الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا حرج علينا، وهكذا ما يكون من بلاد اليهود لو كان بيننا وبينهم اتِّصال فإنَّهم من أهل الكتاب.
[الفتاوى الصوتية للشيخ ابن باز (الموقع)]
* * *
(566) السؤال: [ما] حُكمُ أَكْل اللَّحم الوارد من الخارج
؟
الجواب: هذا سؤال كثر التساؤل فيه وعمَّت البَلْوى به، وحكمه يتبيَّن بتحرير ثلاثة مقامات:
المقام الأوَّل: حِلُّ ذبيحة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.
المقام الثاني: إجراء ما ذَبَحَه من تَحِلُّ ذبيحته على أصل الحِلِّ.
المقام الثالث: الحكم على هذا اللحم الوارد بأنَّه مِنْ ذَبْح مَنْ تَحِلُّ ذبيحته.
فأمَّا المقام الأول: فإنَّ ذبيحة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) حلالٌ دلَّ على حِلِّها الكتاب والسُّنَّة والإجماع؛ أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: طعامهم ذبائحهم. وكذلك قال مجاهد وسعيد ابن جُبَير والحسن وإبراهيم النخعي. ولا يمكن أن يكون المراد بطعامهم التَّمْر والحَبُّ ونحوهما فقط؛ لأنَّ قوله: (طعام الذين أوتوا الكتاب) لفظ عامٌّ، فتخصيصه بالتَّمْر والحَبِّ ونحوهما خروجٌ عن الظاهر بلا دليل، ولأنَّ التَّمْر ونحوه من الطعام حلالٌ لنا من أهل الكتاب وغيرهم، فلو حُمِلَت الآية عليه لم يكن لتخصيصه بأهل الكتاب فائدة.
وأمَّا السُّنَّة؛ فقد ثبت في صحيح مسلم (ص 14 ج 7، ط صبيح) عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، وَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ قَتْلَكَ. فَقَالَ: مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى
ذَلِكَ). وفي (مسند الإمام أحمد) عن أنس أيضاً: (أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، فَأَجَابَهُ)، والإهالة السَّنِخة: ما أُذيب من الشَّحْم والأَلْيَة وتغيَّرت رائحته.
وفي (صحيح البخاري) عن عبد الله ابن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: (كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ). وفي روايةٍ لمسلم عنه قال: (أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُبْتَسماً). فهذا فِعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره في حِلِّ ذبائح أهل الكتاب.
وأمَّا الإجماع؛ فقد حكى إجماع المسلمين على حِلِّ ذبائح أهل الكتاب غير واحد من أهل العِلْم؛ منهم: صاحب المغني (ص 567 ج 8 ط، دار المنار)، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية؛ قال (ص 232 مج 35 من مجموع الفتاوى لابن قاسم):«ومن المعلوم أنَّ حِلَّ ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع» ، وقال:«ما زال المسلمون في كُلِّ عَصْرٍ ومِصْرٍ يأكلون ذبائحهم، فمن خالف ذلك فقد أنكر إجماع المسلمين» ا. هـ.
ونقل الإجماع أيضاً ابن كثير في تفسيره (ص 78 - ج 3 المطبوع مع تفسير البغوي).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً (ص 223 - 224 من المجلَّد السابق): «بل الصواب المقطوع به أنَّ كون الرَّجُل كتابيًّا أو غير كتابيٍّ هو حُكمٌ مستقلٌّ بنفسه لا بِنَسَبِه، وكُلَّ من تَدَيَّن بدين أهل الكتاب فهو منهم؛ سواء كان أبوه أو جَدُّه داخلاً في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النَّسْخ والتبديل أو بعد ذلك، وهذا مذهب جمهور العُلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، والمنصوص الصريح عن أحمد، وإن
كان بين أصحابه في ذلك نزاعٌ معروفٌ، وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا أعلم في ذلك بين الصحابة نزاعاً، وقد ذكر الطحاوي أنَّ هذا إجماع قديم» ا. هـ كلامه رحمه الله.
وبهذا تَحدَّد المقام الأوَّل؛ وهو حِلُّ ذبيحة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
فأمَّا غيرهم من المجوس والمشركين وسائر أصناف الكفَّار فلا تَحِلُّ ذبيحتهم؛ لمفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]؛ فإنَّ مفهومها أنَّ غير أهل الكتاب لا يَحِلُّ لنا طعامهم؛ أي ذبائحهم. ولأنَّ الصحابة رضي الله عنهم لمَّا فتحوا الأمصار امتنعوا عن ذبائح المجوس. وقال في المغني (ص 570 من الجزء السابق): «أجمع أهل العِلْم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته، إلَّا ما لا ذكاة له كالسَّمَك والجَراد» . وقال: «وأبو ثور أباح صيده وذبيحته
…
، وهذا قول يخالف الإجماع، فلا عبرة به»، ثمَّ نقل عن أحمد أنَّه قال:«لا أعلم أحداً قال بخلافه -أي: بخلاف تحريم صيد المجوسي وذبيحته- إلَّا أن يكون صاحب بدعة» ا. هـ.
قال: «وحكم سائر الكفَّار من عَبَدَة الأوثان، والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم» . لكن ما لا يشترط لحِلِّه الذَّكاة؛ كالسَّمَك والجَراد؛ فهو حلالٌ من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم.
المقام الثاني: إجراء ما ذَبَحَه مَنْ تَحِلُّ ذبيحتُه على أصل الحِلِّ:
وهذا المقام له ثلاث حالات:
الحال الأوَّل: أن نعلم أنَّ ذَبْحَه كان على الطريقة الإسلاميَّة بأن يكون ذَبْحُه في محلِّ الذَّبْح وهو الحَلْق، وأن يُنْهِر الدَّم بمُحدَّد غير العَظْم والظُّفْر، وأن يَذْكُر اسمَ الله عليه؛ فيقول الذَّابح عند الذَّبْح:«بسم الله» ، ففي هذه الحال المذبوح حلالٌ بلا شكٍّ؛ لأنَّه ذَبْحٌ وقع
من أَهْلِه على الطريقة التي أَحَلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المذبوح بها؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ) رواه الجماعة واللفظ للبخاري، وفي رواية له:(غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفْرِ، فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ، وَالظُّفْرَ مُدَى الحَبَشَةِ).
وطريق العِلْم بأنَّ ذَبْحَه كان على الطريقة الإسلاميَّة: أن نشاهد ذَبْحَه، أو يخبرنا عنه من يحصل العِلْم بخَبَره.
الحال الثانية: أن نعلم أنَّ ذَبْحَه على غير الطريقة الإسلاميَّة؛ مثل أن يُقْتَل بالخَنْق، أو بالصَّعْق، أو بالصَّدْم، أو بضَرْب الرأس ونحوه، أو يُذْبَح من غير أن يُذْكَر اسمُ الله عليه، ففي هذه الحال المذبوح حَرامٌ بلا شَكٍّ؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، ولمفهوم ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم:(مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا).
وطريق العِلْم بأنَّه ذُبِح على غير الطريقة الإسلاميَّة أن نشاهد ذَبْحه، أو يخبرنا عنه من يحصل العِلْم بخَبَره.
الحال الثالثة: أن نعلم أنَّ الذَّبْح وقع، ولكن نجهل كيف وقع؛ بأن يأتينا ممَّن تَحِلُّ ذبيحتهم لحمٌ أو ذبيحةٌ مقطوعة الرأس، ولا نعلم على أيِّ صفةٍ ذَبَحوها، ولا هل سَمُّوا الله عليها أم لا؛ ففي هذه الحال المذبوح محلُّ شَكٍّ وتَرَدُّد، ولكنَّ النصوص الواردة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تقتضي حِلَّه، وأنَّه لا يجب السؤال؛ تيسيراً على العباد، وبناءً على أصل الحِلِّ؛ فقد سبق (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِي أَتَتْ بِهَا إِلَيْهِ اليَهُودِيَّةُ)، وأنَّه (أَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ عَلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ)، وفي كلتا
القضيَّتين لم يسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كيفيَّة الذَّبْح، ولا هل ذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا؟
وفي (صحيح البخاري) عن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمًا أَتَوْنَا بِلَحَمٍ، لَا نَدْرِي: أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ. قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالكُفْرِ)؛ فقد أحَلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْل هذا اللحم مع الشكِّ في ذِكْر اسم الله عليه، وهو شَرْط لحِلِّه، وقرينة الشكِّ موجودةٌ؛ وهي كونهم حديثي عهدٍ بالكُفْر، فقد يجهلون أنَّ التَّسمية شَرْط للحِلِّ؛ لقُرْب نشأتهم في الإسلام، وإحلالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لذلك مع الشكِّ في وجود شَرْط الحِلِّ -وهي التَّسمية-، وقيام قرينة على هذا الشكِّ -وهي كونهم حديثي عهد بالكفر- دليلٌ على إجراء ما ذَبَحَه مَنْ تَحِلُّ ذبيحتُه على أصل الحِلِّ؛ لأنَّ الأصل في الأفعال والتصرُّفات الواقعة من أهلها الصحَّة؛ قال في (المنتقى) -بعد أن ذكر حديث عائشة السابق-:«وهو دليل على أنَّ (التصرُّفات والأفعال تُحمَل على حال الصحَّة والسَّلامة إلى أن يقوم دليل الفساد)» ا. هـ.
وما يَرِدُ إلينا ممَّا ذَبَحَه اليهود أو النَّصارى غالبه ممَّا جُهِلَ كيف وقع ذَبْحُه؛ فيكون تحرير المقام فيه: إجراؤه على أصل الحِلِّ، وعدم وجوب السؤال عنه.
المقام الثالث: الحكم على هذا الوارد بأنَّه مِنْ ذَبْح من تَحِلُّ ذبيحتُه.
وهذا المقام له ثلاث حالات أيضاً.
الحال الأولى: أن نعلم أنَّ من ذَبَحَه تحِلُّ ذبيحتُه؛ وهم المسلمون، وأهل الكتاب (اليهود والنصارى)؛ ففي هذه الحال المذبوح حلالٌ بلا شكٍّ؛ لوقوع الذَّبْح الشرعي من أهله، وطريق العِلْم بذلك أن نشاهد الذَّابح المعلومة حاله، أو يخبرنا به من يحصل العِلْم بخَبَره، أو يكون مذبوحاً في محلٍّ ليس فيه إلَّا من تحِلُّ ذبيحتُه.
الحال الثانية: أن نعلم أنَّ من ذَبَحَه لا تحِلُّ ذبيحتُه؛ كالمجوس، وسائر الكفَّار غير أهل الكتاب؛ ففي هذه الحال المذبوح حَرامٌ بلا شكٍّ؛ لوقوع الذَّبْح من غير أهله، وطريق العِلْم بذلك أن نشاهد الذَّابح المعلومة حاله، أو يخبرنا به من يحصل العِلْم بخَبَره، أو يكون مذبوحاً في محلٍّ ليس فيه من تحل ذبيحتُه.
الحال الثالثة: ألَّا نعلم هل ذابحه ممَّن تحِلُّ ذبيحته أو لا؟ وهذا هو الغالب على اللحم الوارد من الخارج فالأصل هنا التحريم، فلا يَحِلُّ الأَكْل منه؛ لأنَّنا لا نعلم صدور هذا الذَّبْح من أهله.
ولا يناقض هذا ما سبق في الحال الثالثة من المقام الثاني حيث حكمنا هناك بالحِلِّ مع الشكِّ؛ لأنَّنا هناك علمنا بصدور الفعل من أهله وشَكَكْنا في شَرْط حلِّه، والظاهر صدوره على وجه الصحَّة والسَّلامة حتَّى يوجد ما ينافي ذلك، بخلاف ما هنا؛ فإنَّنا لم نعلم صدور الفِعْل من أهله، والأصل التحريم، لكن إن وُجِدَت قرائن ترجِّح حِلَّه عُمِل بها.
فمن القرائن:
أوَّلًا: أن يكون مُورِّدُه مسلماً ظاهره العدالة ويقول: إنَّه مذبوح على الطريقة الإسلاميَّة؛ فيُحكَم بالحِلِّ هنا؛ لأنَّ حال المسلم الظاهر العدالة تمنع أن يُورِّد إلى المسلمين ما يَحرُمُ عليهم ثُمَّ يدَّعي أنَّه مذبوح على الطريقة الإسلاميَّة.
ثانياً: أن يَرِدَ من بلاد أكثرُ أهلِها ممَّن تحِلُّ ذبيحتهم؛ فيُحكَمُ ظاهراً بحِلِّ الذَّبيحة تبعاً للأكثر، إلَّا أن يُعلَمَ أنَّ المتولِّي للذَّبْح ممَّن لا تحِلُّ ذبيحتُه، فلا يُحكَم حينئذٍ بالحِلِّ؛ لوجود معارض يمنع الحكم بالظاهر.
قال في (المنتهى) و (شرحه): «ويَحِلُّ حيوانٌ مذبوحٌ منبوذٌ بمحلٍّ يَحِلُّ ذَبْح أكثر أهله؛ بأنْ كان أكثرهم مسلمين أو كتابيِّين، ولو جُهِلَت تسمية ذابح»