الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن نُحْسِنُ الظنَّ بهم. والله أعلم.
ولا بأس بتقليد من اطَّلع على الأمر. والوَرَع تَرْك هذه اللحوم.
أمَّا التَّسمية على لحوم هذه الذَّبائح عند أَكْلِها فلا يكفي؛ لأنَّ الحديث الوارد في ذلك نصَّ على أنَّ اللحوم كان يأتي بها أقوامٌ أسلموا حديثاً؛ فهم مسلمون، لكنَّهم لا يعرفون تفصيلات الأحكام الشرعيَّة التي من جملتها التَّسمية على الذبائح، فتحسيناً للظنِّ بهم - لأنَّهم مسلمون - أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم للسائلين أن يُسمُّوا الله على تلك الذَّبائح ويأكلوا منها، فالفَرْق شاسع بين شيوعيٍّ أصيل وبين مسلم دَخَل في دين الله حديثاً. والحديث المشار إليه هو ما جاء في (موطَّأ الإمام مالك):(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ، وَلَا نَدْرِي هَلْ سَمَّوُا اللهَ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا اللهَ عَلَيْهَا ثُمَّ كُلُوهَا). قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ.
[فتاوى الشيخ نوح علي سلمان - دائرة الإفتاء الأردنية (رقم 2481)]
* * *
اللُّحُومُ المُعلَّبَةُ المُسْتَوْرَدَةُ مِنَ الخَارِجِ
(549) [ما حُكمُ اللُّحوم التي تَرِدُ في عُلَبٍ ونحوها من الخارج
؟]:
الجواب: الحمد لله وحده والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، وآله وصحبه
…
أمَّا بعد،
فقد وردت عدَّة أسئلة عن اللحوم التي تَرِدُ في علب ونحوها من الخارج، فأقدمت على الإجابة، وإن كنت لست أهلاً لذلك؛ لقِصَر باعي، وقلَّة اطِّلاعي، فأقول وبالله التوفيق:
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، وهذه الآية العظيمة من آخر ما نزل، وهي تدلُّ على إحاطة الشريعة وكمالها؛ فلم تحدث حادثة ولن تحدث إلَّا والشريعة المحمَّديَّة
قد أوضحت حكمها وبيَّنته، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى بيَّن البيان المُبين، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ)
…
(سنن ابن ماجه، المقدِّمة، 44)، (مسند أحمد ابن حنبل، 4/ 126)، (سنن الدارمي، المقدِّمة، 95).
وقال أبو ذر: «مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وطَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الهَوَاءِ، إِلَّا ذَكَرَ لَنا مِنْهُ عِلْمًا
…
»
وقال العبَّاس: «مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ترَكَ السَّبِيلَ نَهْجاً» ، فهذه اللُّحوم المُستورَدة من الخارج، والمحفوظة في علب أو نحوها قد بيَّنت الشريعة الإسلاميَّة حكمها غاية البيان، فإنَّ اللُّحوم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوَّل: أن يتحقَّق أنَّها من ذبائح أهل الكتاب، فهذه حلالٌ بنصِّ الكتاب والسُّنَّة والإجماع، ولم يقل بتحريمها أحدٌ يُعتدُّ بخلافه، قال سبحانه:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]؛ قال ابن عبَّاس وغيره: طعامهم ذبائحهم، وهذا دون باقي الكفَّار فإنَّ ذبائحهم لا تَحِلُّ للمسلمين؛ لأنَّ أهل الكتاب يتديَّنون بتحريم الذَّبْح لغير الله، فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم، وروى سعيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«لَا تَأْكُلُوا مِنَ الذَّبَائِحِ إِلَّا مَا ذَبَحَ المُسْلِمُونَ وَأهْلُ الْكِتَابِ» ، وفي حديث أنس:(أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ). (مسند أحمد بن حنبل، 3/ 211)، والإهالة: الودك
(1)
، والسَنِخة: المتغيِّرة، وحديث اليهوديَّة التي أهدت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم الشاة المَصْليَّة، وثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال: (لمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ فَاحْتَضَنْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي أَحَدًا
(1)
الوَدَكُ: دَسَمُ اللَّحْم ودُهْنُه الذي يُستخرَج منه، وشَحْم الأَلْيَة والجَنْبَين في الخروف. المعجم الوسيط (2/ 1022).
مِنْهُ شَيْئًا، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ) (صحيح البخاري، فرض الخمس، 3153)، (صحيح مسلم، الجهاد والسير، 1772)، (سنن النسائي، الضحايا، 4435)، (سنن أبي داود، الجهاد، 2702)، (مسند أحمد بن حنبل، 4/ 86)، (سنن الدارمي، السير، 2500). وقد صحَّ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ)، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.
القسم الثاني: أن تكون هذه اللحوم من ذبائح غير أهل الكتاب؛ كالمجوس، والهندوس، وعبدة الأوثان، ونحوهم فهذه اللحوم حرام، ولم يقل بإباحتها أحدٌ يُعتدُّ به، ولمَّا اشتهر قول أبي ثور بإباحتها أنكره عليه العُلماء، فقال الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وكُلُّ قول لا يؤيِّده الدليل لا يعتبر، وليس كُلُّ خلاف جاء معتبراً حتَّى يكون له حظٌّ من النظر.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، مفهومه: أنَّ غير أهل الكتاب لا تباح ذبائحهم، وروى أحمد بإسناده عن قيس بن السَّكَن الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّكُمْ نَزَلْتُمْ بِفَارِسَ مِن النَّبَطِ، فَإِذَا اشْتَرَيْتُمْ لَحْمًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَكُلُوا، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَبِيحَةِ مَجُوسِيٍّ فَلَا تَأْكُلُوا)، ولأنَّ أهل الكتاب يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، كما ذكره ابن كثير وغيره بخلاف غيرهم، والمجوس وإن أُخِذَت منهم الجِزْيَة تبعاً لأهل الكتاب وإلحاقاً بهم، فإنَّهم لا تُنكَح نساؤهم، ولا تُؤكَل ذبائحهم، وأمَّا ما يُروَى (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)(موطأ مالك، الزكاة، 617) فلم يثبت بهذا اللفظ، على أنَّه لا دليل فيه، إذ المراد: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب فيما ذُكِرَ من أَخْذ الجِزْيَة منهم. ولو سُلِّم بصحَّة هذا الحديث فعمومه
مخصوص بمفهوم هذه الآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5].
القسم الثالث: ألَّا يُعلَم هل هي من ذبائح أهل الكتاب أو غيرهم: فالقواعد الشرعيَّة تقضي بالتحريم؛ فإنَّ القاعدة الشرعيَّة: أنَّه (إذا اشتبه مُباح بمُحرَّم حُرِّم أحدُهما بالأصالة والآخرُ بالاشتباه)، والقاعدة الأخرى:(إذا اجتمع مُبيحٌ وحاظِرٌ قُدِّم الحاظِرُ)؛ لأنَّه أحوط وأبعد من الشُّبهة، والأدلَّة دلَّت على البُعْد عن مواضع الشُّبهة؛ كما في الحديث:(الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابهاتٌ لَا يَعْرِفُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقعَ فِيهِ)(صحيح البخاري، الإيمان، 52)، (صحيح مسلم، المساقاة، 1599).
وفي حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ) رواه النسائي والترمذي وصحَّحه.
وممَّا استدلُّوا به على التحريم في موضع الاشتباه: حديث عَدِيٍّ رضي الله عنه: (وإِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ فَوَجَدْتَ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ)(صحيح البخاري، الذبائح والصيد، 5476)، (صحيح مسلم، الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، 1929)، وفي رواية:(إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمعَلَّمَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ، فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ) متَّفق عليه.
أمَّا هذه اللحوم فإنَّها وإن كانت تُستورَد من بلاد تدَّعي أنَّها كتابيَّة فإنَّها حرامُ وميتةٌ ونَجِسَةٌ، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتحرُم قيمتها، كما في الحديث (إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)(سنن أبي داود، البيوع، 3488)،
(مسند أحمد بن حنبل، 1/ 247).
وذلك لوجوه عديدة:
أوَّلًا: أنَّ هذه الدول في الوقت الحاضر قد نبذت الأديان وخرجت عليها، وكون الشخص يهوديًّا أو نصرانيًّا هو بتمسُّكه بأحكام ذلك الدِّين، أمَّا إذا تركه ونبذه وراء ظهره فلا يُعدُّ كتابيًّا، والانتساب فقط دون العمل لا ينفع، كما أنَّ المسلمَ مسلمٌ بتمسُّكه بدين الإسلام، فإذا تركه فليس بمسلم، ولو كان أبواه مسلمين، فإنَّ مجرَّد الانتساب لا يفيد، وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه قال في نصارى بني تغلب:«إِنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ سِوَى شُرْبِ الخَمْرِ» .
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله بعد كلام: «وكون الرَّجُل كتابيًّا أو غير كتابيٍّ هو حُكمٌ يستفيده بنَفْسه لا بِنَسَبِه، فكُلُّ من تَدَيَّن بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جدُّه دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله بعد النَّسْخ والتبديل أو قبل ذلك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه خلاف، وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم، وذكر الطحاوي أنَّ هذا إجماع قديم» .
الثاني: أنَّ ذبائح المذكورين الآن إمَّا مَوْقوذَة أو مُخْتَنِقَة، والمُخْتَنِقَة التي تُخْنَق فتموت، والمَوْقوذَة التي تُضْرَب فتموت، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3].
وقد تحقَّق أنَّ هذه الدول الآن تقتل البهيمة إمَّا بواسطة تسليط الكهرباء فتموت خَنْقاً، وإمَّا بضربها بمَطْرقة في مكان معروف لديهم فتموت حالًا، وهذا محقَّق عنهم لا يمتري فيه أحد؛ فقد كُتِبَت عنَّهم عدَّة كتابات في هذا الصدد.
فتحقَّق أنَّ ذبائحهم ما بين مُنْخَنِقة
ومَوْقوذَة، وهذه لا يمتري أحد بتحريمها؛ فقد حرَّمها الله في كتابه، وقرن تحريمها بتحريم الميتة والخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله، وهذا غاية في التنفير والتحريم، فلا يبيحها كون خانقها أو واقذها منتسباً لدين أهل الكتاب.
وقد صرح العُلماء: أنَّ من شروط صحَّة الذَّبْح الآلة، وللآلة شرطان:
أحدهما: أن تكون محدَّدةً تقطع، أو تخرق بحَدِّها، لا بثِقَلِها، وفي حديث عَدِيٍّ قال:(سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ المِعْرَاضِ فَقَالَ: مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ)(صحيح البخاري، الذبائح والصيد، 5475)، (صحيح مسلم، الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، 1929).
والثاني: ألَّا تكون سِنًّا ولا ظُفُراً، فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيءٍ حَلَّ الذَّبْح به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ، وَالظُّفُرَ) متَّفق عليه.
وقال في (المغني): وأما المحلُّ -محل الذَّبْح -فالحَلْق واللَّبَّة، وهي الوَهْدَة التي بين أصل العُنُق والصَّدْر، ولا يجوز الذَّبْح في غير هذا المحلِّ بالإجماع.
الثالث: أنَّ الله أباح ذبائح أهل الكتاب؛ لأنَّهم يذكرون اسم الله عليها، كما ذكره ابن كثير وغيره، أمَّا الآن فقد تغيَّرت الحال، فهم ما بين مهمل لذِكْر الله، فلا يذكرون اسم الله ولا اسم غيره، أو ذاكرٍ لاسم غيره؛ كاسم المسيح، أو العُزَير، أو مريم، ولا يخفى حكم ما أُهلَّ لغير الله به في سياق المحرَّمات {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، وفي حديث عليٍّ:(لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ) الحديث رواه مسلم والنسائي، أو ذاكرٍ عليه اسم الله واسم غيره، أو ذابحٍ لغير الله كالذي يذبح للمسيح أو عُزَير أو باسمهما، فهذا لا يشكُّ مسلمٌ
بتحريمه، وأنَّه ممَّا أُهِلَّ به لغير الله.
وذكر إبراهيم المرُّوذِي: أنَّ ما ذُبِح عند استقبال السلطان تقرُّباً إليه أفتى أهل بُخارَى بتحريمه؛ لأنَّه ممَّا أُهِلَّ لغير الله. اهـ.
فمن ذبح للصنم، أو لموسى، أو لعيسى، أو غيرهما، فكُلُّ هذا حَرامٌ، ولا تَحِلُّ الذبيحة، سواء كان الذابح مسلماً أو كافراً، وبعضهم أباح هذه الذبائح مستدلًّا بقوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وهذه ذبائحهم.
والصحيح: ما ذكرنا؛ لما أشرنا إليه من الأدلَّة، ولا مخالفة حتَّى يطلب الجمع، إذ ذبيحة الكتابيِّ مباحة، فلا تباح المُنْخَنِقة والمَوْقوذَة وما أُهِلَّ به لغير الله؛ لأنَّ خانقها وواقِذَها وذابحها من أهل الكتاب.
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية بعد كلام في الجمع بين قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، وقوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] قال: والأشبه بالكتاب والسنة ما دلَّ عليه كلام أحمد من الحَظْر، وإن كان من متأخِّري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال؛ وذلك لأنَّ قوله:{أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] عمومٌ محفوظٌ لم تخصَّ منه صورة، بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنَّه يُشرَط له الذَّكاة المبيحة، فلو ذَكَّى الكتابيُّ في غير المَحلِّ المشروع لم تبحْ ذكاتُه، ولأنَّ غاية الكتابيِّ أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله وذبح باسم غير الله لم يبح، وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمِّي؛ لأنَّ قوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] سواء، وهم وإن كانوا يستحلُّون هذا، ونحن لا نستحلُّه، فليس كُلُّ ما استحلُّوه يحلُّ لنا، ولأنَّه قد تعارض دليلان حاظِرٌ
ومبيحٌ، فالحاظِرُ أَوْلَى أن يُقدَّم، ولأنَّ الذَّبْح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقيناً أنَّه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي قد أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حَلَّت ذبائحهم مُنتفٍ في هذا، والله أعلم. اهـ.
وأمَّا حكم متروك التَّسمية فقط عمداً أو سهواً، فهذه المسألة الخلاف فيها شهير، والحكم ولله الحمد واضح.
الرابع: أنَّ موضوع الذَّبْح الاختياري معروف، وهو في الحَلْق واللَّبَّة، ولا يجوز في غير ذلك إجماعاً، وروى سعيد والأثرم عن أبي هريرة قال:(بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مَكَّةَ: أَلَا إِنَّ الذَّكاة فِي الحَلْقِ وَاللَّبَّة) رواه الدارقطني بإسناد جيِّد، وروي عن أبي هريرة قال:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَتَقْطَعُ الْجِلْدَ وَلَا تَفْرِي الْأَوْدَاجَ) رواه أبو داود.
وروى سعيد في (سننه) عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (إذَا أُهْرِيقَ الدَّمُ وَقُطِعَ الْوَدَجُ فَكُلْ). إسناده حسن، والوَدَجان: عِرْقان بالحُلْقوم، وهذا معدوم في ذبائح المذكورين كما ذكرناه سابقاً، فلا تحلُّ، قال في (مغني ذوي الأفهام): الثالث: أن يقطع الحُلْقوم والمَريء بالآلة، فإن خنقها، أو عصر رأسها بيده، أو ضربها بحجر أو عصا على محلِّ الذَّبْح لم يَحِلَّ أَكْلُها.
الخامس: لو فرضنا أنَّه يوجد في تلك البلدان من يذبح ذبحاً شرعيًّا، ويوجد من يذبح ذبحاً آخر؛ كالخَنْق والوَقْذ، فلا تَحِلُّ؛ للاشتباه، كما هي قاعدة الشرع المعروفة، ولحديث عَدِيٍّ المتقدِّم. قال ابن رَجَب -بعد كلام-: وما أصلُه الحَظْر؛ كالأَبْضاع، ولحوم الحيوان فلا تَحِلُّ إلَّا بيقين حِلِّه من التَّذْكية والعَقْد، فإن تردَّد في شيء من ذلك لسبب آخر، رجع إلى الأصل فبنَى عليه، فما أصله الحُرْمَة بُني على