الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم من كان منهم ثقة أو غير ثقة. فقال له يوسف بن الحسين: استحييت إليك يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مئة سنة أو مئتي سنة، وأنت تذكرهم وتغتابهم على أديم الأرض، فبكى عبد الرحمن، وقال: يا أبا يعقوب، لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب، لم أصنفه.
قال ابن الجوزي: عفا الله عن ابن أبي حاتم، فإنه لو كان فقيها، لرد عليه كما رد الإمام أحمد على أبي تراب، ولولا الجرح والتعديل، من أين كان يعرف الصحيح من الباطل؟ ثم كون القوم في الجنة لا يمنع أن نذكرهم بما فيهم. وتسمية ذلك غيبة حديث سوء.
ثم من لا يدري الجرح والتعديل كيف هو يزكي كلامه؟ (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: اعلم أن القوم -أي الباطنية- أرادوا الانسلال من الدين، فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم حتى أخرسوهم عن النطق بما يعتقدونه من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون، ورأوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم قد استطار في الأقطار، وأنهم قد عجزوا عن مقاومته فقالوا: سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلا وأتحفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب وهم الروافض، فنتحصن بالانتساب إليهم، ونتودد
(1) تلبيس إبليس (409).
إليهم بالحزن على ما جرى على آل محمد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة. فإذا هان أولئك عندهم لم يلتفتوا إلى ما نقلوا، فأمكن استدراجهم إلى الانخداع عن الدين، فإن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة في اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم، فإذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج باقي الفرق. ثم قالوا: وطريقنا أن نختار رجلا ممن يساعد على المذهب ويزعم أنه من أهل البيت وأنه يجب على كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته لكونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة الله عز وجل، ثم لا تظهر هذه الدعوة على القرب من جوار هذا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة، فإن قرب الدار يهتك الأستار. وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن حال الإمام أو يطلع على حقيقة أمره. وقصدهم بهذا كله الملك والاستيلاء على أموال الناس، والانتقام منهم لما عاملوهم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما، فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم. (1)
- وقال رحمه الله: فانظر كيف تلاعب الشيطان بهؤلاء وذهب بعقولهم فنحتوا بأيديهم ما عبدوه، وما أحسن ما عاب الحق سبحانه وتعالى أصنامهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
(1) التلبيس (128 - 129).
أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (1). وكانت الإشارة إلى العباد، أي: أنتم تمشون وتبطشون وتبصرون وتسمعون والأصنام عاجزة عن ذلك وهي جماد وهم حيوان فكيف عبد التّامُّ النّاقصَ. ولو تفكروا لعلموا أن الإله يصنع الأشياء ولا يُصنع، ويجمع وليس بمجموع، وتقوم الأشياء به ولا يقوم بها، وإنما ينبغي للإنسان أن يعبد من صنعه لا ما صنعه. وما خيل إليهم أن الأصنام تشفع فخيال ليس فيه شبهة يتعلق بها. (2)
- وقال مبيّناً سخف الفلاسفة ومن ضاهاهم: وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم، فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة، كما ينقل من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وجالينوس، وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أموراً خفية إلا أنهم لما تكلموا في الإلهيات خلطوا؛ ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا في الحسيات والهندسيات. وقد ذكرنا جنس تخليطهم في معتقداتهم.
وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة، والرجوع فيها إلى الشرائع. وقد حكي لهؤلاء المتأخرين في أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع، ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس وحيلاً، فصدقوا فيما حكي لهم عنهم، ورفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا
(1) الأعراف الآية (195).
(2)
تلبيس إبليس (ص.77 - 78).
المحذورات واستهانوا بحدود الشرع وخلعوا ربقة الإسلام، فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات، والمبتدعة في الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر في الأدلة، وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء. أتراهم ما علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة؟
وما قد حكي لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال؛ فإن أكثر القوم يثبتون الصانع ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها وشذ منهم قليل، فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة، وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير، فلا هم يعملون بمقتضاه ولا بمقتضى الإسلام؛ بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي، ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق وعلى النبوات، ويتكلم في إنكار بعث الأجساد ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر فَأَضَرَّ بِهِ، فهو عامة زمانه في تسخط على الأقدار والاعتراض على المقدر، حتى قال لي بعضهم: أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك. وكان يقول أشعاراً كثيرة في هذا المعنى، فمنها قوله في صفة الدنيا قال:
أتراها صنعة من غير صانع
…
أم تراها رمية من رام
وقوله:
واحيرتا من وجود ما تقدمه
…
منا اختيار ولا علم فيقتبس
كأنه في عماء ما يخلصنا
…
منه ذكاء ولا عقل ولا شرس
ونحن في ظلمة ما إن لها قمر
…
فيها يضيء ولا شمس ولا قبس
مدلهين حيارى قد تكنفنا
…
جهل يجهمنا في وجهه عبس
فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل
…
والقول فيه كلام كله هوس
ولما كانت الفلاسفة قريباً من زمان شريعتنا، والرهبنة كذلك، مدّ بعض أهل ملتنا يده إلى التمسك بهذه وبعضهم مدّ يده إلى التمسك بهذه، فترى كثيراً من الحمقى إذا نظروا في باب الاعتقاد تفلسفوا، وإذا نظروا في باب التزهد ترهبنوا، فنسأل الله ثباتاً على ملتنا وسلامة من عدونا، إنه ولي الإجابة. (1)
- وقال: قد لبس على خلق كثير فجحدوا البعث، واستهولوا الإعادة بعد البلاء، وأقام لهم شبهتين:
إحداهما: أنه أراهم ضعف المادة.
والثانية: اختلاط الأجزاء المتفرقة في أعماق الأرض. قالوا: وقد يأكل الحيوان الحيوان فكيف يتهيأ إعادته؟ وقد حكى القرآن شبهتهم فقال تعالى في الأولى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} (2). وقال في الثانية: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (3). وهذا كان مذهب أكثر الجاهلية، قال قائلهم:
(1) تلبيس إبليس (ص.63 - 65).
(2)
المؤمنون الآيتان (35و36).
(3)
السجدة الآية (10).
يخبرنا الرسول بأن سنحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام
وقال آخر (وهو أبو العلاء المعريّ):
حياة ثم موت ثم بعث
…
حديث خرافة يا أم عمرو
والجواب عن شبهتهم الأولى: أن ضعف المادة في الثاني وهو التراب يدفعه كون البداية من نطفة ومضغة وعلقة: ثم أصل الآدميين وهو آدم من تراب على أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً مستحسناً إلا من مادة سخيفة. فإنه أخرج هذا الآدمي من نطفة، والطاووس من البيضة المدرة والطرفة الخضراء من الحبة العفنة.
فالنظر ينبغي أن يكون إلى قوة الفاعل وقدرته لا إلى ضعف المواد. وبالنظر إلى قدرته يحصل جواب الشبهة الثانية، ثم قد أرانا كالأنموذج في جمع التمزق فإن سحالة الذهب المتفرقة في التراب الكثير إذا أُلقي عليها قليل من زئبق اجتمع الذهب مع تبدده، فكيف بالقدرة الإلهية التي من تأثيرها خلق كل شيء لا من شيء، على أنا لو قدرنا أن نحيل هذا التراب ما استحالت إليه الأبدان لم يصر بنفسه، لأن الآدمي بنفسه لا ببدنه؛ فإنه ينحل ويسمن، ويهزل ويتغير من صغر إلى كبر وهو هو، ومن أعجب الأدلة على البعث أن الله عز وجل قد أظهر على يدي أنبيائه ما هو أعظم من البعث وهو قلب العصا حية حيواناً، وأخرج ناقة من صخرة، وأظهر حقيقة البعث على يدي عيسى صلوات الله وسلامه عليه. (1)
(1) تلبيس إبليس (ص.97 - 98).