الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(مُنْتَفٍ بَلْ الثَّابِتُ) شَرْعًا (حِينَئِذٍ رَفْعُهُ) أَيْ رَفْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ (وَلَا يَسْتَلْزِمُ) رَفْعُهُ (ذَلِكَ) أَيْ كَوْنَهُ نَاسِخًا (كَرَفْعِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ رَفْعًا وَيَطْرُقُهُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَسَالِفًا مِنْ أَنَّهُ نَسْخٌ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ (وَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي مِثْلِهِ) أَيْ مِثْلِ هَذَا (فِي التَّعَارُضِ) بَيْنَ الْمُحَرِّمِ وَالْمُبِيحِ (تَرْجِيحُ الْمُخَالِفِ حُكْمًا) كَالْمُحَرِّمِ عَلَى الْمُبِيحِ (بِتَأَخُّرِهِ) أَيْ بِاعْتِبَارِهِ مُتَأَخِّرًا (كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ النَّسْخُ) بِنَاءً عَلَى أَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ مَعْنَاهُ (أَيْ) يَتَكَرَّرُ (الرَّفْعُ أَوْ) النَّسْخُ (عَلَى حَقِيقَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا سَلَفَ عَنْ الطَّائِفَةِ) الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَسْخٌ فِي مَسْأَلَةٍ أَجْمَعَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ (فَلَا يَجِبُ الْوَقْفُ غَيْرَ أَنَّهُ مُرَجَّحٌ لَا نَاسِخٌ)
وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمُعَارِضِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ مُرَجَّحٌ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ لَا نَاسِخٌ نَقْلِيٌّ مِثْلُ مَا قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ فِي تَرْجِيحِ الْمُخَالِفِ حُكْمًا بِتَأَخُّرِهِ عَنْ مُعَارِضِهِ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ الْقَوْلُ بِمَنْسُوخِيَّةِ الْآخَرِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ مُتَعَارِضَيْنِ رَجَّحَ الْمُجْتَهِدُ أَحَدَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ التَّنْبِيهُ صَرِيحًا عَلَى نَفْيِ تَوَهُّمِ كَوْنِ الْمُخَالَفَةِ لِلْأَصْلِ إذَا لَمْ يُفِدْ ثُبُوتُ نَسْخِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهَا لِلْمُوَافِقِ لِلْأَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ بِأَنَّ لَهَا أَثَرٌ وَهُوَ تَرْجِيحُهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى مَا وَافَقَ الْأَصْلَ لَا أَنَّ الْمُرَادَ لَكِنْ مَا تَقَدَّمَ لِلْحَنَفِيَّةِ مُرَجَّحٌ لَا نَاسِخٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ إذْ قَدْ يَظْهَرُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ الِاسْتِدْرَاكِ بِهِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ هَذَا وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ التَّرَاجِيحَ قَدْ تَتَعَارَضُ وَهَذَا التَّرْجِيحُ يُعَارِضُهُ مَا فِي تَقْدِيمِ الْمُوَافِقِ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْ أَنَّ التَّأْسِيسَ خَيْرٌ مِنْ التَّأْكِيدِ فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى تَقْدِيمِ مَا لَزِمَ مِنْهُ تَقْلِيلُ النَّسْخِ، وَإِنْ لَزِمَ كَوْنُهُ تَأْكِيدًا عَلَى مَا يَلْزَمُ فِيهِ تَكَرُّرُ النَّسْخِ، وَإِنْ كَانَ تَأْسِيسًا لَكَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْقَلْبِ إلَى الْقَلْبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْإِجْمَاعِ]
ِ (الْإِجْمَاعُ الْعَزْمُ وَالِاتِّفَاقُ لُغَةً) يُقَالُ أَجْمَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَالْقَوْمُ عَلَى كَذَا إذَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيُتَصَوَّرُ الْإِجْمَاعُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ وَاحِدٍ لَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي قِيلَ وَالثَّانِي بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ أَنْسَبُ انْتَهَى وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إلَّا وَاحِدٌ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ، ثُمَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لَهُ الْعَزْمُ، وَأَمَّا الِاتِّفَاقُ فَلَازِمٌ اتِّفَاقِيٌّ ضَرُورِيٌّ لِلْعَزْمِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ مُتَعَلِّقِ عَزْمِ الْجَمَاعَةِ يُوجِبُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ لَا أَنَّ الْعَزْمَ يَرْجِعُ إلَى الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْ اتَّفَقَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ وَلَا أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَهُمَا كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ إذْ لَا مَلْجَأَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ (وَاصْطِلَاحًا اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرٍ شَرْعِيٍّ) فَاتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ يُفِيدُ اتِّفَاقَ جَمِيعِهِمْ أَيْ اشْتِرَاكَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فَخَرَجَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَا إذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ فِي عَصْرٍ هَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ إجْمَاعًا فَظَاهِرُ هَذَا لَا وَلَا ضَيْرَ؛ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ إجْمَاعًا كَمَا سَيَأْتِي وَيُفِيدُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِاتِّفَاقِ غَيْرِهِمْ قِيلَ اتِّفَاقًا وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُ الْعَامِّيِّ الصِّرْفِ وَلَا وِفَاقُهُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ يَعْتَبِرُ مُطْلَقًا وَآخَرُونَ يَعْتَبِرُ فِي الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ وَهُوَ مَا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ النَّظَرِ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ لِحَاجَةِ الْجَمِيعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَعَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ وَتَحْرِيمِ الرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لَا فِي الْإِجْمَاعِ الْخَاصِّ وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَيَخْتَصُّ بِهِ الْخَاصَّةُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ كَفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ وَمَا يَجِبُ مِنْ الْحَقِّ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَعَلَى هَذَا مَشَى الْجَصَّاصُ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَلَا ضَيْرَ فَإِنَّ التَّعْرِيفَ إنَّمَا هُوَ لِلْخَاصِّ. هَذَا وَقَدْ حُكِيَ خِلَافٌ فِي الْمُرَادِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامِّيِّ فِي الْإِجْمَاعِ فَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ وَأَنَّهُ صَرِيحُ كَلَامِ الْقَاضِي وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي افْتِقَارِ كَوْنِهِ حُجَّةً، ثُمَّ لَا شَكَّ فِي بُعْدِهِ بَلْ فِي سُقُوطِهِ
لِأَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَاطِلٌ وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَلَا يُعْتَدُّ فِيهِ بِخِلَافِهِ وَلَا وِفَاقِهِ، عَلَى أَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ لِعَدَمِ إمْكَانِ ضَبْطِ الْعَامَّةِ وَالْإِطْلَاعِ عَلَى أَقَاوِيلِهِمْ لِإِتْسَاعِ انْتِشَارِهِمْ شَرْقًا وَغَرْبًا وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَأَمَّا الْعَامِّيُّ غَيْرُ الصِّرْفِ مِمَّنْ حَصَّلَ عِلْمًا مُعْتَبَرًا مِنْ فِقْهٍ أَوْ أُصُولٍ فَمِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْتَبِرُهُ فِي الْإِجْمَاعِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَّدَ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ أَيْضًا نَظَرًا إلَى فَقْدِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُ بِحُصُولِ قُوَّةِ النَّظَرِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ أَوْ فِي الْأُصُولِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَامِّيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْفَقِيهَ لَا الْأُصُولِيَّ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ عَالِمٌ بِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْخِلَافُ وَالْوِفَاقُ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ لِكَوْنِ الْأُصُولِيِّ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الِاجْتِهَادِ لِعِلْمِهِ بِمَدَارِك الْأَحْكَامِ عَلَى اخْتِلَافِ أَقْسَامِهَا وَكَيْفِيَّةِ اسْتِفَادَتِهَا مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ التَّعْرِيفُ وَيُفِيدُهُ اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَيَلْزَمُهُ خُرُوجُ مَنْ يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ كَالْكَافِرِ أَصَالَةً. وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَسَيُنَبِّهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله عَلَى وُجُوبِ التَّعَرُّضِ لَهَا فِي التَّعْرِيفِ عَلَى قَوْلِ مُشْتَرَطِهَا فِي أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَانْدَفَعَ بِإِضَافَةِ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى عَصْرٍ أَيْ زَمَنٍ طَالَ أَوْ قَصُرَ تَوَهُّمُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْإِجْمَاعُ إلَّا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إجْمَاعُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ كَمَا نَقَلَهُ فِي اللُّمَعِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا سَيَأْتِي مِنْ السُّنَّةِ خِلَافًا للإسفراييني فِي جَمَاعَةٍ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ قَبْلَ نَسْخِ مِلَلِهِمْ حُجَّةٌ وَلِلْآمِدِيِّ مُوَافَقَةٌ لِلْقَاضِي فِي اخْتِيَارِهِ الْوَقْفَ وَخَرَجَ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ اعْتِقَادًا أَوْ تَقْرِيرًا وَلَوْ بِالسُّكُوتِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ مُشْكِلٌ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ لُغَوِيٍّ كَالْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِيهِ وَبِمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي بَعْضِ الْعَقْلِيَّاتِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ أَيْضًا حُجَّةٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا، إلَّا أَنَّ ثَمَّ أَنْ يُقَالَ لَا يُشْكِلُ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَعَلَّقَ بِهَا عَمَلٌ أَوْ اعْتِقَادٌ صَدَقَ التَّعْرِيفُ عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إجْمَاعٌ عَلَى أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا عَمَلٌ وَلَا اعْتِقَادٌ فَلَيْسَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا مِنْ الْإِجْمَاعِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ وَهُوَ مَا كَانَ دَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ مُوجِبًا لِاعْتِبَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا شَكَّ فِي تَمَامِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الشِّقُّ الثَّانِي فَفِي تَمَامِهِ نَظَرٌ بَلْ يُقَالُ ثُبُوتُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ يُفِيدُ ثُبُوتَهَا فِي الْأَمْرِ اللُّغَوِيِّ وَالْعُرْفِيِّ بِطَرِيقٍ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. هَذَا وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي غَيْرِ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي زَمَانِهِ كَمَا ذَكَرَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ الرَّازِيّ وَابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ دُونَهُ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ وَلَا بُدَّ مِنْهُ قُلْت وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي جَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافًا وَالْوَجْهُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ كَمَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ الْمِيزَانِ فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ لَا إجْمَاعَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ وَحِينَئِذٍ فَالْوَجْهُ إسْقَاطُ هَذَا الْقَيْدِ لَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَعَلَى مَنْ شَرَطَ لِحُجِّيَّتِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (وَالتَّعْرِيفِ لَهُ انْقِرَاضَ عَصْرِهِمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِمُشْتَرِطِ انْقِرَاضِ عَصْرِ أُولَئِكَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي حُجِّيَّةِ إجْمَاعِهِمْ أَيْ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَثَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ وَظَهَرَ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ مُجْتَهِدِيهِ (زِيَادَةٌ إلَى انْقِرَاضِهِمْ) بَعْدَ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِدَةُ الِاشْتِرَاطِ جَوَازَ الرُّجُوعِ لَا دُخُولَ مَنْ سَيُحْدِثُ فِي إجْمَاعِهِمْ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَمَنْ تَابَعَهُ أَوْ إدْخَالَ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ كَمَا هُوَ قَوْلُ بَاقِي الْمُشْتَرِطِينَ لِيَخْرُجَ اتِّفَاقُهُمْ إذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْإِجْمَاعِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ مَا يَكُونُ حُجَّةً شَرْعًا؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لِمَا هُوَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ الْمَقْرُونُ بِالشَّرَائِطِ، ثُمَّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَلْزَمُ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ (وَ) عَلَى (مَنْ شَرَطَ) لِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ (عَدَمَ سَبْقِ خِلَافٍ مُسْتَقَرٍّ) وَكَانَ يَرَى جَوَازَ حُصُولِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ الْمُسْتَقِرِّ وَكَانَ التَّعْرِيفُ لَهُ
(زِيَادَةَ غَيْرِ مَسْبُوقٍ بِهِ) أَيْ بِخِلَافٍ مُسْتَقِرٍّ بَعْدَ شَرْعِيٍّ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وَبَعْدُ إلَى انْقِرَاضِهِمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَشْتَرِطُهُ لِيَخْرُجَ عَنْ التَّعْرِيفِ مَا كَانَ بَعْدَ خِلَافٍ مُسْتَقِرٍّ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ التَّعْرِيفِ يَرَى عَدَمَ جَوَازِ حُصُولِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ الْمُسْتَقِرِّ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْجِنْسِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِخْرَاجِ أَوْ كَانَ يَرَى جَوَازَ حُصُولِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَنْعَقِدُ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُعَرَّفِ فَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ، ثُمَّ مَبْنَى هَذَا كُلِّهِ عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ شُرُوطٌ لِمَاهِيَّةِ الْإِجْمَاعِ الشَّرْعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا (وَإِذَنْ) أَيْ وَإِذْ كَانَ تَعْرِيفُهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا يَتَوَقَّفُ حُجِّيَّتُهُ عَلَيْهِ (فَمَنْ شَرَطَ الْعَدَالَةَ) فِي الْمُجْمِعِينَ (وَعَدَدَ التَّوَاتُرِ) فِيهِمْ لِحُجِّيَّتِهِ كَمَا الْأَوَّلُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ، وَالثَّانِي لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ (مِثْلَهُ) أَيْ زِيَادَةِ ذَلِكَ فِي التَّعْرِيفِ فَيُزَادُ إذَا كَانَ التَّعْرِيفُ لَلْأَوَّلِينَ:" عُدُولٌ بَعْدَ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ " وَلِلْآخَرِينَ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بَعْدَ عُدُولٍ إنْ كَانُوا مِمَّنْ يَرَوْنَ هَذَا الشَّرْطَ وَإِلَّا فَبَعْدَ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ وَسَتَتَّضِحُ هَذِهِ الْجَمَلُ فِي مَسَائِلِ الْبَابِ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ يُعَامَلُ هَذَا التَّعْرِيفُ بِمَزِيدٍ أَوْ نُقْصَانٍ بِحَسَبِ مَا هُوَ شَرْطُ الْمُعَرَّفِ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ) فِي تَعْرِيفِهِ (اتِّفَاقُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ مُعْتَرَضٌ بِلُزُومِ عَدَمِ تَصَوُّرِهِ) أَيْ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ أُمَّتَهُ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْثَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَبْلَ الْقِيَامَةِ لَا إجْمَاعَ وَبَعْدَهَا حُجِّيَّةٌ (وَفَسَادِ طَرْدِهِ) لَوْ أُرِيدَ بِهِ تَنْزِيلًا اتِّفَاقُهُمْ فِي عَصْرٍ مَا (إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُجْتَهِدٌ) فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا مَعَ صِدْقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ (وَأُجِيبُ بِسَبْقِ إرَادَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ لِلْمُتَشَرِّعَةِ) مِنْ اتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (كَمَا سَبَقَ) هَذَا الْمُرَادُ (مِنْ) نَحْوِ مَا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» ) وَسَتَقِفُ عَلَى تَخْرِيجِهِ مِنْ طُرُقٍ، ثُمَّ كَأَنَّهُ اخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ لِيُوَافِقَ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وقَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَالِاتِّفَاقُ قَرِينَةُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بَيْنَ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرٍ (وَ) بِفَسَادِ (عَكْسِهِ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ) لِوُجُودِ الْمُعَرَّفِ مَعَ عَدَمِ التَّعْرِيفِ (أُجِيبُ) بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (لَا يَضُرُّ) بِالتَّعْرِيفِ (إذَا كَانَ) كُلٌّ مِنْهُمَا (دِينِيًّا) لِمَنْعِ عَدَمِ التَّعْرِيفِ حِينَئِذٍ (وَغَيْرُهُ) أَيْ الدِّينِيِّ (خَرَجَ) بِالدِّينِيِّ فَلَا يَضُرُّ عَدَمُ صِدْقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجِّيَّةَ فِي الْإِجْمَاعِ فِيهِ وَيَطْرُقُهُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا (وَادَّعَى النَّظَّامُ وَبَعْضُ الشِّيعَةِ اسْتِحَالَتَهُ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (عَادَةً) كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ النِّظَامِ. وَأَمَّا رَأْيُ النِّظَامِ نَفْسِهِ فِي بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ وَلَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ كَذَا نَقَلَهُ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيُّ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَحَالَهُ مَنْ أَحَالَهُ (لِأَنَّ انْتِشَارَهُمْ) أَيْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَقِفَارِ الْفَيَافِي وَسَبَاسِبِهَا (يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ الْحُكْمِ إلَيْهِمْ) عَادَةً (وَلِأَنَّ الِاتِّفَاقَ) عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ (إنْ) كَانَ (عَنْ) دَلِيلٍ (قَطْعِيٍّ أَحَالَتْ الْعَادَةُ عَدَمَ الْإِطْلَاعِ عَلَيْهِ) لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَشِدَّةِ تَفَحُّصِهِمْ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ فَيُطَّلَعُ عَلَيْهِ (فَيُغْنِي) الْقَطْعِيُّ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فَلَمْ يُطَّلَعْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ الْإِجْمَاعُ حِينَئِذٍ عَنْ قَطْعِيٍّ (أَوْ) كَانَ (عَنْ ظَنِّيٍّ أَحَالَتْ) الْعَادَةُ (الِاتِّفَاقَ عَنْهُ لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ) أَيْ الْقُوَى الْمُفَكِّرَةِ (وَالْأَنْظَارِ) وَمَوَادِّ الِاسْتِنْبَاطِ عِنْدَهُمْ وَأَحَالَتْهَا لِهَذَا (كَإِحَالَتِهَا اتِّفَاقَهُمْ عَلَى اشْتِهَاءِ طَعَامٍ) قَالُوا (وَلَوْ تُصَوِّرُ) ثُبُوتُهُ فِي نَفْسِهِ (اسْتَحَالَ ثُبُوتُهُ عَنْهُمْ) أَيْ الْمُجْمِعِينَ (لِقَضَائِهَا) أَيْ الْعَادَةِ (بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) بِأَعْيَانِهِمْ (فَضْلًا عَنْ أَقْوَالِهِمْ مَعَ خَفَاءِ بَعْضِهِمْ لِخُمُولِهِ) أَيْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ (وَنَحْوِ أَسْرِهِ) فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي مَطْمُورَةٍ أَوْ عُزْلَتِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ النَّاسِ بِحَيْثُ يَخْفَى أَثَرُهُ (وَتَجْوِيزُ رُجُوعِهِ) عَنْ ذَلِكَ (قَبْلَ تَقَرُّرِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَوْلِ الْآخَرِ بِهِ فَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَوْلٍ فِي عَصْرٍ إذْ لَا يُمْكِنُ السَّمَاعُ مِنْهُمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ فِي زَمَانٍ مُتَطَاوِلٍ وَهُوَ مَظِنَّةُ تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ
قَالُوا (وَلَوْ أَمْكَنَ) ثُبُوتُهُ عَنْهُمْ (اسْتَحَالَ نَقْلُهُ إلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ وَهُمْ) أَيْ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ (مِنْ بَعْدِهِمْ لِذَلِكَ بِعَيْنِهِ) أَيْ لِقَضَاءِ الْعَادَةِ بِإِحَالَةِ ذَلِكَ كَمَا سَيَتَّضِحُ فَإِنَّ طَرِيقَ نَقْلِهِ إمَّا التَّوَاتُرُ أَوْ الْآحَادُ (وَ) اسْتَحَالَ (لُزُومُ التَّوَاتُرِ فِي الْمُبَلِّغِينَ) عَادَةً لِتَعَذُّرِ أَنْ يُشَاهِدَ أَهْلُ التَّوَاتُرِ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَيَسْمَعُوا مِنْهُمْ وَيَنْقُلُوا عَنْهُمْ إلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ هَكَذَا طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِنَا، وَأَمَّا الْآحَادُ فَلَا يَصْلُحُ هُنَا (إذْ لَا يُفِيدُ الْآحَادُ) الْعِلْمَ بِوُقُوعِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى حَذْفُ (وَالْعَادَةُ تُحِيلُهُ) أَيْ لُزُومَ التَّوَاتُرِ فِي الْمُبَلِّغِينَ كَمَا بَيَّنَّا وَذَكَرَ عَادَةً بَعْدَ الْمُبَلِّغِينَ كَمَا ذَكَرْنَا (وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْكُلِّ) أَيْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِهِ وَبِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عَنْ الْمُجْمِعِينَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِإِحَالَةِ الْعَادَةِ نَقَلَهُ إلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ بَعْدَهُمْ (مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتْوَى بِحُكْمٍ وَ) بَيْنَ (اشْتِهَاءِ طَعَامٍ) وَاحِدٍ وَأَكْلِهِ لِلْكُلِّ فَإِنَّ هَذَا لَا إجْمَاعَ لَهُمْ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الدَّوَاعِي لَهُ طَبْعًا وَمِزَاجًا وَغَيْرُهُمَا بِخِلَافِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلدَّلِيلِ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْهِ لِوُجُودِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْ ظَاهِرٍ (وَمَا بَعْدُ) أَيْ وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ الشُّبْهَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ (تَشْكِيكٌ مَعَ الضَّرُورَةِ إذْ نَقْطَعُ بِإِجْمَاعِ كُلِّ عَصْرٍ) مِنْ الصَّحَابَةِ وَهَلُمَّ جَرَّا (عَلَى تَقْدِيمِ) الدَّلِيلِ (الْقَاطِعِ عَلَى الْمَظْنُونِ) وَمَا ذَاكَ إلَّا بِثُبُوتِهِ عَنْهُمْ وَنَقْلِهِ إلَيْنَا وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّشْكِيكِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ (وَيُحْمَلُ قَوْلُ أَحْمَدَ مَنْ ادَّعَاهُ) أَيْ الْإِجْمَاعَ (كَاذِبٌ عَلَى اسْتِبْعَادِ انْفِرَادِ اطِّلَاعِ نَاقِلِهِ) عَلَيْهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا لَنَقَلَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا كَمَا يَشْهَدُ بِهِ لَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ لَعَلَّ النَّاسَ قَدْ اخْتَلَفُوا وَلَكِنْ يَقُولُ لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَا إنْكَارٌ لِتَحَقُّقِ الْإِجْمَاعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ هُوَ أَجَلُ أَنْ يَحُومَ حَوْلَهُ قُلْت وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الصَّلَاةِ يَعْنِي {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فَهَذَا نَقْلٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ أَصْحَابُهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا عَلَى جِهَةِ الْوَرَعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خِلَافٌ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ قَالَ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِخِلَافِ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْأَصْفَهَانِيّ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
أَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَحُجَّةٌ مَعْلُومٌ تَصَوُّرُهُ لِكَوْنِ الْمُجْمِعِينَ ثَمَّةَ فِي قِلَّةٍ وَالْآنَ فِي كَثْرَةٍ وَانْتِشَارٍ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ وَالْمُصَنِّفُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَبَرَ لَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ إلَّا مَا يَجِدُ مَكْتُوبًا فِي الْكُتُبِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ أَوْ بِنَقْلِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ إلَيْنَا وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَلَا وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ إنَّمَا قَالَهُ إنْكَارًا عَلَى فُقَهَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ وَكَانُوا مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَحْمَدُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ احْتِجَاجٌ بِإِجْمَاعٍ بَعْدَ التَّابِعِينَ أَوْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ انْتَهَى.
هَذَا وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَسَائِلَ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ وَلِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ كَثِيرُ الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَمَا اخْتَلَفُوا فَنَقُولُ أَخْطَأْت بَلْ مَسَائِلُ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ لَهَا مِنْ الْفُرُوعِ الَّتِي يَقَعُ الِاتِّفَاقُ مِنْهَا وَعَلَيْهَا وَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ يَبْقَى قَدْرُ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَالْخِلَافِ، ثُمَّ فِي بَعْضِهَا يُحْكَمُ بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ عَلَى الْقَطْعِ مِنْ نَفْسِهِ وَفِي بَعْضٍ يُنْقَضُ حُكْمُهُ وَفِي بَعْضِهَا يُتَسَامَحُ فَلَا يَبْلُغُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَبْقَى عَلَى الشُّبْهَةِ إلَى مِائَتَيْ مَسْأَلَةٍ (وَهُوَ) أَيْ الْإِجْمَاعُ (حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ) عِنْدَ الْأُمَّةِ (إلَّا) عِنْدَ (مَنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ) أَيْ الْخَوَارِجَ وَالشِّيعَةَ (مَعَ فِسْقِهِمْ) إنَّمَا وُجِدُوا (بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى حُجِّيَّتِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ (وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْقَاطِعِ) وَهَذَا مُتَوَارَثٌ الشَّكُّ فِيهِ كَالشَّكِّ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، (وَقَطْعُ مِثْلِهِمْ) أَيْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِمِثْلِهِ (عَادَةً لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ فِي ذَلِكَ) الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ الْقَاطِعَ لِظَنِّيٍّ بَعِيدٌ جِدًّا (فَيَثْبُتُ) الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ (بِهِ) أَيْ بِالسَّمْعِيِّ الْقَاطِعِ الْمُقْتَضِي لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ
هَذَا دَوْرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ إنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً بِسَمْعِيٍّ قَاطِعٍ اقْتَضَى ذَلِكَ (وَذَلِكَ الِاتِّفَاقُ بِلَا اعْتِبَارِ حُجِّيَّتِهِ) أَيْ الِاتِّفَاقِ نَفْسِهِ (دَلِيلُهُ) أَيْ السَّمْعِيِّ الْقَاطِعِ يَعْنِي الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَقَعَ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا اعْتِبَارِ حُجِّيَّتِهِ بَلْ بِمُجَرَّدِهِ وَأَثْبَتَ الْمَطْلُوبَ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَنْ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ فَالْمُثْبِتُ لِحُجِّيَّةِ أَنَّ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ، عَرَفْنَا وُجُودَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ الْكَائِنِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْبَالِغِينَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْقَاطِعِ فَالْمُتَوَقِّفُ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ الْمُتَوَقَّفِ عَلَيْهِ (فَلَا دَوْرَ) وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ (بِخِلَافِ إجْمَاعِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ) نَظَرٍ (عَقْلِيٍّ يُزَاحِمُهُ الْوَهْمُ) فَإِنَّ تَعَارُضَ الشَّبَهِ وَاشْتِبَاهَ الصَّحِيحِ بِالْفَاسِدِ فِيهِ كَثِيرٌ وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّ الْفَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ بَيِّنٌ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ فَضْلًا عَنْ الْمُحَقِّقِينَ الْمُجْتَهِدِينَ
(عَلَى أَنَّ التَّوَارِيخَ دَلَّتْ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِحُدُوثِهِ) أَيْ الْعَالَمِ (مِنْهُمْ) أَيْ الْفَلَاسِفَةِ فَلَا إجْمَاعَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا حَكَاهُ لَنَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذَا الْمَحَلِّ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَةٍ وُجِدَتْ بِحَجَرٍ فِي أَسَاسِ الْحَائِطِ الْجَيْرُونِيِّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقِفْطِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنْبَاءُ الرُّوَاةِ عَلَى أَبْنَاءِ النُّحَاةِ، وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِهِ ذِكْرَ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْعَلَاءِ الْمُقْرِي عَمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ قُرِئَ بِحَضْرَتِهِ يَوْمًا أَنَّ الْوَلِيدَ لَمَّا تَقَدَّمَ بِعِمَارَةِ دِمَشْقَ أَمَرَ الْمُتَوَلِّينَ لِعِمَارَتِهِ أَنْ لَا يَضَعُوا حَائِطًا إلَّا عَلَى جَبَلٍ فَامْتَثَلُوا وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ جَبَلٍ لِحَائِطٍ جِهَةَ جَيْرُونَ وَأَطَالُوا الْحَفْرَ امْتِثَالًا لِمَرْسُومِهِ فَوَجَدُوا رَأْسَ حَائِطٍ مَكِينِ الْعَمَلِ كَثِيرِ الْأَحْجَارِ يَدْخُلُ فِي عَمَلِهِمْ فَأَعْلَمُوا الْوَلِيدَ أَمْرَهُ وَقَالُوا نَجْعَلُ رَأْسَهُ أُسًّا فَقَالَ اُتْرُكُوهُ وَاحْفِرُوا قُدَّامَهُ لِتَنْظُرُوا أُسَّهُ وُضِعَ عَلَى حَجَرٍ أَمْ لَا فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوا فِي الْحَائِطِ بَابًا وَعَلَيْهِ حَجَرٌ مَكْتُوبٌ بِقَلَمٍ مَجْهُولٍ فَأَزَالُوا عَنْهُ التُّرَابَ بِالْغَسْلِ وَنَزَّلُوا فِي حَفْرِهِ لَوْنًا مِنْ الْأَصْبَاغِ فَتَمَيَّزَتْ حُرُوفُهُ وَطَلَبُوا مَنْ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ وَتَطَلَّبَ الْوَلِيدُ الْمُتَرْجِمِينَ مِنْ الْآفَاقِ حَتَّى حَضَرَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يَعْرِفُ قَلَمَ الْيُونَانِيَّةِ الْأُولَى فَقَرَأَ الْكِتَابَةَ الْمَوْجُودَةَ فَكَانَتْ: بِاسْمِ الْمُوجِدِ الْأَوَّلِ أَسْتَعِينُ لَمَّا أَنْ كَانَ الْعَالَمُ مُحْدَثًا لِاتِّصَالِ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُحْدِثٌ لَا كَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ ذُو السِّنِينَ وَذُو اللَّحْيَيْنِ وَأَشْيَاعُهُمَا، حِينَئِذٍ أَمَرَ بِعِمَارَةِ هَذَا الْهَيْكَلِ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ مُحِبَّ الْخَيْرِ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَسَبْعِمِائَةِ عَامٍ لِأَهْلِ الْأُسْطُوَانِ فَإِنْ رَأَى الدَّاخِلُ إلَيْهِ ذِكْرَ بَانِيهِ عِنْدَ نَادِيهِ بِخَيْرٍ فَعَلَ وَالسَّلَامُ. فَأَطْرَقَ أَبُو الْعَلَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْجَمَاعَةُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْهَيْكَلِ وَأَمْرِ الْأُسْطُوَانِ الْمُؤَرَّخِ بِهِ وَفِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ رَفَعَ أَبُو الْعَلَاءِ رَأْسَهُ وَأَنْشَدَ فِي صُورَةِ مُتَعَجِّبٍ
سَيَسْأَلُ قَوْمٌ مَا الْحَجِيجُ وَمَكَّةُ
…
كَمَا قَالَ قَوْمٌ مَا جُدَيْسُ وَمَا طسم
وَأَمَرَ بِتَسْطِيرِ الْحِكَايَةِ عَلَى ظَهْرِ جُزْءٍ مِنْ " اسْتَغْفِرْ وَاسْتَغْفِرِي " بِخَطِّ ابْنِ أَبِي هَاشِمٍ كَاتِبِهِ وَأَكْثَرُ مَنْ نَقَلَ الْكِتَابَ نَقَلَ الْحِكَايَةَ عَلَى مِثْلِ الْجُزْءِ الَّذِي هِيَ مَسْطُورَةٌ عَلَيْهِ انْتَهَى.
قُلْت وَقَدْ ذَكَرَهَا مُخْتَصَرَةً يَاقُوتُ الْحَمَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةٍ بَيْنَ ذِي اللَّحْيَيْنِ وَبَيْنَ حِينَئِذٍ هِيَ فَوَجَبَتْ عِبَادَةُ خَالِقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ وَبَدَلٌ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَسَبْعِمِائَةِ عَامٍ عَلَى مُضِيِّ سَبْعَةِ آلَافٍ وَتِسْعِمِائَةِ عَامٍ وَأَفَادَ مِنْ أَهْلِ الْأُسْطُوَانِ قَوْمٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ الْأُوَلِ كَانُوا بِبَعْلَبَكّ حَكَى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ الطَّبِيبِ السَّرَخْسِيُّ الْفَيْلَسُوفُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَإِجْمَاعُ الْيَهُودِ عَلَى نَفْيِ نَسْخِ شَرْعِهِمْ عَنْ مُوسَى عليه السلام وَ) إجْمَاعُ (النَّصَارَى عَلَى صَلْبِ عِيسَى عليه السلام) إنَّمَا هُوَ (لِاتِّبَاعِ الْآحَادِ الْأَصْلَ) لِاتِّبَاعِهِمْ فِي هَذَيْنِ الِافْتِرَاءَيْنِ لِآحَادِ أَوَائِلِهِمْ هُمْ أَهْلُ الطَّبَقَةِ الْأُولَى فِيهِمَا (لِعَدَمِ تَحْقِيقِهِمْ) إذْ لَوْ كَانُوا مُحَقِّقِينَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ (بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرْنَا) مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُمْ مُحَقِّقُونَ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ (لِأَنَّهُمْ الْأُصُولُ) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْإِجْمَاعَاتِ نَقْضًا عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ الِاتِّفَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَاطِعٍ لِانْتِفَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَوَّلِ وَالتَّحْقِيقِ فِي الْأَخِيرَيْنِ فَهَذَا دَلِيلٌ
عَقْلِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ
(وَمِنْ) الْأَدِلَّةِ (السَّمْعِيَّةِ آحَادٌ تَوَاتَرَ مِنْهَا) قَدْرٌ هُوَ (مُشْتَرَكُ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ» وَنَحْوِهِ كَثِيرٌ) بِإِضَافَةِ " مُشْتَرَكُ " إلَى مَا بَعْدَهُ وَجَرِّ " نَحْوِهِ " بِالْعَطْفِ عَلَى لَا تَجْتَمِعُ وَكَثِيرٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَتُهُ أَيْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ عِصْمَةُ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلَى النَّارِ» وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَاللَّالَكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ بِلَفْظِ «إنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا وَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَاتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ، ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّتَهُ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ «إنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمْ الِاخْتِلَافَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ «لَا يَجْمَعُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا إبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْمُونَ فَإِنَّهُمَا لَمْ يُخَرِّجَا لَهُ وَبِلَفْظِ «إنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ جَمَاعَةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ» ، ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «سَأَلْت رَبِّي أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْت رَبِّي أَنْ لَا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا» الْحَدِيثَ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا التَّابِعِيَّ الْمُبْهَمَ وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ أَيْضًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا طَرِيقُ الْغَزَالِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ،
(وَمِنْهَا) قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115](وَهُوَ) أَيْ غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ (أَعَمُّ مِنْ الْكُفْرِ جُمِعَ بَيْنَهُ) أَيْ بَيْنَ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ (وَبَيْنَ الْمُشَاقَّةِ) لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم (فِي الْوَعِيدِ) الشَّدِيدِ (فَيَحْرُمُ) اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ إذْ لَا يُضَمُّ مُبَاحٌ إلَى حَرَامٍ فِي الْوَعِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَخْلَ لِلْمُبَاحِ فِيهِ وَإِذَا حُرِّمَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ يَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ إذْ لَا مَخْرَجَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ سَبِيلِهِمْ اتِّبَاعٌ لِسَبِيلِ غَيْرِهِمْ إذْ مَعْنَى السَّبِيلِ هُنَا مَا يَخْتَارُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَالْإِجْمَاعُ سَبِيلُهُمْ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(وَيُعْتَرَضُ) هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَنَّهُ إثْبَاتُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِمَا) أَيْ بِشَيْءٍ (لَمْ تَثْبُتْ حُجِّيَّتُهُ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ (إلَّا بِهِ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ (وَهُوَ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءُ (الظَّاهِرُ) وَهُوَ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ (لِعَدَمِ قَطْعِيَّةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خُصُوصِ الْمُدَّعَى) وَهُوَ الْإِجْمَاعُ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ سَبِيلَهُمْ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْ فِي مُنَاصَرَتِهِ وَدَفْعِ الْأَعْدَاءِ عَنْهُ أَوْ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَإِذَا قَامَ الِاحْتِمَالُ كَانَ غَايَتُهُ الظُّهُورَ، وَالتَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ الْمُفِيدَةِ لِلظَّنِّ إذْ لَوْلَاهُ لَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالدَّلَائِلِ الْمَانِعَةِ مِنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ إثْبَاتًا لِلْإِجْمَاعِ بِمَا لَمْ تَثْبُتْ حُجِّيَّتُهُ إلَّا بِهِ فَيَصِيرُ دَوْرًا وَأَفَادَنَا الْمُصَنِّفُ فِي الدَّرْسِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَا يَقْدَحُ فِي قَطْعِيَّتِهِ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَامِّ عِنْدَهُمْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ قَطْعًا وَيَقِينًا فَيَتِمُّ التَّمَسُّكُ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى الْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ الْمُفِيدَةِ لِلظَّنِّ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُثْبِتٍ لِلْحُكْمِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ بِطَرِيقِ الظَّنِّ.
قُلْت إلَّا أَنَّ السُّبْكِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَنْبَطَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ وَحَكَى أَنَّهُ تَلَا الْقُرْآنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ وَسَاقَ فِيهِ حِكَايَةً طَوِيلَةً غَرِيبَةً بِسَنَدِهِ، وَلَمْ يَدَّعِ أَعْنِي الشَّافِعِيَّ الْقَطْعَ فِيهِ اهـ فَإِنْ ادَّعَى الظَّنَّ فَلَا إشْكَالَ لَكِنَّ الْمَطْلُوبَ الْقَطْعُ، وَإِنْ ادَّعَى الْقَطْعَ أَشْكَلَ بِقَوْلِهِ بِظَنِّيَّةِ دَلَالَةِ الْعَامِّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ هَذَا بِأَنَّ ظَنِّيَّتَهَا حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تُفِيدُ الْقَطْعَ بِذَلِكَ وَهَاهُنَا قَدْ احْتَفَّ بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِذَلِكَ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ الْآيَةِ وَحْدَهَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا