الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للجِنِّ أو للأَصْنام أو للكَواكِب، هذه الذَّبيحةُ مُحرَّمة إذا ذُبِحَت لغير الله، فمن اضطرَّ إلى المَيْتَة أو غيرها فله الأَكْل من ذلك غير باغٍ ولا عادٍ، غير ظالمٍ ولا باغٍ على إخوانه المسلمين، فالباغي والعادي
…
فيها أنواع؛ منها: البُغَاةُ يَخْرُجون على السُّلطان، فهم ظالمون بذلك، ومنها: المُتَعدِّي الذي يتَعَدَّى بأَكْلِه من المَيْتَة بغير ضرورة ولا حاجة، فلا يُسَمَّى مضطرًّا. وبعض أهل العِلْم ذَكَر في ذلك أَمْراً آخر؛ وهو أن يُسافِر سَفَراً يُعتَبَر مَعْصيةً، فيعتبر متعدِّياً أيضاً، وليس له رُخْصَة، ولكنَّ الأقرب -والله أعلم- بأنَّه مُقَيَّد بأن يكون أَكْلُه غير باغٍ ولا عادٍ، إنَّما ضرورةً، إذا كان للضرورة؛ يعني لا يجد شيئاً، أمَّا إذا تَعَدَّى؛ بأنْ أَكَل بغير ضرورة، أو تَعاطَى من المَيْتَة بغير ضرورة، فيُسَمَّى باغٍ، ويُسَمَّى عادٍ مُتعدٍّ لحدود الله عز وجل، أمَّا إذا اضطرَّ إلى ذلك بسبب سَفَر مَعْصيةٍ أو شِبْه ذلك ممَّا قد يُوقِعُه في الحاجة والضرورة إلى المَيْتَة، فهو داخلٌ في الآية الكريمة؛ لأنَّ الآية مُجْمَلة {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} ؛ فالباغي هو الذي يتَعَدَّى الحدود ويَبْغِي على الناس، والعادي الذي -كذلك- يتعدَّى على الناس إمَّا بكونه يأْكُل بغير ضرورةٍ، أو يَبْغي على الناس ويتَعَدَّى عليهم بدون حقٍّ، ودون سببٍ شرعيٍّ، فهذا هو الذي يمتنع عليه هذه الأشياء، وإنَّما يكون مضطرًّا إذا كان لا يجد شيئاً حتَّى يخاف على نفسه، فيأْكُل من المَيْتَة، أو من الخنزير، أو ما أهلَّ به لغير الله، أو من الدَّم للضرورة التي وقع فيها، نسأل الله العافية.
[الفتاوى الصوتية للشيخ ابن باز (الموقع)]
* * *
أَقْوَالُ العُلَمَاءِ فِي نَجَاسَةِ الدَّمِ وَأَدَلَّتُهُمْ
(841) السؤال: ما رَأْيكُم في هذه الأقوال:
1 -
أنَّ الدَّم المَسْفوح، هو الذي وقع فيه الخلاف، أمَّا غير المَسْفوح؛ كدَمِ الجُرُوح وسِوَاها، فلَمْ يَقُلْ أحدٌ بنَجاسَتِه؟
2 -
أنَّ المُحَدِّثين لم يشيروا أبداً إلى التحريم إلَّا للدَّم المَسْفوح، وكذلك أشار المُفسِّرون؟
3 -
أنَّه لا يوجد دليلٌ واحدٌ صحيحٌ يُفِيدُ بنَجاسَةِ الدَّم، إلَّا ما كان من إشارة بعض الفُقهاء، وهؤلاء لا دليل عندهم، وما دام الدليل لم يوجد، فالأصلُ طهارةُ الدَّم، فلا تَبْطُل صلاةُ من صلَّى وعلى ثَوْبِه بُقَعُ دَمٍ؟
الجواب: ما ذكرتم في رقم (1) فلو رَجَع القائلُ إلى كلام أهل العِلْم لوجد أنَّ الأمر على خلاف ما ذَكَر؛ فإنَّ الدَّم المَسْفوح لم نعلم قائلًا بطهارته، كيف وقد دلَّ القرآنُ على نجاستِه كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى، وقد نَقَل الاتِّفاق على نجاسته: ابن رُشْدٍ في (بداية المجتهد)، فقال (ص 76، ط الحلبي): وأمَّا أنواع النَّجاسات فإنَّ العُلماء اتَّفقوا من أعيانها على أربعة، وذَكَر منها: الدَّم من الحيوان الذي ليس بمائيٍّ انفصل من الحيِّ أو الميِّت، إذا كان مَسْفوحاً، أي: كثيراً.
وقال في (ص 79 منه): اتَّفق العُلماء على أنَّ دَم الحيوان البرِّيِّ نَجِسٌ. اهـ.
لكن تفسيره للمَسْفوح بالكثير مخالفٌ لظاهر اللَّفظ، ولما ذَكَرَه البَغَويُّ في (تفسيره) عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ ما خرج من الحيوان وهو حيٌّ، وما يخرج من الأَوْداج عند الذَّبْح؛ وذلك لأنَّ المَسْفوح هو المُرَاق السائل، لا يُقَيَّدُ كونه كثيراً. اللَّهمَّ إلَّا أن يُريدَ ابنُ رُشْدٍ بهذا القَيْد مَحلَّ الاتِّفاق؛ حيث عفا كثيرٌ من أهل العِلْم عن يسير الدَّم المَسْفوح، لكنِ العَافُون عنه لم يجعلوه طاهراً، وإنَّما أرادوا دَفْع المشقَّة بوجوب تطهير اليسير منه.
وقد نقل القُرطبيُّ في تفسيره
(ص 221 ج 2، ط. دار الكتاب) اتِّفاق العُلماء على أنَّ الدَّم حَرامٌ نَجِسٌ. وقال النوويُّ في شرح المُهذَّب (ص 511 ج 2 ط. المطيعي): والدلائل على نجاسة الدَّم متظاهرةٌ، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحدٍ من المسلمين، إلَّا ما حكاه صاحب (الحاوي) عن بعض المتكلِّمين أنَّه قال: طاهر اهـ.
والظاهر أنَّ الإطلاق في كَلامَي القُرطبيِّ والنوويِّ مُقيَّدٌ بالمَسْفوح. والله أعلم.
وأمَّا غير المَسْفوح الذي مثَّل له بدماء الجُروح وسِوَاها، وذَكَر أنَّه لم يَقُلْ أحدٌ بنجاسته، مع أنَّ قوله:«وسِواها» يشمل دَمَ الحَيْض الذي دلَّت السُّنَّة على نجاسته، كما سيأتي إن شاء الله. فلو رجع القائل إلى كلام أهل العِلْم لوجد أنَّ كلام أهل العِلْم صريحٌ في القول بنجاسته، أو ظاهرٌ.
قال الشافعي رحمه الله في (الأُم)(ص 67 ج 1، ط دار المعرفة) بعد ذِكْر حديث أسماء في دَم الحَيْض: وفي هذا دليلٌ على أنَّ دَم الحَيْض نَجِسٌ، وكذا كُلُّ دَمٍ غيره.
وفي (ص 56 منه) مثَّل للنَّجِس بأمثلة منها: العَذِرَة والدَّم.
وفي (المدوَّنة)(ص 38 ج 1 ط. دار الفكر) عن مالك رحمه الله ما يدلُّ على نجاسة الدَّم من غير تفصيل.
ومذهب الإمام أحمد في ذلك معروفٌ، نقله عنه أصحابه.
وقال ابن حَزْم في (المحلَّى)(ص 102 ج 1، ط. المنيريَّة): وتطهيرُ دَم الحَيْض أو أيِّ دَمٍ كان، سواء دَمَ سَمَكٍ كان أو غيره، أو كان في الثَّوْب أو الجسد، فلا يكون إلَّا بالماء، حاشا دَم البراغيث ودَم الجسد، فلا يلزم تطهيرهما، إلَّا ما حرج في غَسْلِه على الإنسان، فيُطَهِّر المرءُ ذلك حسب ما لا مَشقَّة عليه فيه. اهـ.
وقال [في](الفروع) -من كُتُب الحنابلة- (ص 253 ج 1 ط. دار مصر
للطباعة): ويُعْفَى على الأصحِّ عن يسير دَمٍ، وما تَوَلَّد منه (و)، وقيل: من بَدَن. اهـ. والرمز بالواو في اصطلاحه إشارة إلى وفاق الأئمَّة الثلاثة، ومقتضى هذا أنَّ الدَّم نَجِسٌ عند الأئمَّة الأربعة؛ لأنَّ التعبير بالعَفْو عن يسيره يدلُّ على نجاسته.
وقال في (الكافي) -من كتب الحنابلة أيضاً- (ص 110 ج 1 ط. المكتب الإسلامي): والدَّمُ نَجِسٌ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأسماءَ في الدَّم: (اغْسِلِيهِ بِالمَاءِ). متَّفق عليه، ولأنَّه نَجِسٌ لعَيْنِه بنصِّ القرآن، أَشْبَه المَيْتةَ.
ثمَّ ذَكَر ما يستثنى منه، ونجاسة القَيْح والصَّديد، وقال: إلَّا أنَّ أحمد قال: هما أخفُّ حُكْماً من الدَّم؛ لوقوع الخلاف في نجاستهما، وعدم التصريح فيهما. اهـ.
وقوله: «لوقوع الخلاف في نجاستهما» ما يُفيدُ بأنَّ الدَّم لا خلاف في نجاسته.
وقال في (المهذَّب) -من كتب الشافعيَّة- (ص 511 ج 2 ط. المطيعي): وأمَّا الدَّم فنَجِسٌ. ثمَّ ذَكَر في دَم السَّمَك وجهين؛ أحدهما: نَجِسٌ كغيره، والثاني: طاهِرٌ.
وقال في (جواهر الإكليل) -من كتب المالكيَّة- (ص 9 ج 1 ط. الحلبي) -في عدِّ النَّجاسات-: «ودَم مَسْفوح» أي: جارٍ بذكاةٍ أو فَصْدٍ. وفي (ص 11 منه) -فيما يُعْفَى عنه من النجاسات-: «ودون دِرْهَمٍ من دَمٍ مُطْلقاً عن تقييده بكونه من بَدَن المُصلِّي أو غير حيضٍ وخنزير، أو في بَدَن أو ثَوْب أو مكان» اهـ.
وقال في (شرح مجمع الأنهر) -من كتب الحنفيَّة- (ص 51 - 52 ج 1 ط. عثمانيَّة): وعُفِيَ قَدْر الدِّرْهم من نَجِسٍ مُغَلَّظٍ؛ كالدَّم والبَوْل. ثمَّ ذَكَر (ص 53 منه) أنَّ دَم السَّمَك والبَقِّ والقَمْل والبرغوث والذُّباب طاهرٌ.
فهذه أقوال أهل العِلْم من أهل
المذاهب المتبوعة وغيرهم، صريحة في القول بنجاسة الدَّم، واستثناؤهم ما استثنوه دليلٌ على العموم فيما سواه، ولا يمكن إنكار أن يكون أحدٌ قال بنجاسةٍ بعد هذه الأقوال عن أهل العِلْم.
وأمَّا ما ذُكِر في رقم (2)؛ فالكلام في نجاسة الدَّم لا في تحريمه، والتحريم لا يلزم منه التَّنْجيس؛ فهذا السُّمُّ حَرامٌ وليس بنَجِسٍ (فكلُّ نَجِسٍ مُحرَّم، وليس كُلُّ مُحرَّم نَجِساً)، فنَقْل الكلام من البحث في نجاسته إلى تحريمه غير جيِّد.
ثمَّ إنَّ التعبير بأنَّ ثبوت تحريمه كان بإشارةِ المُحَدِّثين والمُفسِّرين -مع أنَّه كان بنصِّ القرآن القَطْعيِّ- غير سديدٍ، فتحريم الدَّم المَسْفوح كان بنصِّ القرآن القطعيِّ المُجْمَع عليه، لا بإشارة المُحَدِّثين والمُفَسِّرين، كما يُعْلَم.
وأمَّا ما ذُكِرَ في رقم (3)؛ فإنَّ سياق كلامكم يدلُّ على أنَّكم تقصدون بالدَّم المَسْفوحَ فقط، أو هو وغيره؛ لأنَّكم ذَكَرْتُم أنَّ غير المَسْفوح لم يَقُلْ أحدٌ بنجاسته، وأنَّ موضع الخلاف هو الدَّم المَسْفوح، ولو رجعتم إلى الكتاب والسُّنَّة لوجدتم فيهما ما يدلُّ على نجاسة الدَّم المَسْفوح، ودَمِ الحَيْض، ودَمِ الجُرْح.
فأمَّا نجاسة الدَّم المَسْفوح؛ ففي القرآن قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]؛ فإنَّ قوله: {مُحَرَّمًا} صفةٌ لموصوف محذوف، والتقدير: شيئاً مُحرَّماً، والضمير المستتر في {يَكُونَ} يعود على ذلك الشيء المُحرَّم؛ أي: إلَّا أن يكون ذلك الشيء المُحرَّم مَيْتةً. إلخ، والضمير البارز في قوله:{فَإِنَّهُ} يعود أيضاً على ذلك الشيء المُحرَّم؛ أي: فإنَّ ذلك الشيءَ المُحرَّم رِجْسٌ.
وعلى هذا؛ فيكون في الآية الكريمة
بيان الحُكْم وعِلَّتِه في هذه الأشياء الثلاثة: المَيْتَة، والدَّم المَسْفوح، ولحم الخنزير، ومن قَصَر الضمير في قوله:{فَإِنَّهُ} على لحم الخنزير مُعلِّلاً ذلك بأنَّه أقرب مذكورٍ، فقَصْرُه قاصِرٌ؛ وذلك لأنَّه يؤدِّي إلى تشتيت الضمائر، وإلى القصور في البيان القرآني؛ حيث يكون ذاكراً للجميع (الميتة، والدَّم المَسْفوح، ولحم الخنزير) حُكْماً واحداً، ثمَّ يُعلِّل لواحدٍ منها فقط.
وكذلك من قَصَره على لحم الخنزير معلِّلاً بأنَّه لو كان الضمير للثلاثة لقال: فإنَّها، أو فإنَّهن. فجوابه: أنَّا لا نقول إنَّ الضمير للثلاثة، بل هو عائد إلى الضمير المستتر في {يَكُونَ} المُخْبَر عنه بأحد الأمور الثلاثة.
ويدلُّ على أنَّ وَصْف الرِّجْس للثلاثة: ما دلَّت عليه السُّنَّة من نجاسة المَيْتَة؛ ففي السُّنن عن ميمونة رضي الله عنها (أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ: لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: يُطَهِّرُهَا المَاءُ وَالقَرَض) أخرجه النسائي وأبو داود، وأخرجا من حديث سَلَمَة بن المُحَبَّق أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في جلود الَميْتَة:(دِبَاغُهَا طَهُورُهَا). وعند النسائي: (دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا). وفي (صحيح مسلم) من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: وقد سُئِلَ عن أَسْقِية المَجُوس، سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:(دِبَاغُهُ طَهُورُهُ).
وبهذا تقرَّر دلالة القرآن على نجاسة الدَّم المَسْفوح.
وأمَّا نجاسة دَم الحَيْض؛ ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حُبَيش: (إِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، ثُمَّ صَلِّي). هذا لفظ البخاري، وقد ترجم عليه باب غسل الدَّم.
وفيهما أيضاً من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ
الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ). هذا لفظ البخاري في رواية، وفي أخرى:(تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُضُهُ بِالمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ). وهو لمسلم بهذا اللفظ، لكن بـ (ثمَّ) في الجمل الثلاث كُلِّها، وكون النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُرتِّب الصلاة على غَسْلِه بـ (ثمَّ)، دليلٌ على أنَّ غَسْلَه لنجاسته، لا لأجل النظافة فقط.
وأمَّا نجاسة دم الجُرْح؛ ففي الصحيحين من حديث سَهْل بن سَعْد رضي الله عنه في قصَّة جَرْح وَجْه النبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد قال: (فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَغْسِلُ الدَّمَ، وَكَانَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالمِجَنِّ)، هذا لفظ مسلم. وهذا وإن كان قد يدَّعي مدَّعٍ أنَّ غَسْله للتنظيف لا للتطهير الشرعي، أو أنَّه مجرَّد فِعْل، و (الفِعْل المُجرَّد لا يدلُّ على الوجوب).
فإنَّ جوابه: أنَّ أَمْر النبيِّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبَيْش بغَسْل الدَّم قرينةٌ على أنَّ غَسْل الدَّم من وجه النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان تطهيراً شرعيًّا مُتقرِّراً عندهم.
وأمَّا ما ورد عن بعض الصحابة ممَّا يدلُّ ظاهره على أنَّه لا يجب غَسْل الدَّم والتطهير منه، فإنَّه على وجهين:
أحدهما: أن يكون يسيراً يُعفَى عنه؛ مثل ما يُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه لا يرى بالقَطْرَتين من الدَّم في الصَّلاة بأساً، وأنَّه يُدْخِل أصابعه في أنفه فيخرج عليها الدَّم فيَحُتُّه، ثمَّ يقوم فيُصلِّي. ذَكَر ذلك عنه ابن أبي شَيْبَة في (مُصنَّفه).
الثاني: أن يكون كثيراً لا يمكن التَّحرُّز منه؛ مثل ما رواه مالك في (الموطَّأ) عن المِسْوَر بن مَخْرَمة، (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ حِينَ طُعِنَ صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً)، فإنَّ هذا لا يمكن التحرُّز منه؛ إذْ لو غُسِلَ لاستمرَّ يخرج، فلم يستفد شيئاً، وكذلك ثوبه لو غَيَّره بثوب آخر -إن كان له ثوبٌ آخر-
لتلوَّث الثوب الآخر، فلم يستفد من تغييره شيئاً، فإذا كان الوارد عن الصحابة لا يخرج عن هذين الوجهين، فإنَّه لا يمكن إثبات طهارة الدَّم بمثل ذلك، والذي يتبيَّن من النصوص فيما نراه في طهارة الدَّم ونجاسته ما يلي:
أ - الدَّم السائل من حيوانٍ مَيْتَتُه نَجِسَة، فهذا نَجِسٌ كما تدلُّ عليه الآية الكريمة.
ب - دَمُ الحَيْض. وهو نَجِسٌ كما يدلُّ عليه حَدِيثَا عائشة وأسماء رضي الله عنهما.
جـ - الدَّم السائل من بني آدم. وظاهر النصوص وجوب تطهيره إلَّا ما يَشقُّ التحرُّز منه؛ كدَم الجُرْح المستمرِّ، وإن كان يمكن أن يُعارَض هذا الظاهر بما أشرنا إليه عند الكلام على غَسْل جُرْح النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبأنَّ أجزاء الآدمي إذا قُطِعَت كانت طاهرةً عند أكثر أهل العِلْم، فالدَّم من باب أَوْلَى، لكن الاحتياط التطهُّر منه؛ لظاهر النصوص، واتِّقاء الشُّبُهات التي من اتَّقاها اسْتَبْرأ لدِينِه وعِرْضِه.
د - دمُ السمك. وهو طاهرٌ؛ لأنَّه إذا كانت مَيْتَتُه طاهرةً كان ذلك دليلًا على طهارته؛ فإنَّ تحريم المَيْتَة من أجل بقاء الدَّم فيها، بدليل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ). فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم سبب الحِلِّ أمرين:
أحدهما: إنْهَار الدَّم
الثاني: ذِكْر اسمِ الله تعالى.
الأوَّل حِسِّيٌّ، والثاني مَعْنويٌّ.
هـ- دَمُ الذُّباب والبَعُوض وشِبْهِه؛ لأنَّ مَيْتَته طاهرةٌ كما دلَّ عليه حديث أبي هريرة في الأمر بغَمْسِه إذا وَقَعَ في الشراب، ومن الشَّراب ما هو حارٌّ يموت به، وهذا دليلٌ على طهارة دَمِه؛ لما سبق من عِلَّة تحريم المَيْتَةِ.
و- الدَّم الباقي بعد خروج النَّفْس من حيوانٍ مُذَكًّى؛ لأنَّه كسائر أجزاء البهيمة، وأجزاؤها حلالٌ طاهرةٌ