الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دخل على الصوفية في هذا الفن من أبواب. أحدها أنه منع جمهورهم من العلم أصلا، وأراهم أنه يحتاج إلى تعب وكلف فحسن عندهم الراحة، فلبسوا المراقع وجلسوا على بساط البطالة. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال في معرض ذكره لتلبيس إبليس على هذه الأمة في العقائد والديانات: فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد وساقهم سوق البهائم. ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم على قدر تمكنه منهم، فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد وأمره بالنظر، ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز. فساقهم إلى مذهب الفلاسفة، ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام. وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة. ومن هؤلاء من حسن له أن لا يعتقد إلا ما أدركته حواسه. فيقال لهؤلاء: بالحواس علمتم صحة قولكم؟ فإن قالوا: نعم كابروا، لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا، إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف، وإن قالوا بغير الحواس، ناقضوا قولهم. ومنهم من نفره إبليس عن التقليد وحسن له الخوض في علم الكلام والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عن غمار العوام. وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد.
ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يروي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض
(1) التلبيس (389).
فيه.
ثم قال: قلت وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا: إن الله عز وجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها. وقال جهم بن صفوان، علم الله وقدرته وحياته محدثة. وقال أبو محمد النوبختي عن جهم أنه قال: إن الله عز وجل ليس بشيء. وقال أبو علي الجبائي وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين: المعدوم شيء وذات ونفس وجوهر وبياض وصفرة وحمرة، وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ولا العرض عرضا ولا الجوهر جوهرا وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود. (1)
- وقال أيضا: قلت أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة. وقد زعم أرباب الكلام أنه لا يتم الإيمان إلا بمعرفة ما رتبوه وهؤلاء على خطأ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالإيمان ولم يأمر ببحث المتكلمين، ودرجت الصحابة الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس على ذلك. (2)
- وقال: فإن قال قائل قد عبت طريق المقلدين في الأصول وطريق المتكلمين، فما الطريق السليم من تلبيس إبليس؟ فالجواب أنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير ولا بحث عما ليس في قوة البشر إدراكه، وأن القرآن كلام الله غير
(1) التلبيس (102 - 103).
(2)
التلبيس (104).
مخلوق. (1)
- وقال يوما: أهل الكلام يقولون: ما في السماء رب، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، ثلاث عورات لكم. (2)
وقال رحمه الله: ليس على العوامّ أضرّ من سماعهم علم الكلام. وإنما ينبغي أن يُحذر العوامّ من سماعه والخوض فيه، كما يُحذر الصبيّ من شاطئ النهر خوف الغرق.
وربما ظنّ العامّيّ أن له قوة يدرك بها هذا، وهو فاسد؛ فإنه قد زلّ في هذا خلقٌ من العلماء؛ فكيف العوامّ؟!
وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا؛ فإنه يحضر عندهم العوامّ الغُشم، فلا ينهونهم عن خمر وزنى وغيبة، ولا يعلِّمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبّد، بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات، وأن الكلام قائم بالذات، فيتأذى بذلك مَن كان قلبه سليماً.
وإنما على العامّيّ أن يؤمن بالأصول الخمسة؛ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآٍخر، ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، والاستواء حق، والكيف مجهول.
وليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلّف الأعراب سوى مجرّد الإيمان، ولم تتكلّم الصحابة في الجواهر والأعراض؛ فمن مات على طريقهم؛ مات مؤمناً سليماً من بدعة. ومن تعرّض لساحل البحر، وهو لا يحسن السباحة؛
(1) التلبيس (108 - 109).
(2)
السير (21/ 376).
فالظاهر غرقه. (1)
- وقال: ثم نظر إبليس، فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة، فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوامّ، فحسّن لهم علوم الكلام، وصاروا يحتجّون بقول بقراط وجالينوس وفيثاغورس!! وهؤلاء ليسوا بمتشرِّعين، ولا تبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما قالوا بمقتضى ما سوّلت لهم أنفسهم.
وقد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد؛ شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث، فيثبت الإيمان في قلبه؛ فقد توانى الناس عن هذا، فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل، وينبذ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أخبار آحادٍ! وأصحاب الحديث عندهم يسمّون: حشويّة!!
ويعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة والهيولى والجزء الذي لا يتجزّأ
…
ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق، فيدفعون ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بواقعاتهم:
فيقول المعتزلة: إن الله لا يُرى؛ لأن المرئيّ يكون في جهة! ويخالفون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تُضامون في رؤيته» ؛ فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته وإن عجزنا عن فهم كيفيّتها.
وقد عُزِلَ هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن، وقالوا: مخلوقٌ! فزالت حُرمته من القلوب. وعن السنة، وقالوا: أخبارُ آحادٍ! وإنما مذاهبهم السّرقة من بقراط وجالينوس.
(1) صيد الخاطر (ص.569).