الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال جدي رحمه الله: كان أبو المظفر بن حمدي أحد العدول والمشار إليهم ببغداد ينكر على ابن الجوزي كثيرا كلمات يخالف فيها السنة. قال الذهبي: وكلامه في السنة مضطرب، تراه في وقت سنيا، وفي وقت متجهما محرفا للنصوص، والله يرحمه ويغفر له. نالته محنة في أواخر عمره، فحبس بواسط، وما أطلق إلا بعد خمس سنين. توفي رحمه الله في الثالث عشر من رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في كتابه النفيس 'تلبيس إبليس': واعلم أن الأنبياء جاؤوا بالبيان الكافي، وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي، وتوافقوا على منهاج لم يختلف. فأقبل الشيطان يخلط بالبيان شبهاً، وبالدواء سمّاً، وبالسبيل الواضح جرداً مضلا، وما زال يلعب بالعقول إلى أن فرق الجاهلية في مذاهب سخيفة، وبدع قبيحة، فأصبحوا يعبدون الأصنام في البيت الحرام، ويحرمون السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، ويرون وأد البنات، ويمنعونهن الميراث، إلى غير ذلك من الضلال الذي سوله لهم إبليس فابتعث الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، فرفع المقابح، وشرع المصالح. فسار أصحابه معه وبعده في ضوء نوره، سالمين من العدوّ وغروره. فلما انسلخ نهار وجودهم. أقبلت أغباش الظلمات، فعادت الأهواء تنشئ بدعاً، وتضيق سبيلاً ما زال متسعاً، ففرق الأكثرون دينهم وكانوا شيعاً، ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف، وإنما يصح له التلصص في ليل الجهل، فلو قد طلع عليه صبح العلم افتضح.
فرأيت أن أحذر من مكايده، وأدلّ على مصايده. فإن في تعريف الشر
تحذيراً عن الوقوع فيه. (1)
- قال رحمه الله: دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين:
أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف.
والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه، فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.
فأما الطريق الأول، فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم. وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية. واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم، لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال. وقد ذم الله سبحانه وتعالى الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل:{إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ} (2) المعنى أتتبعونهم؟ وقد قال عز وجل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} (3). قال المصنف: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه. وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن
(1) تلبيس إبليس (ص.10 - 11).
(2)
الزخرف الآيتان (23و24).
(3)
الصافات الآيتان (69و70).
أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة. واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن حوط وقد قال له: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعْرَف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. (1)
- وقال: واعلم أن من نظر إلى تعظيم شخص ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه، كان كمن ينظر إلى ماجرى على يد المسيح صلوات الله عليه من الأمور الخارقة ولم ينظر إليه فادعى فيه الإلهية. ولو نظر إليه وأنه لا يقوم إلا بالطعام، لم يعطه إلا ما يستحقه. (2)
- وقال: فإن قال قائل: قد مدحت السنة وذممت البدعة، فما السنة وما البدعة؟ فإنا نرى أن كل مبتدع في زعمنا يزعم أنه من أهل السنة؟ (فالجواب): أن السنة في اللغة الطريق، ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة، لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والبدعة: عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان. فإن
(1) التلبيس (100 - 101).
(2)
التلبيس (209).
ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها؛ فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا، حفظا للأصل وهو الاتباع. (1)
- وقال رحمه الله: قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن. وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها، فلم يروا بفعلها بأسا، كما روي أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحدانا، وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته الجماعة، فجمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنه، فلما خرج فرآهم قال: نعمت البدعة هذه، لأن صلاة الجماعة مشروعة. وإنما قال الحسن في القصص: نعمت البدعة، كم من أخ يستفاد، ودعوة مستجابة؛ لأن الوعظ مشروع، ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم.
فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة، وإن كانت مضادة فهي أعظم.
فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون، وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له، ولهذا استتروا ببدعتهم، ولم يكتم أهل السنة مذهبهم، فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم. (2)
- وبالسند إلى محمد بن الفضل العباسي قال: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو يقرأ علينا كتاب الجرح والتعديل، فقال: أظهر أحوال أهل
(1) تلبيس إبليس (24 - 25).
(2)
تلبيس إبليس (26).