وَالتَّشْدِيدُ مُوَافِقًا لِلتَّشْدِيدِ وَلَمْ يُقْرَأْ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمْعُ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالِاغْتِسَالِ بِالْقِرَاءَتَيْنِ أُجِيبَ بِالْمَنْعِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اللَّازِمِ الْمَمْنُوعِ فَيُحْمَلُ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] فِي {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّخْفِيفِ عَلَى طَهُرْنَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا (وَتَطَهَّرْنَ بِمَعْنَى طَهُرْنَ) غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فَإِنَّ تَفَعَّلَ تَجِيءُ بِمَعْنَى فَعَلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صُنْعٍ (كَ تَكَبَّرَ) وَتَعَظَّمَ (فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى) إذْ لَا يُرَادُ بِهِ صِفَةٌ تَكُونُ بِإِحْدَاثِ الْفِعْلِ

(وَتَبَيَّنَ) بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ (مُحَافَظَةً عَلَى حَقِيقَةِ يَطْهُرْنَ بِالتَّخْفِيفِ) وَأُورِدَ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّعْمِيمُ الْمُشْتَرَكُ إنْ كَانَ يَطْهُرْنَ حَقِيقَةً فِي الِانْقِطَاعِ كَمَا فِي الِاغْتِسَالِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إنْ كَانَ مَجَازًا فِي الِانْقِطَاعِ وَدُفِعَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ إرَادَةَ الِانْقِطَاعِ حَالَ اخْتِبَارِ التَّخْفِيفِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُهُ وَإِرَادَةُ الِاغْتِسَالِ حَالَ اخْتِيَارِ التَّشْدِيدِ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُهُ وَالْحَالَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ إذْ لَا يُقْرَأُ بِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا جَمْعَ بَيْنَهُمَا إذْ مِنْ شَرْطِهِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ وَلَمْ تُوجَدْ (وَكِلَاهُمَا) أَيْ الْمَحْمِلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ (خِلَافُ الظَّاهِرِ) كَمَا رَأَيْتَ (لَكِنَّهُ) أَيْ حَمْلَ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ عَلَى مُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ عَلَى الْأَكْثَرِ (أَقْرَبُ) مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الِاغْتِسَالِ (إذْ لَا يُوجِبُ) حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ (تَأَخُّرَ حَقِّ الزَّوْجِ) فِي الْوَطْءِ (بَعْدَ الِانْقِطَاعِ بِارْتِفَاعِ الْعَارِضِ الْمَانِعِ) مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْحَيْضُ (مَعَ قِيَامِ الْمُبِيحِ) وَهُوَ الْحِلُّ الْأَصْلِيُّ الثَّابِتُ قَبْلَ عُرُوضِ هَذَا الْمُحَرِّمِ بِخِلَافِ حَمْلِهِمَا عَلَى الِاغْتِسَالِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَاكَ الْحَمْلَ مُتَعَيِّنٌ أَحَقُّ مِنْ أَنَّهُ أَقْرَبُ ثُمَّ هَذَا جَمْعٌ مِنْ قِبَلِ الْحَالِ كَمَا سَيُفْصِحُ بِهِ الْمُصَنِّفُ.

(وَ) مِنْهُ (بَيْنَ آيَتَيْ اللَّغْوِ) فِي الْيَمِينِ وَهِيَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَحْمَدَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ يُظَنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ كُلُّ يَمِينٍ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ (تُقَيِّدُ إحْدَاهُمَا) أَيْ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225](الْمُؤَاخَذَةَ بِالْغَمُوسِ) وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ أَوْ حَالٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ بِهِ (لِأَنَّهَا مَكْسُوبَةٌ) أَيْ مَقْصُودَةٌ بِالْقَلْبِ (وَالْأُخْرَى) أَيْ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89](عَدَمَهُ) أَيْ أَنْ لَا يَأْخُذُ بِالْغَمُوسِ (إذْ لَيْسَتْ) الْغَمُوسُ (مَعْقُودَةً) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَوْلٌ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَقَدْ قُوبِلَتْ بِاللَّغْوِ فَيَكُونُ اللَّغْوُ الْخَالِيَةُ عَنْ الْفَائِدَةِ وَاللَّغْوُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ قَالَ تَعَالَى {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم: 62]{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72](فَدَخَلَتْ) الْغَمُوسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (فِي اللَّغْوِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ الَّتِي تُقْصَدُ الْيَمِينُ لَهَا) شَرْعًا وَهِيَ تَحْقِيقُ الْعَمْدِ وَالصِّدْقِ فِي الْغَمُوسِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا فَلَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهَا (وَخَرَجَتْ) الْغَمُوسُ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ اللَّغْوِ (فِي) الْآيَةِ (الْأُخْرَى) وَدَخَلَتْ فِي الْمَكْسُوبَةِ (بِشُمُولِ الْكَسْبِ إيَّاهَا) أَيْ الْغَمُوسِ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهَا (وَأَفَادَتْ) هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى (ضِدِّيَّةَ) حُكْمِ (اللَّغْوِ) وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ (لِلْكَسْبِ) أَيْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّغْوِ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ (فَهُوَ) أَيْ اللَّغْوُ هُنَا (السَّهْوُ) فَتَعَارَضَتَا فِي الْغَمُوسِ حِينَئِذٍ (وَالتَّخَلُّصُ) مِنْ هَذَا التَّعَارُضِ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْجَمْعِ) بَيْنَهُمَا (بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ) الثَّابِتَةِ لِلْغَمُوسِ (فِي) الْآيَةِ (الْأُولَى) الْمُؤَاخَذَةُ (الْأُخْرَوِيَّةُ) وَهِيَ الْعِقَابُ (وَفِي الثَّانِيَةِ) أَيْ وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْمَنْفِيَّةِ عَنْ الْغَمُوسِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْمُؤَاخَذَةُ (الدُّنْيَوِيَّةُ بِالْكَفَّارَةِ) فَتَغَايَرَتْ الْمُؤَاخَذَتَانِ فَلَا تَعَارُضَ

(أَوْ) الْمُرَادُ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَتَيْنِ الْخَالِي عَنْ الْقَصْدِ وَبِالْمُؤَاخَذَةِ (فِيهِمَا) أَيْ الْآيَتَيْنِ الْمُؤَاخَذَةُ (الْأُخْرَوِيَّةُ) وَالْغَمُوسُ فِي الْمَكْسُوبَةِ لَا فِي

ص: 8

الْمَعْقُودَةِ فَالْآيَةُ الْأُولَى أَوْجَبَتْ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْغَمُوسِ (وَ) الْآيَةُ (الثَّانِيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ الْغَمُوسِ وَهِيَ) أَيْ الْغَمُوسُ (ثَالِثَةٌ) وَعَلَى هَذَا مَشَى صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] تَفْسِيرٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْمُخْتَصَّةُ بِالْآخِرَةِ إنَّمَا هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْعِقَابُ وَجَزَاءُ الْإِثْمِ أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى طَرِيقِ دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ (أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا عَقَّدْتُمْ) أَيْ إذَا جَعَلَ الْإِثْمَ بِالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ (فَطَرِيقُ دَفْعِهِ) أَيْ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْمَعْقُودَةِ الْحَانِثَةِ فِيمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ (وَسَتْرِهِ إطْعَامُ) عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَخْ، وَكَذَا فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَوَجْهُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذِهِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ تَعَالَى الْخَمْرَ فَحَلَفَ لَيَشْرَبَنَّهَا فَقَدْ بَالَغَ فِي الْمُكَابَرَةِ عَلَى قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى سَلِمَ مِنْ إثْمِ ارْتِكَابَ النَّهْيِ بَقِيَ عَلَيْهِ إقْدَامُهُ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ كَرَمًا وَفَضْلًا بِالْكَفَّارَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ مِنْ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْغَمُوسِ وَالْمُنْعَقِدَةِ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ دَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ الْمُنْعَقِدَةِ بِشَرْعِ الْكَفَّارَةِ فَبَقِيَتْ الْغَمُوسُ مَسْكُوتًا عَنْهَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ تُشْرَعْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا دَافِعَةً سَاتِرَةً

(وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ) أَيْ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْأُولَى الْأُخْرَوِيَّةُ وَفِي الثَّانِيَةِ الدُّنْيَوِيَّةُ فَلَا تَكُونُ الْغَمُوسُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّغْوِ وَالْمُنْعَقِدَةِ (بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ: لَا يُؤَاخِذُ بِكَذَا لَكِنْ) يُؤَاخِذُ (بِكَذَا عَدَمُ الْوَاسِطَةِ) أَيْ كَوْنُ الثَّانِي مُقَابِلًا لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي التَّلْوِيحِ فَلَوْ كَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ فِيهِمَا الْمُؤَاخَذَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ لَزِمَ كَوْنُ الْمُؤَاخَذِ بِهِ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدًا قُلْت وَهَذَا ظَاهِرُ الْوُرُودِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ، أَمَّا لَوْ أُرِيدَ الْمُؤَاخَذَةُ مُطْلَقًا عُقُوبَةً كَانَتْ أَوْ كَفَّارَةً فَلَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ دُخُولُ الْغَمُوسِ فِي اللَّغْوِ؛ لِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ نَطَقَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِهَا وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَا فِي الْمَعْقُودَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لِمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي بِجَوْدَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ وَذَكَرَ مِنْهُنَّ وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْيَمِينِ الصَّابِرَةِ أَيْ الْمَصْبُورَةِ عَلَى مَالٍ كَذِبًا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَهِيَ الْمُفْضِي بِهَا؛ لِأَنَّهَا مَصْبُورٌ عَلَيْهَا أَيْ مَحْبُوسٌ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ) الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ (فِيهَا) أَيْ الْآيَتَيْنِ الْمُؤَاخَذَةُ (الدُّنْيَوِيَّةُ وَهِيَ) أَيْ الْغَمُوسُ عِنْدَهُ (دَاخِلَةٌ فِي الْمَعْقُودَةِ) بِنَاءً عَلَى حَمْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْقَلْبِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ

عَقَدْت عَنْ قَلْبِي بِأَنْ يَكْتُمَ الْهَوَى

(كَمَا) هِيَ دَاخِلَةٌ (فِي الْمَكْسُوبَةِ فَلَا تَعَارُضَ، وَدَفْعُهُ) أَيْ دُخُولُهَا فِي الْمَعْقُودَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ (بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ بِغَيْرِ الْقَلْبِ) أَيْ بِأَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ رَبْطُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ رَبْطِ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ وَارْتِبَاطِ الْكَلَامِ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ إنْ كَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا، وَعَزْمُ الْقَلْبِ لَا يَرْتَبِطُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ الْغَمُوسُ مَعْقُودَةً حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا ثُمَّ دَفْعُهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (قَدْ يُمْنَعُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (بِأَنَّهُ) أَيْ الْعَقْدُ (أَعَمُّ) مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ الْمَعَانِي (يُسْنَدُ إلَى الْأَعْيَانِ فَيُرَادُ) بِهِ (الرَّبْطُ) لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ (وَإِلَى الْقَلْبِ فَعَزْمُهُ) أَيْ فَيُرَادُ بِهِ عَزْمُ الْقَلْبِ (وَكَثُرَ) إطْلَاقُ عَزْمِ الْقَلْبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى (فِي اللُّغَةِ) وَفِي التَّلْوِيحِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادَهُ بِمَعْنَى رَبْطِهِ وَجَعْلِهِ ثَابِتًا عَلَيْهِ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ فِي الْفِقْهِ فَإِنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ بِمَعْنَى الرَّبْطِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْأَعْيَانِ إلَّا أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي قَوْلٍ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِارْتِبَاطٍ بَيْنَهُمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيفَاءِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِمَا لَهُ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهِ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ

(بَلْ) الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ (الظَّاهِرُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ (فِي) الْآيَةِ (الْأُولَى) الْمُؤَاخَذَةُ (الْأُخْرَوِيَّةُ لِلْإِضَافَةِ إلَى كَسْبِ الْقَلْبِ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْقَصْدِ

ص: 9

وَعَدَمِهِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْغَمُوسَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ لَا تُنَاسِبُ الْكَفَّارَةَ الدَّائِرَةَ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَانْدَفَعَ رَدُّ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا الْحُقُوقُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ؛ لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَالْأُخْرَوِيَّةُ هِيَ الْكَامِلَةُ؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ خُلِقَتْ لِلْجَزَاءِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] فَتُجَازَى فِيهِ عَلَى وِفَاقِ عَمَلِهَا بِخِلَافِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا دَارُ ابْتِلَاءٍ قَدْ يُؤَاخَذُ فِيهَا الْمُطِيعُ بِجِنَايَةٍ تَطْهِيرًا وَقَدْ يُنَعَّمُ الْعَاصِي بِهَا اسْتِدْرَاجًا عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَاتِ فِي الدُّنْيَا شُرِعَتْ بِأَسْبَابٍ فِيهَا نَوْعُ ضَرَرٍ لِتَكُونَ زَوَاجِرَ فِيهَا إصْلَاحُنَا فَلَا تَتَمَحَّضُ مُؤَاخَذَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ وَإِنَّمَا تَتَمَحَّضُ فِي الْآخِرَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي أَحَدِ النَّصَّيْنِ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْآخِرَةِ فَبَطَلَ التَّدَافُعُ (وَهَذَا) الْجَمْعُ بَيْنَ مَضْمُونِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ (جَمْعٌ مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ) بِاخْتِلَافِهِ فِيهِمَا.

(وَمِنْهُ) أَيْ الْجَمْعِ مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ (تَوْزِيعُهُ) أَيْ الْحُكْمِ بِأَنْ يُجْعَلَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ وَبَعْضُهَا مَنْفِيًّا بِالْآخَرِ (كَقِسْمَةِ الْمُدَّعِي بَيْنَ الْمُثْبِتَيْنِ) أَيْ مُدَّعِي كُلٍّ مِنْهُمَا إيَّاهُ كُلًّا بِحُجَّتِهِ (وَمَا قِيلَ) أَيْ قِيلَ هَذَا الْجَمْعُ فِي قِرَاءَتَيْ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فِي {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] هُوَ (مِنْ قِبَلِ الْحَالِ) فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ إحْدَاهُمَا عَلَى حَالَةٍ وَالْأُخْرَى عَلَى حَالَةٍ كَمَا رَأَيْتَ وَعَبَّرَ عَنْهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِالْمَحَلِّ (وَيَكُونُ) الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ صَرِيحًا بِنَقْلِ التَّأَخُّرِ) لِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَإِنَّ بَيْنَهُمَا تَعَارُضًا فِي حَقِّ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَجَمَعَ الْجُمْهُورُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] الْآيَةَ (بَعْدَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] الْآيَةَ كَمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي الْبَحْثِ الْخَامِسِ فِي التَّخْصِيصِ (أَوْ) يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ (حُكْمًا كَالْمُحَرِّمِ) أَيْ كَتَقْدِيمِهِ (عَلَى الْمُبِيحِ) إذَا عَارَضَهُ (اعْتِبَارًا لَهُ) أَيْ لِلْمُحَرِّمِ (مُتَأَخِّرًا) عَنْ الْمُبِيحِ (كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ النَّسْخُ) عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُحَرِّمِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُبِيحِ (بِنَاءً عَلَى أَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ) فَإِنَّ الْمُحَرِّمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ ثُمَّ الْمُبِيحُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُحَرِّمِ بِخِلَافِ تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُحَرِّمِ مُتَأَخِّرًا مَعَ الْقَوْلِ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ النَّسْخُ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ وَارِدٌ لِإِبْقَائِهَا حِينَئِذٍ وَالْمُحَرِّمُ نَاسِخٌ لَهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّكْرَارِ وَتَقَدَّمَ مَا فِي أَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسْأَلَتَيْ التَّنَزُّلِ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ مِنْ الْبَحْثِ وَالتَّحْرِيرِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ تَقْدِيمَ الْمُحَرِّمِ عَلَى الْمُبِيحِ (الِاحْتِيَاطُ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ حُكْمٍ وَهُوَ نَيْلُ الثَّوَابِ بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَنْعَدِمُ فِي الْمُبِيحِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ.

وَعَنْ ابْنِ أَبَانَ وَأَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُمَا يُطْرَحَانِ وَيَرْجِعُ الْمُجْتَهِدُ إلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدِلَّةِ كَالْغَرْقَى إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ مِنْ أَمْثَلِهِ هَذَا مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الضَّبِّ وَإِبَاحَتِهِ إذْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ» وَرَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ قَالَ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الضِّبَابِ فَأَصَبْنَا مِنْهَا فَذَبَحْنَا فَبَيْنَمَا الْقُدُورُ تَغْلِي بِهَا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فُقِدَتْ وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ هِيَ فَأَكْفِئُوهَا فَأَكْفَأْنَاهَا وَإِنَّا لَجِيَاعٌ» وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنْ خَالِدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُدِّمَ إلَيْهِ ضَبٌّ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَيْهِ فَقِيلَ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ يَدَهُ فَقَالَ خَالِدٌ أُحَرِّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ.

قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ فَلَمْ يَنْهَنِي» فَتَعَارَضَ الْمُحَرِّمُ وَالْمُبِيحُ فَجَعَلْنَا الْمُحَرِّمَ آخِرًا لِمَا قُلْنَا مِنْ تَقْلِيلِ مَعْنَى النَّسْخِ لَهُ كَالطَّحَاوِيِّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ مَحْجُوجٌ بِهَذَا (وَلَا يُقَدَّمُ الْإِثْبَاتُ) لِأَمْرٍ عَارِضٍ (عَلَى النَّفْيِ) لَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَرْخِيُّ وَالشَّافِعِيَّةُ (إلَّا إنْ كَانَ) النَّفْيُ لَا يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ بَلْ كَانَ (بِالْأَصْلِ) أَيْ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَإِنَّ الْإِثْبَاتَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ.

ص: 10

(كَحُرِّيَّةِ) مُغِيثٍ (زَوْجِ بَرِيرَةَ؛ لِأَنَّ عَبْدِيَّتَهُ كَانَتْ مَعْلُومَةً فَالْإِخْبَارُ بِهَا) أَيْ بِعَبْدِيَّتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَهَا وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا» (بِالْأَصْلِ) أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَقَبَتَهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ فَهَذَا نَفْيٌ لَا يُدْرَكُ عِيَانًا بَلْ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ ثُبُوتِهَا وَالْإِخْبَارُ بِحُرِّيَّتِهِ كَمَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ إثْبَاتًا لِأَمْرٍ عَارِضٍ عَلَى مَا ثَبَتَ لَهُ أَوَّلًا مِنْ الرَّقَبَةِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ لَيْسَتْ فِي النَّفْيِ الْمَذْكُورِ فَلَا جَرَمَ أَنْ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْعِتْقِ لَهَا عَبْدًا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ حُرًّا خِلَافًا لَهُمْ فِيمَا إذَا كَانَ حُرًّا (فَإِنْ) كَانَ النَّفْيُ (مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ عَارَضَهُ) أَيْ الْإِثْبَاتُ لِتَسَاوِيهِمَا (وَطَلَبَ التَّرْجِيحَ) لِأَحَدِهِمَا بِوَجْهٍ آخَرَ (كَالْإِحْرَامِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها) أَيْ مَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» زَادَ الْبُخَارِيُّ «وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرَفٍ»

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ «تَزَوَّجَ نَبِيُّ اللَّهِ مَيْمُونَةَ وَهُمَا مُحْرِمَانِ» فَإِنَّهُ (نَفْيٌ لِأَمْرٍ) عَارِضٍ وَهُوَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْحِلُّ (يَدُلُّ عَلَيْهِ هَيْئَةٌ مَحْسُوسَةٌ) مِنْ التَّجَرُّدِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ (فَسَاوَى رِوَايَةَ) مُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَهْ «عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ قَالَ وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ» وَزَادَ فِيهِ أَبُو يَعْلَى «بَعْدَ أَنْ رَجَعْنَا مِنْ مَكَّةَ» رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ «عَنْ أَبِي رَافِعٍ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْت الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا» . (وَرُجِّحَ نَفْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى) إثْبَاتِ (ابْنِ الْأَصَمِّ وَأَبِي رَافِعٍ) بِقُوَّةِ السَّنَدِ وَخُصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ فَقَدْ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادٍ عَنْ مَطَرٍ يَعْنِي عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمَاتَ أَبُو رَافِعٍ قَبْلَ عُثْمَانَ بِسَنَتَيْنِ وَكَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَلَّامِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مَطَرٍ مَوْصُولًا لَكِنَّهُ خَالَفَ فِي إسْنَادِهِ فَقَالَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَهَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» انْتَهَى.

وَمَطَرٌ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بَلْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ عِنْدَهُمْ وَبِضَبْطِ الرُّوَاةِ وَفِقْهِهِمْ وَخُصُوصًا ابْنُ عَبَّاسٍ إذْ نَاهِيكَ بِهِ فَقَاهَةً وَضَبْطًا وَاتِّفَاقًا وَلِذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لِلزُّهْرِيِّ وَمَا يَدْرِي ابْنُ الْأَصَمِّ أَعْرَابِيٌّ بَوَّالٌ عَلَى سَاقَهُ أَتَجْعَلُهُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ الَّذِينَ رَوَوْا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ بِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَهْلُ عِلْمٍ وَثَبْتٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ فُقَهَاءُ وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِرِوَايَاتِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِلِّ اللَّاحِقِ) لِلْإِحْرَامِ (وَأَمَّا عَلَى إرَادَةِ) الْحِلِّ (السَّابِقِ) عَلَى الْإِحْرَامِ (كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ) أَيْ مَا فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ» وَفِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفِرَيَّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ (فَابْنُ عَبَّاسٍ مُثْبِتٌ وَيَزِيدُ) بْنُ الْأَصَمِّ (نَافٍ فَيَتَرَجَّحُ) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ (بِذَاتِ الْمَتْنِ) لِتَرْجِيحِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي (وَلَوْ عَارَضَهُ) أَيْ نَفْيٌ يُرِيدَ إثْبَاتَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكَوْنِ نَفْيِ يَزِيدَ مِمَّا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْحِلِّ تُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ أَيْضًا وَهُوَ هَيْئَةُ الْحَلَالِ (فِيمَا قُلْنَا) أَيْ فَالتَّرْجِيحُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْنَا مِنْ قُوَّةِ السَّنَدِ وَفِقْهِ الرَّاوِي وَمَزِيدِ ضَبْطِهِ

فَتَرَجَّحَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا بِجَوَازِ عَقْدِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ حَالَةَ الْإِحْرَامِ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ (وَعُرِفَ) مِنْ هَذَا (أَنَّ النَّافِيَ رَاوِي الْأَصْلِ) أَيْ الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُثْبِتِ كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ هُوَ الرَّاوِي الْحَالَةَ الْعَارِضَةَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ (فَإِنْ أَمْكَنَا) أَيْ كَوْنُ النَّفْيِ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ وَكَوْنُهُ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ (كَحِلِّ الطَّعَامِ وَطَهَارَةِ الْمَاءِ) فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا (نَفْيٌ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ) بِأَنْ

ص: 11

ذَبَحَ شَاةً وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَغَسَلَ إنَاءً بِمَاءِ السَّمَاءِ أَوْ بِمَاءٍ جَارٍ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ نَجَاسَةٍ وَمَلَأَهُ بِأَحَدِهِمَا وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُ أَصْلًا وَلَمْ يُشَاهِدْ وُقُوعَ نَجَاسَةٍ فِيهِ (وَالْأَصْلِ) بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَذْبُوحَةِ الْحِلُّ وَلَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَ حُرْمَةٍ فِيهَا وَفِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ وَلَمْ يَعْلَمْ وُقُوعَ نَجَاسَةٍ فِيهِ (فَلَا يُعَارِضُ) الْإِخْبَارُ بِهِمَا (مَا) أَيْ الْإِخْبَارُ (بِحُرْمَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ وَيَعْمَلُ بِهِمَا) أَيْ بِالْحِلِّ فِي الطَّعَامِ وَالطَّهَارَةِ فِي الْمَاءِ (إنْ تَعَذَّرَ السُّؤَالُ) لِلْمُخْبِرِ عَنْ مُسْتَنَدِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا فَيُرَجِّحُ الْخَبَرَ النَّافِي بِهِ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ السُّؤَالُ لِلْخَبَرِ عَنْ مُسْتَنَدِهِ

(سُئِلَ) الْمُخْبِرُ (عَنْ مَبْنَاهُ) أَيْ مَبْنَى خَبَرِهِ (فَعُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ) فَإِنْ تَمَسَّكَ الْمُخْبِرُ بِظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّاةِ الْحِلُّ وَفِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُنَافِيهِمَا فَخَبَرُ الْحُرْمَةِ وَالنَّجَاسَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ دَلِيلٍ فَلَا يُعَارِضُ الْخَبَرَ الْمُثْبِتَ وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالدَّلِيلِ كَانَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ ثُمَّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ لِمَا ذَكَرْنَا (وَمِثْلُ الْحَنَفِيَّةِ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ) لِمُتَعَلِّقِ الْمُتَعَارِضَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُمَا دَلِيلٌ يُصَارُ إلَيْهِ (بِسُؤْرِ الْحِمَارِ) أَيْ الْبَقِيَّةِ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ فِي الْإِنَاءِ (تَعَارَضَ فِي حِلِّ لَحْمِهِ وَحُرْمَتِهِ الْمُسْتَلْزِمَتَيْنِ لِطَهَارَتِهِ) أَيْ سُؤْرِهِ (وَنَجَاسَتِهِ الْآثَارُ) فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ» وَالنَّهْيُ عَنْهَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَحُرْمَةُ الشَّيْءِ مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْغِذَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْكَرَامَةِ آيَةُ النَّجَاسَةِ وَلَحْمُهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَيَكُونُ نَجِسًا وَإِذَا كَانَ نَجِسًا كَانَ لُعَابُهُ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ يُجْلَبُ مِنْ اللَّحْمِ وَهُوَ يُخَالِطُ الْمَاءَ فَيَكُونُ نَجِسًا وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي شَيْءٌ أُطْعِمُ أَهْلِي إلَّا شَيْءٌ مِنْ حُمُرٍ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَأَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إلَّا سِمَانُ حُمُرٍ وَإِنَّكَ حَرَّمْت لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ أَطْعِمْ أَهْلَك مِنْ سَمِينِ حُمُرِك فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَّالِ الْقَرْيَةِ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا وَإِذَا كَانَتْ حَلَالًا كَانَتْ طَاهِرَةً وَإِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً كَانَ سُؤْرُهَا طَاهِرًا لِأَنَّ اللُّعَابَ الْمُخْتَلِطَ بِهِ طَاهِرٌ.

(فَقُرِّرَ حَدِيثُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ) أَيْ بِسُوَرِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُودِ (وَطَهَارَتِهِ) أَيْ السُّؤْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَاءُ قَبْلُ مُخَالَطَةِ اللُّعَابِ لَهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ) أَيْ تَقْرِيرَ الْأُصُولِ (حُكْمُ عَدَمِ التَّرْجِيحِ لَكِنْ رُجِّحَتْ الْحُرْمَةُ) عَلَى الْإِبَاحَةِ إذَا تَعَارَضَتَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَجَّحَ هُنَا أَيْضًا الْحُرْمَةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّجَاسَةِ وَكَيْفَ لَا وَحَدِيثُ التَّحْرِيمِ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَالْمَتْنُ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ وَحَدِيثُ الْإِبَاحَةِ مُضْطَرِبُ الْإِسْنَادِ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ ثُمَّ النَّوَوِيُّ ثُمَّ الْمِزِّيُّ ثُمَّ الذَّهَبِيُّ فَلَمْ يُوجَدْ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ عَلَى أَنَّ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا نَظَرًا فَإِنَّ الْقِصَّةَ تُشِيرُ إلَى اضْطِرَارِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَإِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا رُخِّصَ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَأَيْضًا هُوَ مُصَرَّحٌ بِتَأَخُّرِهِ عَنْ حَدِيثِ التَّحْرِيمِ فَلَوْ صَحَّ مُفِيدُ الْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا لَكَانَ نَاسِخًا لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ (وَالْأَقْرَبُ) فِي تَقْرِيرِ الْأُصُولِ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِوُجُودِ التَّعَارُضِ الْمُلْجِئِ إلَى ذَلِكَ (تَعَارَضَتْ الْحُرْمَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلنَّجَاسَةِ وَالضَّرُورَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلطَّهَارَةِ) فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ فِي الدُّورِ وَالْأَفْنِيَةِ وَيَشْرَبُ فِي الْأَوَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ (وَلَمْ تَتَرَجَّحْ) الطَّهَارَةُ (لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا) أَيْ الضَّرُورَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلنَّجَاسَةِ (إذَا لَيْسَ كَالْهِرَّةِ) فِي الْمُخَالَطَةِ حَتَّى تَسْقُطَ نَجَاسَتُهُ كَمَا سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِ الْهِرَّةِ؛ لِأَنَّ الْهِرَّةَ تَلِجُ الْمَضَايِقَ دُونَهُ (وَلَا الْكَلْبِ) فِي الْمُجَانَبَةِ الْغَالِبَةِ حَتَّى لَا تَسْقُطَ نَجَاسَتُهُ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ فِي الْكَلْبِ دُونَهُ (وَلَا النَّجَاسَةِ) لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ الضَّرُورَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنَّهُ خِلَافُ النَّظَرِ فَتَسَاقَطَتَا وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْأَصْلِ فَالْمَاءُ كَانَ طَاهِرًا فَلَا يَتَنَجَّسُ بِمَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهُ وَالسُّؤْرُ بِمُقْتَضَى حُرْمَةِ اللَّحْمِ نَجِسٌ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ وَلَا بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْوَاقِعِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا مَشَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ

تَتْمِيمٌ ثُمَّ إذَا كَانَ الْكِتَابُ لِبَيَانِ اصْطِلَاحَيْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اصْطِلَاحِ الشَّافِعِيَّةِ تَكْمِيلًا وَحَاصِلُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّصَّيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقُوَّةِ

ص: 12