الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأخبراه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على طرقكم وفي فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» . (1)
فهذا سمعهم وسماعهم، وشرعهم وشراعهم، ليس فيه شيء من اللهو واللعب، ولا بين أحوالهم وأحوال المجان والمخانيث تشابه ولا سبب. (2)
موقفه من الجهمية:
قال القرطبي في المفهم في شرح حديث «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (3): وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان،
(1) تقدم في مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة (13هـ).
(2)
كشف القناع (ص.179 - 184).
(3)
أحمد (6/ 55) والبخاري (5/ 134/2457) ومسلم (4/ 2054/2668) والترمذي (5/ 198/2976) والنسائي (8/ 639/5438) عن عائشة رضي الله عنها.
والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع، أو بالأوصاف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؟ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته، فإن العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه، ولا فرق بين البحث في كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير: {لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1) ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنك قد حجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفية إدراكاتك، مع أنك تدرك بها. وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك، فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز.
وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات منزه عن صفاتها، مقدس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به.
ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه، وأسمائه قبلناه،
(1) الشورى الآية (11).
واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة السلف، وما سواها مهاو وتلف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشغل، والدين قد فرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه. وقال مالك: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال: كان يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنك، فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك. وقال الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في علم الكلام. وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمى، أو غير المسمى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، علماء الكلام زنادقة. وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيته. قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وأصل ذلك: أنهم ما قنعوا بما بعثت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكم التي انفرد بها، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خرجه