الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقفه من الرافضة:
- جاء في الاعتصام عنه: خرجت من بلادي على الفطرة، فلم ألق في طريقي إلا مهتديا، حتى بلغت هذه الطائفة -يعني: الإمامية والباطنية من فرق الشيعة-، فهي أول بدعة لقيت، فلو فجأتني بدعة مشبهة، كالقول بالمخلوق، أو نفي الصفات، أو الإرجاء، لم آمن. فلما رأيت حماقاتهم، أقمت على حذر، وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة، ولبثت بينهم ثمانية أشهر.
ثم خرجت إلى الشام، فوردت بيت المقدس، فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين -مدرسة الشافعية بباب الأسباط، وأخرى للحنفية-، وكان فيها من رؤوس العلماء ورؤوس المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير، فوعيت العلم، وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنة.
ثم نزلت إلى الساحل لأغراض، وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والإمامية، فطفت في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر، ونزلت عكا، وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكي، وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي.
فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين، فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا؛ ولع بي، وفيهم -لعمر الله، وإن كانوا على باطل- انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر، فكان لا يفارقني، ويساومني الجدال، ولا يفاترني، فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعميم من
المعصوم بما يطول ذكره. ومن جملة ذلك أنهم يقولون: إن لله في عباده أسرارا وأحكاما، والعقل لا يستقل بدركها، فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم. فقلت لهم: أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد؟ فقال لي: مات -وليس هذا بمذهبه، ولكنه تستر معي-. فقلت: هل خلفه أحد؟ فقال: خلفه وصيه علي. قلت: فهل قضى بالحق وأنفذه؟ قال: لم يتمكن لغلبة المعاند. قلت: فهل أنفذه حين قدر؟ قال: منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت؛ إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى، فلم يمكن إلا المداراة؛ لئلا ينفتح عليه أبواب الاختلال. قلت: وهذه المداراة حق أم لا؟ فقال: باطل أباحته الضرورة. قلت: فأين العصمة؟ قال: إنما تغني العصمة مع القدرة. قلت: فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا؟ قال: لا. قلت: فالدين مهمل، والحق مجهول مخمل؟ قال: سيظهر. قلت: بمن؟ قال: بالإمام المنتظر. قلت: لعله الدجال؟ فما بقي أحد إلا ضحك. وقطعنا الكلام على غرض مني؛ لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده.
ثم قلت: ومن أعجب ما في هذا الكلام: أن الإمام إذا أوعز إلى من لا قدرة له؛ فقد ضيع، فلا عصمة له! وأعجب منه أن الباري تعالى -على مذهبه- إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم، وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم؛ فكأنه ما علمه وما بعثه، وهذا عجز منه وجور، لاسيما على مذهبهم! فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة. وشاع الحديث، فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي، فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي، وقال: إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك. فقلت: أنا مشغول.
فقال: هنا موضع مرتب قد جاء إليه، وهو محرس الطبرانيين، مسجد في قصر على البحر، وتحامل علي، فقمت ما بين حشمة وحسبة، ودخلت قصر المحرس، وطلعنا إليه، فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية، فرأيت النكر في وجوههم، فسلمت، ثم قصدت جهة المحراب، فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم والخلاص منهم. فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم؛ إن كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا، ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس، فأقول: هذا قبري الذي يدفنوني فيه، وأنشد في سري:
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا
…
سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان؟
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري التي أنقدني الله منها.
فلما سلمت؛ استقبلتهم، وسألتهم عن أحوالهم عادة، وقد اجتمعت إلي نفسي، وقلت: أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين. فقال لي أبو الفتح -وأشار إلى فتى حسن الوجه-: هذا سيد الطائفة ومقدمها، فدعوت له، فسكت، فبدرني وقال: قد بلغتني مجالستك وانتهى إِليَّ كلامك، وأنت تقول: قال الله وفعل! فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه؟! أخبرني واخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة -وقد احتد نفسا، وامتلأ غيظا، وجثا على ركبتيه، ولم أشك أنه لا يتم الكلام إلا وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب. فعمدت -بتوفيق الله- إلى كنانتي،
واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه، فسقط لليدين والفم. (1)
وانظر بقية المناظرة في المرجع نفسه فهي شيقة تبرز عمق علم السلف رحمهم الله وتوقد ذكائهم.
- وجاء في العواصم: وهذه حقيقة مذهبهم (أي الروافض)، أن الكل منهم (أي الصحابة) كفرة، لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب. وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية: إن كل عاص بكبيرة كافر، على رسم القدرية، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين (وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومن ساعدهم على أمرهم، وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحرص الناس على دنيا، وأقلهم حماية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة.
قال القاضي أبو بكر: يكفيك من شر سماعه، فكيف التململ به. خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا -لا ينقص منها يوما ولا يزيد يوما- وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟
ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل. فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
(1) الاعتصام (1/ 198 - 202).
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (1)، وهذا قول صدق، ووعد حق. وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين، ولا أمن ولا سكون، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة. (2)
القاضي عياض (3)(544 هـ)
الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي، ثم السبتي المالكي. ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة. رحل إلى الأندلس وروى عن القاضي أبي علي ابن سكرة الصدفي ولازمه، وعن أبي بحر بن العاص وعدة. وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي والقاضي محمد المسيلي. واستبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق. ولي القاضي عياض القضاء مرارا، في سبتة أولا، ثم في غرناطة، ثم في سبتة مرة أخرى، ثم بقرية داي ببادية تادلا في الشمال
(1) النور الآية (55).
(2)
العواصم من القواصم (187 - 192).
(3)
وفيات الأعيان (3/ 483 - 485) وتاريخ الإسلام (حوادث 541 - 550/ص.198 - 201) والسير (20/ 212 - 218) وتذكرة الحفاظ (4/ 1304 - 1307) والديباج المذهب (2/ 46 - 51) والبداية والنهاية (12/ 241) وشذرات الذهب (4/ 138 - 139).