الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ) رواه أبو داود والنَّسائيُّ، وهذا لفظه.
وعن أبي رَيْحانَة: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجَه.
وروى أبو داود والنَّسائيُّ عن مُعاوية عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَصْحَبُ المَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ) رواه أبو داود. وفي هذا القول جمعٌ بين الأحاديث كُلِّها. والله أعلم.
[مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 90 - 96)]
* * *
دِبَاغُ جِلْدِ النِّمْسِ وَالقُنْدُسِ
(1)
وَالسِّنَّورِ وَالسِّنْجَابِ وَالذِّئْبِ وَسِنَّوْرِ البَرِّ والثَّعْلَبِ
(875) السؤال: جِلدُ النِّمْسِ والقُنْدُسِ والسِّنَّور والسِّنْجابِ والذِّئبِ وسِنَّورِ البَرِّ والثَّعلَبِ؛ إذا دُبِغَتْ جُلودِ هذه الحيوانات وجُعِلَت فِراءً؛ فهل تكون بالدِّباغ طاهرةً تصحُّ الصَّلاة فيها وعليها
؟
الجواب: أمَّا الثَّعلب والسِّنَّور والسِّنْجاب إذا ذُكِّيَت فجُلودُها وشُعورُها طاهرةٌ، وسِنَّور البَرِّ لا يُؤكَل؛ فجِلْدُه نَجِسٌ يَطْهُر بالدِّباغ، ولا يَطْهُر شَعْرُه على الأصحِّ، والقُنْدُس مشكوكٌ، وكذلك النِّمْس؛ فالأصحُّ أنَّه لا يجوز استصحابُه في الصَّلاة، والله أعلم.
[فتاوى ابن الصلاح (2/ 473)]
* * *
دِباغُ شَعْرِ السِّنْجابِ وَنَحْوِهِ مِنْ شُعُورِ المَيْتَةِ
(876) السؤال: ما قول مولانا شيخ الإسلام
…
في شَعْرِ السِّنْجابِ ونَحوِه مِنْ شُعورِ المَيتَة هل يَطْهُرُ بالدِّباغ تَبَعاً للجِلْد أو لا
؟ ولَسْنا نَسألُكُم عن مشهور مذهب الإمام الشَّافعيِّ رضي الله عنه؛ فإنَّ الأظهر مِنْ قَوْلَيْه عند الجمهور عَدَمُ الطَّهارةِ، بل نَسأَلُكُم
(1)
القُنْدُس: كَلْب الماء. انظر: حياة الحيوان الكبرى (2/ 360).
عمَّا يقتضيه الدَّليلُ والنَّظَر من حيث الاجتهاد، والمسؤول أن يكون الجواب على طريقة الاجتهاد وأصحاب الاختيارات.
الجواب: الحمد الله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
الكلام على هذه المسألة يحتاج إلى تحرير مُقدِّمَتَين:
الأُولَى: في أنَّ الشَّعْرَ هل يَنْجُسُ بالموت أو لا يَنْجُس به، بل يبقى على طهارته؟
والثَّانية: في مذاهب العُلماء في طهارة الجِلْد بالدِّباغ وعدمها، وحُجَجُ كُلٍّ منهما.
أمَّا المُقدِّمة الأُولى: فقد اختلف العُلماء في نجاسة الشَّعْر بالموت؛ فذهب جماعةٌ إلى نجاسته؛ منهم: عطاءٌ، والشَّافعيُّ -فيما حكاه عنه جمهور أصحابه؛ البُويْطِيُّ، والمُزَنِيُّ، والرَّبيعُ المُرَادِيُّ، وحَرْمَلَةُ، وأصحابُ القديم، وصحَّحهُ جمهور المُصحِّحين-.
وقال أكثرُ الأئمَّة: إنَّ الشَّعْرَ لا يَنْجُسُ بالموت؛ منهم: عمرُ بن عبد العزيز، والحَسَنُ البَصريُّ، وحَمَّادُ بن أبي سُليمان الكُوفيُّ، وأبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشَّافعيُّ في آخر قَوْلَيْه؛ قال صاحب (الحاوي): حكى ابنُ شُرَيْحٍ عن أبي القاسم الأَنْماطيِّ عن المُزنِيِّ عن الشَّافعيِّ أنَّه رَجَعَ عن تَنَجُّسِ الشَّعْرِ.
وذهب إليه أيضاً: أحمدُ بن حنبل، وإسحاقُ بن راهَوَيْه، والمُزنِيُّ، وابنُ المُنْذرِ، وداودُ.
وقال أبو حنيفةَ: لا يَنْجُسُ شيءٌ من الشَّعْر بالموت إلَّا شَعْر الخنزير.
واحتجَّ هؤلاء بقول الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، وهذا عامُّ في كُلِّ حالٍ.
وبقوله صلى الله عليه وسلم في المَيتَةِ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) رواه الشيخان.
وبأنَّ الشَّعْرَ لا تَحُلُّهُ الحياةُ؛ بدليل أنَّه إذا جُزَّ لا يألَم صاحبُه، فلا يَحُلُّه الموتُ المُقتَضِي للتَّنْجيسِ، فلا يكون نَجِساً، بل يبقى على طهارته كما كان قبل الموت.
وبأنَّ المُقتضِي لتَنْجيس اللَّحم والجِلْد ما فيها من الزُّهومَة، ولا زُهومَة في الشَّعْر، فلا يَنْجُس.
وحكى العَبْدَرِيُّ عن الحَسن، وعطاءٍ، والأَوزاعيِّ، واللَّيث بن سَعْدٍ؛ أنَّ الشَّعْر يَنْجُس بالموت، ولكن يَطْهُر بالغَسْل.
واحتجُّوا بحديث أمِّ سَلَمَةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَا بَأْسَ بِجِلْدِ المَيتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بِشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ) رواه الدَّارقطنيُّ، وسَنَدُه ضعيفٌ.
وبالقياس على شَعْر غيرها إذا حَلَّت فيه نَجاسةٌ، فإنَّه يَطْهُر بالغَسْل كسائر الجامِدات إذا طَرَأَت نَجاسَتُها.
وحكى الرَّبيعُ الجِيزيُّ عن الشَّافعيِّ أنَّ الشَّعْر تابعٌ للجِلْد؛ يَطْهُر بطهارَتِه، ويَنْجُس بنجاستِه. وهذا أقوى المذاهب، كما سنذكره.
وأمَّا المُقدِّمة الثَّانية: فللعُلماء في جُلودِ المَيتَة سبعة مذاهب:
أحدُها: لا يَطْهُر بالدِّباغ شيءٌ منها، رُوِيَ ذلك عن عمر بن الخَطَّاب، وابنه، وعائشةَ، وهو أشهر الرِّوايتين عن أحمد، وروايةٌ عن مالكٍ.
والثَّاني: يَطْهُر بالدَّبغ جِلْد مأكول اللَّحم دون غيره، وهو مذهب الأَوْزاعيِّ، وابن المُبارَك، وأبي ثَوْرٍ، وإسحاق بن راهَوَيْه، ورواية أَشْهَب عن مالكٍ.
والثَّالث: يَطْهُر به كُلُّ جُلود المَيتَة إلَّا الكَلْب، والخنزير، والمُتولِّد من أحدهما، وهو مذهب الشَّافعيِّ، وحَكَوْه عن عليِّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعودٍ.
والرَّابع: يَطْهُر به الجميع إلَّا جلد الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة، وروايةٌ عن مالكٍ حكاها ابن القَطَّان.
والخامس: يَطْهُر الجميع حتَّى الكَلْب والخنزير، إلَّا أنَّه يَطْهُر ظاهِرُه دون باطِنِه؛ فيُستعمَلُ في اليابس دون الرَّطْب، ويُصلَّى عليه، لا فيه، وهو مذهب مالك فيما حكاه أصحابنا عنه.
والسَّادس: يَطْهُر الجميع حتَّى الكَلْب والخنزير ظاهراً وباطناً. قاله داود وأهل الظَّاهِر، وحكاه المَاوَرْدِيُّ عن أبي يوسُف، وحكاه غيره عن سُحْنون من المالكيَّة.
والسَّابع: يُنتَفَع بجُلود المَيتَة بلا دِباغٍ، ويجوز استعمالُها في الرَّطْب واليابِس. حكوه عن الزُّهْريِّ.
واحتجَّ أصحاب المذهب الأوَّل بأشياء؛ منها:
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وهو عامٌّ في الجِلْد وغيره.
وبحديث عبد الله بن عُكَيْم قال: (أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ)، وهذا الحديث هو عُمْدَتُهم، وقد أخرجه الشَّافعيُّ في (حَرْمَلَة)، وأحمدُ في (مُسنَدِه)، والبُخاريُّ في (تاريخه)، وأبو داود، والتِّرمذيُّ وحسَّنه، والنَّسائيُّ، وابن ماجَه، وابنُ حِبَّان، والدَّارقطنيُّ، والبيهقيُّ، وغيرهم.
قال التِّرمذيُّ: سمعتُ أحمد بن الحسين يقول: كان أحمدُ بن حنبل يذهب إلى حديث ابن عُكَيْم هذا؛ لقولِهِ: (قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ)، وكان يقول:«هَذَا آخِرُ الأَمْرِ» .
قالوا: ولأنَّه جزءٌ من المَيتَة، فلا يَطْهُر بشيءٍ كاللَّحم، وأنَّ المعنى الذي نَجُسَ به هو الموت، وهو مُلازِمٌ له لا يزول بالدَّبْغ، ولا يتغيَّر الحُكْم.
واحتجَّ أصحاب المذهب الثَّالث بما أخرجه مُسلمٌ وأبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ)، وفي لفظٍ:(أَيَّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ).
وبما أخرجه البُخاريُّ ومُسلمٌ عن
ابن عبَّاس: (أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: هَلَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ؟! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّهَا مَيْتَةٌ! قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا).
وبما أخرجه البُخاريُّ عن سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: (مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا).
وروى أبو يَعْلَى في (مسنده) بإسناد صحيح، عن ابن عبَّاسٍ قال:(مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَاتَتْ فُلَانَةُ -يَعْنِي الشَّاةَ-، فَقَالَ: فَهَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا. قَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟!)؛ فذكر تمام الحديث كرواية البُخاريِّ.
وروى مالكٌ في (المُوطَّأ) وأبو داودَ والنَّسائيُّ وابن ماجَه بأسانيد حَسَنةٍ عن عائشة (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ المَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ).
وروى أحمد في (مسنده)، وابن خُزَيمَة في (صحيحه)، والحاكِم في (المُستدْرَك)، والبيهقيُّ في (سُننه) وصحَّحاه، عن ابن عبَّاسٍ قال:(أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ سِقَاءٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَيْتَةٌ. قَالَ: دِبَاغُهُ يَذْهَبُ بِخُبْثِهِ، أَوْ نَجَسِهِ، أَوْ رِجْسِهِ).
وروى أحمد وأبو داود والنَّسائيُّ وابن حِبَّان والدَّارقُطنيُّ والبَيهقيُّ بإسنادٍ صحيح، من طريق جَوْن بن قَتادة عن سَلَمَة بن المُحَبِّق:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ. قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا).
وروى أبو داود والنَّسائيُّ والدَّارقطنيُّ عن مَيمونَة قالت: (مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الحِمَارِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يُطَهِّرُهَا المَاءُ وَالقَرَظُ).
وروى الدَّارقُطنيُّ والبَيهقيُّ في (سُننهما) بسَندٍ حَسنٍ، عن ابن عبَّاسٍ
قال: (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله؛ إِنْهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا، أَوَلَيْسَ فِي المَاءِ وَالقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا)، وفي لفظٍ عند الدَّارقُطنيِّ قال:(إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهَا)، وفي لفظٍ عنده قال:(إِنَّمَا حَرُمَ لَحْمُهَا، وَدِبَاغُ إِهَابِهَا طَهُورُهُ)، وفي لفظٍ عنده قال:(إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا، وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا). قال الدَّارقطنيُّ: هذه أسانيدٌ صِحاحٌ.
وروى الدَّارقطنيُّ عن عائشة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (ذَكَاةُ المَيْتَةِ دِبَاغُهَا)، وفي لفظٍ:(طَهُورُهَا دِبَاغُها).
وروى الدَّارقطنيُّ عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (دِبَاغُ كُلِّ إِهَابٍ طَهُورُهُ).
وروى الدَّارقطنيُّ بسندٍ صحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيَّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ).
وروى الخَطيب في (تلخيص المتشابه) من حديث جابرٍ مثله.
وروى الطَّبرانيُّ في (الكبير) و (الأوسط) عن أبي أُمامَة: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَمَرَّ بِأَهْلِ أَبْيَاتٍ مِنَ العَرَبِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: هَلْ مِنْ مَاءٍ لِوُضُوءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا مَاءٌ إِلَّا فِي إِهَابِ مَيْتَةٍ، دَبَغْنَاهُ بِلَبَنٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ، فَأُتِيَ مِنْهُ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى).
وروى أبو يَعْلَى في (مسنده) عن أنسٍ قال: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، ادْعُ لِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِوَضُوءٍ، فَقُلْتُ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُ وَضُوءًا. فَقَالَ: أَخْبِرْهُ أَنَّ دَلْوَنَا جِلْدُ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: سَلْهُمْ، هَلْ دَبَغُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ).
وروى الطَّبرانيُّ في (الكبير) عن ابن مسعودٍ قال: (مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: مَا ضَرَّ أَهْلَ هَذِهِ لَوِ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا).
وروى الطَّبرانيُّ في (الكبير) عن سِنان بن سَلَمَة (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى جَذَعَةٍ مَيْتَةٍ فَقَالَ: مَا ضَرَّ أَهْلَ هَذِهِ لَوْ انْتَفَعُوا بِمَسْكِهَا).
وروى الدَّارقطنيُّ عن ابن عمر (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى شَاةٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَقَالُوا: مَيْتَةٌ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْبَغُوا إِهَابَهَا؛ فَإِنَّ دِبَاغَهُ طَهُورَهُ).
وروى الدَّارقطنيُّ عن زيدِ بن ثابتٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (دِبَاغُ جُلُودِ المَيْتَةِ طَهُورُهَا).
وروى الدَّارقطنيُّ عن عائشة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (طَهُورُ الأَدِيمِ دِبَاغُهُ).
وروى أبو يَعْلَى والطَّبرانيُّ والدَّارقطنيُّ عن أمِّ سَلَمَة (أَنَّهَا كَانَتْ لَها شَاةٌ فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ قُلْنَا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ دِبَاغَهَا يَحِلُّ كَمَا يَحِلُّ الخَلُّ مِنَ الخَمْرِ).
وروى أحمد والطَّبرانيُّ عن المُغيرة بن شُعْبَة قال: (طَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَاءً مِنِ امْرَأَةٍ أَعْرَابِيَّةٍ، فَقَالَتْ: هَذِهِ القِرْبَةُ مَسْكُ مَيْتَةٍ، وَلَا أُحِبُّ أُنَجِّسُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ دَبَغَتْهَا فَهُوَ طَهُورُهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَقَدْ دَبَغْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ مِنْهَا).
وروى الطَّبرانيُّ في (الأوسط) بإسناد حَسنٍ، عن أنس بن مالكٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَوْهَبَ وَضُوءًا، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ إِلَّا فِي مَسْكِ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: أَدَبَغْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلُمَّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورُهُ).
وروى الحارث بن أبي أُسامة في (مسنده) عن جابر بن عبد الله قال: (كُنَّا نُصِيبُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَغَانِمِنَا مِنَ المُشْرِكِينَ الأَسْقِيَةَ وَالأَوْعِيَةَ فَنَقْسِمُهَا، كُلَّهَا مَيْتَةً).
وبالقياس؛ لأنَّه جِلْدٌ طاهرٌ طَرَأت عليه نجاسةٌ، فجاز أن يَطْهُر كجِلْد المُذكَّاة إذا تَنَجَّس.
وأجابوا عن احتجاج الأوَّلين بالآية
بأنَّها عامَّة خَصَّصتها السُّنَّة.
وأمَّا حديث عبد الله بن عُكَيمٍ؛ فأجاب عنه البيهقيُّ وجماعةٌ من الحُفَّاظ بأنَّه مُرْسَلٌ، وابن عُكَيمٍ ليس بصحابيِّ، وكذا قال أبو حاتم.
وقال ابن دَقيق العِيد: رُوِيَ أنَّ إسحاق بن راهَوَيْه ناظَر الشَّافعيَّ وأحمدَ بن حنبل في جُلود المَيتَة إذا دُبِغَت؛ فقال الشَّافعيُّ: دِباغُها طَهورُها. فقال له إسحاق: ما الدَّليل؟ فقال: حديث الزُّهريِّ عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عبَّاس عن مَيْمونَةَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا).
فقال له إسحاق: حديث ابن عُكَيم: (كَتَبَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ)، فهذا يُشْبِه أن يكون ناسِخاً لحديث مَيْمونة؛ لأنَّه قبل موته بشهرٍ.
فقال الشَّافعيُّ رضي الله عنه: هذا كتابٌ، وذاك سَماعٌ.
فقال إسحاق: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلى كِسْرَى وقَيْصَر، وكانت حُجَّةً عليهم عند الله. فسَكَتَ الشَّافعيُّ.
فلمَّا سَمِعَ ذلك أحمد، ذَهَب إلى حديث ابن عُكَيم وأفتى به، ورَجَع إسحاق إلى حديث الشَّافعيِّ.
وقال ابن دَقيق العِيد: كان والدي يَحكِي عن الحافظ أبي الحَسَن المَقْدِسيِّ -وكان من أئمَّة المالكيَّة- أنَّه كان يرى أنَّ حُجَّة الشَّافعيِّ باقيةٌ؛ يريد لأنَّ الكلام في التَّرجيح بالسَّماع والكتاب، لا في إبطال الاستدلال بالكتاب.
وقال الخَطَّابيُّ: مذهب عامَّة العلماء جواز الدِّباغ، والحُكم بطهارة الإِهاب إذا دُبِغ، ووهَّنوا هذا الحديث؛ لأنَّ ابن عُكَيم لم يَلْقَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو حكايةٌ عن كتابٍ أتاهُم. قال: وقد يَحتَمِل إن ثبت الحديث أن يكون النَّهي إنَّما جاء عن الانتفاع بها قبل الدِّباغ، فلا يجوز أن نترك به الأَخبار الصَّحيحة التي قد جاءت في الدِّباغ،
وأن يُحمَل على النَّسْخ.
وقال غيرُه: قد عَلَّلوا حديث ابن عُكَيم بأنَّه مُضْطرِبٌ في إسناده؛ حيث روى بعضُهم فقال: عن ابن عُكَيم عن أَشْياخٍ من جُهَينَة. كذا حَكاهُ التِّرمذيُّ. وهؤلاء الأشياخ مجهولون لم تثبت صُحبَتُهم.
وقد حَكَى التِّرمذيُّ عن أحمد بن حنبل أنَّه كان يذهبُ إلى هذا الحديث، ثمَّ تَرَكَهُ لهذا الاضطراب.
وقال الخَلَّال: لمَّا رأى أبو عبد الله تَزَلْزُلَ الرُّواة فيه توقَّف فيه، وقد رُوِيَ قبل موتِه بشَهْرٍ، ورُوِي بشَهْرَين، ورُوِي بأربعين يوماً، ورُوِيَ بثلاثةِ أيَّامٍ، ورُوِيَ من غير تقييدٍ بمُدَّةٍ؛ وهي رواية الأكثر. وهذا الاضطراب في المتن.
وأُجيبَ عنه أيضاً بأنَّ أخبار الدِّباغ أصحُّ إسناداً، وأكثرُ رواةً؛ فهي أقوى وأَوْلَى.
وبأنَّه عامٌّ في النَّهي، وأخبارُ الدِّباغ مُخصِّصَةٌ للنَّهي بما قبل الدِّباغ، مُصَرِّحَةٌ بجواز الانتفاع بعد الدِّباغ، و (الخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ عند التعارض).
وبأنَّ الإِهابَ في اللُّغةِ هو الجِلْدُ قبل أن يُدبَغَ، ولا يُسمَّى بعده إهاباً. كذا قاله الخليل بن أحمد، والنَّضْرُ بن شُمَيْل، وأبو داود السِّجسْتانيُّ، وكذا قاله الجَوهَريُّ، وآخرون من أهل اللُّغة. وهذا من القول بالمُوجِب.
فإن قالوا: هذا الخبر مُتأخِّرٌ فيُقَدَّمُ، ويكون ناسِخاً.
فالجواب من أوجهٍ:
أحدُها: لا نُسَلِّمُ تأخُّرَه عن أخبار الدِّباغ؛ لأنَّها مُطلَقةٌ؛ فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون شَهْرين وشَهْرٍ.
الثَّاني: أنَّه رُوِيَ قبل موته بشَهْر، ورُوِيَ بشَهْرين، ورُوِيَ بأربعين يوماً، وكثيرٌ من الرِّوايات ليس فيه تاريخ، وكذا هو في رواية أبي داود؛ فحَصَل فيه نوع اضطرابٍ، فلم يبقَ تاريخٌ
يُعتمَدُ.
الثَّالث: لو سُلِّمَ تأخُّرُه لم يكنْ فيه دليلٌ؛ لأنَّه عامٌّ، وأخبار الدِّباغ خاصَّة، و (الخاصُّ مُقدَّم على العامِّ، سواءٌ تقدَّم أو تأخَّر)، كما هو معروف عند الجماهير من أهل أصول الفقه.
وأمَّا الجواب عن قياسهم على اللَّحم فمن وجهين:
أحدُهُما: أنَّه قياسٌ في مقابلة نصوص، فلا يُلْتَفت إليه.
والثَّاني: أنَّ الدِّباغ في اللَّحم لا يتأتَّى، وليس فيه مصلحةٌ له، بل يمْحَقُه، بخلاف الجِلْدِ؛ فإنَّه يُنظِّفُه ويُطَيِّبُه ويُصَلِّبُه.
وبهذين الجوابين يُجابُ عن قولهم: العِلَّةُ في التَّنْجيسِ الموت، وهو قائم.
واحتجَّ أصحاب المذهب الثاني بما رواه أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ والحاكِم وغيرهم بأسانيد صحيحة، عن أبي المُلَيْح عامِر بن أُسامة عن أبيه رضي الله عنه:(أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ)، وفي روايةٍ للتِّرمذيِّ:(نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ)؛ قالوا: فلو كانت تَطْهُرُ بالدِّباغِ لم يَنْهَ عن افتراشِها مُطْلَقاً.
وبحديث سَلَمَة بن المُحَبَّق السَّابق: (دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا)؛ قالوا: وذَكاةُ ما لا يُؤكَل لا تُطَهِّرُه.
قالوا: ولأنَّه حيوانٌ لا يُؤكَل فلم يَطْهُر جِلْدُه بالدَّبْغ؛ كالكَلْب.
وأجاب أصحابنا بالتَّمَسُّك بعموم (أَيَّمَا إِهَابٍ) و (إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ)، و (أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ المَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ)؛ فإنَّها عامَّةٌ في كُلِّ جِلْدٍ.
قالوا: وأمَّا الجواب عن حديث النَّهي عن جُلود السِّباع؛ فمحمولٌ على ما قبل الدِّباغ.
فإن قِيلَ: لا معنى لتخصيص السِّباع حينئذٍ، بل كُلُّ الجُلود في ذلك سواء.
فالجواب: أنَّها خُصَّتْ بالذِّكْر لأنَّها كانت تُستعمَلُ قبل الدِّباغ غالباً أو
كثيراً.
وأمَّا حديث سَلَمَة فمعناه أنَّ دِباغ الأَديم مُطَهِّرٌ له ومُبيحٌ لاستعماله، كالذَّكاة فيما يُؤكَلُ.
وأمَّا قياسُهم على الكَلْب؛ فجوابُه: الفَرْقُ بأنَّه نَجِسٌ في حياته، فلا يزيدُ الدِّباغُ على الحياة.
واحتجَّ أصحاب المذهب الرَّابع والخامس والسَّادس بعموم أحاديث الدِّباغ.
وأجاب الأوَّلون عنها بأنَّها خُصَّ منها الكَلْب والخنزير للمعنى المذكور؛ وهو أنَّهما نَجِسان في الحياة، فلا يزيد الدِّباغُ عليها.
واحتجَّ أصحاب المذهب السابع بروايةٍ وَرَدَت في حديث ابن عبَّاسٍ: (هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ)، ولم يذكُر الدِّباغَ.
وأجاب الأوَّلون بأنَّ هذه الرِّواية مُطلَقةٌ؛ فتُحمَلُ على الرِّوايات المُقَيِّدَة؛ لما تقرَّر في أصول الفقه من (حَمْلِ المُطلَقِ على المُقَيَّد).
إذا تقرَّر ذلك؛ فنعود إلى مسألتنا؛ فنقول: من ذهب إلى أنَّ الشَّعْر لا يَنْجُس بالموت، بل هو باقٍ على طهارته، وهم أكثر الأئمَّة -كما تقدَّم-، فلا إشكال على مذهبه، وكذا من ذهب إلى أنَّه يَنْجُس بالموت ويَطْهُر بالغَسْل.
وأمَّا من قال بنجاسَته بالموت، وأنَّه لا يَطْهُر بالغَسْل، وهو الشَّافعيُّ رضي الله عنه في أوَّل قَوْلَيْه، وهو المشهور من مذهبه؛ فهل يَطْهُر الشَّعْر عنده بالدِّباغ تبعاً للجِلْد أو لا؟ فيه قولان مشهوران عن الشافعي.
قال صاحب (المُهذَّب): فإن دُبِغَ جِلْد المَيتَة وعليه شَعْرٌ، قال في (الأمِّ): لا يَطْهُر الشَّعْر؛ لأنَّ الدِّباغ لا يُؤثِّر فيه، وروى الرَّبيعُ بن سُلَيمان الجِيزيُّ عنه أنَّه يَطْهُر؛ لأنَّه شَعْرٌ نابتٌ على جِلْدٍ، فهو كالجِلْد في الطَّهارة، كشَعْرِ الحيوان في حال الحياة.
قال النَّوويُّ في (شرح المُهذَّب):
هذان القولان للشَّافعيِّ مشهوران، وأصحُّهما عند الجمهور نصُّه في (الأمِّ) أنَّه لا يَطْهُر، وممَّن صحَّحه من المُصنِّفين أبو القاسم الصَّيْمَريُّ، والشيخ أبو محمَّدٍ الجُوينيُّ، والبَغَويُّ، والشَّاشِيُّ، والرَّافِعِيُّ، وقطع به الجُرْجَانيُّ في (التَّحرير). قال: وصحَّح الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيُّ والرُّويانيُّ طهارته؛ قال الرُّويانيُّ: لأنَّ الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه قَسَّمُوا الفِرَاء المَغْنومَة من الفُرْس، وهي ذبائح مَجوسٍ.
واستدلَّ من صحَّح القول الأوَّل بحديث أُسامة السابق: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ)، وروى أبو داود والنسائي بإسنادٍ حَسنٍ عن المِقْدام بن مَعْدِي كَرِب (أنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ)، وروى أبو داود عن مُعاوية (أنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ).
قال الأصحاب: يُستدلُّ بهذه الأحاديث على أنَّ الشَّعْر لا يَطْهُر بالدِّباغ؛ لأنَّ النَّهي مُتناوِلٌ لما بعد الدِّباغ، وحيث لا يجوز أن يكون النَّهي عائداً إلى نفس الجِلْد؛ فإنَّه طاهرٌ بالدِّباغ بالدَّلائل السابقةِ؛ فهو عائدٌ إلى الشَّعْر. هذا ما في (شرح المُهذَّب).
وأقول: الذي يترجَّحُ عندي بالنَّظر في الأدلَّة ما رجَّحه الإسفرايينيُّ والرُّويانيُّ من طهارة الشَّعْر بالدِّباغ. وقد رجَّحَه أيضاً العَبَّادِيُّ وقال: عليه تدلُّ الآثار. وصحَّحه من المتأخِّرين ابنُ أبي عَصْرون في (المُرشِد)؛ لعموم البَلْوَى به، والشيخُ تقيُّ الدِّين السُّبْكِيُّ؛ قال ولدُه في (التَّوشيح): صحَّحَ ابنُ أبي عَصْرون طهارة الشَّعْر بالدِّباغ، قال الوالد في (مجاميعه): وهو الذي أختارُه وأُفْتي به؛ للحديث.
وقال صاحب (الخادم): قال بعضُهم -كأنَّه يعني البُلْقِينيَّ-: هو المختارُ من جهة الدَّليل، لا سيَّما وقد قيل: إنَّ الشَّعْر لا يَنْجُس بالموت.
قلتُ: ومن الأدلَّة على ما اخترتُه: ما أخرجه مُسلمٌ في (صحيحه) من طريق أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله اليَزَنِيُّ، قال:(رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي وَعْلَةَ السَّبَئِيِّ فَرْواً، فَمَسِسْتُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَمَسُّهُ؟ قَدْ سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِالمَغْرِبِ وَمَعَنَا البَرْبَرُ وَالمَجُوسُ، نُؤْتَى بِالكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَ بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الوَدَكَ، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دِبَاغُهُ طَهُورُهُ).
وأخرج الدَّارقُطنيُّ من طريق الوليد ابن مُسلِمٍ عن أخيه عبد الجبَّار بن مُسلمٍ عن الزُّهريِّ عن عُبيد الله بن عبد الله ابن عُتْبَةَ عن ابن عبَّاسٍ قال: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَيْتَةِ لَحمَهَا، فَأَمَّا الجِلْدُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَلَا بَأْسَ بِهِ)، ورجاله على شرط الصَّحيح، إلَّا عبد الجَبَّار؛ فإنَّه ضعيفٌ، وأصل الحديث في الصَّحيح من وجهٍ آخر عن الزُّهريِّ مُختصراً بلفظ:(إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ لَحمُهَا)، دون بقيَّة الحديث.
ولم ينفرد عبد الجَبَّار، بل توبِعَ؛ فأخرجه الدَّارقطنيُّ والبيهقيُّ من طريق شَبَابَة عن أبي بَكرٍ الهُذَليِّ عن الزُّهريِّ عن عُبيد الله بن عبد الله عن ابن عبَّاسٍ قال:(إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيتَةِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَهُوَ اللَّحْمُ، فَأَمَّا الجِلْدُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَهُوَ حَلَالٌ).
وأخرجه الدَّارقطنيُّ أيضاً من طريق زَافِرِ بن سُليمان عن أبي بَكْرٍ الهُذَلِيِّ به، وأخرجه أيضاً من وجهٍ آخر عن زَافِرِ بن سُليمان عن أبي بَكْرٍ الهُذَليِّ أنَّ الزُّهريَّ حَدَّثَهُم عن عُبيد الله بن عبد الله عن ابن عبَّاس قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ({قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}
[الأنعام: 145]، كُلُّ شَيْءٍ مِنَ المَيْتَةِ حَلَالٌ إِلَّا مَا أُكِلَ مِنْهَا، فَأَمَّا الجِلْدُ وَالفَرْوُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ، فَكُلُّ هَذَا حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُذَكَّى).
وله شاهدٌ أخرجه البيهقيُّ من طريق يوسف بن السَّعْد عن الأوزاعيِّ عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحمن قال: سمعتُ أمَّ سَلَمَة تقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا بَأْسَ بِمَسْكِ المَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ بِالمَاءِ).
وله شاهدٌ ثانٍ أخرجه البيهقيُّ عن عبد الله بن قيسٍ البَصريِّ أنَّه سَمِعَ ابن مسعودٍ يقول: (إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ لَحمُهَا وَدَمُهَا).
وشاهدٌ ثالثٌ أخرجه البَيهقيُّ من طريق أبي وائل عن عمر بن الخَطَّاب أنَّه قال في الفِرَاء: (ذَكَاتُهُ دِبَاغُهُ).
وشاهدٌ رابعٌ أخرجه أحمد والبَيهقيُّ من طريق ثابتٍ البُنانيِّ قال: كُنْتُ جَالِساً مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَأَتَاهُ ذُو ضَفْرَتَيْنِ، فقال: يَا أَبَا عِيسَى؛ حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ في الفِرَاءِ، قال: حَدَّثني أبي (أَنَّهُ كَانَ جَالِساً عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أُصَلِّي فِي الفِرَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ الدِّبَاغُ؟) قَالَ ثَابِتٌ: فَلَمَّا وَلَّى قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ.
وشاهدٌ خامِسٌ أخرجه أبو الشيخ ابن حَيَّان والبيهقيُّ عن أنس بن مالكٍ قال: (كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ تَرَى فِي الصَّلَاةِ فِي الفِرَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ الدِّبَاغُ؟).
وروى البيهقيُّ أيضاً عن قَتادَةَ قال: (سألَ داودُ السَّرَّاجُ الحَسَنَ عَنْ جُلُودِ النُّمُورِ وَالسَّمُّورِ
(1)
تُدْبَغُ بِالمِلْحِ؟ قَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا).
فهذه أحاديث وآثارٌ صريحةٌ في الحكم من غير مُعارِضٍ صريحٍ.
(1)
السَّمُّور: حيوان ثديي من آكلات اللحوم، يتَّخذ من جلده فروٌ ثمين، ويقطن شمالي آسيا. انظر: المعجم الوسيط (1/ 448).
حديثٌ آخر: أخرج التِّرمذيُّ وابن ماجه والحاكِم في (المُستدرَك) عن سَلْمانَ الفارسيِّ قال: (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الجُبْنِ وَالفِرَاءِ، فَقَالَ: الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ)، هذا الحديث بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحٌ في إباحة الفِراء، كما هو نصٌّ استدلُّوا به في إباحة الجُبْنِ؛ ولهذا بَوَّبَ عليه التِّرمذيُّ:(بابُ لُبْسِ الفِراءِ)، وإنَّما وقع السُّؤال عن هذين بخصوصهما؛ لما قد يُتَوَهَّمُ من نَجاسَتِهما؛ لما في الجُبْن من الإنْفَحَة، ولكَوْن الفِرَاء من مَيْتَةٍ. ولو كان المرادُ الفِرَاء المُذكَّاة لم يَحْسُن السَّؤال عنها؛ للعِلْم بطَهارتِها قَطْعاً، وقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما معاً بأنَّهما ممَّا عفا الله عنه.
ولهذا الحديث شاهدٌ موقوفٌ على سَلْمان، وأُخرج عن الحَسَنِ مُرْسَلاً، قال التِّرمذيُّ: وفي الباب عن المُغيرة؛ يشيرُ إلى أنَّ للحديث شاهداً من حديث المُغيرة.
وله شاهدٌ آخر عن أنسٍ؛ أخرجه الطَّبرانيُّ في (الأوسط) عن راشِدٍ الحِمَّانِيِّ قال: (رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَلَيْهِ فَرْوٌ أَحَمَرُ، فَقَالَ: كَانَتْ لُحُفُنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ نَلْبَسُهَا وَنُصَلِّي فِيهَا)، رجال إسناده ثقاتٌ، إلَّا أحمد بن القاسم. فهذا أيضاً من الأدلَّة.
ولو كان الفَرْوُ الذي رآه على أنسٍ من مُذكًّى لم يكن مَحَلَّ إنكارٍ حتَّى احتاج أنسٌ إلى الاستدلال على طهارتها بأنَّهم كانوا يَلْبَسونها ويُصَلُّون فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأصل حديث سَلْمانَ شاهدٌ صحيح من حديث أبي الدَّرْداء؛ أخرجه البزَّار في (مسنده)، وابن المُنْذِر، وابن أبي حاتَم في (تفسيرهما)، والطَّبرانيُّ في (الكبير)، والحاكم في (المُستدرَك) وصحَّحه، وأقرَّه الذهبيُّ في (مختصره)، وابن مَرْدَويه في (تفسيره)، عن
أبي الدَّرداء -رَفَعَ الحديثَ- قال: (مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئاً، ثُمَّ تَلَا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]).
وشاهدٌ آخرَ من حديث جابرٍ: أخرج ابن مَرْدَوَيْه عن جابرٍ قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِكَعْب بن مالكٍ: (يَا كَعْبُ؛ مَا أَحَلَّ رَبُّكَ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ الله عَافِيَتَهُ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}).
وله شاهدٌ آخر من حديث أبي ثَعْلَبَةَ.
ويُؤيِّد أنَّ سؤالهم في حديث سَلْمان عن الجُبْنِ لأجل ما فيه من الإنْفَحَة، وعن الفِرَاء لأجل كونه من مَيْتَةٍ: ما رواه سعيد بن منصور في (سُننه) عن عَمْرو بن شُرَحْبيلٍ قال: (ذَكَرْنَا الجُبْنَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقُلْنَا: إِنَّهُ يُصْنَعُ فِيهِ أَنَافِحُ المَيْتَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمُّوا اللهَ عَلَيْهِ وَكُلُوا).
وروى سعيدٌ أيضاً عن الشَّعبيِّ قال: (أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجُبْنَةٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ صَنْعَةِ المَجُوسِ، فَقَالَ: اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ وَكُلُوا).
وروى سعيدٌ أيضاً عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: (دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى ابنِ عبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ يُصْنَعُ لَنَا بِالعِرَاقِ مِنْ هَذَا الجُبْنِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أنَّهُ يُصْنَعُ فِيهِ مِنْ أَنَافِحِ المَيْتَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْ أَنَافِحِ المَيتَةِ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَمَا لَمْ تَعْلَمْ فَكُلْهُ. قَالَ لَهُ أَبِي: وَإِنُّهُ يُصْنَعُ لَنَا مِنْ هَذِهِ الفِرَاءِ، وَبَلَغَنِي أَنَّهَا تُصْنَعُ مِنْ جُلُودِ المَيْتَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دِبَاغُ كُلِّ أَدِيمٍ ذَكَاتُهُ).
ورواه الدُّولابيُّ في (الكُنَى) عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: الفِرَاءُ تُصْنَعُ مِنْ جُلُودِ المَيْتَةِ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله
-صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (ذَكَاةُ كُلِّ مَسْكٍ دِبَاغُهُ)، فهذا أيضاً صريحٌ في أنَّ الدِّباغ يُطَهِّر الفِراء مُطلَقاً؛ جِلْداً أو شَعْراً.
وممَّا يُستدلُّ به لطهارة الشَّعْر بالدِّباغ: إطلاق الأحاديث السابقة في دِباغ إِهاب الشَّاة؛ فإنَّه لو كان الشَّعْر لا يَطْهُر بالدِّباغ لبيَّن لهم ذلك وقال: انزعوا شَعْرَها، وادْبَغُوا الجِلْد وانتفعوا به وحده؛ لأنَّه مَحَلُّ بيانٍ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فلمَّا أَطلَقَ ولم يُفَصِّل دَلَّ على أنَّ الشَّعْر يَطْهُر بالدِّباغ تبعاً للجِلْد.
وممَّا يُستدلُّ به لذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]. وقول الأصحاب: إنَّ هذه الآية محمولةٌ على شَعْر المأكول إذا ذُكِّي وأُخِذَ في حياته.
يُجاب عنه: بأنَّ الآية خوطِبَ بها المشركون من أهل مكَّة، ولهذا قيل في أواخر تعداد النِّعَم:{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81]، وقد كان المشركون يذبحون للأصنام، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ البِعثَة يتوقَّف في أَكْل ذبائحهم، فكانت ذبائحهم مَيْتَةً، وقد وردت الآية امتناناً عليهم بالانتفاع بشُعُورها، فدلَّ على أنَّ الدِّباغ طَهَّرَها.
وقول بعض الفقهاء: إنَّ (مِنْ) في الآية للتَّبعيض، والمراد البعض الطَّاهر؛ يُنازَعُ فيه بأنَّ (مِنْ) هذه ليست هي التَّبعيضيَّة، بل هي التَّجريديَّة، كما يفهمه مَنْ له خبرة بعِلْم البيان، وكذلك هي في الجملتين الأُولَيين في الآية؛ فهي كالمثال الذي يُمثِّل به أرباب البيان؛ وهو قولهم: لي من فُلانٍ صديقٌ حميمٌ؛ أي: أنَّ فلاناً نَفْسَه صديقٌ حميمٌ، وليس المراد أنَّ بعضَه صديقٌ، وهذا معروفٌ يُسمَّى بالتَّجريد عند عُلماء البلاغة.
استدلال آخر: قال بعض المجتهدين: يمكن أن يُستدلَّ لطهارة الشَّعْر بالدِّباغ بنَفْسِ الحديث؛ وهو قوله: (إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ)؛ لأنَّ اسم الإهاب ينطَلِقُ على الجِلْد بشَعْرِه؛ فيُقال: هذا إِهابُ المَيتَةِ، ولا يلزم أن يُقال: هذا إِهابُها وَشَعْرُها. وإذا انْطَلَق الاسم عليه حصلت الطَّهارة.
قال: وممَّا يُؤيِّدُه حديث أبي الخير قال: (رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ [أَبِي] وَعْلَةَ فَرْواً، فَكَلَّمْتُهُ فيه، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضِ المَغْرِبِ وَمَعَنَا البَرْبَرُ وَالمُجُوسُ، نُؤْتَى بِالكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَنُؤْتَى بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الوَدَكَ، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَال: دِبَاغُهُ طَهُورُهُ)، وحديث ثابتٍ البُنَانيِّ قال: كُنْتُ سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي المَسْجِدِ، فَأَتَى شَيْخٌ ذُو ضَفْرَتَيْنِ، فَقَالَ يَا أَبَا عِيسَى؛ حَدِّثْنِي حَدِيثَ أَبِيكَ فِي الفِرَاءِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: (كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله؛ أَنُصَلِّي فِي الفِرَاءِ؟ قَالَ: فَأَيْنَ الدَّبْغُ؟!) فَلَمَّا وَلَّى قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ.
قال هذا المجتهد المذكور: ويمكن أنْ يُستدلَّ بالحديث على عدم نجاسة الشُّعور أصلاً ورأساً بأن يُجعَل دليلاً على مُقدِّمةٍ في الدَّليل، وطَريقه أن يُقال: لو نَجُسَ الشَّعْر بالموت لكان طاهراً بعد الدِّباغ، لكن كان طاهراً قبل الدِّباغ فلا يَنْجُس بالموت.
بيان الملازَمَة: أنَّ الدِّباغَ إنَّما يُفيد الطَّهارة في ما له أَثَرٌ، ولا أَثَرَ للذَّبائح في الشَّعْر، فلا يُفيد الطَّهارة، وبيان أنَّه طاهرٌ بعد الدِّباغ: أنَّ اسم الإِهاب يُطلَقُ عليه بالشَّعْر المُتَّصِل به؛ فيُقال: هذا إِهابُ الشَّاة -مثلاً-، ولا يلزم أن يُقال: هذا إهابها وشَعْرها؛ فدَلَّ ذلك على إطلاق اسم الإهاب على الجِلْد
بشَعْره، وإذا انطَلَق عليه وَجَب أن يَطْهُر؛ لقوله عليه السلام:(أَيَّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)، والاعتراض عليه يمنع الملازمة.
وقوله في تقريرها: إنَّ الدِّباغ إنَّما يُفيد الطَّهارة فيما له أَثرٌ فيه، يُقال عليه: إنَّما يُفيدها فيما له فيه أَثرٌ قصداً أو تبعاً. الأوَّل مُسَلَّمٌ، ونحن لا نقول بأنَّه يُفيدها في الشَّعْر قَصداً، وإنَّما يُفيدها تبعاً للجِلْد، بدلالة الحديث، وانطلاق لفظ الإهاب على الجميع. انتهى.
ومن الأدلَّة القياسيَّة على طهارة الشَّعْر بالدِّباغ تبعاً للجِلْد: القياسُ على دَنِّ الخَمْر إذا صارت خَلًّا؛ فإنَّه يَطْهُر تبعاً لها.
فإن اعتَرَض مُعتَرِضٌ بأنَّ ذاك من مَحَلِّ الضَّرورَةِ.
قُلنا: وهذا من مَحلِّ الحاجة، وقد نصَّ الفُقهاء في قواعدهم على أنَّ (الحاجة تُنَزَّل مَنْزِلَة الضَّرورة).
وممَّا يُستدلُّ به أيضاً من جهة القياس: مسألة ما لو وَلَغ الكَلْب في إناءٍ فيه ماءٌ قليلٌ، فإنَّ الماء والإناء يَنْجُسان معاً، فلو كُوثِرَ الماءُ حتَّى بلغ قُلَّتَين فإنَّ الماء يَطْهُر، وكذا الإناء تبعاً له في أحد الأوجه، فهذا حُكْمٌ بالطَّهارة على سبيل التَّبعيَّة، فيُقاس عليه الحُكْم بطهارة الشَّعْر على سبيل التَّبعيَّة للجِلْد.
وممَّا يُستدلُّ به أيضاً من جهة القياس: مسألة الدَّم الباقي على اللَّحم وعِظامه؛ فإنَّه محكومٌ بطهارته تبعاً للَّحْم؛ لعُموم البَلْوَى به، كما ارتضاه النَّوويُّ في (شرح المُهذَّب)، وقال: قد ذَكَرَه أبو إسحاق الثَّعْلَبيُّ المُفَسِّر من أصحابنا، ونقل عن جماعةٍ كثيرةٍ من التَّابعين أنَّه لا بأس به. ودليلُه: المشقَّة في الاحتراز منه، وصرَّح أحمد وأصحابه بأنَّ ما يبقى من الدَّم في اللَّحْم مَعْفُوٌّ عنه ولو عَلَتْ حُمْرَة الدَّم في القِدْر؛ لعُسْر الاحتراز منه، وحَكُوه عن عائشة، وعِكرمَة، والثَّوريِّ، وابن
عُيَينَة، وأَبي يوسُف، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم.
قلتُ: مع أنَّ الأصل في الدَّم النَّجاسَة، وهي فيه أظهر منها في الشَّعْرِ؛ لما تقدَّم من أنَّ أكثر الأئمَّة على عدم تَنْجيس الشَّعْر بالموت؛ فيكون الحُكْم بطهارتِه تبعاً للجِلْد أَوْلَى وأَقْوَى من الحُكم بطهارة الدَّم تبعاً للَّحْم.
استدلالٌ آخر من طريق القياس المُسمَّى عندهم قياس العكس؛ قالوا: إذا جُزَّ الشَّعْر من الحيوان الحيِّ المأكول، فهو طاهرٌ؛ لقوله تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، امتنَّ به فكان طاهراً، والمأخوذ به من المذبوح لا يفي بالحاجة في مثل ذلك، فكان شاملاً لما جُزَّ في حال الحياة، فلو قُطِعَ في الحياة عُضْوٌ عليه شَعْرٌ حُكِمَ بنجاسة الشَّعْر تبعاً للعُضْو المحكوم بنجاستِه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مَيِّتٌ)، فكما حُكِمَ بنجاسَة الشَّعْر تبعاً للجزء المتَّصل به المحكوم بنجاسته، كذلك قياسُه عكسُه إذا حُكِمَ بطهارة الجِلْد بالدِّباغ يُحكَمُ بطهارة الشَّعْر المتَّصل به تبعاً.
وشاهدُ أصل قياس العكس: قوله صلى الله عليه وسلم: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيهِ وِزْرٌ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) رواه مسلم.
وطريقةٌ أخرى في الاستدلال: وهو أنَّ الأحاديث التي احتَجَجْنا بها صريحةٌ في المقصود، والأحاديث التي احتُجَّ بها للنَّجاسة -وهي أحاديث النَّهي عن جُلُود السِّباع- ليست صريحةً، وإنَّما استُدِلَّ بها بطريق الاستنباط واللُّزوم للمعنى الذي ذَكَرُوه، و (ما كان صريحاً فهو مُقدَّمٌ على ما كان بطريق اللُّزوم).
وقد سَلَكَ ابنُ دَقِيق العِيدِ في
التَّرجيح مَسْلَكاً آخر؛ فقال: نَهْيُهُ عليه السلام عن افتراش جُلُود السِّباع مخصوصٌ بالاتِّفاق، وقوله عليه السلام:(أَيَّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) غير مخصوصٍ بالاتِّفاق؛ فيُرجَّحُ العملُ به على مُعارِضِه. هذا كلام ابن دقيق العيد.
ومَسْلَكٌ آخر في الجواب؛ وهو: أنَّا نمنع عن كَوْن النَّهي عن جُلود السِّباع لأجل شَعْرِها، بل لمعنى آخر أشار إليه الخَطَّابيُّ؛ وهو أنَّها إِنَّما نُهِي عنها من أجل أنَّها مَراكبُ أهل السَّرَفِ والخُيلاء، وتمام ذلك أن يُقال: إنَّه من صُنْع الأعاجم، وقد صحَّت الأحاديث بالنَّهي عن التَّشبُّه بفِعْل الأعاجم -أي الفُرْس-، ويُؤيِّد ذلك أمران:
أحدُهما: أنَّ النَّهيَ مُطلَقٌ، ولو كان لأجل نجاسة الشَّعْر لكان يَزولُ بِنَتْفِه، ولا شكَّ أنَّ الحديث شاملٌ للحالتين.
والثاني: أنَّه لو كان لأجل نجاسة الشَّعْر لم يكن لتخصيص السِّباع بالذِّكْر فائدةٌ؛ فإنَّ الغَنَم وسائر الحيوانات كانت تساوي السِّباع في ذلك، فلو لم يكن ذلك لمعنًى آخر غير النجاسة، لم يكن لتخصيص السِّباع بالذِّكْر فائدة.
وأمر ثالث: وهو أنَّ أبا داود روى في (سُنَنه) من حديث مُعاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَرْكَبُوا الخَزَّ وَالنِّمَارَ)؛ فَقِرَانُ الخَزِّ بالنِّمار في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ النَّهي فيه للسَّرَف والخُيلَاء، لا للنَّجاسة.
وكذلك ما رواه أحمد وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ المِيثَرَةِ، وَالقَسِّيَّةِ، وَحَلْقَةِ الذَّهَبِ، وَالمُفْدَمِ). قال يَزيدُ: وَالمِيثَرَةُ: جُلُود السِّبَاع، وَالقَسِّيَّة: ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ من إِبْرَيْسَمٍ، وَالمُفْدَمُ: المُشَبَّعُ بِالعُصْفُر.
وروى الطَّبرانيُّ في (الكبير) عن ثَوْبان قال: (حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم-
التَّخَتُّمَ بِالذَّهَبِ، وَالقَسِّيَّةَ، وَثِيَابَ المُعَصْفَرِ، وَالمُفْدَمَ، وَالنُّمُورَ)؛ فَقِرَانُ جِلْد السِّباع والنُّمور بهذه الأشياء في هذين الحديثين دليلٌ على أنَّ النَّهي فيه للسَّرَفِ والخُيلاءِ، لا للنَّجاسة.
وروى أبو داود أيضاً عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا تَصْحَبُ المَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ)، وهذا أيضاً يدلُّ على أنَّ النَّهيَ للخُيلاءِ لا للنَّجاسَة؛ لأنَّ الجِلْد النَّجِس لا يَحْرُم اقتناؤه، إنَّما يَحرُم لُبْسُه واستعماله في الأشياء الرَّطِبَة، والحديث دلَّ على ذمِّ اقتنائه مُطلَقاً؛ فعُرِفَ أنَّ المعنى فيه الخُيلاء؛ كأواني النَّقْدَيْن حُرِّمَت للخُيَلاء، فَحُرِّم اقتناؤها.
وأمرٌ آخر: وهو أنَّه لو كان النَّهيُ لنجاسة الشَّعْر لم يكن يَمْتَنِع إلَّا الجلوس على الوجه الذي فيه الشَّعْر خاصَّة، ولو قَلَبَه وجَلَس على الوجه الذي لا شَعْر فيه لم يمتنع؛ لأنَّ ذلك الوجه من الجِلْد قد طَهُر بالدِّباغ قَطْعاً، ولا شكَّ أنَّ النَّهيَ شاملٌ للوجهين معاً، كما هو ظاهر الأحاديث السابقة.
وعند ابن أبي شيبة في (مسنده) من حديث مُعاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَجْلِسُوا عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ)، وعند الحارث بن أبي أُسامة في (مسنده)، عن سَمُرَة بن جُنْدُبٍ:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُفْتَرَشَ مُسُوكُ السِّبَاعِ)؛ فهذه إطلاقاتٌ شامِلَةٌ للجِلْد بوَجْهَيه؛ فَدَلَّ على أنَّ ذلك لمعنى السَّرَف والخُيلاء، لا للنَّجاسة.
وأيضاً: فلم يذكر الفقهاء أنَّه يَحرُمُ الجُلوس على جِلْد المَيتَة النَّجِس، إنَّما ذَكَروا تَحريم لُبْسِه. وإلحاق الافتراش به قد لا يُسَلَّم، والأحاديث صريحةٌ في النَّهي عن افتراش جُلُود السِّباع، والجلوس عليها، والرُّكوب عليها؛ فدلَّ ذلك على أنَّه لمعنًى آخر غير النجاسة.
فإن قُلتَ: فقد قال سعيدُ بن منصورٍ في (سُنَنه): ثنا عبد الرحمن بن زياد عن