المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة أنه عليه السلام مأمور في حادثة لا وحي فيها بانتظار الوحي] - التقرير والتحبير على كتاب التحرير - جـ ٣

[ابن أمير حاج]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَارُضِ]

- ‌[مَسْأَلَة جَرْيِ التَّعَارُضِ بَيْنَ قَوْلَيْنِ وَنَفْيِهِ]

- ‌[مَسْأَلَة لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَالرُّوَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ يَلْحَقُ السَّمْعِيَّيْنِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة وَيَكُونُ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ كَالْقَوْلِ]

- ‌[مَسْأَلَة جَوَازِهِ أَيْ النَّسْخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَوَازِ النَّسْخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ حُكْمِ فِعْلٍ لَا يَقْبَلُ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ السُّقُوطَ]

- ‌[مَسْأَلَةُ لَا يَجْرِي النَّسْخُ فِي الْأَخْبَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْحُكْمُ بِلَا بَدَلٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ التَّكْلِيفِ بِتَكْلِيفٍ أَخَفَّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مَمْنُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْإِجْمَاعُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا رُجِّحَ قِيَاسٌ مُتَأَخِّرٌ لِتَأَخُّرِ شَرْعِيَّةِ حُكْمِ أَصْلِهِ عَنْ نَصٍّ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ فَحَوَى مَنْطُوقٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ النَّاسِخِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ بَعْدَ تَبْلِيغِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا زَادَ فِي مَشْرُوعٍ جُزْءًا أَوْ شَرْطًا لَهُ مُتَأَخِّرًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يُعْرَفُ النَّاسِخُ بِنَصِّهِ عليه السلام عَلَيْهِ وَضَبْطِ تَأَخُّرِهِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ انْقِرَاضُ الْمُجْمِعِينَ لَيْسَ شَرْطًا لِانْعِقَادِهِ وَلَا لِحُجَّتِهِ]

- ‌[لَا يَشْتَرِطُ لِحُجِّيَّتِهِ أَيْ الْإِجْمَاعِ انْتِفَاءَ سَبْقِ خِلَافٍ مُسْتَقِرٍّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّتِهِ أَيْ الْإِجْمَاعِ عَدَدُ التَّوَاتُرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّتِهِ أَيْ الْإِجْمَاعِ مَعَ كَوْنِ الْمُجْمِعِينَ أَكْثَرَ مُجْتَهِدِي ذَلِكَ الْعَصْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ عَدَالَةُ الْمُجْتَهِدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيَّةِ كَوْنُهُمْ أَيْ الْمُجْمِعِينَ الصَّحَابَةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ النَّبَوِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِالشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاع بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَفْتَى بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَوْ قَضَى بِهِ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَسَكَتُوا بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ]

- ‌[تَنْبِيهٌ لَوْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ هَذَا مُبَاحٌ وَأَقْدَمَ الْبَاقِي عَلَى فِعْلِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا أُجْمِعَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْجُمْهُورُ إذَا أَجْمَعُوا أَيْ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى دَلِيلٍ لِحُكْمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا إجْمَاعَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا أَيْ مُجْتَهِدُو عَصْرٍ دَلِيلًا سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُكَافِئِ لَهُ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ارْتِدَادِ أُمَّةِ عَصْرٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ظُنَّ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ دِيَةُ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ يَتَمَسَّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَاعِ يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ حُجِّيَّتُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[أَرْكَانُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ]

- ‌[فِي الشُّرُوطِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ وَشُرُوطِهَا وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا]

- ‌[الْمَرْصَدُ الْأَوَّلُ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةُ]

- ‌[تَتِمَّةٌ تَقْسِيمَ لَفْظُ الْعِلَّةِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَجَازِ]

- ‌[الْمَرْصَدُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[تَنْبِيهٌ قَسَّمَ الْمُصَحِّحُونَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَانِعِ إلَى خَمْسَةٍ]

- ‌[لَا يُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيلِ انْتِفَاءِ حُكْمٍ بِوُجُودِ مَانِعٍ]

- ‌[فَصْلٌ تَقْسِيم الْقِيَاسَ بِاعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْقُوَّةِ إلَى جَلِيٍّ وَخَفِيَ]

- ‌[مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ الْحُدُودُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَكْلِيفُ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ الْمَنَاطِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ النَّصِّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ يَكْفِي فِي إيجَابِ تَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ]

- ‌[خَاتِمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ]

- ‌[الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ فِي الِاجْتِهَادِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ التَّقْلِيدِ وَالْإِفْتَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَنَّهُ عليه السلام مَأْمُورٌ فِي حَادِثَةٍ لَا وَحْيَ فِيهَا بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طَائِفَةٌ لَا يَجُوزُ عَقْلًا اجْتِهَادُ غَيْرِ النَّبِيّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْعَقْلِيَّاتُ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمْعٍ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَيْ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ]

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي وَاقِعَةٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ فِيهَا إلَى حُكْمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَاقِعَةٌ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لَهَا ثُمَّ تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَصِحُّ فِي مَسْأَلَةٍ لِمُجْتَهِدٍ بَلْ لِعَاقِلٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَوْلَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُنْقَضُ حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ التَّعْرِيضِ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ]

- ‌[مَسْأَلَة التَّقْلِيد الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ إحْدَى الْحُجَجِ الْأَرْبَعِ الشَّرْعِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَة غَيْر الْمُجْتَهِدِ المطلق يَلْزَمهُ التَّقْلِيد وَإِنَّ كَانَ مجتهدا فِي بَعْض مَسَائِل الْفِقْه]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاتِّفَاقُ عَلَى حِلِّ اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالِاجْتِهَادِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إفْتَاءُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ الْمُقَلِّدُ فِيمَا قَلَّدَ الْمُجْتَهِدَ]

- ‌[إجْمَاعُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَنْعِ الْعَوَامّ مِنْ تَقْلِيدِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ]

- ‌[خَاتِمَة]

الفصل: ‌[مسألة أنه عليه السلام مأمور في حادثة لا وحي فيها بانتظار الوحي]

أَيْ تَفَاوُتُهُمَا مَا فِي الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ (بَعْدَ كَوْنِ الْآخَرِ) الَّذِي لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ مُطْلَقٍ (قَرِيبًا) مِنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ مُحَصِّلًا فِي ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ بِخُصُوصِهِ مَا حَصَّلَهُ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ (بَلْ) ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْمَطْلُوبِ الْخَاصِّ (مِثْلُهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فِيهِ (وَسَعَتُهُ) أَيْ الْمُطْلَقِ (بِحُصُولِ مَوَادَّ أُخْرَى لَا تُوجِبُهُ) أَيْ التَّفَاوُتَ فِي الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِيهِ (فَإِذَا وَقَعَ) الِاجْتِهَادُ (فِي) مَسْأَلَةٍ (صَلَوِيَّةٍ) أَيْ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّلَاةِ (وَفَرْضُ) وُجُودِ (مَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ فَسَعَةُ الْآخَرِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ (بِحُضُورِ مَوَادِّ) الْأَحْكَامِ (الْبَيْعِيَّاتِ وَالْغَصْبِيَّاتِ) وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مَثَلًا (شَيْءٌ آخَرُ) لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا وَحَيْثُ لَمْ يَقْدَحْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُطْلَقِ فَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ (وَأَمَّا مَا قِيلَ) مِنْ قِبَلِ الْمُثْبِتِينَ (لَوْ شُرِطَ) عَدَمُ التَّجَزُّؤِ لِلِاجْتِهَادِ (شُرِطَ فِي الِاجْتِهَادِ الْعِلْمُ بِكُلِّ الْمَآخِذِ) أَيْ الْأَدِلَّةِ.

(وَيَلْزَمُ) هَذَا (عِلْمُ كُلِّ الْأَحْكَامِ) وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ تَوَقَّفُوا فِي مَسَائِلَ بَلْ لَمْ يُحِطْ أَحَدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ عِلْمًا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى (فَمَمْنُوعُ الْمُلَازَمَةِ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْمَآخِذِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ (لِلْوَقْفِ بَعْدَهُ) أَيْ الْعِلْمِ بِكُلِّ الْمَآخِذِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ (عَلَى الِاجْتِهَادِ) ثُمَّ قَدْ يُوجَدُ الِاجْتِهَادُ وَلَا يُوجَدُ الْحُكْمُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ الْإِطْلَاعِ عَلَى مُرَجِّحٍ أَوْ لِتَشْوِيشِ فِكْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا قُلْت ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ تَقْيِيدِ صِحَّةِ جَوَازِ التَّجَزُّؤِ بِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ضَبْطِ مَأْخَذِ الْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا لَا مُوجِبَ لَهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ: الْحَقُّ التَّفْصِيلُ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ كُلِّيًّا كَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ مَجَازِيِّ الْكَلَامِ، وَمَا يُقْبَلُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَمَا يُرَدُّ وَنَحْوُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِجْمَاعِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ دَلِيلٍ وَمَدْلُولٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةُ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِلَ أَوْ بَابٍ، فَإِذَا اسْتَجْمَعَهُ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْبَابِ أَوْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ الْمَسَائِلِ مَعَ الْأَهْلِيَّةِ كَانَ فَرْضُهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ الِاجْتِهَادَ دُونَ التَّقْلِيدِ فَحَسَنٌ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ قَوْلٌ مُفَصَّلٌ بَيْنَ الْمَنْعِ وَالْجَوَازِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُطْلِقِينَ لِتَجَزِّي الِاجْتِهَادِ. غَايَتُهُ أَنَّهُ مُوَضِّحٌ لِمَحِلِّ الْخِلَافِ فَلْيُتَأَمَّلْ.

(وَأَمَّا الْعَدَالَةُ) فِي الْمُجْتَهِدِ (فَشَرْطُ قَبُولِ فَتْوَاهُ) فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ لَا شَرْطُ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْفَاسِقِ قُوَّةَ الِاجْتِهَادِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الذُّكُورَةُ وَلَا عِلْمُ الْكَلَامِ وَلَا عِلْمُ الْفِقْهِ لِإِمْكَانِ حُصُولِ قُوَّةِ الِاجْتِهَادِ بِدُونِهَا وَانْتِفَاءِ الْمُوجِبِ لِاشْتِرَاطِهَا، أَمَّا الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلَامِ فَقَالُوا: لِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ لِلْجَازِمِ بِالْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا، وَأَمَّا عِلْمُ الْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الِاجْتِهَادِ وَثَمَرَتُهُ. نَعَمْ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقٌ إلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

[مَسْأَلَةٌ أَنَّهُ عليه السلام مَأْمُورٌ فِي حَادِثَةٍ لَا وَحْيَ فِيهَا بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ]

(مَسْأَلَةٌ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) الْمُتَأَخِّرِينَ مَا عَنْ أَكْثَرِهِمْ (أَنَّهُ عليه السلام مَأْمُورٌ) فِي حَادِثَةٍ لَا وَحْيَ فِيهَا (بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ أَوَّلًا مَا كَانَ رَاجِيهِ) أَيْ الْوَحْيِ (إلَى خَوْفِ فَوْتِ الْحَادِثَةِ) بِلَا حُكْمٍ (ثُمَّ بِالِاجْتِهَادِ) ثَانِيًا إذَا مَضَى وَقْتُ الِانْتِظَارِ، وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَحْيِ إلَيْهِ فِيهَا إذْنٌ فِي الِاجْتِهَادِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ كَوْنُ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ مُفَسَّرَةً بِهَذَا، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ الِاجْتِهَادُ (فِي حَقِّهِ) صلى الله عليه وسلم (يَخُصُّ الْقِيَاسَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (فَفِي دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ) عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِعُرُوضِ خَفَاءٍ وَاشْتِبَاهٍ فِيهِ يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهَا الِاجْتِهَادُ (وَ) فِي (الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصِ الْعَامِّ وَ) بَيَانُ (الْمُرَادِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَبَاقِيهَا) أَيْ الْأَقْسَامِ الَّتِي فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُرَادِ خَفَاءٌ مِنْ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ وَالْمُتَشَابِهِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ غَيْرَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ الْمُجْمَلِ يَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا بَذْلُ الْوُسْعِ فِي الْفَحْصِ عَمَّا جَاءَ مِنْ بَيَانِهِ مِنْ قِبَلِ الْمُجْمَلِ لِيَقِفَ عَلَى مُرَادِهِ مِنْهُ لِمَا عُلِمَ مِنْ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ الْمُرَادُ بِهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ الْمُجْمَلِ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْبَيَانُ مُحْتَاجًا فِي تَحَقُّقِ الْمُرَادِ بِهِ إلَى نَوْعِ اجْتِهَادٍ بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ قَدْ يُنَالُ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ

ص: 294

غَيْرِ الْمُجْمَلِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِهِ فَيُوَافِقُ الْأَقْسَامَ الْبَاقِيَةَ الَّتِي فِي دَلَالَتِهَا خَفَاءٌ فِي أَنَّ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهِ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ.

ثُمَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ لَهَا أَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكُلُّ هَذَا وَاضِحٌ لَدَيْهِ بِلَا اجْتِهَادٍ (وَ) فِي (التَّرْجِيحِ) لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ (عِنْدَ التَّعَارُضِ) بَيْنَهُمَا (لِعَدَمِ عِلْمِ الْمُتَأَخِّرِ) أَيْ لِهَذَا السَّبَبِ، وَأَمَّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا غَيْرُ مُتَأَتٍّ فِي حَقِّهِ لِانْتِفَاءِ تَحَقُّقِ التَّعَارُضِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَانْتِفَاءِ عُزُوبِ تَأَخُّرِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ عَنْ عِلْمِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ صُورَةِ التَّعَارُضِ (فَإِنْ أَقَرَّ) صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عِنْدَ خَوْفِ الْحَادِثَةِ (أَوْجَبَ) إقْرَارُهُ عَلَيْهِ (الْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ) أَيْ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ اجْتِهَادَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ أَوْ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ (فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ) كَالنَّصِّ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ إلَى اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ اجْتِهَادُهُ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ (وَحْيٌ بَاطِنٌ) عَلَى مَا عَلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ وَسَمَّاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: فَإِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْوَحْيِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ صَوَابًا لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حُجَّةً قَاطِعَةً.

(وَالْوَحْيُ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ (بَاطِنٌ هَذَا) الِاجْتِهَادُ الَّذِي أُقِرَّ عَلَيْهِ (وَظَاهِرٌ ثَلَاثَةٌ) مِنْ الْأَقْسَامِ (مَا يَسْمَعُهُ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مِنْ الْمَلَكِ شِفَاهًا) بَعْدَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُبَلِّغَ مَلَكٌ نَازِلٌ بِالْوَحْيِ مِنْ اللَّهِ عز وجل، وَهُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام الْمُرَادُ بِرُوحِ الْقُدْسِ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وَبِالرُّوحِ الْأَمِينِ فِي قَوْله تَعَالَى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193]{عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194]{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وَبِرَسُولٍ كَرِيمٍ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَنَّهُ هُوَ وَهَذَا أَحَدُهَا (أَوْ) مَا (يُشِيرُ إلَيْهِ) الْمَلَكُ (إشَارَةً مُفْهِمَةً) لِلْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْكَلَامِ (وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم «إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (الْحَدِيثَ) أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ أُخَرُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْهَا مَا عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ فَقَالَ: هَلُمُّوا إلَيَّ فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ فَجَلَسُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ عليه السلام نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا قَدَامَةَ بْنَ زَائِدَةَ بْنِ قَدَامَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُنِي فِيهِ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ وَنَفَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ فِي رُوعِي بِضَمِّ الرَّاءِ أَلْقَى فِي قَلْبِي وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ أَيْ لِلرِّزْقِ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْ تَرْكِ الْمُبَالَغَةِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْحِرْصِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْكَسْبِ وَهَذَا ثَانِيًا. (أَوْ) مَا (يُلْهَمُهُ، وَهُوَ) أَيْ الْإِلْهَامُ (إلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِلَا وَاسِطَةِ عِبَارَةِ الْمَلَكِ وَإِشَارَتِهِ مَقْرُونٌ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمَعْنَى (مِنْهُ تَعَالَى جَعَلَهُ وَحْيًا ظَاهِرًا) وَهَذَا ثَالِثُهَا، وَلَمَّا كَانَ مِمَّا يَتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا بَاطِنٌ أَشَارَ إلَى نَفْيِهِ بِتَوْجِيهِ كَوْنِهِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ (إذْ فِي الْمَلَكِ) أَيْ مُشَافَهَتِهِ (لَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ) الْعِلْمِ (الضَّرُورِيِّ أَنَّهُ) أَيْ الْمُخَاطَبُ (هُوَ) أَيْ الْمَلَكُ فَلَمْ يُخَالِفْهُ إلَّا بِعَدَمِ مُشَافَتِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ عَدَّهُ ظَاهِرًا

(وَلِذَا) أَيْ كَوْنِ الْإِلْهَامِ وَحْيًا (كَانَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً)(عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (وَعَلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ إلْهَامِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ فِيهِ أَقْوَالًا أَحَدُهَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا فِي الْمِيزَانِ مَعْزُوٌّ إلَى قَوْمٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ بَلْ عُزِيَ فِيهِ إلَى صِنْفٍ مِنْ الرَّافِضَةِ لُقِّبُوا بِالْجَعْفَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ سِوَاهُ.

ثَانِيهَا: حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَيْ

ص: 295

يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إلَيْهِ، وَعَزَاهُ فِيهِ إلَى عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ: وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضُهُ مُعَارِضٌ مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ (ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ فِيهِ) أَيْ إلْهَامُ غَيْرِهِ أَنَّهُ (لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ وَلَا) عَلَى (غَيْرِهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ نِسْبَتَهُ) أَيْ الْمُلْهَمِ بِهِ (إلَيْهِ تَعَالَى) هَذَا وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ جَعَلَ الْوَحْيَ الظَّاهِرَ قِسْمَيْنِ مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ، وَمَا ثَبَتَ بِإِشَارَتِهِ وَجَعَلَ الْبَاطِنَ مَا ثَبَتَ بِالْإِلْهَامِ قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْأَتْقَانِيُّ: وَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْقَلْبِ بِالْإِلْهَامِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ هُوَ بَاطِنٌ، وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْبَاطِنِ مَا يُنَالُ الْمَقْصُودُ بِهِ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ وَبِالظَّاهِرِ مَا يُنَالُ الْمَقْصُودُ بِهِ لَا بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا وَحِينَئِذٍ مَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَوْجَهُ.

قُلْت: وَيَبْقَى عَلَيْهِمَا التَّكْلِيمُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ مِنْ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ وَرُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنْ الْبَاطِنِ وَلَمْ يَتَعَارَضَا لَهُمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ثُمَّ شَرَعَ فِي قِسْمِ الْمُخْتَارِ فَقَالَ: (وَالْأَكْثَرُ) أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَأْمُورٌ (بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا) وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ تَقْدِيرَ مَأْمُورٍ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سَوْقُ الْكَلَامِ وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَقِيلَ بِالْجَوَازِ أَيْ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحُرُوبِ وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْثَرِ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَمَلَ الْجَوَازَ عَلَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ مُوَافَقَةً فِي الْمَعْنَى لِمِثْلِ مَا فِي مُنْتَهَى السُّولِ لِلْآمِدِيِّ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ انْتَهَى.

وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَحِلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ إيجَابُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ لَكِنَّ قَوْلَ الْآمِدِيِّ بَعِيدٌ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ انْتَهَى ظَاهِرٌ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا ذَاكَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا مُجَرَّدُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ كَمَا سَيَذْكُرُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا، وَفِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ إنْ أُرِيدَ بِاجْتِهَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَطْعًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتٍ مُسْتَنْبَطَةً يُجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُتَعَبَّدُ بِهِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بَعْدَ جَوَازِهِ لَهُ وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْوُجُوبَ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى حُقُوقِهِمْ إلَّا بِاجْتِهَادٍ، وَلَا يَجِبُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ انْتَهَى، وَهَذَا صَرِيحٌ أَيْضًا فِي أَنَّهُ ثَمَّ مَنْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ.

(وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ الْأَشَاعِرَةُ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: (لَا) يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ حَظَّهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَهُوَ عَنْ الْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ وَبَعْضِهِمْ جَائِزٌ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهِ شَرْعًا ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْحُرُوبِ دُونَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ حَكَاهُ فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ (وَقِيلَ) كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ (فِي الْحُرُوبِ فَقَطْ)، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْقَاضِي وَالْجُبَّائِيِّ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فَعُوتِبَ عَلَى الْإِذْنِ لَمَّا ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا يَكُونُ الْعِتَابُ فِيمَا صَدَرَ عَنْ وَحْيٍ فَيَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ لِامْتِنَاعِ الْإِذْنِ مِنْهُ تَشَهِّيًا وَدَفَعَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ قَالَ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فَمَا ارْتَكَبَ إلَّا صَوَابًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ

ص: 296

{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ شَرِّهِمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيمَا فَعَلَ وَلَا خَطَأَ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَنْ قَالَ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ فَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا مَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْك لَمْ يُلْزِمْك ذَنْبًا كَمَا فِي عَفَا عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَطُّ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَلِقَائِلٍ أَنَّهُ عِتَابٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَلَكِنْ لَا يَعْرَى عَنْ بَحْثٍ (وَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ

فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: قُلْت لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُك فَإِنْ وَجَدْت بُكَاءً بَكَيْت وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْت لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْكِي الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلَى قَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ» . قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، وَكَانَ هَذَا خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ كَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَأَنَّ فِدَاءَهُمْ يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ وَأَقَلُّ لِشَوْكَتِهِمْ، وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ هَذَا فَقَالَ فِي التَّقْوِيمِ: فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ عَاتَبَ رَسُولَهُ عَلَى الْفِدَاءِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ نَزَلَ الْعَذَابُ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ» فَدَلَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مُخْطِئًا قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ صَوَابًا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَرَّرَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] وَتَأْوِيلُ الْعِتَابِ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَكَانَ لَك كَرَامَةً خُصِّصْت بِهَا رُخْصَةً لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ لِحُكْمِ الْعَزِيمَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ، وَقَدْ أَثْخَنْت يَوْمَ بَدْرٍ فَكَانَ لَك الْأَسْرَى كَمَا كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَلَكِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى الْمَنُّ أَوْ الْقَتْلُ دُونَ الْمُفَادَاةِ فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ فِي إبَاحَةِ الْفِدَاءِ لَك لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ.

وَالْمُلَخَّصُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّهُ أَيْضًا تَرَكَ الْأَوْلَى، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ فِيهِ خَطَأٌ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالنَّقْضِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ ذَنْبٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ بِهِ وَفُضِّلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ هَذَا النَّبِيُّ غَيْرَك وَتُرِيدُونَ الْخِطَابَ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُرِيدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِصْمَتِهِ ثُمَّ الْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَبِرَأْيِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عَلَى أَنَّ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْعَمَلَ يَجُوزُ لَهُ بِالرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا (وَقَدْ قُلْنَا بِهِ) أَيْ بِوُجُوبِ اجْتِهَادِهِ فِي الْحُرُوبِ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْآيَتَيْنِ وَبِوُجُوبِ اجْتِهَادِهِ فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا بِآيَةِ مُفَادَاةِ الْأُسَارَى فَإِنَّ جَوَازَ مُفَادَاتِهِمْ وَفَسَادَهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

(وَثَبَتَ) اجْتِهَادُهُ (فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ» ) ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

ص: 297

بِلَفْظِ «لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ «مَا أَهْدَيْت، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْت» وَذَلِكَ حِينَ أَذِنَ لِمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي حَجَّتِهِمْ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا؛ لِأَنَّ السَّوْقَ مَانِعٌ مِنْ التَّحَلُّلِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (وَسَوْقُهُ) أَيْ الْهَدْيِ (مُتَعَلَّقُ حُكْمِ الْمَنْدُوبِ) فَهُوَ مَنْدُوبٌ (وَهُوَ) أَيْ النَّدْبُ (حُكْمٌ شَرْعِيٌّ) ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا بِالتَّشَهِّي لِامْتِنَاعِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ بِالِاجْتِهَادِ قُلْت: وَمِمَّا هُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْمَطْلُوبِ أَيْضًا مَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «جَاءَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى عُنُقِهِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ إلَّا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ صَدُوقٌ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ اسْتِشْهَادًا (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الِاجْتِهَادَ (مَنْصِبٌ شَرِيفٌ) حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ الْعِلْمِ لِلْعِبَادِ فَإِذَنْ (لَا يُحَرِّمُهُ) أَفْضَلُ الْخَلْقِ (وَتَنَالُهُ أُمَّتُهُ وَلَأَكْثَرِيَّةُ الثَّوَابِ لِأَكْثَرِيَّةِ الْمَشَقَّةِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ النَّسْخِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ فَاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ آتِينَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِك أَوْ نَصَبِك» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ «إنَّ لَك مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك وَنَفَقَتِك» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْفَضْلَ فِي الْعِبَادَةِ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ النَّصَبِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْمُرَادُ النَّصَبُ الَّذِي لَا يَذُمُّهُ الشَّرْعُ وَكَذَا النَّفَقَةُ وَفِي الِاجْتِهَادِ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْعَمَلِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِظُهُورِهِ لَكِنْ هَذَا مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ مُطْلَقًا إذْ قَدْ يَفْضُلُ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ الْخَفِيفَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَشَقُّ فِي صُوَرٍ فَالْإِيمَانُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَعَ سُهُولَتِهِ وَخِفَّتِهِ عَلَى اللِّسَانِ.

وَفَرْضُ الصُّبْحِ أَفْضَلُ مِنْ أَعْدَادٍ مِنْ الرَّكَعَاتِ النَّافِلَةِ، وَدِرْهَمٌ مِنْ الزَّكَاةِ أَفْضَلُ مِنْ دَرَاهِمَ مِنْ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ، وَفَرِيضَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ فَرَائِضَ فِي غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَأَمَّا الْجَوَابُ) عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَرَّرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (بِأَنَّ السُّقُوطَ) لِلِاجْتِهَادِ (لِلدَّرَجَةِ الْعُلْيَا) وَهِيَ الْوَحْيُ فَإِنَّ مُتَعَلَّقَهُ أَعْلَى مِنْ مُتَعَلَّقِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْوَحْيِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِخِلَافِهِ بِالِاجْتِهَادِ فَسُقُوطُهُ (لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي قَدْرِهِ وَأَجْرِهِ وَلَا اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ بِفَضِيلَةٍ لَيْسَتْ لَهُ فَقِيلَ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ (ذَلِكَ) أَيْ سُقُوطُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى ثُمَّ لَا يَكُونُ فِيهِ نَقْصٌ آخَرُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْأَدْنَى وَلَا اخْتِصَاصُ الْمُتَّصِفِ بِهِ بِفَضِيلَةٍ لَيْسَتْ لِمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ إنَّمَا هُوَ (عِنْدَ الْمُنَافَاةِ) بَيْنَ الْأَدْنَى وَالْأَعْلَى بِحَيْثُ لَا يَجْتَمِعَانِ (كَالشَّهَادَةِ مَعَ الْقَضَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مَعَ الِاجْتِهَادِ) أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَسْقُطُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَالْوَحْيُ مَعَ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا يُحَرِّمُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

(وَالْحَقُّ أَنَّ مَا سِوَى هَذَا) الدَّلِيلِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُثْبِتِينَ (لَا يُفِيدُ مَحِلَّ النِّزَاعِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ) لِلِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ (وَأَمَّا هَذَا) الدَّلِيلُ فَفِي التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ أَيْضًا (فَقَدْ اقْتَضَتْ رُتْبَتُهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً سُقُوطَ) حُرْمَةِ (مَا) يَحْرُمُ (عَلَى غَيْرِهِ) مِنْ أُمَّتِهِ (كَحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ) مِنْ الزَّوْجَاتِ (عَلَى الْأَرْبَعِ وَمَرَّةً لُزُومَ مَا لَيْسَ) بِلَازِمٍ (عَلَيْهِمْ) كَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ وَإِنْ زَادَ عَدَدُهُمْ بِخِلَافِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ الثَّبَاتُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى الضِّعْفِ، وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَتَغْيِيرُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالْحِفْظِ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَالسُّؤَالِ عَلَى مَا صُحِّحَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَالشَّأْنُ فِي تَحْقِيقِ خُصُوصِيَّةِ الْمُقْتَضَى فِي حَقِّهِ فِي الْمَوَادِّ وَعَدَمِهِ) أَيْ تَحْقِيقِ خُصُوصِيَّتِهِ فِي حَقِّهِ فِيهَا (وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ) فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (أَنَّهَا) أَيْ أَدِلَّةَ الْمُثْبِتِينَ (لِدَفْعِ الْمَنْعِ) لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا انْدَفَعَ مَنْعُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ (فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ إذْ لَا قَائِلَ بِالْجَوَازِ دُونَهُ) أَيْ الْوُجُوبِ وَلَكِنْ قَدْ عَرَفْت مَا عَلَى هَذَا مِنْ التَّعَقُّبِ

ص: 298

وَاحْتَجَّ (الْمَانِعُ) لِتَعَبُّدِهِ صلى الله عليه وسلم بِالِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ} [النجم: 3 - 4] أَيْ مَا يَنْطِقُ بِهِ {إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] إذْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ أَيْ كُلُّ مَا يَنْطِقُ بِهِ فَهُوَ عَنْ وَحْيٍ فَيَنْتَفِي الِاجْتِهَادُ (أُجِيبَ بِتَخْصِيصِهِ) أَيْ هَذَا النَّصَّ (بِسَبَبِهِ) فَإِنَّهُ نَزَلَ (لِنَفْيِ دَعْوَاهُمْ) أَيْ الْكُفَّارِ (افْتِرَاءَهُ) الْقُرْآنِ وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إنْ هُوَ الْقُرْآنُ فَيَنْتَفِي الْعُمُومُ (سَلَّمْنَا عُمُومَهُ) فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْحُكْمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِمَا يَبْلُغُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] يُنَافِي جَوَازَ اجْتِهَادِهِ (فَالْقَوْلُ عَنْ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ عَنْ الْهَوَى بَلْ عَنْ الْأَمْرِ بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ وَحْيًا فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ وَمَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَحْيًا.

(وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ) أَيْ الظَّاهِرُ (أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ نَفْسُ مَا يُوحَى إلَيْهِ) وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى هَذَا إنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ لَا وَحْيٌ (يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ) أَيْ الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْ نَحْوِ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] وَ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] الْآيَتَيْنِ (وَلَا يَحْتَاجُهُ) أَيْ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَمْلِ الْمَذْكُورِ (الْحَنَفِيَّةُ إذْ هُوَ) أَيْ اجْتِهَادُهُ (وَحْيٌ بَاطِنٌ) إذْ أُقِرَّ عَلَيْهِ عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ (قَالُوا) أَيْ مَانِعُو تَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ ثَانِيًا: (لَوْ جَازَ) لَهُ الِاجْتِهَادُ (جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ) أَيْ اجْتِهَادِهِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ إذْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ مُخَالَفَةُ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَطْعَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الصَّادِرَ مِنْ الِاجْتِهَادِ حُكْمُ اللَّهِ لِاحْتِمَالِ الْإِصَابَةِ، وَالْخَطَأِ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ لُزُومِ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ لَهُ مُطْلَقًا بَلْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَةُ اجْتِهَادٍ صَارَ سَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ وَهَذَا اُقْتُرِنَ بِهِ مَا يَمْنَعُ مُخَالَفَتَهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَتَقَدَّمَ) فِي أَوَائِلِ الْمَسْأَلَةِ (مَا يَدْفَعُهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ: فَإِنْ أُقِرَّ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ وَيَأْتِي أَيْضًا

(قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ الْمَذْكُورُونَ ثَالِثًا (لَوْ أَمَرَ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (لَمْ يُؤَخِّرْ جَوَابًا) عَنْ سُؤَالٍ بَلْ يَجْتَهِدُ وَيُجِيبُ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ (وَكَثِيرًا مَا أَخَّرَ) جَوَابَ كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ كَحُكْمِ الظِّهَارِ وَقَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا وَمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّ الْبِلَادِ شَرٌّ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي. فَانْطَلَقَ فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: إنِّي سَأَلْت رَبِّي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: شَرُّ الْبِلَادِ الْأَسْوَاقُ» (الْجَوَابُ جَازَ) التَّأْخِيرُ (لِاشْتِرَاطِ الِانْتِظَارِ) لِلْوَحْيِ مَا كَانَ رَاجِيَهُ إلَى خَوْفِ الْحَادِثَةِ (كَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ لِاسْتِدْعَائِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ (زَمَانًا) فَإِنَّ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ يَسْتَدْعِي زَمَانًا أَوْ لِكَوْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِمَّا لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ.

(قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ الْمَذْكُورُونَ: رَابِعًا هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْيَقِينِ فِي الْحُكْمِ بِالْوَحْيِ، وَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ لَا يُفِيدُ إلَّا ظَنًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ (لَا يَجُوزُ الظَّنُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ) إجْمَاعًا، وَمِنْ ثَمَّةَ حَرُمَ عَلَى مُعَايِنِ الْقِبْلَةِ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ (أُجِيبَ بِالْمَنْعِ) أَيْ مَنْعِ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْيَقِينِ قَالَ الْمُصَنِّفُ:(فَإِنْ) كَانَ هَذَا الْمَنْعُ (بِمَعْنَى أَنَّهُ) أَيْ الْيَقِينَ، وَهُوَ الْوَحْيُ هُنَا (غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ فَصَحِيحٌ) إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى وُصُولِ الْوَحْيِ إلَيْهِ (لَكِنَّهُ) ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ أَيْ هَذَا الْمَنْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى (لَا يُوجِبُ النَّفْيَ) لِتَعَبُّدِهِ بِالِاجْتِهَادِ (بَلْ) إنَّمَا يُوجِبُ (أَنْ لَا يَجْتَهِدَ إلَى الْيَأْسِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ) إلَى (غَلَبَةِ ظَنِّهِ) أَيْ الْيَأْسِ مِنْ الْوَحْيِ (مَعَ خَوْفِ الْفَوْتِ) لِلْحَادِثَةِ بِلَا حُكْمٍ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا (قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ كُلٌّ مِنْ طَرِيقَيْ الظَّنِّ، وَالْيَقِينِ) بِالْحُكْمِ (مُمْكِنٌ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الثَّانِي) أَيْ الْيَقِينِ (بِالِانْتِظَارِ) لِلْوَحْيِ (فَإِذَا غَلَبَ ظَنُّ عَدَمِهِ) أَيْ الْوَحْيِ (وُجِدَ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ) أَيْ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ (الْمُخْتَارُ) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الِانْتِظَارُ لِلْوَحْيِ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ أُوحِيَ إلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ قِيلَ مَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ ثُمَّ

ص: 299

جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وَهُوَ الْعَرَقُ وَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ: هَا أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْخَيْرِ» الْحَدِيثَ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا أُوحِيَ إلَيْهِ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ مِنْ شِدَّةِ الْوَحْيِ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِ (وَإِنْ) كَانَ هَذَا الْمَنْعُ (بِمَعْنَى جَوَازِ تَرْكِهِ) أَيْ الْيَقِينِ (مَعَ الْقُدْرَةِ) عَلَيْهِ (إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَأِ مُخْتَارًا فَيَمْنَعُهُ) أَيْ جَوَازُ تَرْكِ الْيَقِينِ إلَى مُحْتَمِلِ الْخَطَأِ (الْعَقْلُ وَمَا أَوْهَمَهُ) أَيْ جَوَازُهُ (سَيَأْتِي جَوَابُهُ) غَيْرَ أَنَّ هَذَا الشِّقَّ لَا يَحْتَمِلُهُ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْيَقِينِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ التَّرْدِيدِ اللَّهُمَّ إلَّا فَرْضًا وَلَا دَاعِيَ إلَيْهِ (وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ الْمُخْتَارِ جَوَازًا لِخَطَأٍ عَلَيْهِ عليه السلام) أَيْ عَلَى اجْتِهَادِهِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْخَطَأِ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَاخْتَارَهُ هُوَ وَابْنُ الْحَاجِبِ (وَقِيلَ بِامْتِنَاعِهِ) أَيْ جَوَازِ الْخَطَأِ عَلَى اجْتِهَادِهِ نَقَلَهُ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ وَجَزَمَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْأُمِّ (لِأَنَّهُ) أَيْ اجْتِهَادُهُ (أَوْلَى بِالْعِصْمَةِ عَنْ الْخَطَأِ مِنْ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ) أَيْ الْإِجْمَاعِ عَنْ الْخَطَإِ (لِنِسْبَتِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعِ بِوَاسِطَةِ الْأُمَّةِ (إلَيْهِ) أَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَلِلُزُومِ جَوَازِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ) ؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (وَ) لُزُومُ (الشَّكِّ فِي قَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم أَصَوَابٌ هُوَ أَمْ خَطَأٌ (فَيُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ)، وَهُوَ الْوُثُوقُ بِمَا يَقُولُ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ (أُجِيبَ عَنْ هَذَا) الْأَخِيرِ (بِأَنَّ الْمُخِلَّ مَا فِي الرِّسَالَةِ) أَيْ جَوَازُ الْخَطَإِ فِيمَا يَنْقُلُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إرْسَالِهِ، وَهُوَ مَعْلُومُ الِانْتِفَاءِ بِدَلَالَةِ تَصْدِيقِ الْمُعْجِزَةِ لَا تَجْوِيزِ الْخَطَإِ فِي اجْتِهَادِهِ (وَ) أُجِيبَ (عَمَّا قَبْلَهُ) ، وَهُوَ لُزُومُ جَوَازِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ (بِمَنْعِ بُطْلَانِهِ) بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَوَامّ لِلْمُجْتَهِدِينَ مِنَّا مَعَ جَوَازِ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الْخَطَإِ فَضْلًا عَنْ خَطَئِهِمْ فِيهِ وَتَعَقَّبَ الْفَاضِلُ الْكَرْمَانِيُّ هَذَا النَّقْضَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ إيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ، وَالْعَامِّيُّ لَا يَتْبَعُ الْمُجْتَهِدَ فِي اجْتِهَادِهِ بَلْ يُقَلِّدُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ وَمَا لَزِمَ مِنْ الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّبَاعِهِ قَادِرٌ عَلَى الْإِصَابَةِ كَالْمُجْتَهِدِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَامِّيُّ، وَإِذَنْ لَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، وَإِنَّمَا الْعَامِّيُّ مَأْمُورٌ بِالتَّقْلِيدِ، وَالْخَطَأُ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِهِ.

قَالَ الْفَاضِلُ الْأَبْهَرِيُّ: وَالْأَوَّلُ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ فِي تَعْرِيفِ الْمُتَابَعَةِ جِهَةٌ لِلْفِعْلِ وَكَيْفِيَّةٌ لَهُ، وَالِاجْتِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلْمُجْتَهِدِ، وَالْفَاعِلِ فَتَعْرِيفُهُ الْمُتَابَعَةَ لَا يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاقْتِضَاءِ اتِّبَاعُ الِاجْتِهَادِ مَخْصُوصٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ إجْمَاعًا سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ عليه السلام أَوْ بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ كَوْنَهُ مَخْصُوصًا فِي بَيَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ مَأْمُورُونَ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ عليه السلام سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُهُمْ وَمُقَلِّدُهُمْ فَلَا فَرْقَ. وَأَيْضًا مَقْدُورُ الْمُجْتَهِدِ تَحْصِيلُ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ لَا الْإِصَابَةُ فِيهِ وَإِذَا جَازَ كَوْنُ اجْتِهَادِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم خَطَأً فَاجْتِهَادُ غَيْرِهِ أَوْلَى بِجَوَازِ كَوْنِهِ خَطَأً وَكَذَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِ الْفِعْلِ كَمَا ذَكَرَهُ، وَإِذَا كَانَ إيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ خَطَأً كَانَ الْعَامِّيُّ مَأْمُورًا بِالْخَطَأِ هَذَا وَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْحُكْمَ الْخَطَأَ لَهُ جِهَتَانِ كَوْنُهُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ وَكَوْنُهُ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلَا بُعْدَ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا بِالْعَمَلِ بِهِ لِذَلِكَ، وَإِلَى مُلَخَّصِ هَذَا يُشِيرُ قَوْلُهُ (عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ) أَيْ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا هُوَ (مِنْ حَيْثُ هُوَ) أَيْ الْحُكْمُ الِاجْتِهَادِيُّ (صَوَابٌ فِي نَظَرِ الْعَالِمِ وَإِنْ خَالَفَ نَفْسَ الْأَمْرِ) ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ صَوَابٌ عَمَلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُخَطِّئَةِ أَوْ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُصَوِّبَةِ وَلَا بَأْسَ (وَ) أُجِيبَ (عَنْ الْأَوَّلِ) ، وَهُوَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِجْمَاعِ (بِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ) صلى الله عليه وسلم (بِرُتْبَةِ النُّبُوَّةِ وَإِنَّ رُتْبَةَ الْعِصْمَةِ لِلْأُمَّةِ لِاتِّبَاعِهِمْ) لَهُ (لَا يَقْتَضِي لُزُومَ

ص: 300