الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَجْعُولًا عِلَّةً وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ كَوْنُهُ صِفَةً لَهُ كَالْقَوْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَعْدُومَاتِ (لَا) أَنَّ الْعِلِّيَّةَ (جَعْلُهُ) أَيْ نَفْسِ جَعْلِ الشَّارِعِ ذَلِكَ عِلَّةً.
(وَقَوْلُهُمْ نَفَى كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةَ انْتِفَائِهَا) أَيْ مَانِعِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاؤُهَا لِانْتِفَاءِ كُلِّ وَصْفٍ (وَيَلْزَمُ النَّقْضُ) لِلْعِلِّيَّةِ (بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ آخَرَ بَعْدَ انْتِفَاءِ جُزْءٍ أَوَّلٍ) لِأَنَّ بِانْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ الْآخَرِ لَمْ يَنْتَفِ عَدَمُ الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْعِلِّيَّةَ عُدِمَتْ بِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ، وَتَجَدُّدُ عَدَمٍ عَلَى عَدَمٍ لَا يُتَصَوَّرُ (لِاسْتِحَالَةِ إعْدَامِ الْمَعْدُومِ) كَإِيجَادِ الْمَوْجُودِ فَيَلْزَمُ النَّقْضُ بِالنِّسْبَةِ إلَى انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْآخَرِ أَيْضًا لِتَخَلُّفِ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ عَدَمِ جُزْءٍ مِنْ الْمَجْمُوعِ قُلْت وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى هَذَا كَابْنِ الْحَاجِبِ لِاسْتِبْعَادِ فَرْضِ عَدَمِ انْتِفَاءِ عِلِّيَّةِ الْمَجْمُوعِ بِانْتِفَاءِ الْآخَرِ مَعَ تَقَدُّمِ الْقَوْلِ بِانْتِفَائِهَا بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ التَّنَاقُضِ لَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ كَوْنُ الْعِلِّيَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْجُزْءِ الثَّانِي ثَابِتَةً لِلْمَجْمُوعِ وَمُنْتَفِيَةً عَنْهُ ثُمَّ قَوْلُهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (إنَّمَا يَجِيءُ فِي) الْعِلَلِ (الْعَقْلِيَّةِ لَا الْمَوْضُوعَةِ) لِلشَّارِعِ (عَلَامَةً عِنْدَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ عَلَى الِانْتِفَاءِ) لِلْحُكْمِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ ارْتِفَاعُ جَمِيعِ الِانْتِفَاءَاتِ وَهُوَ نَفْسُ تَحَقُّقِ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَيَجِبُ تَرْكُ الْأَمَارَةِ فِي طَرَفِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ أَوْصَافٍ مُتَعَدِّدَةٍ (إذْ حَاصِلُهُ تَعَدُّدُ أَمَارَاتٍ) عَلَى الْعَدَمِ وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ.
[لَا يُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيلِ انْتِفَاءِ حُكْمٍ بِوُجُودِ مَانِعٍ]
(مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيلِ انْتِفَاءِ حُكْمٍ بِوُجُودِ مَانِعٍ) لَهُ مِنْ الثُّبُوتِ كَعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ (أَوْ) بِسَبَبِ (انْتِفَاءِ شَرْطٍ) لَهُ كَعَدَمِ وُجُوبِ رَجْمِ الزَّانِي لِانْتِفَاءِ إحْصَانِهِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ رَجْمِهِ (وُجُودُ مُقْتَضِيهِ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ (خِلَافًا لِلْبَعْضِ) أَيْ لِلْآمِدِيِّ بَلْ عَزَاهُ السُّبْكِيُّ إلَى الْجُمْهُورِ قَالَ الْأَوَّلُونَ وَإِنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ (لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا) أَيْ وُجُودِ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءِ الشَّرْطِ (وَعَدَمِ الْمُقْتَضَى) عَلَى حِيَالِهِ (عِلَّةُ عَدَمِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (فَجَازَ إسْنَادُهُ) أَيْ عَدَمُهُ (إلَى كُلٍّ) مِنْهَا (بِمَعْنَى لَوْ كَانَ لَهُ) أَيْ الْحُكْمِ (مُقْتَضًى مَنَعَهُ) أَيْ الْمَانِعُ حُكْمَهُ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ هَذَا بَلْ أُرِيدَ بِوُجُودِ الْمَانِعِ الْمَانِعُ حَقِيقَةً (فَحَقِيقَةُ الْمَانِعِيَّةِ) إنَّمَا هِيَ (بِالْفِعْلِ وَهُوَ) أَيْ وُجُودُ الْمَانِعِ بِالْفِعْلِ (فَرْعُ) وُجُودِ (الْمُقْتَضَى فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ) الْحُكْمُ (لِعَدَمِ وُجُودِهِ) أَيْ الْمُقْتَضَى (فَيَمْنَعُ) الْمَانِعُ (مَاذَا؟ وَاذْكُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي فَكِّ الدُّورِ لَهُمْ) أَيْ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ نَقْضِ الْعِلَّةِ (فِي مَسْأَلَةِ النَّقْضِ) لَهَا فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ هَذَا فَاسْتَذْكِرْهُ بِالْمُرَاجَعَةِ ثُمَّ بَعْدَ كَوْنِ الْمُرَادِ مَا ذُكِرَ فَفِي الْمَحْصُولِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضَى أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ انْتِفَائِهِ لِحُضُورِ الْمَانِعِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَعَلَى هَذَا فَمُدَّعَى الْأَوَّلِ أَرْجَحُ مِنْ مُدَّعَى الثَّانِي.
(الْمَرْصَدُ الثَّالِثُ) فِي طُرُقِ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ عِلَّةَ حُكْمٍ خَبَرِيٍّ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَنْ لَا بُدَّ فِي إثْبَاتِهِ مِنْ الدَّلِيلِ وَلَهُ مَسَالِكُ صَحِيحَةٌ وَأُخْرَى يُتَوَهَّمُ صِحَّتُهَا فَيَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لَهَا وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَنَقُولُ (طُرُقُ إثْبَاتِهَا) أَيْ الطُّرُقُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ شَرْعًا هِيَ (مَسَالِكُ الْعِلَّةِ) وَهِيَ (مُتَّفِقَةٌ تَقَدَّمَ مِنْهَا الْمُنَاسَبَةُ عَلَى الِاصْطِلَاحَيْنِ) لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ الْإِخَالَةُ وَلِلْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ التَّأْثِيرُ عَلَى اخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحِ فِيهِ فَعِنْدَهُمْ كَوْنُ الْوَصْفِ ثَبَتَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ اعْتِبَارِ جِنْسِهِ إلَى آخِرِ الْأَقْسَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَوَّلُ فَقَطْ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجِبُ تَخْصِيصُ الْمُنَاسَبَةِ هُنَا عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا سِوَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُؤَثِّرِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (وَالْخِلَافُ فِي الْإِخَالَةِ) فِي كَوْنِهَا طَرِيقًا مُثْبِتًا لِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ الْوَصْفُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَيَتَلَخَّصُ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُنَاسَبَةُ بِاصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بِاصْطِلَاحِ غَيْرِهِمْ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الثَّانِي الْإِجْمَاعُ) فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَالظَّنُّ كَافٍ فِيهِ (فَلَا يَخْتَلِفُ فِي الْفَرْعِ) كَمَا فِي الْأَصْلِ (إلَّا إنْ كَانَ ثُبُوتُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (أَوْ طَرِيقُهُ) أَيْ الْإِجْمَاعُ (ظَنِّيًّا) كَالثَّابِتِ بِالْآحَادِ (أَوْ ذَاتِهِ) أَيْ الْإِجْمَاعُ ظَنِّيًّا (كَالسُّكُوتِيِّ) أَيْ كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ (عَلَى الْخِلَافِ) فِي أَنَّهُ ظَنِّيٌّ أَوْ قَطْعِيٌّ مُطْلَقًا أَوْ إذَا كَثُرَ وَتَكَرَّرَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي مَبَاحِثِ الْإِجْمَاعِ (أَوْ يَدَّعِي فِيهِ) أَيْ فِي الْفَرْعِ (مُعَارِضٌ) أَوْ يَدَّعِي الْمُخَالِفُ اخْتِصَاصَ عِلِّيَّتِهِ بِالْأَصْلِ أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ أَوْ يَدَّعِي تَخْصِيصَهَا فِي فَرْعِ الْمَانِعِ وَالْخَصْمُ يَمْنَعُ وُجُودَ الْمَانِعِ فَيُسَوِّغُ الِاخْتِلَافَ مَعَهَا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَذَا فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ ثُمَّ مِثْلُ مَا هُوَ عِلَّةٌ
بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي حُكْمِهَا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِقَوْلِهِ (كَالصِّغَرِ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ) فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِلَلِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الثَّالِثُ النَّصُّ) وَهُوَ (صَرِيحٌ لِلْوَضْعِ) أَيْ مَا دَلَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالْوَضْعِ وَهُوَ (مَرَاتِبُ كَعِلَّةِ) كَذَا أَوْ بِسَبَبِ كَذَا (أَوْ لِأَجْلِ كَذَا) كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ» أَوْ مِنْ أَجْلِ كَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ» (أَوْ كَيْ) مُجَرَّدَةً عَنْ حَرْفِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه: 40] أَوْ مُتَّصِلَةً بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ لِأَجْلِ وَكَيْ دُونَ مَا قَبْلَهُمَا فِي الصَّرَاحَةِ (أَوْ إذَنْ) فَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ «قُلْت أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَنْ تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك» فَهَذَا الْقِسْمُ أَقْوَاهَا لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ غَيْرَ الْعِلَّةِ (وَدُونَهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (مَا) يَكُونُ (بِحَرْفٍ ظَاهِرٍ فِيهِ) أَيْ فِي التَّعْلِيلِ.
(كَذَلِكَ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1](أَوْ بِهِ) أَيْ بِكَذَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17](أَوْ إنْ شَرْطًا أَوْ) إنْ (النَّاصِبَةَ) نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَبِفَتْحِهَا كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ (أَوْ) إنَّ (الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ بَعْدَ جُمْلَةٍ وَالْمَفْتُوحَةَ) كَإِنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ وَإِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك فِي التَّلْبِيَةِ فَإِنَّ فِي " إنَّ فِيهِمَا الْوَجْهَيْنِ " إذْ هَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَجِيءُ لِغَيْرِ الْعِلَّةِ فَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود: 48] وَإِنْ لِمُجَرَّدِ اللُّزُومِ مِنْ غَيْرٍ وَسَبَبِيَّةٍ وَتَرَتُّبِ أَمْرٍ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ وَأَنْ لِمُجَرَّدِ نَصْبِ الْمُضَارِعِ وَإِنَّ وَأَنَّ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ وَأَنْكَرَ السُّبْكِيُّ كَوْنَ إنْ بِالْكَسْرِ تَرِدُ لِلتَّعْلِيلِ قَالَ وَإِنَّمَا تَرِدُ لِلشَّرْطِ وَالنَّفْيِ وَالزِّيَادَةِ وَإِنْ فُهِمَ التَّعْلِيلُ فِي الشَّرْطِيَّةِ فَهُوَ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ لَا مِنْ الْحَرْفِ انْتَهَى وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْعِلِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلْمُسَبِّبِ أَمْرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ سِوَاهُ فَعِنْدَهُ تَتِمُّ الْعِلَّةُ وَفِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بِتَثْقِيلِ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا مِنْ الْحُرُوفِ الظَّاهِرَةِ لِلتَّعْلِيلِ مِثْلُ مَا وَرَدَ فِي الْأَدْعِيَةِ نَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخْشَى عَذَابَك إنَّ عَذَابَك الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ الْفَتْحَ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ وَالْكَسْرَ لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَنْ الْعِلَّةِ انْتَهَى قُلْت وَالْأَوَّلُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَاعْتِرَافٌ بِكَوْنِهَا لِلْعِلَّةِ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ (وَدُونَهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (الْفَاءُ فِي الْوَصْفِ) الصَّالِحِ عِلَّةً لِحُكْمٍ تَقَدَّمَهُ مِثْلُ مَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ «النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» لَكِنْ قَالَ السُّبْكِيُّ وَأَنَا لَا أَحْفَظُ هَذَا اللَّفْظَ فِي رِوَايَةٍ وَيُؤَدِّي الْغَرَضَ مَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ لَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كَلْمٍ أَوْ كُلَّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي إسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ يُسَمَّى بِعَبْدِ رَبٍّ انْتَهَى وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ وَعَبْدُ رَبٍّ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ رَاوِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ جَابِرٍ عَنْ جَابِرٍ وَلِجَابِرٍ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ مِمَّنْ رَوَى الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَقِيلٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَمُحَمَّدٌ وَأَشْهَرُهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَكِنْ عَنْ غَيْرِ أَبِيهِ وَحَدِيثُ عَقِيلٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد (أَوْ) فِي (الْحُكْمِ) الْوَاقِعِ بَعْدَ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا دُونَ مَا قَبْلَهُ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْفَاءُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ (لِلتَّعْقِيبِ) وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْعِلِّيَّةِ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا تَرَتُّبُ حُكْمٍ عَلَى الْبَاعِثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ عَقْلًا أَوْ تَرَتُّبُ الْبَاعِثِ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُ فِي الْوُجُودِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْبَاعِثُ مُقَدَّمٌ عَقْلًا) عَلَى الْحُكْمِ (مُتَأَخِّرٌ خَارِجًا) عَنْهُ (فَلَوْ خَطَأَ) أَيْ التَّقَدُّمُ الْعَقْلِيُّ وَالتَّأَخُّرُ الْخَارِجِيُّ (فِيهَا) أَيْ فِي الْفَاءِ أَيْ فِي دُخُولِهَا عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْحُكْمِ.
(وَإِذًا فَلَا دَلَالَةَ لَهَا) وَضْعِيَّةً (عَلَى عِلِّيَّةِ مَا بَعْدَهَا) لِمَا قَبْلَهَا (أَوْ) عَلَى (حُكْمِيَّتِهِ)
أَيْ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا (بَلْ) إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا (بِخَارِجٍ) هَذَا وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الْعِلَّةِ أَقْوَى مِنْ عَكْسِهِ وَنَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ (وَدُونَهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (ذَلِكَ) أَيْ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْحُكْمِ (فِي لَفْظِ الرَّاوِي سَهَا فَسَجَدَ) كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا فِي صَلَاتِهِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ» «وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» ) كَمَا أَقَرَّ بِلَفْظِ أَنِّي إفَادَتُهُ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إنَّهُ زَنَى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ فَانْطَلَقَ بِهِ فَرُجِمَ» وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْهَمْ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ لَمْ يَنْقُلْهُ وَإِلَّا كَانَ مُلْبِسًا وَمَنْصِبُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ هَذَا دُونَ مَا قَبْلَهُ (لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ) لِلرَّاوِي فِي تَصَوُّرِ السَّبَبِيَّةِ (وَلَا يَنْفِي الظُّهُورَ) الْمُفِيدَ لِلظَّنِّ لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ حِينَئِذٍ.
(وَقِيلَ هَذَا) أَيْ مَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ (كَمَا قِيلَ فِي) قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّهَا يَعْنِي الْهِرَّةَ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ فِي بَحْثِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْوَصْفَ عِلَّةً وَأَنَّهُ إيمَاءٌ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِلتَّعْلِيلِ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لِتَقْوِيَةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْمُخَاطَبُ وَتُرُدِّدَ فِيهَا وَيُسْأَلُ عَنْهَا وَدَلَالَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَفِي التَّلْوِيحِ وَبِالْجُمْلَةِ كَلِمَةُ إنَّ مَعَ الْفَاءِ أَوْ بِدُونِهَا قَدْ تُورِدُ فِي أَمْثِلَةِ الْإِيمَاءِ وَيُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِاعْتِبَارِ أَنْ وَالْفَاءِ وَإِيمَاءٌ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ ثُمَّ شَرَعَ فِي قَسِيمِ قَوْلِهِ صَرِيحٌ فَقَالَ (وَإِيمَاءٌ وَتَنْبِيهٌ تَرْتِيبُهُ) أَيْ الْحُكْمِ (عَلَى الْوَصْفِ فَيُفْهَمُ لُغَةً أَنَّهُ) أَيْ الْوَصْفَ (عِلَّةٌ لَهُ) أَيْ الْحُكْمِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ (كَانَ) ذَلِكَ التَّرْتِيبُ (مُسْتَبْعَدًا) مِنْ الْعَارِفِ بِمَوَاقِعِ التَّرَاكِيبِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيلِ دَفْعًا لِلِاسْتِبْعَادِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقِسْمُ (إيمَاءُ اللَّفْظِ) مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ اصْطِلَاحِ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الْفُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُفْرَدِ.
(وَلَا يَخُصُّ الشَّارِعُ إلَّا أَنَّهُ) أَيْ عَدَمَ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ (فِيهِ) أَيْ فِي الشَّارِعِ (أَبْعَدُ) لِنُنَزِّهَ فَصَاحَتَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ أَلِف مِنْ عَادَتِهِ اعْتِبَارَ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْعِلَلِ وَالْأَحْكَامِ دُونَ إلْغَائِهَا فَإِذَا قُرِنَ فِي الشَّرْعِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ بِالْحُكْمِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ نَظَرًا إلَى عَادَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَظَانِّ بَيَانِ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ (وَلِذَا) أَيْ الِاسْتِبْعَادِ (يَجِبُ فِيهِ) أَيْ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ (الْمُنَاسَبَةُ) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (مِنْ الشَّارِعِ لِلْقَطْعِ بِحِكْمَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَفَسَدَتْ الْجَاهِلُ) إذَا صَدَرَ مِنْ الشَّارِعِ (وَإِنْ قَضَى بِحُمْقِهِ) أَيْ قَائِلُ هَذَا لَكِنْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ عَنْ وَالِدِهِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ عَلَى هَذَا أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ وَلَكِنْ لَا يَقَعُ حُكْمٌ إلَّا بِحِكْمَةٍ وَالْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ قَدْ يَقَعُ بِحِكْمَةٍ وَقَدْ يَقَعُ وَلَا حِكْمَةَ قَالَ وَهُوَ الْحَقُّ انْتَهَى وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَوْجَهَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْوُجُوبِ الْوُجُوبُ تَفَضُّلًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ فَصْلِ الْعِلَّةِ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّ وَسَنَذْكُرُ فِي ذَيْلِ هَذَا الطَّرِيقِ فِي اشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ مَذَاهِبَ (وَمِنْهُ) أَيْ الْإِيمَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ إذْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ عِلَّةُ عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يُشَوِّشُ الْفِكْرَ ذَكَرَهُ عَضُدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي الْحُكْمِ بِشَغْلِ قَلْبِهِ بِغَيْرِهِ.
قَالَ السُّبْكِيُّ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ تَشْوِيشُ الْفِكْرِ وَالْوَصْفُ الْمَذْكُورُ عِلَّةٌ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْجَائِعِ وَالْحَاقِنِ وَيَخْرُجُ عَنْهُ سِوَاهُ كَالْغَضَبِ إذَا كَانَ فَقَدْ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا انْتَهَى قُلْت: وَفِي خُرُوجِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ فِيهِ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ كَمَا فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ كَوْنُ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ إذَا ذُكِرَ كِلَاهُمَا إيمَاءٌ بِالِاتِّفَاقِ (فَإِنْ ذَكَرَ الْوَصْفَ فَقَطْ كَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) فَإِنَّ الْوَصْفَ وَهُوَ حِلُّ الْبَيْعِ مُصَرَّحٌ بِهِ وَالْحُكْمَ وَهُوَ الصِّحَّةُ غَيْرُ مَذْكُورٍ بَلْ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ الْحِلِّ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِغَايَتِهِ لِأَنَّهُ مَعْنَى عَدَمُ الصِّحَّةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِغَايَتِهِ كَانَ عَبَثًا وَهُوَ قَبِيحٌ وَالْقَبِيحُ حَرَامٌ فَلَمْ يَكُنْ حَلَالًا فَإِذَا كَانَ حَلَالًا كَانَ صَحِيحًا ضَرُورَةً (أَوْ)
ذَكَرَ (الْحُكْمَ) فَقَطْ (كَأَكْثَرِ) الْعِلَلِ (الْمُسْتَنْبَطَةِ) نَحْوَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مَذْكُورٌ وَهُوَ التَّحْرِيمُ وَالْوَصْفُ وَهُوَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ (فَفِي كَوْنِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (إيمَاءٌ تَقَدُّمَ عَلَى غَيْرِهَا) أَيْ عَلَى الْمُسْتَنْبَطَةِ بِلَا إيمَاءٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ ثَلَاثَةُ (مَذَاهِبَ) :
الْأَوَّلُ (نَعَمْ) هُوَ إيمَاءٌ بِنَاءً (عَلَى أَنَّ الْإِيمَاءَ اقْتِرَانٌ) لِلْوَصْفِ بِالْحُكْمِ (مَعَ ذِكْرِهِمَا) أَيْ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ (أَوْ) مَعَ ذِكْرِ (أَحَدِهِمَا) وَتَقْدِيرُ الْآخَرِ (وَ) الثَّانِي (لَا) يَكُونُ إيمَاءً (عَلَى أَنَّهُ) أَيْ الْإِيمَاءَ إنَّمَا يَكُونُ (مَعَ ذِكْرِهِمَا) أَيْ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْأَمْرَانِ فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ كَلَامُهُمَا فَلَا اقْتِرَانَ وَحَيْثُ لَا اقْتِرَانَ فَلَا إيمَاءَ لِانْتِفَاءِ حَدِّهِ (وَ) الثَّالِثُ (التَّفْصِيلُ) وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْبَدِيعِ (فَمَعَ ذِكْرِ الْوَصْفِ لَا الْحُكْمِ) يَكُونُ الْوَصْفُ إيمَاءً لَا الْحُكْمُ بَلْ بَعْضُهُمْ ادَّعَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِإِيمَاءٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَصْفُ هُوَ (الْمُسْتَلْزِمُ) لِلْحُكْمِ (فَذِكْرُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (ذِكْرُهُ) أَيْ الْحُكْمِ (فَيَدُلُّ الْحِلُّ عَلَى الصِّحَّةِ) كَمَا بَيَّنَّا لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَسْتَلْزِمُ الْمَعْلُومَ فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ الْمَذْكُورِ فَيَتَحَقَّقُ الِاقْتِرَانُ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِفَادَةِ الْحُكْمِ مِنْ كَلَامٍ فِيهِ الْوَصْفُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا بِالتَّصْرِيحِ أَوْ بِالِاسْتِلْزَامِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي طَرِيقِهِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ صَرِيحًا وَالْآخَرُ مُسْتَنْبَطًا مِنْ مَدْلُولِهِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلَّةَ الْمُعَيَّنَةَ وَكَيْفَ وَهُوَ لَازِمٌ لَهَا وَإِثْبَاتُ لَازِمِ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَلْزُومِهِ لِجَوَازِ كَوْنِ اللَّازِمِ أَعُمَّ مِنْ الْمَلْزُومِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَذْهَبٍ رَابِعٍ هُوَ عَكْسُ هَذَا الثَّالِثِ (مِثَالُ الْمُتَّفَقِ) عَلَيْهِ أَنَّهُ إيمَاءٌ مَا أَخْرَجَ الْحُفَّاظُ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْت فَقَالَ وَيْحَك قَالَ وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ مَا أَجِدُ قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ مَا أَجِدُ» الْحَدِيثَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَاقَعْت أَهْلِي فَقَالَ كَفِّرْ) فَرِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى (وَالْمُسْتَبْعَدُ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْكَلَامِ (إخْلَاءُ السُّؤَالِ عَنْ جَوَابِهِ) فَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ جِدًّا وَكَيْفَ لَا وَفِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (وَمَنْعُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ) أَيْ الْبَيَانِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حُكْمٌ (شَرْعِيٌّ) لَا يَقَعُ مِنْ الشَّارِعِ (وَالظَّاهِرُ عَلَيْهِ عَيْنُ الْوِقَاعِ) لِلْإِعْتَاقِ وَأَخَوَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (وَكَوْنُهُ) أَيْ انْتِسَابُ الْحُكْمِ إلَى الْوِقَاعِ لَا لِعِلِّيَّةِ عَيْنِهِ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ (لِمَا تَضَمَّنَهُ) الْوِقَاعُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ مَثَلًا كَمَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (احْتِمَالُ) غَيْرِ الظَّاهِرِ (وَحَذْفُ بَعْضِ الصِّفَاتِ) الَّذِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ (فِي مِثْلِهِ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِيمَاءِ (وَاسْتِيفَاءُ الْبَاقِي يُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ) أَيْ تَلْخِيصُ مَا نَاطَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ أَيْ رَبَطَهُ بِهِ وَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعِلَّةُ عَنْ الزَّوَائِدِ (فِي اصْطِلَاحِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَحَذْفِ أَعْرَابِيَّتِهِ) أَيْ السَّائِلِ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا (وَالْأَهْلِ) إذْ لَا مَدْخَلَ فِي الْعِلَّةِ لِكَوْنِهِ أَعْرَابِيًّا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَامَّةِ لِلْمُكَلَّفِينَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ أَعْرَابًا أَوْ غَيْرَهُمْ وَلَا لِكَوْنِ مَحَلِّ الْوِقَاعِ أَهْلًا لَهُ فَإِنَّ الزِّنَا بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ أَجْدَرُ تَغْلِيظًا عَلَى الزَّانِي (وَتَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ) عَلَى هَذَا الْحَذْفِ (كَوْنَهُ) أَيْ الْفِعْلِ الْمُفْطِرِ (وِقَاعًا) لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِهِ فِي الْعِلَّةِ لِمُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ فِي تَفْوِيتِ رُكْنِ الصِّيَامِ الَّذِي هُوَ الْإِمْسَاكُ الْخَاصُّ (فَيَبْقَى كَوْنُهُ) أَيْ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْوِقَاعُ (إفْسَادًا عَمْدًا بِمُشْتَهًى) فَيَكُونُ الْمَنَاطَ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَتَجِبُ بِعَمْدِ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ لِمُشْتَهًى كَمَا تَجِبُ بِالْعَمْدِ مِنْ الْجِمَاعِ فَيَتَلَخَّصُ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ هُوَ النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِحَذْفِ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ لِلْعِلِّيَّةِ (وَ) يُسَمَّى (النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِهَا) أَيْ بَيَانِ وُجُودِهَا (فِي آحَادِ الصُّوَرِ بَعْدَ تَعَرُّفِهَا) أَيْ مَعْرِفَتِهَا فِي نَفْسِهَا (بِنَصٍّ) كَمَا فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ اسْتِقْبَالِهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَكَوْنُ هَذِهِ الْجِهَةِ هِيَ جِهَةُ الْقِبْلَةِ مَظْنُونٌ (أَوْ إجْمَاعٍ) كَالْعَدَالَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا عَدَالَةُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَمَظْنُونَةٌ لِأَنَّ إدْرَاكِ وُجُودِهَا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ وَمُوجِبُهُ الظَّنُّ
(تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ) أَيْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ ثُمَّ مَثَّلَ لِمَا ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَأُدْرِكَتْ فِي مَحَالِّهَا بِالِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ (كَكَوْنِ هَذَا) الشَّاهِدِ (عَدْلًا فَيُقْبَلُ) قَوْلُهُ أَيْ شَهَادَتُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ (وَالْأَكْثَرُ) مِنْهُمْ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ (عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ الْقَوْلِ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَلَكِنَّهُ دُونَ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ (وَ) يُسَمَّى النَّظَرُ (فِي تَعَرُّفِهَا) أَيْ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ (لِحُكْمِ نُصَّ عَلَيْهِ) أَوْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ (فَقَطْ) دُونَ عِلَّتِهِ بَلْ إنَّمَا عُرِفَتْ بِاسْتِخْرَاجِ الْمُجْتَهِدِ لَهَا بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ (تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ) كَالِاجْتِهَادِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَهَذَا فِي الرُّتْبَة دُونَ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَلِذَا أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ النَّظَرُ فِي إثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا بِنَفْسِهَا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ اسْتِنْبَاطٍ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ أَخَصَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ فَكُلُّ تَخْرِيجِ مَنَاطٍ تَحْقِيقُهُ وَلَيْسَ كُلُّ تَحْقِيقِ مَنَاطٍ تَخْرِيجَهُ.
(وَهُوَ) أَيْ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ (أَعَمُّ مِنْ الْإِخَالَةِ) لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى مَا يَثْبُتُ بِالسَّبْرِ (وَفِي كَلَامِ بَعْضٍ) وَهُوَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمُوَافِقُوهُ (إفَادَةُ مُسَاوَاتِهَا) لِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ فَإِنَّهُ قَالَ الْمُنَاسَبَةُ وَالْإِخَالَةُ وَتُسَمَّى تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ ذَاتِهِ لَا بِنَصٍّ وَغَيْرِهِ اهـ (وَعَنْهُ) أَيْ تَسَاوِيهِمَا (نُسِبَ لِلْحَنَفِيَّةِ نَفْيُهُ) أَيْ الْقَوْلِ بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْبَدِيعِ لِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ الْإِخَالَةَ وَيَقُولُونَ كَوْنُ الْوَصْفِ عِلَّةً لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ (وَاعْتَذَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ) وَهُوَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (عَنْ عَدَمِ ذِكْرِهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى النَّصِّ) أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْمُنَاسَبَةِ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْهُمَا لِمَرْجِعِهِمَا إلَى النَّصِّ بِالْآخِرَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَنَفِيٍّ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا) لَوْلَا تَنْقِيحُ الْحَنَفِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَنَاطَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ كَالْجِمَاعِ فَيُحْذَفُ كَوْنُ الْفَاعِلِ أَعْرَابِيًّا وَكَوْنُ الْمُجَامَعَةِ زَوْجَتَهُ (مُنِعَ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ) أَيْ لَقِيلَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي جِمَاعٍ هُوَ زِنًا وَنَحْوِهِ (غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يَضَعُوا لَهُ) أَيْ لِمَعْنَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ (اسْمًا اصْطِلَاحِيًّا كَمَا لَمْ يَضَعُوا الْمُنْفَرِدَ) لَمَّا وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَقَطْ كَمَا وَضَعُوا الْمُشْتَرَكَ لِمَا وُضِعَ لِمَعَانٍ (وَ) لَمْ يَضَعُوا (تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ وَتَحْقِيقَهُ) أَيْ الْمَنَاطِ (مَعَ الْعَمَلِ بِمَعَانِي الْكُلِّ) غَالِبًا لِنَفْيِهِمْ الْعَمَلَ بِمَا كَانَ مِنْ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ إخَالَةً وَلَوْ تَعَرَّضَ لَهُ لَكَانَ أَوْلَى (وَكَوْنُ مَرْجِعِ الِاسْتِدْلَالِ إذَا نَقَّحَ النَّصَّ الْمَنَاطَ) كَمَا يُفِيدُهُ اعْتِذَارُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ (لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوَضْعِ بَلْ ذَلِكَ) عَدَمُ الْوَضْعِ (رَاجِعٌ إلَى الِاخْتِيَارِ) لِذَلِكَ كَالْوَضْعِ.
(وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةُ الْإِيمَاءُ (اقْتِرَانُ) الْحُكْمِ (بِوَصْفٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ) أَيْ الْوَصْفُ (أَوْ نَظِيرُهُ) أَيْ الْوَصْفِ (عِلَّةً) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (كَانَ) ذَلِكَ الِاقْتِرَانُ (بَعِيدًا ثُمَّ تَمْثِيلُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم «وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ عَنْ وَفَاةِ أَبِيهَا وَعَلَيْهِ الْحَجُّ أَفَيُجْزِيهِ حَجُّهَا عَنْهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ» إلَخْ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِأَنَّ النَّظِيرَ دَيْنُ الْعِبَادِ وَلَيْسَ) دَيْنُ الْعِبَادِ (الْعِلَّةَ) لِأَنَّهُ نَفْسُ الْأَصْلِ وَدَيْنُ اللَّهِ الْفَرْعُ (بَلْ) الْعِلَّةُ لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ سُقُوطُهُ بِفِعْلِ الْمُتَبَرِّعِ (كَوْنُهُ) أَيْ الْمُقْضَى (دَيْنًا وَذَكَرَهُ) أَيْ الشَّارِعُ دَيْنَ الْعِبَادِ (لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِكَ) بَيْنَهُمَا وَهُوَ كَوْنُهُ دَيْنًا (الْعِلَّةُ) لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (وَتَقَدَّمَ التَّمْثِيلُ بِهِ) أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ (لِلْحَنَفِيَّةِ لِلْعِلَّةِ الْوَاقِعَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا) .
وَهَذَا مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ سَيَذْكُرُ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ ثَمَّةَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ وَذَكَرْنَا أَنَّا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ مُخَرَّجًا وَذَكَرْنَا مَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ كَوْنِ الْعِلَّةِ لِلسُّقُوطِ فِي هَذَا كَوْنُ الْمُقْضَى دَيْنًا (يُسَمَّى مِثْلُهُ) عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ (تَنْبِيهًا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ) فَتَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهُ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَيْنَ الْعِبَادِ أَصْلُ الْقِيَاسِ لَا عِلَّتُهُ «وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ رضي الله عنه وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ هَلْ تُفْسِدُ الصَّوْمَ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يُفْسِدُ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا بِهَذَا السِّيَاقِ مُخَرَّجًا وَقَدَّمْته بِغَيْرِهِ مُخَرَّجًا فِي بَحْثِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْعِلَّةَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْفُوظًا فَهُوَ رِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ وَسَأَلْته أَيْ وَالتَّمْثِيلُ بِقَوْلِهِ لِعُمَرَ فَهُوَ
حِينَئِذٍ مُحْتَاجٌ إلَى خَبَرٍ وَلَعَلَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَتَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى ظَنِّ الْعِلْمِ بِهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْإِيمَاءِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيّ لِأَنَّ الشَّارِعَ ذَكَرَ الْوَصْفَ فِي نَظِيرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَةُ الشُّرْبِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ وَهُوَ عَدَمُ الْإِفْسَادِ دُونَهُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ مَعَ الْمَضْمَضَةِ وَالْفَرْعُ وَهُوَ الصَّوْمُ مَعَ الْقُبْلَةِ.
(وَقِيلَ لَيْسَ) هَذَا الْمِثَالُ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالنَّظِيرِ قَالَهُ الْآمِدِيُّ (إذْ لَا يُنَاسِبُ كَوْنُهُ) أَيْ التَّمَضْمُضِ بِالْمَاءِ (مُقَدِّمَةً) لِإِفْسَادِ الصَّوْمِ (غَيْرَ مُفْضِيَةٍ) إلَيْهِ (عَدَمُ الْفَسَادِ) لِيَكُونَ التَّمَضْمُضُ عِلَّةَ عَدَمِ إفْسَادِهِ (بَلْ) إنَّمَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ عِلَّةً لِعَدَمِ الْفَسَادِ (وُجُودُ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّمَضْمُضُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَتَّفِقُ مَعَهُ الْفِطْرُ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ مَعَهُ (وَوُجُودُ مَا يَتَّفِقُ مَعَهُ) الْفِطْرُ تَارَةً (وَلَا يَتَّفِقُ) مَعَهُ أُخْرَى (لَا يَلْزَمُ عِلَّةً) لِلْفِطْرِ (فَإِنَّمَا هُوَ) أَيْ النَّظِيرُ الْمَذْكُورُ (نَقْضٌ لِوَهْمِهِ) أَيْ عُمَرَ إفْسَادَ مُقَدِّمَةِ الْإِفْسَادِ كَالْإِفْسَادِ فَإِنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَمِنْهُ) أَيْ الْإِيمَاءِ (أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ بِذِكْرِ وَصْفَيْنِ كَالْمَرَاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ) غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ بِذِكْرِ وَصْفَيْنِ هُمَا الرُّجُولِيَّةُ وَالْفُرُوسِيَّةُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ الْوَصْفُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ (أَوْ) بِذِكْرِ (أَحَدِهِمَا) أَيْ الْوَصْفَيْنِ لَا غَيْرُ «كَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ» ) وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ وَإِرْثِهِ فَتَخْصِيصُ الْقَاتِلِ بِالْمَنْعِ مِنْ الْإِرْثِ (بَعْدَ ثُبُوتِ عُمُومِهِ) أَيْ الْإِرْثِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ الْقَتْلُ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْعِ الْإِرْثِ الْمَذْكُورِ وَبَيْنَ الْإِرْثِ الْمَعْلُومِ بِوَصْفِ الْقَتْلِ الْمَذْكُورِ مَعَ مَنْعِ الْإِرْثِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الْقَتْلِ لِمَنْعِ الْإِرْثِ لَكَانَ بَعِيدًا (أَوْ) يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا (فِي ضِمْنِ غَايَةٍ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]{حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَلَا مَنْعَ مِنْ قُرْبَانِهِنَّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] فَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمَنْعِ مِنْ قُرْبَانِهِنَّ فِي الْحَيْضِ وَبَيْنَ جَوَازِهِ فِي الْمُطَهِّرِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الطُّهْرِ لِلْجَوَازِ لَكَانَ بَعِيدًا.
(أَوْ) فِي ضِمْنِ (اسْتِثْنَاءٍ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]{إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَيْ الزَّوْجَاتُ عَنْ ذَلِكَ النِّصْفِ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ ثُبُوتِ النِّصْفِ لَهُنَّ وَبَيْنَ انْتِفَائِهِ عِنْدَ عَفْوِهِنَّ عَنْهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الْعَفْوِ لِلِانْتِفَاءِ لَكَانَ بَعِيدًا (أَوْ) فِي ضِمْنِ (شَرْطٍ) كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ يَدًا بِيَدٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بِلَفْظِ «إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» ) وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْعِ بَيْعِ جِنْسٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَبَيْنَ جَوَازِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِعِلِّيَّةِ الِاخْتِلَافِ لِلْجَوَازِ لَكَانَ بَعِيدًا ثُمَّ هَذَا فِي هَذَا الْمِثَالِ (لَوْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ لَمْ تُوجَدْ (الْفَاءُ) فِيهِ دَاخِلَةٌ عَلَى الْحُكْمِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ قَبِيلِ الصَّرِيحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38](عَلَى مَا قِيلَ) وَهُوَ مُتَّجَهٌ.
(وَذُكِرَ فِي اشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ فِي) صِحَّةِ (عِلَلِ الْإِيمَاءِ) ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ (نَعَمْ) يُشْتَرَطُ وَلِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ عَنْ الْحُكْمِ إمَّا وُجُوبًا كَالْمُعْتَزِلَةِ أَوْ تَفْضِيلًا كَغَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَلِ الْمُنَاسِبَةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الِانْقِيَادِ وَأَفْضَى إلَيْهِ مِنْ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ فَيَلْحَقُ الْفَرْدُ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْحَكِيمِ مَا هُوَ أَفْضَى إلَى مَقْصُودِهِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ (و) الثَّانِي (لَا) يُشْتَرَطُ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يُفْهَمُ بِدُونِهَا.
(وَ) الثَّالِثُ (الْمُخْتَارُ) عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ (أَنَّ فَهْمَ التَّعْلِيلِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ) كَمَا فِيمَا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (اُشْتُرِطَتْ) لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ فِيمَا الْمُنَاسَبَةُ شَرْطٌ فِيهِ تَنَاقُضٌ لِوُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ شَرْطِهِ وَعَدَمُهَا بِنَاءً عَلَى الْفَرْضِ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يُفْهَمْ التَّعْلِيلُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ بَلْ بِغَيْرِهَا مِنْ الطُّرُقِ كَمَا فِي بَاقِي الْأَقْسَامِ (فَلَا) يُشْتَرَطُ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ
يُفْهَمُ مِنْ غَيْرِهَا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ إذْ الْفَرْضُ فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا فَإِنَّ وُجُودَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعِلِّيَّةُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ آخَرَ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي بَابِ الْقِيَاسِ.
(قِيلَ) أَيْ قَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (وَإِنَّمَا يَصِحُّ) عَدَمُ اشْتِرَاطِهَا (إذَا أُرِيدَ بِالْمُنَاسَبَةِ ظُهُورُهَا) عِنْدَ النُّظَّارِ (وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (فِي الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ) وَإِلَّا فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهَا (بِخِلَافِ الْأَمَارَةِ الْمُجَرَّدَةِ) عَنْ الْمُنَاسَبَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةَ (عُلِمَتْ مِنْ إيمَاءِ النَّصِّ فَكَيْفَ يَفْصِلُ إلَى أَنْ تُعْلَمَ بِالْمُنَاسَبَةِ يَعْنِي فَقَطْ فَيُشْتَرَطُ) الْمُنَاسَبَةُ (أَوْ) تُعْلَمَ (لَا بِهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ (فَلَا) تُشْتَرَطُ الْمُنَاسَبَةُ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا أَنَّهُ تَجِبُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْوَصْفِ الْمُومَأ إلَيْهِ مِنْ الشَّارِعِ دُونَ غَيْرِهِ وَذَكَرْنَا أَنَّ السُّبْكِيَّ عَزَاهُ مِنْ الشَّارِعِ إلَى الْفُقَهَاءِ دُونَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ أَوْجَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الرَّابِعُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ حَصْرُ الْأَوْصَافِ) الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَصْلِ الصَّالِحَةِ لِلْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا فِي عَدَدٍ (وَيَكْفِي) الْمُسْتَدِلُّ الْمُنَاظِرُ فِي حَصْرِهَا الْمُتَأَهِّلُ لِلنَّظَرِ بِأَنْ كَانَتْ مَدَارِكُ الْمَعْرِفَةِ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ مُتَحَقِّقَةً عِنْدَهُ مِنْ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَكَانَ عَدْلًا ثِقَةً صَادِقًا غَالِبًا فِيمَا يَقُولُهُ (عِنْدَ مَنْعِهِ) أَيْ حَصْرِهَا مِنْ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ (بَحَثْت فَلَمْ أَجِدْ) مَا يَصْلُحُ لِلْعَلِيَّةِ غَيْرَهَا وَيُصَدَّقُ فِيهِ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ وَأَهْلِيَّتَهُ لِلنَّظَرِ مِمَّا يُغَلِّبُ ظَنَّ عَدَمِ غَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْعَقْلِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ مِمَّا لَوْ كَانَتْ لَمَا خَفِيَتْ عَلَى الْبَاحِثِ عَنْهَا (أَوْ) يَقُولُ (الْأَصْلُ الْعَدَمُ) أَيْ عَدَمُ غَيْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَجَدْتهَا فَلَا نُثْبِتُ وُجُودَ غَيْرِهَا إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ فَإِنَّ بِذَلِكَ يَحْصُلُ الظَّنُّ الْمَقْصُودُ فِي إثْبَاتِ عِلِّيَّةِ أَحَدِهِمَا أَيْضًا فَيَنْدَفِعُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ عِنْدَ مَنْعِ الْحَصْرِ (ثُمَّ حَذْفُ بَعْضِهَا) أَيْ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ مَا سِوَى أَنَّ الْمُدَّعَى عِلَّةٌ لِعَدَمِ صَلَاحِهِ لَهَا حَقِيقَةً وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى حَصْرٍ (فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي) بَعْدَ الْحَذْفِ لِلْعِلِّيَّةِ فَظَهَرَ أَنَّ السَّبْرَ اخْتِبَارُ الْوَصْفِ هَلْ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَوْ لَا وَالتَّقْسِيمُ هُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا كَذَا وَإِمَّا كَذَا فَقَدْ كَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَدَّمَ التَّقْسِيمَ فِي اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الْخَارِجِ إلَّا أَنَّ اللَّقَبَ لِهَذَا الْمَسْلَكِ عِنْدَهُمْ هَكَذَا وَقَعَ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ.
(تَنْبِيهٌ) وَقَدْ يَتَّفِقُ الْمُتَنَاظِرَانِ عَلَى إبْطَالِ عِلِّيَّةِ مَا عَدَا وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَيِّهِمَا الْعِلَّةُ فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ التَّرْدِيدَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى ضَمِّ مَا عَدَاهُمَا إلَيْهِمَا فَنَقُولُ الْعِلَّةُ إمَّا ذَا أَوْ ذَاكَ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَا (وَلَوْ أَبْدَى) الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا (آخَرَ) لَمْ يُكَلَّفْ بَيَانَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْحَصْرِ بِإِبْدَائِهِ كَافٍ فِي الِاعْتِرَاضِ وَهَلْ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ (فَالْمُخْتَارُ لَا يَنْقَطِعُ) الْمُسْتَدِلُّ بَلْ عَلَيْهِ دَفْعُهُ بِإِبْطَالِ التَّعْلِيلِ بِهِ (إلَّا إنْ لَمْ يُبْطِلْهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ الْوَصْفِ الْمُبْدَى عِلَّةً فَإِنَّ عَجْزَهُ عَنْ إبْطَالِهِ انْقِطَاعٌ لَهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَنْقَطِعُ بِمُجَرَّدِ الْمَنْعِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُسْتَدِلَّ (لَمْ يَدَّعِ الْحَصْرَ قَطْعًا) بَلْ ظَنًّا وَلِهَذَا يَكْفِيهِ كَمَا سَيَذْكُرُ أَنْ يَقُولَ مَا وَجَدْت بَعْدَ الْفَحْصِ غَيْرَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ ظَنَنْت عَدَمَ هَذَا الْوَصْفِ وَيَصْدُقُ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمُجْتَهِدِ إذَا ظَهَرَ لَهُ مَا كَانَ خَافِيًا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذْ الْمُنَاظِرُ تِلْوَ النَّاظِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْمُنَاظَرَةِ إلَّا إظْهَارُ مَأْخَذِ الْحُكْمِ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ إلَّا الْوَصْفَ الْفُلَانِيَّ يَجِبُ إتْبَاعُ الظَّنِّ ثُمَّ غَايَةُ إبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ وَصْفًا آخَرَ مَنَعَ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدَّمَاتِ دَلِيلِهِ وَمُقْتَضَى الْمَنْعِ لُزُومُ الدَّلَالَةِ لِلْمُسْتَدِلِّ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ لَا الِانْقِطَاعُ وَإِلَّا كَانَ كُلُّ مَنْعٍ قَطْعًا وَالِاتِّفَاقُ عَلَى خِلَافِهِ.
(وَيَكْفِيهِ) أَيْ الْمُسْتَدِلُّ إذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحَصْرَ بِإِبْدَاءِ وَصْفٍ آخَرَ وَأَبْطَلَهُ أَنْ يَقُولَ (عَلِمْته وَلَمْ أُدْخِلْهُ) فِي حَصْرِي (لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ) لِلْعِلِّيَّةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي إبْطَالِ عِلِّيَّتِهِ إلَى دَلِيلٍ وَإِذَا أَبْطَلَ الْمُسْتَدِلُّ الْوَصْفَ الْمُظْهَرَ فَقَدْ سَلِمَ حَصْرُهُ الْمَذْكُورُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ يَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ وَقِيلَ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْحَصْرِ لِأَنَّهُ ادَّعَى حَصْرًا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ وَقَدْ عَرَفْت جَوَابَهُ وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إنْ كَانَ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ مُسَاوِيًا فِي الْعِلِّيَّةِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي حَصْرِهِ وَأَبْطَلَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ ذِكْرُ الْمَذْكُورِ وَإِبْطَالُهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَسْكُوتِ
وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَلَا انْقِطَاعَ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مُخَيَّلًا أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْته وَأَبْطَلْته اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ مُسْتَدِلًّا لِغَيْرِهِ.
فَإِنْ كَانَ نَاظِرًا بِنَفْسِهِ يَرْجِعُ فِي حَصْرِ الْأَوْصَافِ إلَى ظَنِّهِ فَيَأْخُذَ بِهِ وَلَا يُكَابِرَ نَفْسَهُ ثُمَّ إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْحَصْرِ وَالْإِبْطَالِ قَطْعِيًّا فَهَذَا الْمَسْلَكُ قَطْعِيٌّ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَهُوَ ظَنِّيٌّ ثُمَّ حُكِيَ فِي الظَّنِّيِّ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ وَالْمُنَاظِرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّيِّ وَعَزَاهُ السُّبْكِيُّ إلَى الْأَكْثَرِ ثَانِيهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا لِجَوَازِ بُطْلَانِ الْبَاقِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ ثَالِثُهَا حُجَّةٌ لَهُمَا إنْ أُجْمِعَ عَلَى تَعْلِيلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ حَذَرًا مِنْ أَدَاءِ بُطْلَانِ الْبَاقِي إلَى خَطَأِ الْمُجْمِعِينَ وَعَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ رَابِعُهَا حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ لَا الْمُنَاظِرِ لِأَنَّ ظَنَّهُ لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ ثُمَّ إذْ لَا بُدَّ لِلْمَحْذُوفِ مِنْ طَرِيقٍ يُفِيدُ عَدَمَ عِلِّيَّتِهِ وَقَدْ نُوِّعَ إلَى أَرْبَعَةٍ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ (وَطُرُقُ الْحَذْفِ بَيَانُ إلْغَائِهِ) أَيْ الْمَحْذُوفِ (بِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْبَاقِي فَقَطْ فِي مَحَلٍّ) آخَرَ (فَلَزِمَ) مِنْ هَذَا (اسْتِقْلَالُهُ) أَيْ الْمُسْتَبْقَى عِلَّةً وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ مَعَهُ (وَعَدَمُ جُزْئِيَّةِ الْمُلْغِي) لِلْعِلِّيَّةِ أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ مَدْخَلٌ فِيهَا لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِإِلْغَاءِ الْمَحْذُوفِ هَذَا بَلْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَحْذُوفُ عِلَّةً لَانْتَفَى الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَحَيْثُ لَمْ يَنْتَفِ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَحْذُوفِ كَمَا هُوَ الْفَرْضُ فَلَا يَكُونُ الْمَحْذُوفُ عِلَّةً (فَهُوَ) أَيْ الْإِلْغَاءُ حِينَئِذٍ (الْعَكْسُ) وَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ عِلِّيَّةِ الْمَحْذُوفِ بِالْإِلْغَاءِ وَهُوَ نَفْيُهَا بِنَفْيِ عَكْسِهَا الْمَبْنِيِّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ.
(غَيْرَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَحَلَّ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ بِالْمُسْتَبْقَى لَا غَيْرُ (أَصْلٌ آخَرَ) لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ غَيْرِهِمَا وَحِينَئِذٍ (فَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّهُ (يُسْقِطُ مُؤْنَةَ الْحَذْفِ) أَيْ الْإِلْغَاءِ اللَّازِمَةِ فِي الْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونُ ذِكْرُهُ تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ وَمِثْلُ ذَلِكَ قَبِيحٌ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ وَهَذَا بَحْثٌ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى رِبَوِيَّةِ الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ أَمَّا الطَّعْمُ أَوْ الْقُوتُ أَوْ الْكَيْلُ وَالْقُوتُ بَاطِلٌ لِثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْمِلْحِ وَلَا قُوتَ فَيَقُولَ الْمُعْتَرِضُ فَقِسْ عَلَى الْمِلْحِ ابْتِدَاءً تَسْتَغْنِ عَنْ ذِكْرِ الْبُرِّ وَإِبْطَالُ عِلِّيَّةِ وَصْفِ الْقُوتِ فِيهِ (وَبَعُدَ أَنَّهَا) أَيْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ (مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ) لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا تَفَاوُتٍ قَدْ لَا يَسْتَمِرُّ سُقُوطُ الْمُؤْنَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إذْ (قَدْ تَكُونُ أَوْصَافُهُ) أَيْ الْأَصْلِ الْآخَرِ كَالْمِلْحِ (أَكْثَرَ) مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ كَالْبُرِّ فَيُحْتَاجُ فِي إبْطَالِ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ مِنْهَا بِطَرِيقَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبُرِّ هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلَامِ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ (وَكَوْنِهِ) بِالْجَرِّ أَيْ وَيَكُونُ الْوَصْفُ الْمَحْذُوفُ طَرْدِيًّا أَعْنِي (مِمَّا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ مُطْلَقًا) أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الْكَفَّارَةِ وَالْإِرْثِ وَالْعِتْقِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ حُكْمٌ أَصْلًا.
وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ (أَوْ) كَوْنِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ مِمَّا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ (فِي ذَلِكَ) الْحُكْمِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِي غَيْرِهِ (كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ) فَإِنَّ الشَّارِعَ وَإِنْ اعْتَبَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْإِرْثِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ مِنْ السِّرَايَةِ وَوُجُوبِ السِّعَايَةِ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الثَّالِثُ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ (وَأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَدِلِّ (مُنَاسَبَةٌ) بَيْنَ الْمَحْذُوفِ وَذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهَا (وَيَكْفِي) لِلْمُسْتَدِلِّ الْمُنَاظِرِ أَنْ يَقُولَ (بَحَثْت) عَنْ مُنَاسَبَةِ الْمَحْذُوفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ (فَلَمْ أَجِدْهَا) وَيُصَدَّقُ فِيهِ لِأَنَّهُ عَدْلٌ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ يُخْبِرُ عَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا خَبَرُهُ لِأَنَّ وِجْدَانَهُ لَهُ وِجْدَانِيٌّ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا نَفْسُهُ وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ دَالٌّ عَلَى عَدَمِهِ ظَنًّا أَوْ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ فَلَزِمَ حَذْفُهُ مِنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الرَّابِعُ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ.
(فَإِنْ قَالَ) الْمُعْتَرِضُ (الْبَاقِي كَذَلِكَ) أَيْ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِأَنِّي بَحَثْت فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مُنَاسَبَةً (تَعَارَضَا) أَيْ وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ وَوَصْفُ الْمُعْتَرِضِ إذْ الْحُكْمُ بِعِلِّيَّةِ الْمُسْتَبْقَى وَعَدَمِ عِلِّيَّةِ الْمَحْذُوفِ بِحُكْمٍ بَاطِلٌ حِينَئِذٍ
وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ فِي جَوَابِهِ لِمَا يُذْكَرُ فَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِالتَّعَارُضِ.
(وَوَجَبَ التَّرْجِيحُ) عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لِوَصْفِهِ الْحَاصِلِ مِنْ سَبْرِهِ عَلَى الْوَصْفِ الْحَاصِلِ مِنْ سَبْرِ الْمُعْتَرِضِ وَإِنَّمَا لَمْ يُوجَبُ عَلَى الْمُعَلِّلِ بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ (إذْ لَوْ أَوْجَبْنَا بَيَانَهَا عَلَى الْمُعَلِّلِ انْتَقَلَ) مِنْ طَرِيقِ السَّبْرِ (إلَى الْإِخَالَةِ) إذْ هِيَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِإِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ انْقِطَاعٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الِانْتِشَارِ الْمَحْذُورِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَقَدْ يُقَالُ لَمَّا اخْتَلَفَ حَالُهُ) أَيْ الْمُعَلِّلِ (بِحَقِيقَةِ الْمُعَارَضَةِ) مِنْ الْمُعْتَرِضِ (فَكَأَنَّهُ) أَيْ التَّعْلِيلَ (ابْتِدَاءٌ) فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ (مَعَ أَنَّهَا) أَيْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ أَعْنِي كَوْنَهُ مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ السَّبْرِ إلَى الْإِخَالَةِ حَتَّى كَانَ بِالِانْتِقَالِ مُنْقَطِعًا فِي عُرْفِهِمْ طَرِيقَةٌ (تَحْسِينِيَّةٌ) مِنْهُمْ كَيْ لَا يَخْلُوَ الْمَجْلِسُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَإِلَّا فَفِي الْعَقْلِ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ طَرِيقٍ إلَى آخَرَ وَهَلُمَّ جَرًّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا عَيَّنَهُ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ إثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا الِانْقِطَاعُ بِدَلِيلِ الْعَجْزِ كَمَا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْأُسُولَةِ.
(وَلَهُ) أَيْ الْمُعَلِّلِ التَّرْجِيحُ لِلْوَصْفِ الْحَاصِلِ مِنْ سَبْرِهِ (بِالتَّعَدِّي وَكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ) فَيَقُولُ: سَبْرِي مُوَافِقٌ لِلتَّعْدِيَةِ فَإِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اسْتَبْقَيْته بِسَبْرِي مُتَعَدٍّ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ وَسَبْرُك مُوَافِقٌ لِعَدَمِ التَّعْدِيَةِ فَيَكُونُ وَصْفُك قَاصِرًا وَمَا يُوَافِقُ التَّعْدِيَةَ رَاجِحٌ إمَّا لِعُمُومِ الْحُكْمِ وَكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَالْقَاصِرُ مُخْتَلِفًا فِيهِ أَوْ لِجَمِيعِ ذَلِكَ.
(فَإِنْ قُلْت عُلِمَ بِمَا ذُكِرَ) فِي هَذَا الطَّرِيقِ (اشْتِرَاطُ مُنَاسَبَتِهِ) أَيْ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقَى (فَلَمْ لَمْ تَتَّفِقْ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُولِهِ قُلْنَا يَجِبُ عَلَى أُصُولِهِمْ نَفْيُهُ) أَيْ نَفْيُ قَبُولِهِ (وَإِنْ رَضِيَهُ الْجَصَّاصُ وَالْمَرْغِنَانِيّ) مِنْهُمْ (لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ نَفْيِ غَيْرِهِ) أَيْ حَذْفِهِ (لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ بِظُهُورِ التَّأْثِيرِ وَالْمُلَاءَمَةِ) فَظُهُورُ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً عِنْدَهُمْ نَعَمْ كَمَا فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ لِلْبَعْضِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَنَا أَيْضًا لَكِنْ مِثْلُ هَذَا يَكُونُ إثْبَاتًا لِلْعِلِّيَّةِ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَيَرْجِعَانِ إلَيْهِمَا (فَلِذَا) أَيْ عَدَمُ ثُبُوتِ اعْتِبَارِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ (رَدَّهُ) أَيْ رَجَّعَهُ (مَنْ قَبِلَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ) وَهُوَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (إلَى النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ قَالَ) هَذَا الْمُتَأَخِّرُ (أَوْ الْمُنَاسَبَةُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَفِيهِ) أَيْ رَدِّهِ إلَيْهِ (نَظَرٌ إذْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةَ (لَا تَسْتَلْزِمُ التَّأْثِيرَ وَشَرْطُهُ) أَيْ التَّأْخِيرِ (فِي بَيَانِ الْحَصْرِ أَنْ يَثْبُتَ عَدَمُ عِلِّيَّةِ غَيْرِ الْمُسْتَبْقَى بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ النَّصُّ لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا) أَيْ عِلِّيَّةِ الْمُسْتَبْقَى (ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ إلَّا مَعَ الْقَطْعِ بِالْحَذْفِ وَالْحَصْرِ وَلَيْسَ) الْقَطْعُ بِهِمَا (بِلَازِمٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بَلْ رُتْبَتُهُ) أَيْ ثُبُوتُ الْعِلِّيَّةِ لِلْمُسْتَبْقَى (الْإِخَالَةُ فَالْخِلَافُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِهَا بِهَا (ثَابِتٌ) فِي ثُبُوتِهَا بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَ) الْمَسْلَكُ (الْخَامِسُ الدَّوَرَانُ) وَيُسَمَّى الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ (نَفَاهُ) أَيْ كَوْنَهُ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الْحَنَفِيَّةُ وَمُحَقِّقُو الْأَشَاعِرَةِ) كَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (وَالْأَكْثَرُ نَعَمْ) هُوَ مَسْلَكٌ مِنْ مَسَالِكِهَا.
(ثُمَّ قِيلَ يُفِيدُ ظَنًّا) وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعِهِ وَشُغِفَ بِهِ عِرَاقِيُّو الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ وَاخْتَارَهُ وَقَالَ وِفَاقًا لِلْأَكْثَرِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ.
(وَقِيلَ قَطْعًا) وَهُوَ مَعْزُوٌّ إلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ السُّبْكِيُّ وَأَنَا أَقُولُ لَعَلَّ مَنْ ادَّعَى الْقَطْعَ فِيهِ مِمَّنْ يَشْتَرِطُ ظُهُورَ الْمُنَاسَبَةِ فِي قِيَاسِ الْعِلَلِ مُطْلَقًا وَلَا يَكْتَفِي بِالسَّبْرِ وَلَا بِالدَّوَرَانِ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا فَإِذَا انْضَمَّ الدَّوَرَانُ إلَى هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ رُقِّيَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَى الْيَقِينِ وَإِلَّا فَأَيُّ وَجْهٍ لِتَخَيُّلِ الْقَطْعِ فِي مُجَرَّدِ الدَّوْرَانِ انْتَهَى (وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ لِاعْتِبَارِهِ) أَيْ الدَّوَرَانِ (قِيَامَ النَّصِّ فِي حَالَيْ وُجُودِ الْوَصْفِ وَعَدَمِهِ) وَلَا حُكْمَ لِلنَّصِّ بِأَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهِ بَلْ إلَى الْوَصْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ لِوُجُودِ عِلَّةِ النَّصِّ لَا لِصُورَةِ النَّصِّ (كَالْوُضُوءِ وَجَبَ لِلْقِيَامِ) إلَى الصَّلَاةِ حَالَ كَوْنِ الْقَائِمِ (مُحْدِثًا وَلَمْ يَجِبْ) الْوُضُوءُ (لَهُ) أَيْ لِلْقِيَامِ (دُونَهُ) أَيْ الْحَدَثِ أَيْ قَالُوا كَوُجُوبِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِالْحَدَثِ وَقَدْ دَارَ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَدَثِ بِلَا قِيَامٍ إلَى الصَّلَاةِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَيْهَا بِلَا حَدَثٍ وَالنَّصُّ مَوْجُودٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْحَدَثِ وَحَالِ عَدَمِهِ وَلَا حُكْمَ لِلنَّصِّ لِأَنَّ
النَّصَّ يُوجِبُ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْقِيَامُ وَجَبَ الْوُضُوءُ وَكُلَّمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَجِبْ أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَدَمُ وَمُوجِبُ النَّصِّ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالَيْنِ أَمَّا حَالُ عَدَمِ الْحَدَثِ فَإِنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْقِيَامُ مَعَ عَدَمِ الْحَدَثِ يَجِبُ الْوُضُوءُ وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَالِ عَدَمِ الْحَدَثِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ إنَّمَا هُوَ مَعَ الْحَدَثِ إذَا قَامَ إلَيْهَا.
وَأَمَّا حَالُ وُجُودِ الْحَدَثِ فَلِأَنَّهُ يَنْبَغِي عَدَمُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ إذَا لَمْ يَقُمْ إلَيْهَا أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ فَلِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَدْلُولُ النَّصِّ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَإِنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَكِنْ جُعِلَ هَذَا الْحُكْمُ حُكْمَ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَجَازًا تَعْبِيرًا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ الْمُسْتَنِدِ إلَى النَّصِّ عَنْ مُطْلَقِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَإِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَمُقْتَضَى النَّصِّ الْوُجُوبُ) أَيْ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ الْحَدَثِ (كَمَا) مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْقَائِمِ إلَيْهَا (مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْحَدَثِ (وَالْقَضَاءُ غَضْبَانَ بِلَا شَغْلِ بَالٍ) بِأَنْ لَا يَكُونَ غَضَبًا شَدِيدًا (جَائِزٌ وَالنَّصُّ) أَيْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» الْمُفِيدُ حُرْمَةُ الْقَضَاءِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ (قَائِمٌ) لِوُجُودِ الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقَضَاؤُهُ غَيْرَ غَضْبَانَ لَكِنْ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِنَحْوِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ مُفْرِطَيْنِ أَوْ وَجَعٍ شَدِيدٍ أَوْ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ حَرَامٌ وَالنَّصُّ قَائِمٌ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ إبَاحَةُ الْقَضَاءِ إمَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَوْ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ النُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْقَضَاءِ وَيُجْعَلُ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَجَازًا وَقَدْ أَجْحَفَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الِاخْتِصَارِ هُنَا لِعَدَمِ إفَادَةِ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ (وَلَا دَلِيلَ لَهُ) أَيْ لِهَذَا الشَّارِطِ هَذَا الشَّرْطَ (غَيْرَ الْوُجُودِ) فِي هَذَيْنِ (وَمَنَعَ) الْوُجُودَ فِيهِمَا (بِأَنَّ مُرَادَهُ) تَعَالَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ (وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ) كَمَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي بَدَلِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَالنَّصُّ فِي الْبَدَلِ نَصٌّ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ بِسَبَبِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَدَلًا عَنْهُ بَلْ كَانَ وَاجِبًا ابْتِدَاءً بِسَبَبٍ آخَرَ فَكَانَ النَّصُّ مُقَيَّدًا بِالْحَدَثِ وَمُفِيدًا وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِشَرْطِ وُجُودِ الْحَدَثِ بَلْ وَدَافِعًا كَوْنَ عِلَّةِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثَ فَلَمْ يُوجَدْ قِيَامُ النَّصِّ بِدُونِ الْحُكْمِ حَالَ عَدَمِ الْوَصْفِ.
(وَ) بِأَنَّ (الشُّغْلَ) لِلْقَلْبِ (لَازِمٌ) لِلْغَضَبِ فَلَا يُوجَدَ الْغَضَبُ بِدُونِهِ وَإِنْ قَلَّ الْغَضَبُ فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ فَرَاغُ الْقَلْبِ مَا دَامَ غَضْبَانَ فَلَمْ يُوجَدْ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي حَالِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَقِيَامِ النَّصِّ (فَالنَّصُّ عَلَى ظَاهِرِهِ) وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ حُكْمِ هَذَا النَّصِّ حِلَّ الْقَضَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَضَبِ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلنَّصِّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ.
وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَثْبُتَ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَحِلُّ عِنْدَ شُغْلِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ الْغَضَبِ أَيْضًا فَثَبَتَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ النَّصُّ حِينَئِذٍ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ أَيْضًا وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ فَذَلِكَ النَّصُّ وَالنُّصُوصُ الْمُطْلَقَةُ لَيْسَتْ النَّصَّ الْمُحَرِّمَ لِلْقَضَاءِ غَضْبَانَ وَلَا مُصَحِّحَ لِجَعْلِ الْإِبَاحَةِ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَجَازًا فَلَيْسَ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ لِلْقَضَاءِ غَضْبَانَ فِي حَالِ عَدَمِ الْغَضَبِ قَائِمًا إذْ لَيْسَ مَعْنَى قِيَامِ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ إلَّا أَنْ يَقْتَضِيَ النَّصُّ الْحُكْمَ مَعَ عَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ لَا قِيَامَهُ فِي الْوَاقِعِ فَبَطَلَ دَعْوَى قِيَامِ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ (النَّافُونَ) لِكَوْنِ الدَّوَرَانِ مَسْلَكًا صَحِيحًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (قَالُوا تَحَقَّقَ انْتِفَاؤُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (مَعَ وُجُودِهِ) أَيْ الدَّوَرَانِ (فِي الْمُتَضَايِفَيْنِ) كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا تَحَقَّقَ أَحَدُهُمَا تَحَقَّقَ الْآخَرُ وَكُلَّمَا انْتَفَى انْتَفَى وَلَا عِلِّيَّةَ وَلَا مُعْلَوْلِيَةَ بَيْنَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ (وَ) فِي (غَيْرِهِمَا) أَيْ الْمُتَضَايِفَيْنِ (كَالْحُرْمَةِ مَعَ رَائِحَةِ الْمُسْكِرِ) الْمَخْصُوصَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ فَإِنَّهَا تُوجَدُ مَعَهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا (وَلَيْسَتْ) الرَّائِحَةُ (الْعِلَّةَ) لِلْحُرْمَةِ (وَلَوْ انْتَفَتْ إلَى نَفْيِ غَيْرِهِ) أَيْ الْمَدَارِ (بِالْأَصْلِ) بِأَنْ قِيلَ الْأَصْلُ عَدَمُ الْغَيْرِ (أَوْ السَّبْرِ خَرَجَ) كَوْنُ الْمَدَارِ عِلَّةً (عَنْهُ) أَيْ عَنْ ثُبُوتِهِ بِالدَّوَرَانِ.
(وَيُدْفَعُ) هَذَا الدَّلِيلُ (بِأَنَّهُ) أَيْ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ (فِيمَا ذُكِرَ) أَيْ فِي
الْمُتَضَايِفَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (لِمَانِعٍ) مِنْ الْعِلِّيَّةِ (كَمَا تَبَيَّنَ) قَرِيبًا وَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ وَالتَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ غَيْرُ قَادِحٍ (فَلَا يَنْفِي) انْتِفَاؤُهَا لِمَانِعٍ (ظَنَّهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (إذَا تَجَرَّدَ) الدَّوَرَانُ (عَنْهُ) أَيْ الْمَانِعِ (وَالْكَلَامُ فِيهِ) أَيْ فِي الدَّوَرَانِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَانِعِ وَقَالَ (الْغَزَالِيُّ) مَنْ نَفَى كَوْنَ الدَّوَرَانِ مَسْلَكًا صَحِيحًا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ الْمُفِيدِ لِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ إذَا فُرِضَتْ إفَادَةُ الدَّوَرَانِ لَهُ إمَّا الِاطِّرَادُ فَقَطْ أَوْ مَعَ الْعَكْسِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ إذْ (الِاطِّرَادُ عَدَمُ النَّقْضِ) إذْ حَاصِلُ الِاطِّرَادِ أَنْ لَا يُوجَدَ الْوَصْفُ فِي صُورَةٍ بِدُونِ الْحُكْمِ وَوُجُودُهُ بِدُونِ الْحُكْمِ هُوَ النَّقْضُ إذْ مَعْنَاهُ إظْهَارُ الْوَصْفِ بِدُونِ الْحُكْمِ وَالنَّقْضُ أَحَدُ مُفْسِدَاتِ الْعِلَّةِ وَالسَّلَامَةُ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ لَا تُوجِبُ انْتِفَاءَ كُلِّ مُفْسِدٍ وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا بِانْتِفَاءِ كُلِّ مُفْسِدٍ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ كُلِّ مُفْسِدٍ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ إذْ عَدَمُ الْمَانِعِ وَحْدَهُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً مُقْتَضِيَةً فَلَا بُدَّ لِصِحَّتِهَا مِنْ مُقْتَضٍ لَهَا (فَأَيْنَ الْمُقْتَضِي لِلْعِلِّيَّةِ أَوَّلًا. وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ فَلَيْسَ شَرْطًا لَهَا)
أَيْ الْعِلَّةِ (وَلَا لَازِمًا) لَهَا (أُجِيبَ الْمُدَّعِي) وَهُوَ الْعِلِّيَّةُ ثَابِتٌ (بِالْمَجْمُوعِ) مِنْ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ (لَا بِبَعْضِهِ) أَيْ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إفَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْعِلِّيَّةَ عَدَمُ إفَادَتِهِمَا إذْ قَدْ يَكُونُ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ الْأَثَرِ مَا لَا يَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ كَمَا فِي أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْعِلَلِ مُطَّرِدَةً مُنْعَكِسَةً اشْتِرَاطُ الِانْعِكَاسِ فِي الْعِلَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَايَتُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي مَسْلَكُهَا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ تَكُونُ مَشْرُوطَةً بِذَلِكَ وَلَا فَسَادَ فِيهِ (الْقَاطِعُونَ) أَيْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الدَّوَرَانَ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ قَطْعًا قَالُوا (إذَا وَقَعَ الدَّوَرَانُ وَعُلِمَ انْتِفَاءُ مَانِعِ الْمَعِيَّةِ فِي التَّضَايُفِ) لِأَنَّ الْمُتَضَايِفَيْنِ يُوجَدَانِ مَعًا (وَ) انْتِفَاءُ مَانِعٍ (عُدِمَ التَّأْثِيرُ) أَيْ الْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ (كَالشَّرْطِ الْمُسَاوِي) أَيْ كَعِلِّيَّةِ الشَّرْطِ الْمُسَاوِي لِمَشْرُوطِهِ وَقُيِّدَ بِهِ لِيَتَحَقَّقَ الطَّرْدُ أَعْنِي الدَّوَرَانَ وُجُودًا وَعَدَمًا إذْ مَعَ الْأَعَمِّ لَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ (وَ) انْتِفَاءُ مَانِعِ (التَّأْخِيرِ فِي الْمَعْلُولِيَّةِ) إذْ شَرْطُ الْمَعْلُولِ التَّأَخُّرُ عَنْ عِلَّتِهِ وَهَذَا مَا وَعَدَ بِبَيَانِهِ (قَطَعَ بِهَا) أَيْ بِالْعِلِّيَّةِ (لِلْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ) أَيْ لِقَطْعِهَا (فِيمَنْ تَكَرَّرَ دَوَرَانُ غَضَبِهِ عَنْ اسْمٍ) إذَا ذُكِرَ لَهُ وَعُدِمَ غَضَبُهُ إذَا لَمْ يُذْكَرْ لَهُ أَنَّ سَبَبَ غَضَبِهِ ذِكْرُ ذَلِكَ الِاسْمِ (حَتَّى عَلِمَهُ مَنْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلنَّظَرِ كَالصِّبْيَانِ) حَتَّى إذَا قَصَدُوا إغْضَابَهُ اتَّبَعُوهُ فِي الطُّرُقِ وَدَعَوْهُ بِهِ.
(أُجِيبَ بِأَنَّ النِّزَاعَ) إنَّمَا هُوَ (فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ) وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمِثَالِ مَمْنُوعٌ بَلْ غَايَتُهُ حُصُولُ الظَّنِّ عِنْدَهُ (وَالظَّنُّ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الدَّوَرَانِ إنَّمَا هُوَ (مَعَ غَيْرِهِ مِنْ التَّكَرُّرِ لَا) أَنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الدَّوَرَانِ مَعَ (عَدَمِهِ) أَيْ الْغَيْرِ (بِعَدَمِ وُجْدَانِهِ) أَيْ الْغَيْرِ (مَعَ الْبَحْثِ عَنْهُ) أَيْ الْغَيْرِ (فَضْلًا عَنْ الْعِلْمِ) فَلَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا وَقَدْ انْدَرَجَ فِي هَذَا دَلِيلُ الظَّنِّ وَجَوَابُهُ (وَدُفِعَ) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَيْ إنْكَارُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ فَضْلًا عَنْ الظَّنِّ (إنْكَارٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ وَقَدْحٌ فِي التَّجْرِيبِيَّاتِ فَإِنَّ الْأَطْفَالَ يَقْطَعُونَ بِهِ) أَيْ بِكَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ (بِلَا أَهْلِيَّةِ اسْتِدْلَالٍ) بِالْبَحْثِ وَالْأَصْلِ وَنَحْوِهِمَا وَلَوْلَا أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَمَا عَلِمُوهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا الضَّرُورِيَّاتِ بَلْ وَأَهْلُ النَّظَرِ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَادَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ أَنَّ دَوَرَانَ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ أَنَّهُ كَوْنُ الْمَدَارِ عِلَّةَ الدَّائِرِ (وَيُجَابُ بِأَنَّ مِثْلَهُ) أَيْ الدَّوَرَانِ (يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ لِغَيْرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمَصَالِحِ) وَهُوَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ (أَمَّا هِيَ) أَيْ الْأَحْكَامُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ الْجَائِزِ اخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ (فَلَا بُدَّ فِي بَيَانِ عِلَلِهَا مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ اعْتِبَارٍ مِنْ الشَّارِعِ إذْ فِي الْقَوْلِ) بِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ (بِالطَّرْدِ فَتْحُ بَابِ الْجَهْلِ) لِأَنَّ نِهَايَةَ الطَّرْدِ الْجَهْلُ بِوُجُودِ الْمُعَارِضِ وَالْمُنَاقِضِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لِهَذَا الْوَصْفِ مُعَارِضٌ وَلَا مُنَاقِضٌ أَصْلًا بَلْ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَقُولَ مَا وَجَدْت لَهُ مُعَارِضًا وَلَا مُنَاقِضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الطَّرْدُ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ.
(وَ) فَتْحُ بَابِ (التَّصَرُّفِ فِي الشَّرْعِ) بِالرَّأْيِ فِي الْقَوَاطِعِ وَإِذَا انْتَهَى التَّصَرُّفُ فِي الشَّرْعِ إلَى هَذَا الْمُنْتَهَى كَانَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَطْرِيقًا لِكُلِّ قَائِلٍ أَنْ يَقُولَ
مَا أَرَادَ وَيَحْكُمُ بِمَا شَاءَ وَلِهَذَا صَرَفَ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ سَعْيَهُمْ إلَى الْبَحْثِ عَنْ الْمَعَانِي الْمُخَيَّلَةِ الْمُؤْثِرَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا مِنْ الْحَنَفِيِّ دَفْعٌ وَقَوْلُهُ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَيْ الْمُنَاسِبُ الْمَقْبُولُ إجْمَاعًا وَهُوَ) الْمُنَاسِبُ (الضَّرُورِيُّ أَوْ الْمَصْلَحِيُّ لَا) مِنْ (الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّافِعِيَّ (لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُثْبِتَ طَرِيقًا لِلْعِلِّيَّةِ لَا يَجِبُ فِيهَا ظُهُورُ الْمُنَاسَبَةِ كَالسَّبْرِ وَالدَّوَرَانِ شَرَطَهَا) أَيْ الشَّافِعِيُّ الْمُنَاسَبَةَ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ) أَيْ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ (يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا) أَيْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِهَا بَيْنَهُمَا (كَمَا فِي الدَّوَرَانِ وَقِيلَ مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِيهِ) أَيْ فِي إفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةَ (عَدَمُ أَخْذِ قَيْدِ صَلَاحِيَّةِ الْوَصْفِ) لِلْعِلِّيَّةِ.
(أَمَّا مَعَهُ) أَيْ صُلُوحِ الْوَصْفِ لِلْعِلِّيَّةِ وَقَدْ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا (وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْقَيْدَ (مُرَادٌ) لِمَنْ قَالَ الدَّوَرَانُ مُفِيدٌ لِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ كَمَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ (فَلَا خَفَاءَ فِي حُصُولِ ظَنِّ عَلِيَّتِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (بِالدَّوَرَانِ بِخِلَافِ مَا) إذَا (لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهِ) أَيْ الْوَصْفِ (مُنَاسَبَةٌ كَالرَّائِحَةِ) أَيْ رَائِحَةِ الْمُسْكِرِ الْمَخْصُوصَةِ (لِلتَّحْرِيمِ) لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ عِلِّيَّتُهَا لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا الشَّبَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَيْسَ مِنْ الْمَسَالِكِ) لِلْعِلَّةِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْمَسَالِكَ هِيَ (الْمُثْبِتَةُ لِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ) لِلْحُكْمِ (وَالشَّبَهُ تَثْبُتُ عِلِّيَّتُهُ بِهَا) أَيْ بِالْمَسَالِكِ ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا يَتَحَرَّرُ فِي الشَّبَهِ عِبَارَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِي صِنَاعَةِ الْحُدُودِ وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَقَدْ تَكَاثَرَ التَّشَاجُرُ فِي تَعْرِيفِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَلَمْ أَجِدْ لِأَحَدٍ تَعْرِيفًا صَحِيحًا فِيهَا ثُمَّ هُوَ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ (وَالْمُرَادُ) بِهِ هُنَا (مَا) أَيْ وَصْفُ (مُنَاسَبَتُهُ) لِلْحُكْمِ (لَيْسَتْ بِذَاتِهِ) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِ الْوَصْفِ (بَلْ) مُنَاسَبَتُهُ لِلْحُكْمِ (يُشْبِهُهُ) الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ لِذَاتِهِ الشَّبَهُ الْخَاصُّ وَإِلَّا فَكَمَا قِيلَ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ إلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ وَجْهٍ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الْمَحْصُولِ الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا يُظَنُّ كَوْنُهُ عِلَّةَ الْحُكْمِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ أَوْ الْمَعْنَى وَذَلِكَ كَالطَّهَارَةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تُنَاسِبُهُ بِوَاسِطَةِ عِبَادَةٍ بِخِلَافِ الْإِسْكَارِ لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهَا بِالذَّاتِ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الْعَقْلُ مُنَاسَبَتَهُ لَهَا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ شَرْعًا (فَيُحْتَاجُ) فِي إثْبَاتِ عِلِّيَّتِهِ (إلَى الْمُثْبِتِ) لَهَا وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ وَصْفٌ لَمْ تَثْبُتْ مُنَاسَبَتُهُ لِلْحُكْمِ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ (فَلَا يَصِحُّ إنْكَارُهُ) أَيْ الشَّبَهِ (بَعْدَ إثْبَاتِهِ) أَيْ كَوْنِهِ عَلِمَهُ (غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْإِخَالَةِ) بَلْ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ السَّبْرِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ (وَإِلَّا) لَوْ ثَبَتَ بِالْإِخَالَةِ أَيْضًا (كَانَ) الشَّبَهَ (الْمُنَاسِبَ الْمَشْهُورَ) وَلَيْسَ إيَّاهُ بَلْ بَيْنَهُمَا تَقَابُلٌ (كَطَهَارَةٍ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ) .
أَيْ مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ فِي إلْحَاقِ إزَالَةِ الْخَبَثِ بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ فِي تَعَيُّنِ الْمَاءِ لَهَا: إزَالَةُ الْخَبَثِ طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ (فَلَا يُجْزِئُ فِيهَا غَيْرُ الْمَاءِ كَالْوُضُوءِ) فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ لِلصَّلَاةِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ غَيْرُ الْمَاءِ فَكَوْنُ كُلٌّ مِنْهُمَا طَهَارَةً تُرَادُ لِلصَّلَاةِ هُوَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا لِتَعَيُّنِ الْمَاءِ لَهُمَا وَهُوَ وَصْفٌ شَبَهِيٌّ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِتَعَيُّنِ الْمَاءِ فِي إزَالَةِ الْخَبَثِ.
(فَإِنْ ثَبَتَ بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ) الْمُعْتَبَرَةِ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ (أَنَّ كَوْنَ الطَّهَارَةِ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ يَصِحُّ عِلَّةَ تَعَيُّنِ الْمَاءِ) فِي إزَالَةِ الْخَبَثِ (لَزِمَ) كَوْنُهُ عِلَّةً لِذَلِكَ (وَإِلَّا) إذَا لَمْ يَثْبُتْ صِحَّةُ كَوْنِهِ عِلَّةَ تَعَيُّنِهِ بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ (لَا يُوجِبُهُ) أَيْ تَعَيُّنُ الْمَاءِ (مُجَرَّدُ اعْتِبَارِهِ) أَيْ تَعَيُّنِ الْمَاءِ (فِي الْحَدَثِ وَعَلَى هَذَا) أَيْ أَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ إنَّمَا يَثْبُتُ عِلَّةً بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ الْمَذْكُورَةِ (فَمَرْجِعُهُ) أَيْ الشَّبَهِ (إلَى إثْبَاتِ عِلِّيَّةِ وَصْفٍ بِأَحَدِ الْمَسَالِكِ وَلَيْسَ شَيْئًا آخَرَ) فَيَنْتَفِي تَصْرِيحُ الْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لَكِنْ قَوْلُ السُّبْكِيّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْقَائِلِينَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ يُفِيدُ أَنَّهُ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْمُثْبِتَ لِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ لِلْحُكْمِ وَهُوَ الدَّلِيلُ الْخَارِجُ عَنْ ذَاتِهِ هُوَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ إيَّاهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وُجُودِهِ فِيهِ فَيُوهِمُ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا لَهُ لَا النَّصُّ وَلَا الْإِجْمَاعُ وَلَا التَّأْثِيرُ الْمَاضِي بَيَانُهُ.
قَالُوا وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ قَبُولُهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ
كَأَصْحَابِنَا رحمهم الله ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُوهُ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي اعْتِبَارِهِ إرْهَاقَ الضَّرُورَةِ إلَى الْحُكْمِ فِي وَاقِعَةٍ لَا يُوجَدُ فِيهَا إلَّا الْوَصْفُ الشَّبَهِيُّ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ قِيَاسُ الْمَعْنَى تَحْقِيقٌ وَالشَّبَهُ تَقْرِيبٌ وَالطَّرْدُ تَحَكُّمٌ ثُمَّ قَالَ قِيَاسُ الْمَعْنَى مَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَسْتَدْعِيهِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ وَالطَّرْدُ عَكْسُهُ وَالشَّبَهُ أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ تَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ فَيُلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِنَوْعِ شَبَهٍ مُقَرِّبٍ أَيْ يُقَرِّبَ الْفَرْعَ مِنْ الْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ الْمَعْنَى وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ (وَيُقَالُ) الشَّبَهُ (أَيْضًا لَا شَبَهِيَّةَ وَصْفَيْنِ فِي فَرْعٍ تَرَدَّدَ) الْفَرْعُ (بِهِمَا) أَيْ الْوَصْفَيْنِ (بَيْنَ أَصْلَيْنِ كَالْآدَمِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ فِي الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ تَرَدُّدُ) الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ (بِهِمَا) أَيْ بِالْآدَمِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) وَلَفْظُ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ كَالنَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِي الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهُ تَرَدَّدَ بِهِمَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْفَرَسِ وَهُوَ بِالْحُرِّ أَشْبَهُ إذْ مُشَارَكَتُهُ لَهُ فِي الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ أَكْثَرُ اهـ.
وَهُوَ أَوْلَى فَقِيَاسُ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ قَاتِلِهِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ نَفْسٌ مَنْ بَنِي آدَمَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دِيَتُهُ قِيمَتُهُ وَلَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى تُؤْخَذَ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مَالٌ كَسَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ إذْ مُشَارَكَةُ الْعَبْدِ لِلْحُرِّ فِي الْأَوْصَافِ كَكَوْنِهِ نَاطِقًا قَابِلًا لِلصِّنَاعَاتِ وَالْأَحْكَامُ كَكَوْنِهِ مُكَلَّفًا أَكْثَرُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ لِلْفَرَسِ قَالُوا وَالشَّافِعِيُّ يُسَمِّي هَذَا قِيَاسَ عِلِّيَّةِ الْأَشْبَاهِ وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ أَعْلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ ثُمَّ الْقِيَاسُ الصُّورِيُّ كَقِيَاسِ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِلشَّبَهِ الصُّورِيِّ بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ (وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَنْسُبُونَ الدَّوَرَانَ لِأَهْلِ الطَّرْدِ وَكَذَا السَّبْرُ) يَنْسُبُونَهُ إلَيْهِمْ (إذْ يُرِيدُونَ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ بِأَهْلِ الطَّرْدِ (مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ظُهُورَ التَّأْثِيرِ) فِي الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلَّةً (وَعَلِمْتَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارَ الشَّارِعِ الْوَصْفَ عِلَّةً فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ (أَنَّهُ) أَيْ التَّأْثِيرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (يُسَاوِي الْمُلَاءَمَةَ عِنْدَهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ.
(وَعَلَى هَذَا) أَيْ تَسَاوِي التَّأْثِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُلَاءَمَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (فَمِنْ الطَّرْدِ الْإِخَالَةُ) أَيْ يَكُونُ شَامِلًا لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ التَّأْثِيرِ (وَيُؤَيِّدُهُ) أَيْ كَوْنَ الْإِخَالَةِ مِنْ الطَّرْدِ عِنْدَهُمْ (تَصْرِيحُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (بِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ النَّظَرِ مَالُوا إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ) أَيْ بِالطَّرْدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ وَغَيْرِهِ (وَمَعْلُومٌ تَصْرِيحُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (بِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فَلَيْسَ أَهْلُهُ) أَيْ الطَّرْدِ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (إلَّا مَنْ ذَكَرْنَا) أَيْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ظُهُورَ التَّأْثِيرِ (فَلَا أَحَدَ يُضِيفُ حُكْمَ الشَّرْعِ إلَى مَا لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ أَصْلًا كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ فَالطَّرْدُ مَا لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ يَثْبُتُ اعْتِبَارُهَا اتِّفَاقًا وَالْخِلَافُ) فِي الْمُنَاسَبَةِ إنَّمَا هُوَ (فِيمَا بِهِ) يَثْبُتُ اعْتِبَارُهَا (فَالْحَنَفِيَّةُ لَيْسَ) شَيْءٌ يُثْبِتُ اعْتِبَارَهَا (إلَّا التَّأْثِيرَ الَّذِي هُوَ الْمُلَاءَمَةُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ) يُثْبِتُ اعْتِبَارَهَا (بِغَيْرِهَا) أَيْ الْمُلَاءَمَةِ (أَيْضًا وَلَا يُخْتَلَفُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ إذَا وَضَعَ أَمْرًا عَلَامَةً عَلَى حُكْمٍ كَالدُّلُوكِ) أَيْ كَوَضْعِهِ زَوَالَ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبَهَا عَلَامَةً (عَلَى الْوُجُوبِ) لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78](أُضِيفَ) ذَلِكَ الْحُكْمُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ عَلَامَةً عَلَيْهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرَ (لَيْسَ عِلَّةً) لِذَلِكَ الْحُكْمِ (إلَّا مَجَازًا) وَالْعِلَّةُ لَهُ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ الْخِطَابُ.
(وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَارَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَتْ بِشُهْرَةِ الْعَلَامَةِ) بَلْ الْعَلَامَةُ عِنْدَهُمْ أَشْهَرُ مِنْ الْأَمَارَةِ (وَتَقْسِيمُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (الْخَارِجَ) عَنْ الْحُكْمِ (الْمُتَعَلِّقَ بِالْحُكْمِ) أَيْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُفِيدِ كَوْنَ الْعَلَامَةِ مِنْ مَاصَدَقَاتِهِ وَإِخْرَاجُ الرُّكْنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقْسَامِهِ أَنَّ مَا يَكُونُ حُكْمًا مُتَعَلِّقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ يَنْقَسِمُ (إلَى مُؤَثَّرٍ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْآخَرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي الْكَلَامِ فِي اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْوَصْفَ عِلَّةً (وَ) إلَى (مُفْضٍ إلَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ الْحُكْمِ (بِلَا تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ) وَهُوَ الْأَوَّلُ (وَالسَّبَبُ) وَهُوَ الثَّانِي (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِيهِ وَلَا مُفْضِيًا إلَيْهِ.
(فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْخَارِجِ (الْوُجُودُ) أَيْ وُجُودُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ
الْآخَرُ (فَالشَّرْطُ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ الْوُجُودُ.
(فَإِنْ دَلَّ) الْحُكْمُ الْخَارِجُ (عَلَيْهِ) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْآخَرُ (فَالْعَلَامَةُ، فَالْعِلَّةُ تَقَدَّمَتْ بِأَقْسَامِهَا وَهَذَا) الَّذِي نَذْكُرُهُ (تَقْسِيمُهُمْ مَا سِوَاهَا) أَيْ الْعِلَّةِ قَالُوا (فَالسَّبَبُ تَجِبُ الْعِلَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ فِيهِ مَوْضُوعَةٍ لَهُ وَالسَّبَبُ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ وَطَرِيقٌ لَهُ لَا مَوْضُوعٌ لَهُ وَلَا مُؤَثِّرٌ فِيهِ وَلَهُ أَقْسَامٌ بِحَسَبِ إضَافَةِ الْعِلَّةِ إلَيْهِ وَعَدَمِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ (فَإِمَّا تُضَافُ) الْعِلَّةُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ (كَالسَّوْقِ) لِلدَّابَّةِ (الْمُضَافِ إلَيْهِ الْعِلَّةُ وَطْؤُهَا) أَيْ الدَّابَّةِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَالسَّوْقُ سَبَبُ التَّلَفِ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ لَهُ لِأَنَّهُ (لَمْ يُوضَعْ لِلتَّلَفِ) بَلْ وُضِعَ لِسَيْرِ الدَّابَّةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ (وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ) أَيْ فِي التَّلَفِ (بَلْ طَرِيقٌ إلَيْهِ) وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ وَالْعِلَّةُ لِلتَّلَفِ إنَّمَا هُوَ وَطْءُ الدَّابَّةِ بِقَوَائِمِهَا ذَلِكَ الْمَالَ أَوْ النَّفْسَ (فَالسَّبَبُ) أَيْ فَهَذَا السَّبَبُ (فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) لِكَوْنِ الْعِلَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَحَادِثَةٌ بِهِ لِأَنَّ السَّوْقَ يَحْمِلُ الدَّابَّةَ عَلَى ذَلِكَ كُرْهًا وَلِهَذَا كَانَ مَشْيُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ طَبْعِ السَّائِقِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ (فَلَهُ) أَيْ هَذَا السَّبَبِ.
(حُكْمُهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْمَحَلِّ) أَيْ مَحَلِّ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الضَّمَانُ (لَا) فِيمَا يَرْجِعُ إلَى (جَزَاءِ الْمُبَاشَرَةِ فَعَلَيْهِ) أَيْ السَّائِقِ (الدِّيَةُ) إذَا وَطِئَتْ آدَمِيًّا فَقَتَلَتْهُ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَحَلِّ وَالسَّوْقُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ شَرْعًا وَعَقْلًا لَكِنْ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لَا مُطْلَقًا وَقَدْ فَاتَتْ بِالتَّلَفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ قَصْدٍ فَيُجْبَرُ بِالْبَدَلِ لِأَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلضَّمَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالْعَجْمَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فِعْلُهَا جُبَارًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقَ ثَمَّ (لَا) يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (حِرْمَانُ الْإِرْثِ وَنَحْوُهُ) مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ.
(وَالشَّهَادَةُ) أَيْ وَكَشَهَادَةِ الشُّهُودِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ سَبَبٌ (لِلْقِصَاصِ) أَيْ لِوُجُوبِهِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ (لَمْ تُوضَعْ لَهُ) أَيْ لِلْقِصَاصِ (وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ بَلْ) هِيَ (طَرِيقُهُ) أَيْ الْقِصَاصِ (وَعِلَّتُهُ) أَيْ الْقِصَاصِ (الْمُتَوَسِّطِ) أَيْ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ (مِنْ فِعْلِ) الْفَاعِلِ (الْمُخْتَارِ الْمُبَاشِرِ لِلْقَتْلِ لَكِنْ فِيهِ) أَيْ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الشَّهَادَةُ (مَعْنَى الْعِلَّةِ لِأَنَّهَا) أَيْ الشَّهَادَةَ (مُؤَدِّيَةٌ إلَى الْقَتْلِ بِوَاسِطَةِ إيجَابِهَا الْقَضَاءَ) عَلَى الْقَاضِي بِهِ حَتَّى حَكَمَ بِوُجُوبِهِ (وَاخْتِيَارُ الْوَلِيِّ إيَّاهُ) أَيْ وَبِوَاسِطَةِ اخْتِيَارِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْقَتْلَ (عَلَى الْعَفْوِ) إذْ لَوْلَاهَا لَمْ يَتَسَلَّطْ الْوَلِيُّ عَلَى قَتْلِهِ (فَعَلَيْهِمْ) أَيْ الشُّهُودِ (بِرُجُوعِهِمْ) عَنْ الشَّهَادَةِ بِذَلِكَ (الدِّيَةُ) لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَحَلِّ (لَا الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ) أَيْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُبَاشَرَةَ مِنْهُمْ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَصُّ) مِنْ الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ (إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ) وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُقْبَلُ بِشَهَادَتِنَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْبَلُ بِهَا (وَعُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ قَبُولُهُمْ) وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ حَلَفُوا عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَعُزِّرُوا وَتَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَتَكُونَ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ يُقْتَصُّ مِنْهُمْ فِي الصُّورَتَيْنِ (جَعْلًا لِلسَّبَبِ) الْقَوِيِّ (الْمُؤَكَّدِ بِالْقَصْدِ الْكَامِلِ كَالْمُبَاشَرَةِ) فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ (دَفَعَ) قَوْلُهُ (بِأَنَّ الْقِصَاصَ بِالْمُمَاثَلَةِ وَلَيْسَتْ) الْمُمَاثَلَةُ ثَابِتَةً (بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ وَإِنْ قَوِيَ) السَّبَبُ وَتَأَكَّدَ وَفِي الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ لِهَذَا السَّبَبِ حُكْمُ الْعِلَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ لَمَّا حَدَثَتْ بِالْأُولَى صَارَتْ الْعِلَّةُ الْأَخِيرَةُ حُكْمًا لِلْأُولَى مَعَ حُكْمِهَا لِأَنَّ حُكْمَ الثَّانِيَةِ مُضَافٌ إلَيْهَا وَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْأُولَى فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ لَهَا حُكْمَانِ اهـ.
قُلْت فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ (وَمِنْهُ) أَيْ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (وَضْعُ الْحَجَرِ) فِي الطَّرِيقِ (وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ) فِيهِ (وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ) أَيْ وَتَرْكُ هَدْمِ الْحَائِطِ إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ أَوْ إلَى دَارِ جَارِهِ بَعْدَ مُطَالَبَةِ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْجَارُ وَلَوْ كَانَ سَاكِنًا فِيهَا عَلَى الثَّانِي صَاحِبُهُ يَنْقُضُهُ إذْ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْوَجْهُ أَنَّهُ) أَيْ كُلًّا مِنْ هَذِهِ (مِثْلُهُ) أَيْ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فِي حُكْمِهِ (لِتَعَدِّيهِ فِي إبْقَاءِ الْفِعْلِ السَّبَبَ) لَا أَنَّهُ مِنْ السَّبَبِ
فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (وَإِمَّا لَا تُضَافُ) الْعِلَّةُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ (لِكَوْنِهَا) أَيْ الْعِلَّةِ (فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا كَدَلَالَةِ السَّارِقِ) أَيْ كَدَلَالَةِ إنْسَانٍ سَارِقًا عَلَى مَالِ آخَرَ لِيَسْرِقَهُ فَفَعَلَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِوَصْفِهِ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ (الْمُتَوَسِّطِ سَرِقَتُهُ) الَّتِي هِيَ فِعْلٌ يُبَاشِرُهُ الْمَدْلُولُ بِاخْتِيَارِهِ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَالِ وَأَخْذِهِ.
(فَالْحَقِيقِيُّ) أَيْ فَدَلَالَتُهُ سَبَبٌ مَحْضٌ لِأَنَّهَا طَرِيقٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِتْلَافُ وَعِلَّتُهُ السَّرِقَةِ مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَهِيَ مُتَخَلِّلَةٌ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى السَّبَبِ (فَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ (فَلَا يَضْمَنُ دَالُّ السَّارِقِ) الْمَسْرُوقَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُضَافٌ إلَى فِعْلِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لَا إلَى الدَّالِّ (وَلَا يُشْرَكُ فِي الْغَنِيمَةِ الدَّالُّ) لِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (عَلَى حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ) بِوَصْفِ طَرِيقِهِ فَأَصَابُوهُ بِدَلَالَتِهِ وَحَصَلُوا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ (لِقَطْعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ) أَيْ لِقَطْعِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ اغْتِنَامُ الْمَدْلُولِينَ نِسْبَةَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحُصُولُ عَلَى الْغَنِيمَةِ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ دَلَالَةُ الدَّالِّ بِوَاسِطَةِ تَخَلُّلِ اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فَدَلَالَتُهُ سَبَبٌ مَحْضٌ نَعَمْ لَوْ ذَهَبَ مَعَهُمْ فَدَلَّهُمْ عَلَى الْحِصْنِ شَرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ الْمُصَابَةِ فِيهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ سَبَبٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ.
(وَلَا) يَضْمَنُ (دَافِعُ السِّكِّينِ لِصَبِيٍّ) لِيُمْسِكَهَا الصَّبِيُّ لِلدَّافِعِ (فَقَتَلَ) الصَّبِيُّ بِهَا (نَفْسَهُ) لِأَنَّ دَفْعَهَا إلَيْهِ سَبَبٌ مَحْضٌ لِلْهَلَاكِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْهَلَاكُ عِلَّتُهُ وَهُوَ قَتْلُ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الدَّافِعِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْإِمْسَاكِ لَا بِالِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ إنَّمَا هَلَكَ بِالِاسْتِعْمَالِ (بِخِلَافِ سُقُوطِهَا) أَيْ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ لِيُمْسِكَهَا فَسَقَطَتْ بِلَا قَصْدٍ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فَإِنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ الصَّبِيَّ لِإِضَافَةِ الْهَلَاكِ حِينَئِذٍ إلَيْهِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَحْصُلْ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلِ الْهَلَاكِ بِاخْتِيَارِ الصَّبِيِّ بَلْ بِإِمْسَاكِهِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ دَفْعِ الدَّافِعِ فَيُضَافُ مَا لَزِمَ مِنْ الْإِمْسَاكِ إلَيْهِ فَكَانَ الدَّفْعُ حِينَئِذٍ سَبَبًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِكَوْنِ عِلَّةِ التَّلَفِ وَهِيَ السُّقُوطَ تُضَافُ إلَيْهِ.
(وَلَا) يَضْمَنُ (الْقَائِلُ) لِغَيْرِهِ (تَزَوَّجْهَا) أَيْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ (فَإِنَّهَا حُرَّةٌ) فَتَزَوَّجَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةُ إنْسَانٍ (لِقِيمَةِ الْوَلَدِ) الَّتِي أَدَّاهَا إلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّهَا حُرَّةٌ سَبَبٌ مَحْضٌ لِلِاسْتِيلَادِ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا عِلَّةٌ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى الْأَخْبَارِ وَهِيَ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ بِاخْتِيَارِهِمَا (بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ أَوْ الْوَكِيلِ) أَيْ وَلِيِّهَا أَوْ وَكِيلِهَا (بِالشَّرْطِ) أَيْ بِشَرْطِ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَإِنَّ الزَّوْجَ الْمُسْتَوْلِدَ يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُزَوِّجِ (لِلْغُرُورِ) مِنْ الْمُزَوِّجِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحُرِّيَّةِ صَارَ وَصْفًا لَازِمًا لِهَذَا التَّزْوِيجِ وَالِاسْتِيلَادُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَصَارَ وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ كَالتَّزْوِيجِ وَشَارِطُهَا صَاحِبُ عِلَّةٍ وَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَا كَفِيلٌ بِمَا يَلْحَقُك بِسَبَبِ هَذَا الْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ حُكْمُ التَّزْوِيجِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ النَّسْلِ فَكَانَ الْمُزَوِّجُ صَاحِبَ عِلَّةٍ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ.
(وَلَا يَلْزَمُ) عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ يُضَفْ فِيهَا الْحُكْمُ إلَى السَّبَبِ الْمَحْضِ (الْمُودِعُ وَالْمُحْرِمُ) إذَا دَلَّ الْمُودِعُ سَارِقًا وَالْمُحْرِمُ صَائِدًا (عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالصَّيْدِ) فَسَرَقَ الْمَدْلُولُ الْوَدِيعَةَ وَقَتَلَ الصَّيْدَ حَيْثُ (يَضْمَنَانِ) أَيْ الْمُودِعُ وَالْمُحْرِمُ الدَّالَّانِ (وَهُمَا مُسَبِّبَانِ) عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَمَا قَامَ بِهِمَا مِنْ الدَّلَالَةِ سَبَبٌ مَحْضٌ وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ لَهُ وَهِيَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَإِنَّمَا لَمْ يُشْكِلْ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ يُضَفْ الْحُكْمُ فِيهَا إلَى السَّبَبِ الْمَحْضِ (لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُودِعِ بِتَرْكِ الْحِفْظِ) الْمُلْتَزَمِ لِلْوَدِيعَةِ بِعَقْدِهَا الْمُبَاشِرِ لَهُ بِدَلَالَةِ السَّارِقِ عَلَيْهَا.
(وَ) ضَمَانُ (الْمُحْرِمِ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ) لِلصَّيْدِ الْمُلْتَزِمِ لَهُ بِالْإِحْرَامِ (الْمُتَقَرِّرِ بِالْقَتْلِ) لَهُ الْمُبَاشِرُ لَهَا بِدَلَالَةِ الْقَاتِلِ عَلَيْهِ (فَهُوَ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْمُودِعِ وَالْمُحْرِمِ الدَّالَّيْنِ (مُبَاشِرٌ) لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالصَّيْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالْمُبَاشَرَةِ لَا بِالتَّسَبُّبِ (بِخِلَافِهَا) أَيْ دَلَالَةِ الْحَلَالِ غَيْرَهُ (عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ) حَتَّى قَتَلَهُ الْمَدْلُولُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الدَّالِّ (لِأَنَّ أَمْنَهُ) أَيْ صَيْدِ الْحَرَمِ (بِالْمَكَانِ) الْخَاصِّ وَهُوَ الْحَرَمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أَمْنًا لِيَبْقَى مُدَّةَ بَقَاءِ الدُّنْيَا (وَلَمْ يَزُلْ) أَمْنُهُ (بِالدَّلَالَةِ) فَكَانَتْ سَبَبًا مَحْضًا (بِخِلَافِ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ صَيْدِ الْحَرَمِ مِنْ الصَّيُودِ (فَإِنَّهُ) أَيْ أَمْنَهُ (بِتَوَارِيهِ) وَبُعْدِهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ (فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إزَالَةُ أَمْنِهِ وَهُوَ) أَيْ إذْهَابُ
أَمْنِهِ (الْجِنَايَةُ عَلَى إحْرَامِهِ) وَأَوْرَدَ الْأَجْنَبِيَّ الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَدُلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ غَيْرِهِ وَقَدْ تَرَكَ مَا الْتَزَمَ بِالدَّلَالَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِعَقْدِ الْتِزَامِ الْأَمْنِ بَلْ هُوَ الْتِزَامُ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَتْبَعُهُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا وَالْتِزَامُهُ الْأَمْنَ وَالْحِفْظَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا لَهُمَا قَصْدًا وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَهَذَا الِالْتِزَامُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقَعُ فِعْلُهُ مُوجِبًا يُوجِبُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ الْإِثْمُ وَهُنَا الْعَقْدُ وَاقِعٌ مَعَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقَعُ فِعْلُهُ مُوجِبًا يُوجِبُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ الضَّمَانُ وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ الْأَمْنَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَلَالَةَ الْأَجْنَبِيِّ إزَالَةُ الْأَمْنِ لِأَنَّ أَمْنَ الْأَمْوَالِ لَا يَثْبُتُ بِالْبُعْدِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَأَيْدِيهِمْ وَالْجَهْلِ بِمَحِلِّهَا بَلْ أَمْنُهَا بِالْأَيْدِي وَالْحِرْزِ وَبِالدَّلَالَةِ لَا يَزُولُ هَذَا الْأَمْنُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
(تَنْبِيهٌ) ثُمَّ حَقِيقَةُ الدَّلَالَةِ الْإِعْلَامُ أَيْ إحْدَاثُ الْعِلْمِ فِي الْغَيْرِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ لَا يَكْذِبَ الدَّالُّ فِي ذَلِكَ فَمِنْ ثَمَّةَ قَالُوا لَوْ كَانَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ أَوْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِّ لِعَدَمِ زَوَالِ أَمْنِهِ بِهَا وَشُرُوطُ تَحَقُّقِهَا جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ مَعَ تَحَقُّقِهَا فِي نَفْسِهَا أَنْ يَتَّصِلَ بِهَا الْقَتْلُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ آنِفًا بِقَوْلِهِ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ الْمُتَقَرِّرَةِ بِالْقَتْلِ حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ بِدَلَالَتِهِ ثُمَّ انْفَلَتَ ثُمَّ أَخَذَهُ لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ لِانْتِهَاءِ دَلَالَتِهِ بِالِانْفِلَاتِ وَالْأَخْذُ ثَانِيًا إنْشَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَيْنِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَأَنْ يَبْقَى الدَّالُّ مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَقْتُلَهُ الْآخِذُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ آنِفًا قَوْلُنَا وَالدَّالُّ مُحْرِمٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْقَتْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَوْجُودًا عِنْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ يُشْكِلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ الْمَحْضِ فَتْوَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سَاعٍ بِغَيْرِهِ لَا بِحَقٍّ إلَى حَاكِمٍ ظَالِمٍ سِعَايَةً غَرَّمَتْهُ الْمَالَ ظُلْمًا بِضَمَانِهِ مَعَ أَنَّهَا سَبَبٌ مَحْضٌ تَخَلَّلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَالْجَوَابُ لَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَشَى عَلَيْهِ صَدْرُ الْإِسْلَامِ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةٍ وَلَكِنْ لَوْ رَأَى الْقَاضِي تَضْمِينَ السَّاعِي لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ فَنَحْنُ نَكِلُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى تَنْزَجِرَ السُّعَاةُ عَنْ السَّعْيِ (وَفَتْوَى الْمُتَأَخِّرِينَ بِالضَّمَانِ بِالسِّعَايَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ اسْتِحْسَانٌ لِغَلَبَةِ السُّعَاةِ) بِغَيْرِ الْحَقِّ إلَى الظُّلْمَةِ فِي زَمَانِنَا وَبِهِ يُفْتَى لِأَنَّ مُجَرَّدَ وُكُولِ الْأَمْرِ إلَى الْقَاضِي لَا يُجْدِي فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ فِي زَمَانِنَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَنْبَغِي مِثْلُهُ) أَيْ الْإِفْتَاءُ بِضَمَانِ إتْلَافِ الْمَنَافِعِ مُطْلَقًا زَمَانًا وَمَكَانًا (وَلَوْ غَلَبَ غَصْبُ الْمَنَافِعِ) مُطْلَقًا فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي بَابِ الضَّمَانِ زَجْرًا لِلْغَصَبَةِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي أَوَاخِرِ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَقْتِ الْمُقَيَّدِ بِهِ الْوَاجِبُ تَقْيِيدَ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ بِالْأَوْقَافِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَحِكَايَةِ بَعْضِهِمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى ضَمَانِ الْمَنَافِعِ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ إذَا كَانَ الْعَيْنُ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ وَإِذَا كَانَ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ الزَّجْرَ لِلْغَصَبَةِ وَالْحِفْظَ لِأَمْوَالِ الضَّعَفَةِ فَلَا بَأْسَ بِالْفَتْوَى بِضَمَانِهَا حِينَئِذٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِاحْتِيَاجِ مَا سِوَى هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا الِارْتِفَاقِ وَحَسْمًا لِمَادَّةِ هَذَا الْفَسَادِ بَيْنَ الْعِبَادِ (وَيُقَالُ لَفْظُ السَّبَبِ مَجَازًا عَلَى الْمُعَلَّقِ) بِشَرْطٍ (مِنْ تَطْلِيقٍ وَإِعْتَاقٍ وَنَذْرٍ) وَهَذَا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُعَلَّقًا (بِمَا) أَيْ بِشَرْطٍ (لَا يُرِيدُ) الْمُعَلِّقُ (كَوْنَهُ) أَيْ وُجُودِهِ كَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ حُرَّةٌ وَإِنْ خَرَجْت بِغَيْرِ إذْنِي فَعَلَيَّ لِلَّهِ صِيَامُ سَنَةٍ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ (وَعَلَى الْيَمِينِ) بِاَللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ (إذْ لَيْسَتْ) هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتُ وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ (مُفْضِيَةً إلَى الْوُقُوعِ) أَيْ وُقُوعِ مَعْنَاهَا مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَوُجُوبِ الْمَنْذُورِ فِي الذِّمَّةِ (وَ) إلَى (الْحِنْثِ) أَمَّا الْمُعَلَّقَاتُ فَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَانِعِ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْنَاهَا وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَعْلِيقِهَا عَلَيْهِ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْبِرِّ وَالْبِرُّ لَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحِنْثِ وَبِدُونِ الْحِنْثِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَالْمَانِعُ مِنْ وُجُودِ شَيْءٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ (بَلْ) هِيَ (مَانِعَةٌ) مِنْ الْوُقُوعِ وَالْحِنْثِ.
(وَإِنَّمَا لَهَا) أَيْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ (نَوْعُ إفْضَاءٍ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ وَقْتُ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَالْحِنْثِ (فَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتُ وَالْيَمِينُ سَبَبٌ (مَجَازٌ) لِلْوُقُوعِ
وَالْكَفَّارَةِ (وَإِذَا صَدَرَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ صَارَ) الْمُعَلَّقُ نَفْسُهُ (عِلَّةً حَقِيقِيَّةً) لِلْوُقُوعِ لِتَأْثِيرِهِ فِيهِ مَعَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَإِيصَالِهِ بِهِ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ (بِخِلَافِ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَإِنْ وُجِدَ الْحُكْمُ (لِأَنَّهُ) أَيْ السَّبَبَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمُسَبَّبِ) الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ (وَإِنْ أَثَّرَ فِي عِلَّتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ كَمَا عَلِمْت فِي سَوْقِ الدَّابَّةِ إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ (فَلَمْ تَنْتَفِ حَقِيقَةُ السَّبَبِيَّةِ) فِي السَّبَبِ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ (بِوُجُودِ التَّأْثِيرِ) أَيْ تَأْثِيرِهِ فِي الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْمُعَلَّقِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ مَجَازِيٌّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ السَّبَبِيَّةِ انْتَفَتْ فِيهِ بِتَأْثِيرِهِ فِي الْحُكْمِ فَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُجْعَلْ مِنْ السَّبَبِ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَلَا السَّبَبُ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ سَبَبًا مَجَازًا وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُصَنِّفُ الْمُعَلَّقَ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَصِيرُ عِلَّةَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَإِنَّمَا عِلَّتُهَا الْحِنْثُ لِأَنَّهُ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا.
هَذَا وَتَقْيِيدُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ بِكَوْنِهِ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَقَعَ فِي الْمَنَارِ وَغَيْرِهِ وَلَفْظُ الْبَزْدَوِيِّ وَمِثْلُ الْمُنْذَرِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ انْتَهَى فَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا إذْ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ سَبَبًا لِلْحَالِ إذْ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيقِ حُصُولُ الشَّرْطِ فَكَانَ مُفْضِيًا إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ سَبَبًا فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ " الْمُعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ " إلَى أَنَّ الْوَجْهَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ لِلْحَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ عَلَيَّ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ فِي الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَصِلْ إلَى ذِمَّتِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ سَبَبًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الصَّيْرُورَةِ لَا الْمَعْنَى كَبَيْعِ الْحُرِّ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(ثُمَّ لِلْمُعَلَّقِ) الَّذِي هُوَ السَّبَبُ (الْمَجَازِ شَبَهُ الْعِلَّةِ الْحَقِيقَةِ) مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ (عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (خِلَافًا لِزُفَرَ) فَإِنَّهُ عِنْدَهُ مَجَازٌ مَحْضٌ خَالٍ مِنْ هَذَا الشَّبَهِ (وَثَمَرَتُهُ) أَيْ الْخِلَافِ تَظْهَرُ (فِي تَنْجِيزِ الثَّلَاثِ) بَعْدَ تَعْلِيقِ بَعْضِهَا أَوْ جَمِيعِهَا عَلَى شَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ (يُبْطِلُ) تَنْجِيزُهَا (التَّعْلِيقَ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لَهُ) حَتَّى لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَوُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ لَا يَقَعُ الْمُعَلَّقُ عِنْدَهُمْ وَيَقَعُ عِنْدَهُ.
(وَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةٌ (طَوِيلَةٌ فِي فِقْهِهِمْ وَالْمَبْنَى) فِي إبْطَالِهِ التَّعْلِيقَ وَعَدَمِ إبْطَالِهِ (الِاحْتِيَاجُ) أَيْ احْتِيَاجُ الْمُعَلَّقِ فِي الْبَقَاءِ (إلَى بَقَاءِ الْمَحَلِّ) لِتَنْجِيزِهِ عِنْدَهُمْ (لِلشُّبْهَةِ) أَيْ لِكَوْنِ الْمُعَلَّقِ لَهُ شَبَهُ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ الْيَمِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاَللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلْبِرِّ وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُهُ وَهُوَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ عَلَى مَعْنَى لَوْ فَاتَ الْبِرُّ لَزِمَ الْجَزَاءُ كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ مَضْمُونَةٌ بِالْكَفَّارَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا فَاتَ الْبِرُّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ مِنْ الْحَمْلِ أَوْ الْمَنْعِ وَإِذَا كَانَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَانَ لِلْجَزَاءِ شَبَهُ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ أَيْ قَبْلَ فَوَاتِ الْبِرِّ إذْ لِلضَّمَانِ شَبَهُ الثُّبُوتِ قَبْلَ فَوَاتِ الْمَضْمُونِ كَمَا فِي الْغَصْبِ فَإِنَّ مُوجَبَهُ رَدُّ الْعَيْنِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَ رَدُّهَا لَزِمَهُ رَدُّ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً وَإِلَّا فَرَدُّ الْقِيمَةِ ثُمَّ لِلْقِيمَةِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ شَبَهُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَغْصُوبِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ إيَّاهُ قَبْلَ ضَمَانِهِ إذَا ضَمِنَهُ الْمَالِكُ إيَّاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ وَإِذَا كَانَ لِلْجَزَاءِ فِي الْحَالِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ وَثُبُوتُ الْجَزَاءِ حَقِيقَةً لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْمَحَلِّ حَتَّى يَبْطُلُ بِفَوَاتِهِ فَكَذَا شُبْهَتُهُ لَا تُسْتَغْنَى عَنْ الْمَحَلِّ لِأَنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ لَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إذْ الشُّبْهَةُ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ مَعَ تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ وَقَطُّ لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ أَلَا تَرَى أَنَّ شُبْهَةَ النِّكَاحِ لَا تَثْبُتُ فِي الرِّجَالِ اتِّفَاقًا وَشُبْهَةَ الْبَيْعِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحُرِّ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَا تَثْبُتُ فِيهِمَا وَقَدْ فَاتَ الْمَحَلُّ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ فَبَطَلَ التَّعْلِيقُ ضَرُورَةً (وَعَدَمُهُ) أَيْ احْتِيَاجِ الْمُعَلَّقِ فِي الْبَقَاءِ إلَى بَقَاءِ الْمَحَلِّ لِتَنْجِيزِهِ عِنْدَ زُفَرَ (لِعَدَمِهَا) أَيْ شُبْهَةِ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْمُعَلَّقِ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ قَدْ حَالَ التَّعْلِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّهِ فَأَوْجَبَ قَطْعَ السَّبَبِ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَالتُّرْسِ إذَا حَالَ بَيْنَ الرَّامِي وَالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ.
وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ جِهَةُ السَّبَبِيَّةِ بِوَجْهٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَحَلِّ وَاحْتِمَالُ صَيْرُورَتِهِ سَبَبًا فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يُوجِبُ اشْتِرَاطَ الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ بَلْ يَكْفِيهِ احْتِمَالُ حُدُوثِ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ قَائِمٌ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهَا إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَهُوَ فِي الْحَالِ يَمِينٌ وَمَحِلُّهَا
ذِمَّةُ الْحَالِفِ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا فَلَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ وَاشْتِرَاطُ الْمِلْكِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ إنَّمَا كَانَ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ حَتَّى يَصِحَّ إيجَابُ الْيَمِينِ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَحَّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَإِنْ عُدِمَ الْمَحِلُّ فَلَأَنْ يَبْقَى هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مُوجَبَ الْيَمِينِ شَرْعًا الْبِرُّ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ فَصَارَتْ طَلْقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ الَّتِي هِيَ الْجَزَاءُ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ الْحِنْثِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا عِنْدَ الشَّرْطِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى التَّخْوِيفِ.
وَأَمَّا طَلْقَاتُ مِلْكٍ سَيُوجَدُ فَغَيْرُ مُتَيَقَّنَةِ الْوُجُودِ عِنْدَ الشَّرْطِ إذَا الظَّاهِرُ عَدَمُ مَا سَيَحْدُثُ وَقَدْ فَاتَ مِلْكُ الثَّلَاثِ بِتَنْجِيزِهَا لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ زَوَالُ صِفَةِ الْحِلِّ بِهِ عَنْ الْمَحِلِّ فَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ بَعْدَ حُرْمَةِ الْمَحِلِّ بِهَا فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ لِأَنَّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَقَاءُ وَالِابْتِدَاءُ ثُمَّ انْعِقَادُ التَّعْلِيقِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِي الْحَالِ بَلْ يَنْتَفِي الْمِلْكُ وَالْمَحَلِّيَّةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ بِدُونِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْجَزَاءِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِثْلَ التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ حَالَ حِلِّ الْمَحَلِّ بَلْ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ لِأَنَّ نُزُولَ الْجَزَاءِ قَطْعِيٌّ هُنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ نُزُولِهِ عِنْدَ سَائِرِ الشُّرُوطِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (أَنْ يُعَيِّنُوا أَسْبَابَ الْمَشْرُوعَاتِ) وَإِنْ كَانَ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ شَارِعَ الشَّرَائِعِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا تُضَافُ إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ فِي الظَّاهِرِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِجَعْلِ الْأَحْكَامِ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَقَطْعًا لِشُبْهَةِ الْمُعَانِدِينَ إذْ لَوْ لَمْ يُوضَعْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ لَهَا رُبَّمَا أَنْكَرَ الْمُعَانِدُ وُجُوبَهَا وَلَمْ يُمْكِنْ إلْزَامُهُ لِأَنَّ إيجَابَهُ غَيْبٌ عَنَّا فَهِيَ عِلَلٌ جَعْلِيَّةٌ وَضَعَهَا الشَّارِعُ عَلَامَاتٍ عَلَى الْإِيجَابِ لَا مُؤَثِّرَاتٍ بِذَوَاتِهَا فَانْتَفَى نَفْيُ مَنْ نَفَاهَا أَصْلًا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِهَا تَوَارُدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُضَافَةٌ إلَى إيجَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُ شَارِعُ الشَّرَائِعِ إجْمَاعًا وَنَفْيُ بَعْضِهِمْ إيَّاهَا فِي الْعِبَادَاتِ خَاصَّةً إذْ الْمَقْصُودُ فِيهَا الْفِعْلُ فَقَطْ وَوُجُوبُهُ بِالْخِطَابِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ أَنْ تُضَافَ الْأَمْوَالُ وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ لِلْعُقُوبَةِ إلَى الْأَسْبَابِ وَنَفْسُ الْوُجُوبِ إلَى الْخِطَابِ.
(قَالُوا السَّبَبُ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ) بِوُجُودِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ وَشَهِدَ بِهِ الْعَقْلُ (حُدُوثُ الْعَالَمِ) أَيْ كَوْنُ (كُلِّ مَا سِوَاهُ تَعَالَى مِمَّا فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ) مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَمَعْنَى سَبَبِيَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ لَا لِوُجُودِ الْبَارِئِ تَعَالَى أَوْ وَحْدَانِيِّتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَزَلِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَادِثَ لِإِمْكَانِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى مُؤَثِّرٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مُحْدِثًا قَدِيمًا غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ وَاجِبًا لِذَاتِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْعَالَمُ عَالَمًا فَإِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى وُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهِ بِهِ ثُمَّ وُجُوبُ الْوُجُودِ يُنْبِئُ عَنْ جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ وَيَنْفِي جَمِيعَ النَّقَائِصِ ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ السَّبَبَ بِالنَّظَرِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ هُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ فَقَطْ بَلْ مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] الْآيَةَ إلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ هُوَ أَشَدُّ الْمَرَاتِبِ وُضُوحًا وَأَكْثَرُهَا وُقُوعًا وَأَبْيَنُهَا دَوَامًا إذْ كُلٌّ يُشَاهِدُ نَفْسَهُ وَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَكَانَ مُلَازِمًا لِكُلِّ مَنْ هُوَ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ حُدُوثُ الْعَالَمِ قَدْ يُوهِمُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِهِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ عَلَى الْمُخْتَارِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (أَيْ أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِذَا) أَيْ كَوْنِ سَبَبِ أَصْلِ الْوُجُوبِ حُدُوثَ الْعَالَمِ (صَحَّ إيمَانُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ) لِتَحَقُّقِ سَبَبِ أَصْلِ وُجُوبِهِ فِي حَقِّهِ ثُمَّ وُجُودِ رُكْنِهِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ الصَّادِرَانِ عَنْ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ.
(وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ) أَيْ الْإِيمَانِ (عَلَيْهِ شَرْعًا اتِّفَاقًا تَبَعًا) لِأَبَوَيْهِ
الْمُسْلِمَيْنِ (فَيَصِحُّ) إيمَانُهُ (مَعَ إقْرَارِهِ اخْتِيَارًا عَنْ اعْتِقَادٍ صَحِيحٍ) بِطَرِيقٍ (أَوْلَى وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ) أَيْ فِي تَحَقُّقِ أَصْلِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ مِنْ خِلَافِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ (فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ) لِلْإِيمَانِ (فَأَبُو الْيُسْرِ) هُوَ (بِالْخِطَابِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَعُذِرَ مَنْ بَلَغَ بِشَاهِقٍ وَلَمْ تَبْلُغْهُ) الدَّعْوَةُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُسْلِمْ وَإِنْ أَدْرَكَ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّجَارِبُ وَالنَّظَرُ فِي الْآيَاتِ.
(وَ) عِنْدَ (الْآخَرِينَ) مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ هُوَ (بِالْأَوَّلِ) أَيْ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ فَلَا يُعْذَرُ بَعْدَ إمْهَالِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ (وَشَرْطُ الْخِطَابِ) إنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ (فِيمَا) أَيْ حُكْمٍ (يَحْتَمِلُ النَّسْخَ) وَالْإِيمَانُ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافُ (بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ يُدْرِكُ إيجَابَهُ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِيمَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْآخَرِينَ (و) عَلَى (عَدَمِهِ) أَيْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ (وَتَقَدَّمَ) الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْحَاكِمِ.
(وَ) السَّبَبُ (لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ) الْمَكْتُوبَةِ (الْوَقْتُ) أَيْ وَقْتُهَا الْمَشْرُوعَةُ هِيَ فِيهِ لِإِضَافَتِهَا إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] إذْ الْإِضَافَةُ مِنْ دَلَائِلِ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَكَمَالُهُ فِي اخْتِصَاصِ الْمُسَبَّبِ فِي سَبَبِهِ وَلِتَكَرُّرِ وُجُوبِهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ وَلِصِحَّتِهَا فِيهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهَا قَبْلَهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ ثُمَّ هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَعَامَّةِ مُتَأَخِّرِي مَشَايِخِنَا (وَالْوَجْهُ قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ) مِنْهُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَصَدْرِ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبِ الْمِيزَانِ (أَنَّهُ) أَيْ سَبَبَ الْوُجُوبِ (لِكُلٍّ) مِنْ (الْعِبَادَاتِ تَوَالِي النِّعَمِ الْمُفْضِيَةِ فِي الْعَقْلِ إلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْدَى إلَى كُلٍّ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ مَا تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِهَا فَضْلًا عَنْ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَأَوْجَبَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِمْ بِإِزَائِهَا وَرَضِيَ بِهَا شُكْرًا لِسَوَابِغِ نِعَمِهِ بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ اسْتِيفَاءَ شُكْرِ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ
إذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةٌ
…
عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إلَّا بِفَضْلِهِ
…
وَإِنْ طَالَتْ الْأَيَّامُ وَاتَّسَعَ الْعُمُرُ
فَإِنْ مَنَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورُهَا
…
وَإِنْ مَنَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهُ الْأَجْرُ
(فَلِلْإِيمَانِ) أَيْ وَلِسَبَبٍ وُجُوبِهِ (شُكْرُ نِعْمَةِ الْوُجُودِ) وَقُوَّةِ النُّطْقِ (وَكَمَالِ الْعَقْلِ) الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْمَوَاهِبِ (وَإِلَّا فَالْعَالَمُ دَلِيلُ وُجُودِهِ تَعَالَى دُونَ إيجَابِهِ) عَلَى الْعُقَلَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلصَّلَاةِ شُكْرُ نِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ) فَيُعْرَفَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ قَدْرَ الرَّاحَةِ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلصَّوْمِ شُكْرُ نِعْمَةِ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ) أَكْثَرَ السَّنَةِ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلزَّكَاةِ شُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ) الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ اللَّازِمَةِ وَيَقَعُ بِهِ التَّنَعُّمُ بِالْجَاهِ وَغَيْرِهِ فِي السَّنَةِ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلْحَجِّ شُكْرُ نِعْمَةِ الْبَيْتِ الْمَجْعُولِ هُدًى لِلْعَالَمِينَ وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ قِبْلَتُهُمْ وَمُتَعَبَّدُهُمْ وَفِيهِ آيَاتٌ عَجِيبَةٌ وَمَآثِرُ غَرِيبَةٌ وَهُوَ مَوْضِعُ ثَوَابِهِمْ بِحَجِّهِ وَاعْتِمَارِهِ وَأَمْنِهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ الْجَانِيَ الْمُلْتَجِئَ إلَيْهِ لَا يُؤَاخَذُ حَتَّى يَخْرُجَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» «وَالْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا وَالْوَجْهُ إمَّا حَذْفُ الْجَارِّ مِنْ كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ فَلِلْإِيمَانِ وَلِلصَّلَاةِ وَلِلزَّكَاةِ وَلِلصَّوْمِ وَلِلْحَجِّ أَوْ حَذْفُ شُكْرٍ فَإِنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِهِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ وَالنِّعَمُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ السَّبَبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَوَّلًا وَأَشَارَ إلَيْهِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ (غَيْرَ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا اُعْتُبِرَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ النِّعَمِ (سَبَبًا بِوَقْتِهِ) أَيْ الْقَدْرِ الْمُعْتَبَرِ مِنْهَا لِلسَّبَبِيَّةِ (كَالصَّلَاةِ) فَإِنَّهُ ضَبَطَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرِ مِنْ نِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ أَوْ مُطْلَقِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ بِوَقْتِهَا (أَوْ قَدْرِهِ) أَيْ أَوْ قَدَّرَ مَا اُعْتُبِرَ مِنْهَا سَبَبًا بِقَدْرِ الْمِقْدَارِ الْمُعْتَبَرِ مِنْهَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ ضَبَطَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنْ نِعْمَةِ الْمَالِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ النِّعْمَةِ
الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ النِّصَابُ النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا نَذْكُرُ قَرِيبًا (أَمَّا الْوَقْتُ) نَفْسُهُ لِلصَّلَاةِ (فَجَدِيرٌ بِهِ الْعَلَامَةُ) كَمَا سَيَأْتِي (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلزَّكَاةِ النِّصَابُ) النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا (لِعَقْلِيَّةِ الْغَنِيِّ سَبَبًا) لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ بِقَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ (وَشُرِطَ النَّمَاءُ) فِي النِّصَابِ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ (تَيْسِيرًا) لِلْأَدَاءِ وَتَحْقِيقًا لِلْغِنَى لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَالِ تَتَجَدَّدُ زَمَانًا فَزَمَانًا وَهُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ نَامِيًا تُغْنِيهِ الْحَوَائِجُ قَرِيبًا فَيَكُونُ الْغِنَى بِدُونِ الِاسْتِنْمَاءِ نَاقِصًا فِي مَعْرِضِ الزَّوَالِ وَإِذَا كَانَ نَامِيًا تَعَيَّنَ صَرْفُ النَّمَاءِ إلَى الْحَاجَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَوَائِجِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ مِنْهُ الْأَدَاءُ (وَأُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَهُ) أَيْ مَقَامَ النَّمَاءِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحَوْلَ.
(طَرِيقُهُ) أَيْ النَّمَاءِ إقَامَةً لِلسَّبَبِ الْمُؤَدِّي إلَى الشَّيْءِ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْحَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النَّمَاءِ بِالدَّوْرِ وَالنَّسْلِ وَزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِتَفَاوُتِ الرَّغَبَاتِ فِي شِرَاءِ مَا يُنَاسِبُ كُلَّ فَصْلٍ فَصَارَ الْحَوْلُ شَرْطًا وَتَجَدُّدُهُ تَجَدُّدٌ لِلنَّمَاءِ وَتَجَدُّدُ النَّمَاءِ تَجَدُّدٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ بِوَصْفِ النَّمَاءِ وَالْمَالُ بِهَذَا النَّمَاءِ غَيْرُهُ بِذَلِكَ النَّمَاءِ ثُمَّ حَيْثُ أُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَ النَّمَاءِ كَانَ تَكَرُّرُ الْوُجُوبِ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ تَكَرُّرَ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ لَا بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ هَذَا وَاتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ هُوَ الشَّهْرُ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ ثُمَّ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُمْ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلصَّوْمِ) أَيْ لِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ (الْجُزْءُ الْأَوَّلُ) الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ (مِنْ الْيَوْمِ لِأَنَّ إيجَابَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ شَرِيفٍ لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الْوَقْتِ لِحَقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْإِيجَابِ فَإِنَّهُ صُنْعُ اللَّهِ وَالصَّوْمُ وَجَبَ فِي الْيَوْمِ.
(وَلَا دَخْلَ لِلَّيْلِ فِيهِ) أَيْ فِي الصَّوْمِ فَكَانَ السَّبَبُ الْيَوْمَ؛ ثُمَّ صَوْمُ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ مُخْتَصٌّ بِشَرَائِطِ وُجُودِهِ مُنْفَرِدٌ بِالِانْتِقَاضِ بِطُرُوءِ نَوَاقِضِهِ مُتَعَلِّقٌ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ وَذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى اسْتِوَاءِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فِي سَبَبِيَّتِهِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ ثَابِتَةٌ لِمُطْلَقِ شُهُودِ الشَّهْرِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ لِإِظْهَارِ شَرَفِهِ وَشَرَفُهُ فِيهَا جَمِيعًا وَمِنْ ثَمَّةَ تَصِحُّ نِيَّةُ صَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَتِهِ وَلَا تَصِحُّ قَبْلَ دُخُولِ جُزْءٍ مِنْهَا لِأَنَّ نِيَّةَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ تَجُوزُ بَعْدَ تَصَوُّرِ سَبَبِهِ لَا قَبْلَهُ وَلَزِمَ قَضَاءُ الشَّهْرِ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ وَاسْتَمَرَّ مَجْنُونًا حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ فَأَفَاقَ وَلِلْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ مِنْهُ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَلَوْ لَمْ يَتَقَرَّرْ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ مِمَّا شَهِدَ مِنْ الشَّهْرِ حَالَةَ الْأَهْلِيَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ وَأُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِ اللَّيَالِي لَهَا دَخْلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ (وَأَمَّا جَوَازُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلِأَنَّ اللَّيْلَ تَابِعٌ) لِلنَّهَارِ (فِي الشَّرَفِ) الَّذِي لِلنَّهَارِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَقْتًا لِلصَّوْمِ.
فَإِنْ قِيلَ لِلَّيْلِ شَرَفٌ مُسْتَقِلٌّ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتٌ لِقِيَامِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي شَرَفٍ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِيَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِأَدَاءِ مُسَبَّبِهِ (وَتَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي جَعْلِ اللَّيْلِ تَابِعًا لِلنَّهَارِ فِي جَوَازِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ شَرَفِهِ لِأَنَّ فِي اقْتِرَانِهَا بِأَوَّلِ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ عُسْرًا وَحَرَجًا فَأُقِيمَتْ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ مَقَامَ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَوَّلِ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
(وَالْجُنُونُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ) لِأَنَّهُ بِجُمْلَتِهِ يَثْبُتُ بِهِ جَبْرًا (بَلْ) لَا يُنَافِيهَا (بِالْخِطَابِ) إذْ كَانَ وُجُوبُهُ (لِيَظْهَرَ) أَثَرُهُ (فِي الْحَالِ فِي) الْوَاجِبِ (الْمَالِيِّ غَيْرِ الزَّكَاةِ) مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَالُ وَوُصُولُهُ إلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَ الْجُنُونِ فَإِنَّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ كَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيجَابِهَا إيجَادُ نَفْسِ الْفِعْلِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ الطَّائِعُ مِنْ الْعَاصِي وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عَنْ اخْتِيَارِ صَحِيحٍ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ الْعَقْلِ فَانْتَفَى الْوُجُوبُ لِانْتِفَاءِ حُكْمِهِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ (وَ) لِيَظْهَرَ (فِي الْمَالِ) أَيْ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ (فَائِدَةُ الْقَضَاءِ بِلَا حَرَجٍ وَهُوَ فِيهِ) أَيْ الْحَرَجِ فِي الْقَضَاءِ (بِالْكَثْرَةِ) وَهِيَ فِي كُلٍّ بِحَسَبِهِ فَفِي
الصَّوْمِ يَحْصُلُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ مِنْ الْكَثْرَةِ بِقَوْلِهِ (اسْتِيعَابُ الشَّهْرِ جُنُونًا) لِأَنَّ الشَّهْرَ تَامٌّ وَقْتُهُ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَثِيرٌ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْكَثْرَةُ فِيمَا إذَا أَفَاقَ بَعْضَ لَيْلَةٍ مِنْهُ لَكِنْ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَفِيهِ) أَيْ تَقْدِيرُ الْكَثْرَةِ بِاسْتِيعَابِ الشَّهْرِ (تَأَمُّلٌ) إذْ يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِهِ بِقَضَاءِ الشَّهْرِ فِيمَا إذَا أَفَاقَ فِي سَاعَةٍ مِنْهُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِهِ بِقَضَاءِ الشَّهْرِ لَوْ اسْتَوْعَبَهُ وَإِذَا كَانَ الْحَرَجُ مُسْقِطًا فِي هَذَا فَكَذَا فِيمَا قَبْلَهُ وَإِلَّا عَادَ الْأَمْرُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ثُمَّ قَدْ أُيِّدَ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ لَمْ تَكُنْ الْأَيَّامُ مِعْيَارًا لِلصَّوْمِ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْأَدَاءِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاصِلًا فَلَا يَكُونُ كُلُّ يَوْمٍ مِعْيَارًا لِصَوْمِهِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُؤَيَّدَ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ هُنَا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُقَارِنًا لَهُ لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ مُقَارِنَةٌ لِأَحْكَامِهَا كَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ اهـ.
(قُلْت) لَكِنَّ هَذَا الزَّعْمَ غَيْرُ تَامٍّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ هَذَا الْبَحْثِ ثُمَّ كَوْنُ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَقْلِيَّةً أَوْ شَرْعِيَّةً لَيْسَ بِالْمُتَّجَهِ بَلْ الْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ كَمَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَا بَأْسَ بِالْإِسْعَافِ بِذِكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ قَالَ رحمه الله اعْلَمْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا فِي الْخَارِجِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ خَصَّصُوا الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ فَجَعَلُوهَا تَسْتَعْقِبُ الْمَعْلُولَ لِأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ كَالْأَعْيَانِ بَاقِيَةً فَأَمْكَنَ فِيهَا اعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ بِخِلَافِ نَحْوِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ تَقْدِيمِهَا وَإِلَّا بَقِيَ الْفِعْلُ بِلَا قُدْرَةٍ وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ التَّعْقِيبُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الِانْكِسَارَ يَعْقُبُ الْكَسْرَ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ أَنَّهُ لِسُرْعَةِ إعْقَابِهِ مَعَ قِلَّةِ الزَّمَنِ إلَى الْغَايَةِ إذَا كَانَ آنِيًّا لَمْ يَقَعْ تَمْيِيزُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا يَقُومُ بِهِ التَّأْثِيرُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَحَالَةَ خُرُوجِهِ مِنْ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكْمُلَ هُوِيَّتُه لِيَقُومَ بِهِ عَارِضُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا اهـ.
وَعَلَى التَّعَقُّبِ مَشَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ مَا فَرْعٍ، ثُمَّ مِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ مِنْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَعْلُولِهَا بِالزَّمَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّخَلُّفُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الْإِيجَادِ بَعْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ مَعَ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّأْثِيرِ بَعْدِيَّةً زَمَانِيَّةً مَمْنُوعٌ لَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَعْلُولِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ الْعِلَّةَ النَّاقِصَةَ أَوْ التَّامَّةُ الَّتِي هِيَ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلْحَجِّ الْبَيْتُ لِلْإِضَافَةِ) أَيْ الْحَجِّ إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَالْإِضَافَةُ مِنْ دَلَائِلِ السَّبَبِيَّةِ (وَلِذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ سَبَبِ وُجُوبِهِ الْبَيْتَ (لَمْ يَتَكَرَّرْ) وُجُوبُ الْحَجِّ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ.
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَشَرْطُ جَوَازِ أَدَائِهِ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ بِدُونِهِ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ وَإِلَّا تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ وَالِاسْتِطَاعَةُ شَرْطُ وُجُوبِهِ إذْ لَا وُجُوبَ بِدُونِهَا لَا شَرْطُ جَوَازِهِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنْ الْفَقِيرِ وَإِلَّا كَانَ أَدَاءً قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ حِينَئِذٍ (فَاتَّفَقُوا) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ وَالْمُتَقَدِّمُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ (فِيمَا سِوَى) سَبَبِ (الصَّلَاةِ) وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا سِوَى سَبَبِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِيهِ وَأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِالْوَقْتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آنِفًا وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ حَيْثُ قَالَ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ سَبَبٌ مَحْضٌ عَلَامَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنِّعَمُ فِيهِ الْعِلَّةُ بِالْحَقِيقَةِ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّةَ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَهَا النِّعَمُ إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهَا بِنِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ بِخِلَافِ سَبَبِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ إذْ مِنْ قَائِلٍ بِأَنَّهُ نِعْمَةُ الْوُجُودِ وَكَمَالُ الْعَقْلِ وَمِنْ قَائِلٍ بِأَنَّهُ نَفْسُ حَدَثِ الْعَالَمِ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ الرَّأْسُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ) أَيْ يَقُومُ الْإِنْسَانُ بِكِفَايَتِهِ وَيَتَحَمَّلُ ثِقَلَهُ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ الْوِلَايَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْ التَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْوِلَايَةُ نَفَاذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى فَلَا يَكُونُ الرَّأْسُ سَبَبًا حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِ الْوَصْفَانِ الْوِلَايَةُ
وَالْمُؤْنَةُ فَخَرَجَ الصَّغِيرُ الَّذِي لَهُ مَالٌ تَجِب نَفَقَتُهُ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْمُؤْنَةِ عَلَى غَيْرِهِ فِي حَقِّهِ حَتَّى الْأَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ وُجِدَتْ الْوِلَايَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْأَبِ عَلَيْهِ وَالِابْنُ الْبَالِغُ الزَّمِنُ الْمُعْسِرُ وَالْمَرْأَةُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ الْمُطْلَقَةِ لِلْأَبِ وَالزَّوْجِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ وُجِدَتْ الْمُؤْنَةُ لَهُمَا عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ الرَّأْسَ الْمَذْكُورَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ الْحَدِيثِ وَيَبْقَى بَعْدَهُ عِلَاوَةً إضَافَةُ الصَّدَقَةِ إلَى الرَّأْسِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ
زَكَاةُ رُءُوسِ النَّاسِ ضَحْوَةَ فِطْرِهِمْ
…
بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَاعٌ مِنْ الْبُرِّ
لِأَنَّهَا دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ فَلَا يَضُرُّ فِي الْمَطْلُوبِ أَنَّ تَمَامَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِهِ مَسْمُوعًا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَضْعِهِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ أَوْ صِحَّةِ مَا قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ الشَّرْطُ) لِوُجُوبِهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْفِطْرِ (مَجَازٌ) لِأَنَّهُ زَمَانُ الْوُجُوبِ فَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُلَابَسَةِ (بِدَلِيلِ التَّعَدُّدِ) لِوُجُوبِهَا (بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ) تَقْدِيرًا لِأَنَّ الرَّأْسَ لَمَّا صَارَ سَبَبًا بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ وَهِيَ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ كَانَ الرَّأْسُ لِتَجَدُّدِهَا مُتَجَدِّدًا تَقْدِيرًا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي النِّصَابِ لِلزَّكَاةِ لَا إنْ تَكَرَّرَ الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ مَعَ اتِّحَادِ الرَّأْسِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ سَبَبِيَّةُ الْوَقْتِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ فِي هَذَا مَا فِيهِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» ) كَذَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ وَتَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْحَاكِمِ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيَّ رَوَيَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِمَّنْ تَمُونُونَ» فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم (أَفَادَ) بِهَذَا (تَعَلُّقَهَا) أَيْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِالْمَأْمُورِينَ بِهَا مِنْ الْأَبِ وَالْمَوْلَى بِسَبَبِ الْمُشَارِ إلَيْهِمْ (بِالْمُؤَنِ) أَيْ بِسَبَبِ وُجُوبِ مُؤْنَتِهِمْ عَلَى الْمَأْمُورِينَ بِهَا حَتَّى كَأَنَّ الْمَعْنَى تَحَمَّلُوا هَذِهِ الصَّدَقَةَ بِسَبَبِ مَنْ وَجَبَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْكُمْ وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْمُؤَنِ رَأْسٌ يَلِي عَلَيْهِ كَمَا فِي الرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ دُونَ الْوَقْتِ إذْ الرَّأْسُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْمُؤْنَةِ دُونَ الْوَقْتِ وَكَيْفَ لَا وَمُؤْنَةُ الشَّيْءِ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ دُونَ الْوَقْتِ فَيَتَلَخَّصُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ هَؤُلَاءِ وَالْقَطْعُ مَعَ جِهَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي مُؤْنَتِهِ وَوِلَايَتِهِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إجْمَاعًا عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ عَبْدِ غَيْرِهِ وَوَلَدِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَيْهِ وَمَانَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ بِسَبَبِ غَيْرِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَزِمَ أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ نَعَمْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ فِي الْجَدِّ إذَا كَانَتْ نَوَافِلُهُ صِغَارًا فِي عِيَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَعَ أَنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ صَدَقَةَ فِطْرِهِمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْحَقِيقِيِّ) أَيْ بِالنَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ النَّمَاءُ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْعُشْرَ اسْمٌ (إضَافِيٌّ) إذْ هُوَ اسْمٌ لِوَاحِدٍ مِنْ عَشَرَةٍ فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خَارِجُهُ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرُهُ وَهُوَ (عِبَادَةٌ) أَيْ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ (بِخِلَافِ الْخَرَاجِ) الْمُوَظَّفِ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ (بِالتَّقْدِيرِيِّ) أَيْ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ (وَهُوَ) أَيْ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ (بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ) وَالِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ إذْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالدَّرَاهِمِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْخَارِجِ (فَكَانَ) الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ (عُقُوبَةً) لِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِتَحْصِيلِهِ بِالزِّرَاعَةِ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْجِهَادِ وَهُوَ سَبَبُ الْمَذَلَّةِ (مُؤْنَةً لَهَا) أَيْ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِبَقَائِهَا فِي أَيْدِي أَرْبَابِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ (فَلَزِمَا) أَيْ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ (فِي مَمْلُوكَةِ الصَّبِيِّ) أَيْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَالْأَرْضُ الْمَوْقُوفَةُ فَيَجِبُ فِيهِمَا الْعُشْرُ إنْ كَانَتَا عُشْرِيَّتَيْنِ وَالْخَرَاجُ إنْ كَانَتَا خَرَاجِيَّتَيْنِ لِوُجُودِ سَبَبِهِمَا فِيهِمَا (وَلَمْ يَجْتَمِعَا) أَيْ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ (فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ) عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا لِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى
الْعُقُوبَةِ، وَمَحَلًّا فَإِنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ وَالْخَرَاجُ فِي الذِّمَّةِ، وَسَبَبًا لِأَنَّ سَبَبَ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا وَسَبَبَ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ تَقْدِيرًا بِهِ، وَمَصْرِفًا إذْ مَصْرِفُ الْعُشْرِ الْفُقَرَاءُ وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ الْمُقَاتِلَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ السَّبَبَانِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَيَجِبَانِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا ذَاتًا يَمْنَعُ اجْتِمَاعَهُمَا فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَبَبَهُمَا مُتَعَدِّدٌ بَلْ هُوَ مُتَّحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ النَّمَاءُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَيْهَا فَيُقَالُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا كَانَ الْمُسَبَّبُ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا كَالدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ اتِّحَادَ السَّبَبِ يُوجِبُ اتِّحَادَ الْحُكْمِ.
(وَقَدْ يُقَالُ جَازَ) أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ (الْوَاحِدُ سَبَبًا لِمُتَعَدِّدٍ) مِنْ الْأَحْكَامِ (كَالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ) أَيْ كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْوَاحِدَةُ عِلَّةً لِمُتَعَدِّدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالزِّنَا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلتَّحْرِيمِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ (وَيُجَابُ بِأَنَّ) الْجَوَازَ الْمَذْكُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جِهَتَيْ الْحُكْمِ تَنَافٍ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ (جِهَتَيْهِمَا) أَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ (مُتَنَافِيَةٌ) وَالْوَجْهُ مُتَنَافِيَتَانِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْجِهَةَ (فِي إحْدَاهُمَا) أَيْ أَرْضَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ (أَمَّا) أَرْضٌ تُسْقَى (بِمَاءٍ خَاصٍّ) وَهُوَ الْأَنْهَارُ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ كَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ حَوَيْنَاهَا قَهْرًا وَالْمُسْتَنْبَطَة مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (أَوْ) أَرْضٍ صَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ (فَتْحٍ عَنْوَةً) أَيْ قَهْرًا لَهَا (إلَخْ) أَيْ وَأَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَيْهَا الْخَرَاجَ أَوْ صَالَحَهُمْ مِنْ جَمَاجِمِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ عَلَى وَظِيفَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهَذِهِ الْأَرَاضِي كُلُّهَا خَرَاجِيَّةٌ (وَفِي) الْأَرْضِ (الْأُخْرَى) وَهِيَ الْعُشْرِيَّةُ الْأَمْرُ فِيهَا (بِخِلَافِهِمَا) أَيْ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ بِأَنْ تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ أَوْ مَاءِ الْبِحَارِ أَوْ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي وَبِأَنْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (فَلَا يَجْتَمِعَانِ) أَيْ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ (فِي) مَحَلٍّ (وَاحِدٍ) لِتَنَافِي لَازِمَيْهِمَا إذْ لَازِمُ الْخَرَاجِ الْكَرَّةُ وَلَازِمُ الْعُشْرِ الطَّوْعُ وَتَنَافِي اجْتِمَاعِ اللَّوَازِمِ يُوجِبُ تَنَافِي اجْتِمَاعِ الْمَلْزُومَاتِ.
(قُلْت) وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ مَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ يَكُونُ مَعَ الْفَتْحِ عَنْوَةً وَهُوَ فِيمَا إذَا أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا.
وَكَذَا بَعْضُ صُوَرِ الْعُشْرِ وَهُوَ فِيمَا إذَا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَّمَهُمَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ لَا يَكُونُ مَعَ الْعَنْوَةِ بَلْ لِلصُّلْحِ أَوْ بِأَنْ أَحْيَاهَا وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ أَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ تَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا مُطْلَقًا نَعَمْ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاشِدِينَ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لَمْ يَأْخُذُوا عُشْرًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَإِلَّا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ تَفَاصِيلُ أَخْذِهِمْ الْخَرَاجَ بِهَذَا تَقْضِي الْعَادَةُ وَكَوْنُهُمْ فَوَّضُوا الدَّفْعَ إلَى الْمُلَّاكِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ أَرَأَيْت إذَا كَانَ الْعُشْرُ وَظِيفَةً فِي الْأَرْضِ الَّتِي وُظِّفَ فِيهَا الْخَرَاجُ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ فَهَلْ يَقْرُبُ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَخْذَ وَظِيفَةٍ وَيَكِلُوا الْأُخْرَى إلَيْهِمْ لَيْسَ لِهَذَا مَعْنًى وَكَيْفَ وَهُمْ كُفَّارٌ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى أَدَائِهِ مِنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ عَدَمَ أَخْذِ الثَّلَاثَةِ صَحَّ دَلِيلًا بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا هَذَا وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً كَالْعُشْرِ ذَكَرَهُ فِي أُصُولِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِمَا فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الْخَانِيَّةِ وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَيْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْعُشْرَ فِي الْمَصْرِفِ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلطَّهَارَةِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 6]{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْقِيَامِ) أَيْ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ الْقِيَامُ مُطْلَقًا السَّبَبَ (بَلْ) السَّبَبُ لِوُجُوبِهَا (الْإِرَادَةُ) لِلصَّلَاةِ وَالْحَدَثُ شَرْطُ وُجُوبِهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَتَرْتِيبُهَا عَلَيْهَا يُشْعِرُ بِسَبَبِيَّتِهَا وَالْغَرَضُ مِنْ الطَّهَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَتِهَا فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا وَذَلِكَ بِالْحَدَثِ فَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَرْطًا وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ بِمَا فِي ذِكْرِهِ هُنَا طُولٌ
فَيُرَاجَعْ مِنْهُ (وَالْحَدَثُ) عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِدَوَرَانِهَا مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَأُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِ الدَّوَرَانِ دَلِيلَ الْعِلِّيَّةِ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ وُجُودٌ مَوْجُودٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَفِي حَقِّ غَيْرِ الْبَالِغِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ مَا يُفْضِي إلَيْهِ وَالْحَدَثُ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ وَيُنَافِيهَا وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا لِنَفْسِهَا بَلْ لِوُجُوبِهَا وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُفْضِي إلَيْهِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ إنْ نَقَضَهَا) أَيْ نَقَضَ الْحَدَثَ طَهَارَةٌ سَابِقَةٌ عَلَيْهِ (لَمْ يَمْتَنِعْ) مَعَهُ أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ (سَبَبًا لِوُجُوبِ) طَهَارَةٍ (أُخْرَى) لَاحِقَةٍ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا (لَكِنْ مَعَ الصَّلَاحِيَّةِ) أَيْ صَلَاحِيَّةِ الْحَدَثِ لِسَبَبِيَّتِهِ لَهَا (يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلِ الِاعْتِبَارِ) أَيْ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى كَوْنِهِ سَبَّبَهَا لَهَا لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلِ الْجَعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ التَّجْوِيزِ وَدَلِيلُ الْجَعْلِ مَفْقُودٌ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي آخَرِينَ سَبَبُ وُجُوبِهَا الصَّلَاةُ وَالْحَدَثُ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِإِضَافَتِهَا إلَى الصَّلَاةِ فَيُقَالُ طَهَارَةُ الصَّلَاةِ وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا وَسُقُوطُهَا بِسُقُوطِهَا وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ كَوْنِ مُجَرَّدِ الصَّلَاةِ سَبَبًا مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ بَلْ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُوجِبَ لَهَا وُجُوبَ مَا يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيقَهَا فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا الصَّلَاةُ أَيْ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَوْجَهُ وُجُوبُ مَشْرُوطِهَا) لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ إيجَابَ شَرْطِهِ (وَأَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْحُدُودِ مَحْظُورَاتٌ مَحْضَةٌ) مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِهَا.
(وَ) أَسْبَابُ (مَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إذْ لَمْ تَجِبْ) الْكَفَّارَاتُ (ابْتِدَاءً تَعْظِيمًا) لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ بَلْ أَجِزْيَةً عَلَى أَفْعَالٍ مِنْ الْعِبَادِ فِيهَا مَعْنَى الْحَظْرِ زَجْرًا عَنْهَا وَهَذَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ إذْ الْعُقُوبَةُ مَا وَجَبَ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَأْثَمَ بِهِ (وَشُرِعَ فِيهَا نَحْوُ الصَّوْمِ) مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْإِعْتَاقِ (وَلَزِمَتْ النِّيَّةُ) فِيهَا شَرْطًا لَهَا وَهَذَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُوَضَّحًا مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ ثُمَّ أَسْبَابُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ) لِتَقَعَ الْمُلَاءَمَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْحَظْرِ إذْ الْأَثَرُ أَبَدًا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْمُؤَثِّرِ وَلِذَا لَا يَصْلُحُ الْمَحْظُورُ الْمَحْضُ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ سَبَبًا لَهَا كَمَا لَا يَصْلُحُ الْمُبَاحُ الْمَحْضُ كَالْقَتْلِ بِحَقٍّ وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ سَبَبًا لَهَا وَذَلِكَ (كَالْإِفْطَارِ) الْعَمْدِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَمَحْظُورٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ بِالزِّنَا أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّ كُلًّا حَرَامٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ يُلَاقِي الْإِمْسَاكَ وَالْإِمْسَاكُ حَقُّهُ وَلِهَذَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَبِّدًا لِلَّهِ تَعَالَى فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِفْطَارَ لَاقَى حَقَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ يَكُونُ مَحْظُورًا وَالزِّنَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِمَا وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لَهَا الْفِطْرُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِطْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ تَمَكَّنَتْ فِيهِ جِهَةُ الْإِبَاحَةِ وَلَا تَفَاوُتَ فِي تَحَقُّقِ هَذِهِ الْجِهَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ بِالْمُبَاحِ أَوْ الْحَرَامِ وَفِي شَرْحِ الْمُغْنِي لِلْقَآنِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْهُ انْتَهَى.
يَعْنِي فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ كَمَا تَقَدَّمَ (وَالظِّهَارُ) وَهُوَ تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا شَائِعٌ أَوْ مُعَبَّرٍ بِهِ عَنْ الْكُلِّ بِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْحُرْمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ طَلَاقًا مُبَاحٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ مَحْظُورٌ وَالْعَوْدُ شَرْطٌ وَقَدْ أَسْلَفْت فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ أَنَّ آخَرِينَ مِنْهُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ جَمِيعًا لِأَنَّ الظِّهَارَ كَبِيرَةٌ فَلَا يَصْلُحُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَيَصْلُحُ مَعَ الْعَوْدِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَأَنَّ آخَرِينَ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَلَى أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَالظِّهَارُ شَرْطٌ وَبَيَانُ الْوَجْهِ فِي كِلَيْهِمَا وَمَا عَلَيْهِمَا وَمَا لَعَلَّهُ الْأَشْبَهُ مَعَ زِيَادَةِ مَبَاحِثَ فَلْيُسْتَذْكَرْ بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ سُكُوتُهُ بَعْدَ ظِهَارِهِ قَدْرَ
مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا وَرُدَّ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَالْجِنَايَةِ وَالظِّهَارُ لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ لِيَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا جِنَايَةً وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا لِلسَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ الْكَفَّارَةِ أَوْ لِلتَّرَوِّي فِي طَلَاقِهَا فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُهُ جِنَايَةً فَلَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لَهَا (وَالْقَتْلُ الْخَطَأُ) سَوَاءٌ كَانَ خَطَأً فِي الْقَصْدِ بِأَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ فِي الْفِعْلِ بِأَنْ يَرْمِيَ غَرَضًا فَيُصِيبُ آدَمِيًّا فَهُوَ مُبَاحٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ مَعْصُومِ الدَّمِ وَمَحْظُورٌ بِاعْتِبَارِ إصَابَةِ مَعْصُومِ الدَّمِ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ وَلُبْسُهُ وَتَطَيُّبُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ وَجِمَاعُهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَتْلُ صَيْدٍ وَارْتِفَاقٌ بِاللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالْجِمَاعِ مُبَاحَةٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ أَوْ الْحَرَمِ مَحْظُورَةٌ وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ الْمُنْتَقِضَةُ بِالْحِنْثِ وَقَدْ ذَكَرُوا فِي اجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهَا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أَيْ بَذْلُهُ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ وَالْحِنْثَ شَرْطٌ ثَانِيهِمَا أَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَقْضِهِ بِالْحِنْثِ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْيَمِينَ مَعَ الْحِنْثِ سَبَبٌ.
وَفِي التَّحْقِيقِ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ ذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَفِي الْكَشْفِ مَا مُلَخَّصُهُ الْيَمِينُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ بِلَا خِلَافٍ لِإِضَافَتِهَا إلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا عِنْدَنَا سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَعْقُودَةً لِأَنَّهَا الدَّائِرَةُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَوَاتُ الْبِرِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ الْبِرُّ احْتِرَازًا عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ فَشُرِطَ فَوَاتُهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ انْعَدَمَتْ بَعْدَ الْحِنْثِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ أَعْنِي الْبِرَّ فَهِيَ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْخَلَفِ فَالسَّبَبُ فِي الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ وَاحِدٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَعْقُودَةً وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا لَا خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ بِشَرْطِ فَوَاتِ التَّصْدِيقِ مِنْ الْخَبَرِ فَلَا تَجِبُ فِي الْغَمُوسِ عِنْدَنَا وَتَجِبُ فِيهَا عِنْدَهُ (وَفِي تَحْرِيرِهِ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (نَوْعُ طُولٍ) لَا بَأْسَ بِطَيِّهِ فِي الْمُتُونِ كَمَا لَا بَأْسَ بِبَسْطِهِ فِي الشُّرُوحِ فَلَا جَرَمَ أَنْ طَوَاهُ وَبَسَطْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
(وَ) السَّبَبُ (لِشَرْعِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ) مِنْ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِهِمَا (الْبَقَاءُ) لِلْعَالَمِ (عَلَى النِّظَامِ الْأَكْمَلِ إلَى الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ) بَقَاؤُهُ إلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ لِهَذَا النِّظَامِ الْمَنُوطِ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ بَقَاءً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِفْظِ الْأَشْخَاصِ إذْ بِهَا بَقَاءُ النَّوْعِ وَالْإِنْسَانُ لِفَرْطِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ يَفْتَقِرُ فِي الْبَقَاءِ إلَى أُمُورٍ صِنَاعِيَّةٍ فِي الْغِذَاءِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهِيَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ كُلِّ فَرْدٍ بِهَا وَعَدَمِ تَهَيُّئِهَا لَهُ يُفْتَقَرُ إلَى مُعَاوَنَةٍ وَمُشَارَكَةٍ فِيهَا مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ ثُمَّ يَحْتَاجُ لِلتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ إلَى ازْدِوَاجٍ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَقِيَامٍ بِالْمَصَالِحِ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَفْتَقِرُ إلَى أُصُولٍ كُلِّيَّةٍ مُقَرَّرَةٍ مِنْ الشَّارِعِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا الْأَحْكَامُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَصَالِح الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ لِيَحْفَظَ بِهَا الْعَدْلَ وَالنِّظَامَ بَيْنَهُمْ فِي بَابِ الْمُنَاكَحَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ النَّوْعِ وَالْمُبَايَعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ الشَّخْصِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ يَشْتَهِي مَا يُلَائِمُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يُزَاحِمُهُ فَيَقَعُ الْجَوْرُ وَيَخْتَلُّ النِّظَامُ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ الْمَزْبُورَةُ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ فَصَدَقَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَمَا تَقَدَّمَ) فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ (مِنْ حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ تَفْصِيلُ هَذَا) .
(وَ) السَّبَبُ (لَلِاخْتِصَاصَاتُ) الشَّرْعِيَّةُ (كَالْمِلْكِ) وَالْحُرْمَةِ وَإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الرَّقَبَةِ لَا إلَى أَحَدِ (التَّصَرُّفَاتِ) الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ (الْمَجْعُولَةِ أَسْبَابًا شَرْعًا) لَهَا (كَالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَدْ أَطْلَقُوا لَفْظَ السَّبَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ) فِي فَصْلِ الْعِلَّةِ إطْلَاقُهُمْ عَلَيْهِ (عِلَّةً) فَيَحْتَاجُ إلَى إعْطَاءِ ضَابِطٍ فِي ذَلِكَ بَيَانًا لِاصْطِلَاحِهِمْ فِيهِ وَنَفْيًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ (فَقِيلَ) أَيْ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ (مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَلَمْ يَعْقِلْ تَأْثِيرَهُ) فِي الْحُكْمِ (وَلَيْسَ) هُوَ (صُنْعَ الْمُكَلَّفِ خُصَّ بِاسْمِ السَّبَبِ) لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ (وَإِنْ) كَانَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَلَمْ يَعْقِلْ تَأْثِيرَهُ فِيهِ ثَابِتًا (بِصُنْعِهِ) أَيْ الْمُكَلَّفِ (وَذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ الْغَرَضُ مِنْ وَضْعِهِ) أَيْ وَضْعِ ذَلِكَ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (فَعِلَّةٌ) أَيْ فَذَلِكَ الْمُتَرَتِّبُ
عَلَيْهِ الْحُكْمُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ (وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ سَبَبٌ مَجَازًا كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) ذَلِكَ الْحُكْمُ (الْغَرَضُ مِنْ وَضْعِهِ كَالشِّرَاءِ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا يُعْقَلُ تَأْثِيرُهُ) أَيْ لَفْظِ الشِّرَاءِ فِي مِلْكِ الْمُتْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي (وَلَيْسَ) مِلْكُ الْمُتْعَةِ (الْغَرَضَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الشِّرَاءِ (بَلْ) الْغَرَضُ مِنْ الشِّرَاءِ (مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَسَبَبُهُ) أَيْ فَذَلِكَ سَبَبُ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَيْهِ (وَإِنْ عَقَلَ تَأْثِيرَهُ) أَيْ تَأْثِيرَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الْحُكْمِ (خَصَّ) ذَلِكَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (بِاسْمِ الْعِلَّةِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالِاصْطِلَاحُ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا لَمْ يُعْقَلْ تَأْثِيرُهُ أَيْ مُنَاسَبَتُهُ بِنَفْسِهِ بَلْ) إنَّمَا تُعْقَلُ مُنَاسَبَتُهُ (بِمَا هُوَ مَظِنَّتُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا) فِي فَصْلِ الْعِلَّةِ (وَثَبَتَ) شَرْعًا (اعْتِبَارُهُ) أَيْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مَظِنَّتُهُ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ فَمَظِنَّتُهُ (عِلَّةٌ) لَهُ كَالسَّفَرِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ (وَمَا هُوَ مُفْضٍ) إلَى الْحُكْمِ (بِلَا تَأْثِيرٍ) فِيهِ (سَبَبٌ وَإِلَّا) لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ (خَصَّ اسْمَ الْعِلَّةِ الْحِكْمَةُ) اصْطِلَاحًا (وَالِاصْطِلَاحُ) الْأُصُولِيُّ (نَاطِقٌ بِخِلَافِهِ) أَيْ تَخْصِيصُ الْحِكْمَةِ بِاسْمِ الْعِلَّةِ (وَيُطْلَقُ كُلٌّ) مِنْ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ (عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا) وَمِنْ إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ إطْلَاقُهُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ.
(وَأَمَّا الشَّرْطُ) أَيْ أَقْسَامُهُ (فَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ) لَفْظُ شَرْطٍ (حَقِيقِيٌّ) وَهُوَ مَا (يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي الْوَاقِعِ) كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ.
(وَ) شَرْطٌ (جَعْلِيٌّ) أَمَّا (لِلشَّرْعِ فَيَتَوَقَّفُ) الْمَشْرُوطُ أَيْ وُجُودُهُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ (شَرْعًا كَالشُّهُودِ لِلنِّكَاحِ وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ) إذْ لَا وُجُودَ لِلنِّكَاحِ وَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّيْنِ الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِهِمَا (وَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى زَمَانٌ ثُمَّ عَلِمَ لَا يَلْزَمْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْوَقْتُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ شُيُوعُ الْخِطَابِ فِي دَارِ السَّلَامِ وَتَيَسُّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِأَدْنَى طَلَبٍ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقُدْرَةِ وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْعِلْمِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَمْ يُوجَدَا وَحَيْثُ فَاتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّهِ مُنِعَ السَّبَبُ مِنْ الِانْعِقَادِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ وَكَانَتْ الْأَسْبَابُ مِنْ الْوَقْتِ وَالشَّهْرِ وَالْبَيْتِ وَغَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهَا حَقِيقَةً كَالْمَعْدُومَةِ حُكْمًا فِي حَقِّهِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَائِهَا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا حَتَّى مَضَى زَمَانٌ فَعَلَى فَرْضِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِهَا لَمْ يَنْتَفِ مَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَهُوَ شُيُوعُ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ دُونَ نَفْسِ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِالسَّبَبِ وَكَوْنِ السَّبَبِ سَبَبًا إذْ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ شَرْطًا لَهُمَا لَمَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى إذَا لَمْ يَمْتَدَّ الْإِغْمَاءُ وَلَمَا وَجَبَ الصَّوْمُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعِلْمُ فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّ اللَّازِمَ بَاطِلٌ لِتَحَقُّقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ فَكَذَا الْمَلْزُومُ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ وَكَوْنُ السَّبَبِ سَبَبًا وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ حُصُولِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمْ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ تَقْدِيرُ الشُّيُوعِ الْخِطَابِ وَبُلُوغُهُ إلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ بِمَنْزِلَةِ بُلُوغِهِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ.
(أَوْ لِلْمُكَلَّفِ بِتَعْلِيقِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ الْمَجْعُولِ شَرْطًا لَهُ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ (مَعَ إجَازَةِ الشَّرْعِ) لَهُ ذَلِكَ (كَإِنْ دَخَلْت) الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ (أَوْ) عَلَى (مَعْنَاهُ) أَيْ الْمَجْعُولِ شَرْطًا لَهُ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ مَعَ إجَازَةِ الشَّرْعِ بِأَنْ يَدُلَّ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيقِ دَلَالَةَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ (كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا) طَالِقٌ لِوُقُوعِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ التَّزَوُّجُ وَصْفًا لِامْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَالْوَصْفُ مُعْتَبَرٌ لِتَعَرُّفِهَا وَحُصُولِ تَعَيُّنِهَا الَّذِي لَا بُدَّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا مِنْهُ لِأَنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى مَجْهُولٍ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِذَا اُعْتُبِرَ فِيهَا صَارَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ إذْ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ تَعْلِيقٌ لَهُ بِهِ كَالشَّرْطِ فَيَكُونُ شَرْطًا دَلَالَةً لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَيَتَوَقَّفُ نُزُولُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ وَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ هُنَا ذِكْرُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَبِدُونِهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطِ صِيغَةٍ بَلْ شَرْطُ مَعْنًى فَاسْتَقَامَ ذِكْرُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَبِدُونِهِ أَيْضًا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَهَذَا (بِخِلَافِ) مَا لَوْ دَخَلَ الْوَصْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِأَنْ أَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ ذَكَرَهَا بِاسْمِهَا
الْعَلَمِ فَقَالَ (هَذِهِ) الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ (وَزَيْنَبُ إلَخْ) الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُعَيَّنِ لَغْوٌ (فَيَلْغُو) الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فَتَبْقَى هَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ وَزَيْنَبُ طَالِقٌ فَيَلْغُو لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمُعَيَّنَةِ وَغَيْرِهَا كَإِنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ طَالِقٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فِيهِمَا جَمِيعًا.
(وَيُسَمَّى) هَذَا النَّوْعُ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرْطِ (شَرْطًا مَحْضًا لِامْتِنَاعِ الْعِلَّةِ) أَيْ وُجُودِهَا لِلْحُكْمِ (بِالتَّعْلِيقِ) أَيْ بِسَبَبِ التَّعْلِيقِ بِهِ فَهُوَ إذَنْ مَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ التَّعْلِيقِ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَتْ وَيَصِيرُ وُجُودُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَيْهِ دُونَ وُجُوبِهِ (وَلِمَا شَابَهَ) الشَّرْطَ (الْعِلَّةَ لِلتَّوَقُّفِ) أَيْ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ التَّوَقُّفُ فِي الشَّرْطِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ وَفِي الْعِلَّةِ لِوُجُوبِهِ (وَالْوَضْعُ) أَيْ وَلَاشْتَرَاكَهُمَا فِي كَوْنِهِمَا مَوْضُوعَيْنِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ شَرْعًا لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ كَالشُّرُوطِ (أَضَافُوا إلَيْهِ) أَيْ إلَى الشَّرْطِ (الْحُكْمَ أَحْيَانًا فِي التَّعَدِّي وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ عِلَّةٍ صَالِحَةٍ لِلْإِضَافَةِ) أَيْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِأَنَّ شَبِيهَ الشَّيْءِ قَدْ يَخْلُفُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ كُلُّ شَرْطٍ لَا يُعَارِضُهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَفِي شَرْحِ الْمُغْنِي لِلْقَآنِيِّ وَالْأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ وَلَا سَبَبَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ الْعِلَّةُ وَصَلُحَ السَّبَبُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ كَمَا يَلُوحُ مِمَّا سَيَأْتِي وَهُوَ حَسَنٌ (وَسَمُّوهُ) أَيْ هَذَا الشَّرْطَ (شَرْطًا فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ كَشِقِّ الزِّقِّ) الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَائِعٍ تَعَدِّيًا إذَا سَالَ مِنْهُ وَتَلِفَ (وَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ) تَعَدِّيًا إذَا وَقَعَ فِيهَا مَالٌ فَتَلِفَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الشَّاقُّ وَالْحَافِرُ (لِأَنَّ الْعِلَّةَ) فِي تَلَفِ الْمَائِعِ أَعْنِي (السَّيَلَانَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ الضَّمَانَ) أَيْ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ إلَيْهِ (إذْ لَا تَعَدِّي فِيهِ) لِأَنَّهُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْمَائِعِ ثَابِتٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالشِّقُّ شَرْطُهُ) أَيْ السَّيْلَانِ (وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ) مِنْ السَّيْلَانِ (تَعَدِّيًا) عَلَى مَالِكِهِ لِأَنَّ الزِّقَّ كَانَ مَانِعًا مِنْهُ (فَيُضَافُ) الضَّمَانُ (إلَيْهِ) وَعِلَّةُ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ الثِّقَلُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ طَبِيعِيٌّ لَا تَعَدِّيَ فِيهِ وَحَفْرُ الْبِئْرِ شَرْطُ السُّقُوطِ.
وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْهُ تَعَدِّيًا لِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَانِعَةً مِنْ عَمَلِ عِلَّتِهِ فَأُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي إذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى الثِّقَلِ أَنْ يُضَافَ إلَى الْمَشْيِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعِلَّةِ مِنْ الشَّرْطِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ وَالِاتِّصَالِ بِهِ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ الضَّمَانُ إلَى الْمَشْيِ لِأَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ عُدْوَانٍ فَلَا بُدَّ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ صِفَةِ التَّعَدِّي وَلَا تَعَدِّيَ فِي الْمَشْيِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ مَحْضٌ بِلَا شُبْهَةٍ حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ صِفَةُ التَّعَدِّي بِأَنْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى الْبِئْرِ فَوَقَعَ فِيهَا وَهَلَكَ يُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِ لِصَلَاحِيَّةِ الْإِضَافَةِ لَا إلَى الشَّرْطِ فَلَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ فَظَهَرَ أَنَّ خِلَافَةَ الشَّرْطِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ لِصَلَاحِيَّةِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِمَا (وَكَشُهُودِ وُجُودِ الشَّرْطِ) وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ مَثَلًا بَعْدَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِهِ فِيمَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يَدْخُلْ بِزَوْجَتِهِ أَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِدُخُولِهَا إيَّاهَا (فَإِذَا رَجَعُوا) أَيْ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ (بَعْدَ الْقَضَاءِ) بِالطَّلَاقِ وَلُزُومِ نِصْفِ الْمَهْرِ (ضَمِنُوا) نِصْفَ الْمَهْرِ لِلزَّوْجِ (لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ) وَلَفْظُهُ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنُوا لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ عَيْنُ الزَّوْجِ لَا تَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ لِخُلُوِّهَا عَنْ وَصْفِ التَّعَدِّي إذْ شُهُودُهَا ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فَتَجِبُ إضَافَتُهُ إلَى الشَّرْطِ لِظُهُورِ صِفَةِ التَّعَدِّي بِالرُّجُوعِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَقَالَ يَجِبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِنْدَهُ رِوَايَةٌ انْتَهَى.
(قُلْت) وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّ شَاهِدَيْ الشَّرْطِ لَوْ رَجَعَا عَلَى الِانْفِرَادِ هَلْ يَضْمَنَانِ ثُمَّ قَالَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ يَضْمَنَانِ لِأَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى مُحَصِّلِ الشَّرْطِ عِنْدَ انْعِدَامِ إمْكَانِ الْإِيجَابِ عَلَى صَاحِبِ الْعِلَّةِ وَاجِبٌ وَمَا فِي التَّحْقِيقِ وَغَيْرِهِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْعَتَّابِيِّ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَضْمَنُونَ كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا وَحْدَهُمْ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ سَبَّبُوا لِلتَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَهُ أَثَرٌ فِي وُجُودِ
الْعِلَّةِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَكُونُ سَبَبُ الضَّمَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْحِصَانِ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَهُوَ الزِّنَا لَا فِي وُجُودِهِ فَلَا يَلْحَقُ بِالْعِلَّةِ (وَاَلَّذِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لَا) يَضْمَنُونَ ذَكَرَهُ فِي الْكَشْفِ نَقْلًا عَنْ أَبِي الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَهُ وَفِي التَّلْوِيحِ الصَّغِيرِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا فِي مَسَائِلِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلزَّعْفَرَانِيِّ وَلَا لِلْحَصِيرِيِّ وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْمُعِينِ وَالتَّحْقِيقُ يَنْفِيهِ أَيْضًا نَعَمْ عَزَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ إلَى الزِّيَادَاتِ وَفِي التَّحْقِيقِ إلَى عَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ (وَعَلَيْهِ) شَمْسُ الْأَئِمَّةِ (السَّرَخْسِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ وَفِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْعَزِيَّةِ هُوَ) أَيْ ضَمَانُ شُهُودِ الشَّرْطِ (قَوْلُ زُفَرَ وَالثَّلَاثَةِ) أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالُوا (لَا تَضْمِينَ) نَصَّ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ.
(قِيلَ) وَقَائِلُهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ (لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِإِيجَابِهِ) أَيْ الضَّمَانِ لِخُلُوِّهَا عَنْ صِفَةِ التَّعَدِّي (صَالِحَةٌ لِقَطْعِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (عَنْ الشَّرْطِ إذْ كَانَتْ) الْعِلَّةُ (فِعْلَ مُخْتَارٍ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَيْ الْفَضَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ) عِلَّةً لِإِيجَابِ الضَّمَانِ (وَإِلَّا) لَوْ صَلُحَ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ (ضَمِنَ الْقَاضِي) لِأَنَّهُ صَاحِبُهَا وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ تَصْلُحْ هِيَ لِإِضَافَتِهِ لَهَا (وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا التَّقْرِيرِ (يَنْتَفِي مَا قِيلَ) أَيْ مَا قَالَهُ التَّفْتَازَانِيُّ (إنَّهُ) أَيْ هَذَا الْمِثَالَ (مِثَالُ مَا لَا عِلَّةَ فِيهِ أَصْلًا وَمِمَّا فِيهِ) أَيْ وَمِنْ الشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ.
(وَلَا تَصْلُحُ) الْعِلَّةُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا (شَهَادَةُ شَرْطِ الْيَمِينِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ) لِعَبْدِهِ (إنْ كَانَ قَيْدُهُ عَشَرَةً) مِنْ الْأَرْطَالِ (فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ حَلَّ فَهُوَ حُرٌّ فَشَهِدَا بِعَشَرَةٍ) أَيْ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ (فَقَضَى بِعِتْقِهِ) ثُمَّ حَلَّ الْقَيْدَ (ثُمَّ وُزِنَ فَبَلَغَ ثَمَانِيَةً) مِنْ الْأَرْطَالِ (ضَمِنَا) قِيمَةَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ (عِنْدَهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا (لِنَفَاذِهِ) أَيْ الْقَضَاءِ بِعِتْقِهِ (بَاطِنًا) أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ كَنَفَاذِهِ ظَاهِرًا إجْمَاعًا (لِابْتِنَائِهِ) أَيْ الْقَضَاءِ بِعِتْقِهِ (عَلَى مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ) لِلْقَضَاءِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ صِيَانَتِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ التَّصَرُّفِ الْمَشْهُودِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ بَاطِنًا عِنْدَهُ أَيْضًا بَعْدَ الْحِلِّ لِتَيَقُّنِ بُطْلَانِهِ بَعْدَهُ بِظُهُورِ كَذِبِهِمَا كَمَا لَوْ ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا فَالْجَوَابُ لَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُفُوذَ الْقَضَاءِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْقَاضِي تَعَرُّفُ مَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ نُفُوذِهِ وَعَدَمِ نُفُوذِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ نُفُوذِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ وَكَوْنُ الشُّهُودِ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا مِنْ الثَّانِي كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا) فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَتِهِمْ لَيْسَ عَلَى مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْ الْقَاضِي فِي تَعْرِيفِ الْمَانِعِ مِنْ النُّفُوذِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْوُقُوفِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِهِمْ (لِإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى كُلٍّ مِنْ رَقِّهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْقَاضِي تَعَرُّفُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَنْفُذْ (وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَقَطَ) عَنْ الْقَاضِي تَعَرُّفُ صِدْقِهِمْ لِأَنَّهُ بِمَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ وَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ (مَعْرِفَةُ وَزْنِهِ لِأَنَّهُ) أَيْ عِرْفَانَ وَزْنِهِ (بِحِلِّهِ) أَيْ الْقَيْدِ لِيُوزَنَ (وَبِهِ) أَيْ وَبِحِلِّهِ (يُعْتَقُ) فَلَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الْوُقُوفِ عَلَى مَا لَا طَرِيقَ إلَى تَعَرُّفِهِ مِنْ الْمَانِعِ مِنْ نُفُوذِهِ فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِدُونِ الْحِلِّ (وَإِذَا نَفَذَ) الْقَضَاءُ بِعِتْقِهِ بَاطِنًا كَمَا نَفَذَ ظَاهِرًا (عَتَقَ قَبْلَ الْحِلِّ فَامْتَنَعَ إضَافَتُهُ) أَيْ الْعِتْقِ (إلَيْهِ) أَيْ الْحِلِّ (وَالْعِلَّةُ وَهِيَ الْيَمِينُ أَيْ الْجَزَاءُ) وَهُوَ فَهُوَ حُرٌّ (فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْكَلَامِ (غَيْرُ صَالِحٍ لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِ) أَيْ الْعِلَّةِ وَذَكَرَ ضَمِيرَهَا بِاعْتِبَارِ الْجَزَاءِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْجَزَاءَ (تَصَرُّفُ الْمَالِكِ) فِي مِلْكِهِ (لَا تَعَدٍّ) مِنْهُ فِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ أَوْ أَكَلَهُ (فَتَعَيَّنَ) أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ (إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ) أَيْ الشَّرْطُ (كَوْنُهُ) أَيْ الْقَيْدِ (عَشَرَةً وَقَدْ كَذَبَ بِهِ الشُّهُودُ تَعَدِّيًا فَيَضْمَنُونَهُ وَعِنْدَهُمَا) أَيْ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَمُحَمَّدٍ (لَا) يَضْمَنُونَ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ (إذْ لَا يَنْفُذُ) الْقَضَاءُ عِنْدَهُمَا (بَاطِنًا) لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْحُجَّةُ بَاطِلَةٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا كَذِبٌ إلَّا أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ
دَلِيلُ الصِّدْقِ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَتْ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ دُونَ التَّنْفِيذِ حَقِيقَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحُرِّيَّةِ نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ لَا بَاطِنًا (فَهُوَ رَقِيقٌ بَاطِنًا بَعْدَ الْقَضَاءِ) بِالْعِتْقِ.
(ثُمَّ عَتَقَ بِالْحِلِّ) لَا بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَضْمَنُونَ (وَمَا فِيهِ) أَيْ وَمِثَالُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطٌ وَعِلَّةٌ مُعَارِضَةٌ لَهُ (صَالِحَةٌ) لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا (شَهَادَتَا الْيَمِينِ وَالشَّرْطِ) السَّالِفَانِ (فَيُضَافُ) الْحُكْمُ (إلَيْهَا) أَيْ شَهَادَةِ الْيَمِينِ (فَيَضْمَنُ شُهُودُ الْيَمِينِ) نِصْفَ الْمَهْرِ (إذَا رَجَعَ الْكُلُّ) أَيْ شُهُودُ الْيَمِينِ وَشُهُودُ الشَّرْطِ لِأَنَّ شُهُودَ الْيَمِينِ شُهُودُ عِلَّةٍ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا قَوْلَ الزَّوْجِ هِيَ طَالِقٌ وَهِيَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَلَا جَرَمَ لِإِضَافَتِهِ إلَى الشُّهُودِ وَسَمَّوْا شُهُودَ التَّعْلِيقِ شُهُودَ الْعِلَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعَلَّقُ عِلَّةً إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إمَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِلَّةَ أَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَمِمَّا فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ بُعْدِ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُعَلَّقِ اتِّصَالٌ بِالْمَحَلِّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي زَعْمِهِمْ وَصَارَتْ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً.
فَإِنْ قِيلَ شُهُودُ التَّعْلِيقِ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْعِلَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا مُطْلَقًا وَتَحْقِيقُ الْعِلِّيَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ فَشُهُودُهُ أَوْلَى بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرِهَا أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بَلْ شَهِدُوا بِسَمَاعِ التَّعْلِيقِ مُطْلَقًا وَهُوَ عِلَّةٌ لَوْلَا الْمَانِعُ وَلَا تَعَلُّقَ لِشَهَادَةِ شُهُودِ الشَّرْطِ بِتَحَقُّقِ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرِهَا فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا وَلَا بِتَحَقُّقِهَا وَتَأْثِيرِهَا بَلْ تَحَقُّقُهَا وَتَأْثِيرُهَا بِشَهَادَةِ شُهُودِ التَّعْلِيقِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوهُ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَحْقِيقُ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرُهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِالتَّعْلِيقِ ثُمَّ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ ضَمِنُوا وَلَوْ تَحَقَّقَ التَّعْلِيقُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ ثُمَّ شَهِدُوا بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا فَعَرَفْنَا أَنَّ تَحَقُّقَ الْعِلَّةِ وَتَأْثِيرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى شَهَادَةِ الشَّرْطِ بِوَجْهٍ
(وَمَا) أَيْ وَسَمَّوْا الشَّرْطَ الَّذِي (لَمْ يُضَفْ) الْحُكْمُ (إلَيْهِ أَصْلًا كَأَوَّلِ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ شَرْطَيْنِ عُلِّقَ عَلَيْهِمَا) طَلَاقٌ أَوْ غَيْرُهُ (كَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ) الدَّارَ (وَهَذِهِ) الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ (شَرْطًا مَجَازًا اصْطِلَاحًا) لِتَخَلُّفِ حُكْمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْوُجُودُ عِنْدَ وُجُودِهِ عَنْهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَرْطًا صُورَةً لَا مَعْنًى وَهَذِهِ هِيَ الْعَلَاقَةُ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْمُسَمَّى (جَدِيرٌ بِحَقِيقَتِهِ) أَيْ الشَّرْطِ لِتَوَقُّفِ وُجُودِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ وَلَا إفْضَاءٍ (وَيُقَالُ) لِهَذَا أَيْضًا (شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا) أَمَّا اسْمًا فَلِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنْ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالنِّيَّةِ شَرْطًا سَوَاءٌ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَأَمَّا لَا حُكْمًا فَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ.
فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ وَهِيَ فِي نِكَاحِهَا طَلُقَتْ اتِّفَاقًا وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْهُمَا أَوْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ زُفَرَ لِاسْتِوَاءِ الشَّرْطَيْنِ فِي تَوَقُّفِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا فَصَارَا كَشَرْطٍ وَاحِدٍ وَالْمِلْكُ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الثَّانِي فَكَذَا عِنْدَ الْأَوَّلِ وَطَلُقَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ دَخَلَتْهُمَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَلَا لِبَقَاءِ الْيَمِينِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ الذِّمَّةُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهَا فَلَا يُشْتَرَطُ إلَّا عِنْدَ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّهُ حَالَ نُزُولِ الْجَزَاءِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْمِلْكِ (وَمَا) أَيْ وَسَمَّوْا الْفِعْلَ الَّذِي (اعْتَرَضَ بَعْدَهُ) أَيْ حَصَلَ بَعْدَ حُصُولِهِ (فِعْلٌ مُخْتَارٌ لَمْ يَتَّصِلْ) هَذَا الْفِعْلُ (بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ حَالَ كَوْنِ هَذَا الْفِعْلِ (غَيْرَ مَنْسُوبٍ إلَى الشَّرْطِ) أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلِ (كَحَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ شَرْطًا فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِ فَلَا ضَمَانَ بِهِ) لِأَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ (فَلَا يَضْمَنُ) الْحَالُّ (قِيمَتَهُ) أَيْ الْعَبْدِ (إنْ أَبَقَ) لِأَنَّ حُكْمَهُ شَرْطُ الْإِبَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الْإِبَاقِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَلَفِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ التَّلَفِ إلَيْهِ وَهُوَ الْإِبَاقُ فَيَمْنَعُ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ ثُمَّ لَمَّا سَبَقَ الْحِلُّ الْإِبَاقَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَلَفٍ كَانَ لِلْحِلِّ حُكْمُ
السَّبَبِ لِأَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ يَتَقَدَّمُهُ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَيْهِ وَشَرْطُهُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ وُجُودًا فَخَرَجَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إذْ التَّعْلِيقُ وَهُوَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى الشَّرْطِ بَلْ بِالْعَكْسِ وَمَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ فِعْلٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ بَلْ طَبِيعِيٌّ كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ الْغَيْرِ فَسَالَ الْمَائِعُ مِنْهُ فَتَلِفَ وَمَا إذَا أَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ بِالْإِبَاقِ فَأَبَقَ لِأَنَّهُ وَإِنْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ فَالْأَمْرُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَبْدِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ فَيَصِيرُ غَاصِبًا بِهِ لِلْعَبْدِ فَعَمَلُهُ عَلَى وَفْقِ اسْتِعْمَالِهِ كَالْآلَةِ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهَا وَمَا إذَا كَانَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ مَنْسُوبًا إلَى الشَّرْطِ كَمَا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ ضَمَانِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَاقِلًا.
فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا لَا يَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَجْنُونًا كَانَ الْحَالُ ضَامِنًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اخْتِلَافٍ (وَكَذَا فِي فَتْحِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ لَا يَضْمَنُهَا) أَيْ الْفَاتِحُ الطَّيْرَ وَالدَّابَّةَ إذَا ذَهَبَا مِنْهُمَا عَلَى الْفَوْرِ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) فَقَالَ يَضْمَنُهُمَا إذَا ذَهَبَا عَلَى الْفَوْرِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ (جَعَلَهُ) أَيْ مُحَمَّدٌ فَتْحَ كُلٍّ مِنْهُمَا (كَشَرْطٍ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ إذْ بَايَعَهُمَا) أَيْ الطَّيْرَ وَالدَّابَّةَ (الِانْتِقَالَ) أَيْ الْخُرُوجَ عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يَصْبِرَانِ عَنْهُ عَادَةً (عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ) مِنْهُ وَالْعَادَةُ إذَا تَأَكَّدَتْ صَارَتْ طَبِيعَةً لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا (فَهُوَ) أَيْ انْتِقَالُهُمَا مِنْهُمَا (كَسَيَلَانِ) الْمَائِعِ مِنْ (الزِّقِّ عِنْدَ الشَّقِّ وَلِأَنَّ فِعْلَهُمَا) أَيْ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ (هَدَرٌ) شَرْعًا لِفَسَادِ اخْتِيَارِهِمَا كَمَا إذَا صَاحَ بِالدَّابَّةِ فَذَهَبَتْ صَارَ ضَامِنًا وَإِنْ ذَهَبَتْ مُخْتَارَةً لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ فَلَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ التَّلَفِ إلَيْهِ (فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَى الشَّرْطِ) الَّذِي هُوَ الْفَتْحُ (وَهُمَا) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ (مَنَعَا الْإِلْحَاقَ) أَيْ إلْحَاقَ الطَّائِرِ وَالدَّابَّةِ بِالْجَمَادِ الْمَائِعِ فِي إضَافَةِ التَّلَفِ إلَى الشَّرْطِ (بَعْدَ تَحْقِيقِ الِاخْتِيَارِ) لَهُمَا.
(وَكَوْنُهُ) أَيْ فِعْلِهَا (هَدَرًا) أَيْ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ حُكْمٍ بِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَحِلُّهُ الذِّمَّةُ وَلَا ذِمَّةَ لَهُمَا (لَا يَمْنَعُ قَطْعَ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ كَالْمُرْسَلِ) مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ الْمُصَادِ بِهَا (إلَى صَيْدٍ فَمَالَ) الْمُرْسَلُ (عَنْهُ) أَيْ الصَّيْدِ (ثُمَّ رَجَعَ) الْمُرْسَلُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى الصَّيْدِ (فَأَخَذَهُ مَيْلَةً هَدَرٌ) فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ بَهِيمَةً (وَقَطَعَ) مَيْلَهُ (النِّسْبَةَ) لِإِرْسَالِهِ (إلَى الْمُرْسَلِ) فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ (أَمَّا لَوْ نُسِبَ) خُرُوجُهُمَا (إلَيْهِ كَفَتْحِهِ) أَيْ الْفَاتِحِ (عَلَى وَجْهِ نَفْرِهِ) أَيْ مَا كَانَ فِيهِمَا مِنْ طَائِرٍ أَوْ دَابَّةٍ (فَفِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) أَيْ فَفَتْحُهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ بَلْ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (فَيَضْمَنُ) الْفَاتِحُ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ أَنَّ مَا ذَكَرَاهُ قِيَاسٌ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ بِالطَّبِيعَةِ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَإِهْدَارًا لِاخْتِيَارِ مَا لَا عَقْلَ لَهُ حُكْمًا فَإِنَّهُ اخْتِيَارٌ لَا حُكْمَ لَهُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ فَعَلَى هَذَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَرَجَّحُ الْقِيَاسُ فِيهَا عَلَى الِاسْتِحْسَانِ قُلْت بَلْ فِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى اخْتِيَارِ الْفَتْوَى بِالِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْفَتْوَى بِالضَّمَانِ بِالسِّعَايَةِ بَلْ بِطَرِيقٍ أَوْلَى ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ لُزُومُ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي فَوْرِ الْفَتْحِ بَلْ بَعْدَ لَحْظَةٍ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ لَكِنْ ذُكِرَ فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ عَدَمُ الضَّمَانِ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ عُلِمَ أَنَّهَا تَرَكَتْ عَادَتَهَا وَكَانَ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَأَشْبَهَ حِلَّ الْقَيْدِ وَسَاقَ هَذَا الْحُكْمَ مَسَاقَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ.
(وَأَمَّا الْعَلَامَةُ) وَعَلِمْت أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فَالْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِهِ لَا هُوَ نَفْسُهُ (فَكَالْأَوْقَاتِ لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ) الْمَفْرُوضَيْنِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ وُجُوبِهِمَا مِنْ غَيْرِ إفْضَاءٍ وَلَا تَأْثِيرٍ (وَعُدَّ الْإِحْصَانُ) لِإِيجَابِ رَجْمِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ (مِنْهَا) أَيْ الْعَلَامَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو زَيْدٍ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالْبَزْدَوِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ (لِثُبُوتِهِ) أَيْ الْإِحْصَانِ قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا (بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) أَيْ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَزُفَرَ وَلَوْ كَانَ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ لِتَوَقُّفِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي الْحُدُودِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حِينَئِذٍ تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ وَالْمُكَمِّلُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ
الْمُوجِبِ لِأَصْلِهَا فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ كَالزِّنَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا فَإِنَّ تَكْمِيلَ الْحَدِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَالَا الْإِحْصَانُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ إذْ هُوَ عَلَى مَا قَالَ كَثِيرٌ كَوْنُ الْإِنْسَانِ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً تَزَوُّجًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَعَزَا السَّرَخْسِيُّ هَذَا إلَى الْمُتَقَدِّمِينَ ثُمَّ تَعَقَّبَهُمْ بِأَنَّ شَرْطَهُ عَلَى الْخُصُوصِ شَيْئَانِ: الْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطَا الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ لَا شَرْطَا الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ بَعْضُهَا غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْقُدْرَةِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَبَعْضُهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لَهَا الْعِلَّةُ الصَّالِحَةُ وَهِيَ الزِّنَا فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا كَمَا قَبْلَ ثُبُوتِهِ (مُشْكِلٌ بَلْ هُوَ) أَيْ الْإِحْصَانُ (شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ) أَيْ الرَّجْمِ (كَمَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُ) مِنْهُمْ مُتَقَدِّمُو مَشَايِخِنَا وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ (لِتَوَقُّفِهِ) أَيْ وُجُوبِ الْحَدِّ (عَلَيْهِ) أَيْ الْإِحْصَانِ (بِلَا عَقْلِيَّةِ تَأْثِيرٍ) لَهُ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِّ.
(وَلَا إفْضَاءَ) إلَيْهِ وَهَذَا شَأْنُ الشَّرْطِ (لَا) أَنَّهُ عَلَامَةٌ (لِتَوَقُّفِ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهِ) أَيْ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الزِّنَا إذَا ثَبَتَ لَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُهُ عِلَّةً لِلرَّجْمِ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَلَامَةَ إذَا كَانَتْ دَلِيلَ الْوُجُودِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ.
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ كَمَا هُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَكَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي شُهُودِ الشَّرْطِ إذَا رَجَعُوا وَحْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ فَالْجَوَابُ لَا (وَعَدَمُ الضَّمَانِ بِرُجُوعِ شُهُودِ الشَّرْطِ هُوَ الْمُخْتَارُ) كَمَا سَلَفَ وَجْهُهُ (وَإِنَّمَا تُكَلِّفُهُ) أَيْ الْإِحْصَانَ (عَلَامَةَ الْمُضَمَّنِ) شُهُودَ الشَّرْطِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ عَدَمُ تَضْمِينِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ (وَهُوَ) أَيْ تَكَلُّفُهُ عَلَامَةً لِيَنْدَفِعَ عَنْهُ إلْزَامُ تَضْمِينِهِمْ (غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَوْ) كَانَ الْإِحْصَانُ (شَرْطًا لَمْ تَضْمَنْ) شُهُودُهُ (بِهِ) أَيْ بِالرُّجُوعِ أَيْضًا (إذْ شَرْطُهُ) أَيْ تَضْمِينِ شُهُودِ الشَّرْطِ (عَدَمُ) الْعِلَّةِ (الصَّالِحَةِ) لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا (وَالزِّنَا عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحَدِّ) إلَيْهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْإِحْصَانُ.
فَإِنْ قِيلَ الشَّرْطُ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعِلَّةِ حَقِيقَةً بَعْدَ وُجُودِهَا صُورَةً إلَى حِينِ وُجُودِهِ كَمَا فِي تَعْلِيقِ الْعَتَاقِ بِالدُّخُولِ مَثَلًا وَالزِّنَا إذَا تَحَقَّقَ لَمْ يَتَوَقَّفْ انْعِقَادُهُ عِلَّةً لِلرَّجْمِ عَلَى إحْصَانِ مُحْدِثٍ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَوْ وُجِدَ بَعْدَ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُطْلَقًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَتَقَدَّمَهُ) أَيْ الشَّرْطَ الْإِحْصَانُ (عَلَى الْعِلَّةِ الزِّنَا غَيْرُ قَادِحٍ) فِي كَوْنِ الْإِحْصَانِ شَرْطًا لِإِيجَابِ الرَّجْمِ (إذْ تَأَخُّرُهُ) أَيْ الشَّرْطِ (عَنْهَا) أَيْ الْعِلَّةِ صُورَةً (غَيْرُ لَازِمٍ كَشَرْطِ الصَّلَاةِ) مِنْ إزَالَةِ حَدَثٍ وَخَبَثٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ عِلَّةِ الصَّلَاةِ أَيْ الْخِطَابِ بِهَا أَوْ تَضْيِيقِ الْوَقْتِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وُجُوبُ شَرْطِهَا فَيَكُونُ هَذَا مِثَالًا لِتَأَخُّرِ الشَّرْطِ عَنْ الْعِلَّةِ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ وُجُودَهُ فَهُوَ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ عِلَّتِهَا بِالتَّفْسِيرِ السَّابِقِ لَهَا إمَّا لِعُذْرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِ أَوْ تَسَاهُلًا وَقَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا اسْتِعْدَادًا لِأَدَائِهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ عِلَّتِهَا وَعَلَى هَذَا فَجَعَلَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ مِثَالًا لِمَا لَا يَكُونُ الشَّرْطُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلَّةِ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ هَلْ يَلْزَمُ تَقَدُّمُهُ أَوْ تَأَخُّرُهُ عَنْ عِلَّتِهِ أَوْ لَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ بَلْ قَدْ وَقَدْ، وَتَقَدُّمُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْوُضُوءُ عَلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْ هَذَا بِشَيْءٍ؛ نَعَمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَأْخِيرَ الشَّرْطِ عَنْ الْعِلَّةِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عِلَّةٌ لِأَحْكَامِهَا الْمُخْتَصَّةِ بِهَا وَالْعَقْلُ شَرْطٌ لَهَا وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا (إلَّا فِي) الشَّرْطِ (التَّعْلِيقِيِّ) فَإِنَّ تَأَخُّرَهُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ لَازِمٌ (بَلْ قِيلَ) أَيْ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ.
(وَلَا فِيهِ) أَيْ وَلَيْسَ تَأَخُّرُ التَّعْلِيقِيِّ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ بِلَازِمٍ أَيْضًا (فَقَدْ يَتَقَدَّمُ) التَّعْلِيقِيُّ (وَيَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ الْعِلْمَ بِهِ) وَظُهُورُهُ (كَالتَّعْلِيقِ بِكَوْنِ قَيْدِهِ عَشَرَةً) بِأَنْ قَالَ إنْ كَانَ زِنَةُ قَيْدِ عَبْدِي عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَهُوَ حُرٌّ فَقَدْ سَبَقَ الشَّرْطُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَشَرَةً الْعِلَّةُ أَيْ الْيَمِينُ أَيْ الْجَزَاءُ مِنْهُ أَعْنِي قَوْلَهُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ نَظَرَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ
ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْطِ مَعْدُومٌ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَشَرَةً فَكَانَ هُوَ الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ خِلَافَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْلِيقَ فِي مِثْلِهِ) يَكُونُ (عَلَى الظُّهُورِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنْ ظَهَرَ أَنَّ زِنَةَ قَيْدِهِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ (لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ) أَيْ الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ تَعْلِيقٌ (عَلَى مَعْدُومٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَعَلَى كَائِنٍ تَنْجِيزُ) مَعْنًى وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا صُورَةً وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى وَقَدْ أَسْلَفْنَا هَذَا فِي ذَيْلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ مِنْ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ فَلْيُسْتَذْكَرْ بِالْمُرَاجَعَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْطَ التَّعْلِيقِيَّ قَدْ يُقْصَدُ فِيهِ وُجُودُ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَقَدْ يُقْصَدُ فِيهِ وُجُودُ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَالشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ دَائِمًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (فَكَوْنُهُ) أَيْ الْإِحْصَانِ (عَلَامَةً) لِوُجُوبِ الرَّجْمِ (مَجَازٌ) لِتَوَقُّفِ وُجُودِ وُجُوبِ الرَّجْمِ شَرْعًا عَلَى وُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ وَلَا إفْضَاءٍ وَلَوْ كَانَ عَلَامَةً حَقِيقَةً لَمَا تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهِ.
(وَلَا تَتَقَدَّمُ الْعَلَامَةُ عَلَى مَا هِيَ) عَلَامَةٌ (لَهُ كَالدُّخَانِ) عَلَامَةٌ عَلَى النَّارِ فَلَا يَتَقَدَّمُ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهَا قُلْت (وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ) إنْ تَمَّ اشْتِرَاطُ هَذَا فِي الْعَلَامَةِ اصْطِلَاحًا فِيهَا وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ عَلَامَةً عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَيْهِ سَابِقًا عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ كَالنَّارِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّخَانِ وَقَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ كَالسَّاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَلَامَاتِهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَلَامَةَ كَمَا تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَوْجُودٍ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَوْجُودٍ فِي الزَّمَانِ اللَّاحِقِ.
(وَمِنْهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ الْمُسَمَّى بِالْعَلَامَةِ (وِلَادَةُ الْمَبْتُوتَةِ) أَيْ الْبَائِنَةِ بِثَلَاثٍ فَمَا دُونَهَا (وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا) زَوْجُهَا (عَلَامَةُ الْعُلُوقِ السَّابِقِ) عَلَى الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ إذَا أَتَتَا بِهِ فِي مُدَّةٍ تَحْتَمِلُهُ (وَلَوْ) أَتَتَا بِهِ (بِلَا) تَقَدُّمِ (حَبَلٍ ظَاهِرٍ وَلَا اعْتِرَافٍ) مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ (عِنْدَهُمَا) أَيْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (فَقَبِلَا شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ) الْحُرَّةِ الْعَدْلَةِ (عَلَيْهَا) أَيْ الْوِلَادَةِ لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حِينَئِذٍ لَيْسَتْ إلَّا فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ (وَهِيَ) أَيْ شَهَادَتُهَا (مَقْبُولَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ) لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَةِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ» (ثُمَّ ثُبُوتُ نَسَبِهِ) أَيْ الْوَلَدِ إنَّمَا هُوَ (بِالْفِرَاشِ السَّابِقِ) عَلَى الْوِلَادَةِ وَهُوَ الْقَائِمُ عِنْدَ الْعُلُوقِ (وَعِنْدَهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ (لَيْسَتْ) الْوِلَادَةُ (عَلَامَةً إلَّا مَعَ أَحَدِهِمَا) أَيْ الْحَبَلِ الظَّاهِرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ الْمَوْتِ وَاعْتِرَافِ الزَّوْجِ بِهِ (فَلَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ (دُونَهُ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ) أَيْ عَدَمُ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَعَدَمُ اعْتِرَافِهِ بِالْحَبَلِ سَابِقًا (كَالْعِلَّةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ) لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ إلَّا بِهَا (فَيَلْزَمُ النِّصَابُ) أَيْ فَيُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِهَا كَمَالُ الْحُجَّةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا أَوْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا أَوْ إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَتَكُونُ الْوِلَادَةُ حِينَئِذٍ عَلَامَةً مُعَرِّفَةً لَهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِ الْوِلَادَةِ عَلَامَةً أَوْ لَا (إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَيْهَا) أَيْ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَكُنْ حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَا إقْرَارُ الزَّوْجِ بِهِ فَقَالَتْ وَلَدْت وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِهَا (قُبِلَتْ) فِي ثُبُوتِ الْوِلَادَةِ اتِّفَاقًا.
وَكَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِهَا ضِمْنًا لَا قَصْدًا (عِنْدَهُمَا) اعْتِبَارًا لِجَانِبِ كَوْنِهَا عَلَامَةً (وَعِنْدَهُ) لَا تُقْبَلُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا بَلْ (يَلْزَمُ النِّصَابُ) لِثُبُوتِهِ اعْتِبَارًا لِجَانِبِ كَوْنِهَا شَرْطًا لَهُ مَحْضًا لِلطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَمْنَعُ انْعِقَادَهُ عِلَّةً لِلْوُقُوعِ إلَى حِينِ وُجُودِهَا وَشَرْطُ الْحُكْمِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِكَمَالِ الْحُجَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ تُقْبَلْ (لِأَنَّهَا) شَهَادَةٌ (عَلَى) وُقُوعِ (الطَّلَاقِ مَعْنًى) وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَلَيْسَ وُقُوعُهُ حُكْمًا مُخْتَصًّا بِالْوِلَادَةِ لِوُجُودِ الِانْفِكَاكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَثُبُوتِ اللِّعَانِ عِنْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهَا لَازِمٌ لَهَا شَرْعًا فَإِذَا ثَبَتَتْ ثَبَتَ فَلَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ الْوِلَادَةِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا وَالْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِهَا لَا فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ (كَمَا عَلَى ثِيَابَةِ أَمَةٍ