الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاتباع
الاتباع لغة:
مصدر اتّبع المأخوذ من مادّة (ت ب ع) ، وتدلّ هذه المادّة على التّلوّ والقفو، يقال: تبعت القوم تبعا، وتباعة بالفتح، إذا مشيت خلفهم أو مرّوا بك فمضيت معهم، وتبعت الشّيء: سرت في أثره، والتّابع: التّالي، والجمع تبّع وتبّاع وتبعة. والتّبع اسم للجمع.
وقال أبو عبيد: أتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم.
وقال الفرّاء: أتبع أحسن من اتّبع؛ لأنّ الاتّباع أن يسير الرّجل وأنت تسير وراءه. فإذا قلت أتبعته فكأنّك قفوته..
واتّبع القرآن: ائتمّ به وعمل بما فيه، وفي حديث أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه:«إنّ هذا القرآن كائن لكم أجرا وكائن عليكم وزرا، فاتّبعوا القرآن ولا يتّبعنّكم القرآن، فإنّه من يتّبع القرآن يهبط به على رياض الجنّة، ومن يتّبعه القرآن يزخّ في قفاه حتّى يقذف به في نار جهنّم» يقول: اجعلوه أمامكم ثمّ اتلوه كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يتّبعونه حقّ اتّباعه، وأراد لا تدعوا تلاوته والعمل به فتكونوا قد جعلتموه وراءكم.
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
56/ 35/ 48
وتابع بين الأمور متابعة وتباعا: واتر، ووالى.
وتابع عمله وكلامه: أتقنه وأحكمه، ومنه حديث أبي واقد اللّيثيّ: تابعنا الأعمال فلم نجد شيئا أبلغ في طلب الآخرة من الزّهد في الدّنيا، أي أحكمناها وعرفناها. ويقال: تابع فلان كلامه، وهو تبيع للكلام إذا أحكمه، ويقال: هو يتابع الحديث إذا كان يسرده، وقيل: فلان متتابع العلم إذا كان علمه يشاكل بعضه بعضا لا تفاوت فيه «1» .
والاتّباع في الأصل: اقتفاء أثر الماشي، ثمّ استعمل في العمل بمثل عمل الغير، كما في قوله:
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ثمّ استعمل في امتثال الأمر، والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار «2» .
واصطلاحا:
قال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-: هو أن يتّبع الرّجل ما جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثمّ هو من بعد في التّابعين مخيّر.
وقال ابن عبد البرّ- رحمه الله تعالى-: الاتّباع ما ثبت عليه الحجّة، وهو اتّباع كلّ من أوجب عليك الدّليل اتّباع قوله. فالرّسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في اتّباع ما أمر به «3» .
قال الشّافعيّ- رحمه الله تعالى-: باب ما
(1) لسان العرب لابن منظور (1/ 416، 419) ، وانظر الصحاح (3/ 1190) ، ومقاييس اللغة (1/ 362) .
(2)
تفسير التحرير والتنوير (7/ 423) .
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (7/ 548) .
أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتّباع ما أوحي إليه وما شهد له به من اتّباع ما أمر به، وأنّه صلى الله عليه وسلم هاد لمن اتّبعه. ثمّ ساق الآيات الدّالّة على هذه المعاني ومنها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الأحزاب/ 1، 2) . وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (الجاثية/ 18) ثمّ قال- رحمه الله تعالى-:
وما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّة، وكذلك أخبرنا الله في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللَّهِ. وقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نصّ كتاب، وكلّ ما سنّ فقد ألزمنا الله اتّباعه، وجعل في اتّباعه طاعته، وفي العنود «1» عن اتّباعه معصيته الّتي لم يعذر بها خلقا، ولم يجعل له من اتّباع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجا للآيات المذكورة. ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا ألفينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه» ، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله وجهان: أحدهما نصّ كتاب، فاتّبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنزله الله، والآخر جملة بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عامّا أو خاصّا، وكيف أراد أن يأتي به العباد. وكلاهما اتّبع فيه كتاب الله.
فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أنّ سنن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين: أحدهما ما أنزل الله فيه نصّ كتاب فبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما نصّ الكتاب. والآخر ممّا أنزل الله فيه جملة كتاب، فبيّن عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللّذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثّالث (المختلف فيه) ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه نصّ كتاب. فمنهم من قال:
جعل الله له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسنّ فيما ليس فيه نصّ كتاب.
ومنهم من قال: لم يسنّ سنّة قطّ إلّا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنّته لتبيين عدد الصّلاة وعملها على أصل جملة فرض الصّلاة، وكذلك ما سنّ من البيوع وغيرها من الشّرائع؛ لأنّ الله قال: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ* (النساء/ 29) وقال:
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (البقرة/ 275) ما أحلّ وحرّم فإنّما بيّن فيه عن الله كما بيّن الصّلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فأثبتت سنّته بفرض الله.
ومنهم من قال: ألقي في روعه «2» كلّ ما سنّ (وسنّته الحكمة) : الّذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنّته.
وأيّ هذا كان، فقد بيّن الله أنّه فرض فيه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف
(1) العنود: العتو والطغيان أو الميل والانحراف.
(2)
الرّوع: بضم الراء بعدها واو ساكنة القلب والعقل.
أمر عرفه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن قد جعل الله بالنّاس كلّهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجّته بما دلّهم عليه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم من عرف منها ما وصفنا أنّ سنّته صلى الله عليه وسلم إذا كانت سنّة مبيّنة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نصّ كتاب سنّة أخرى فهي كذلك لا يختلف حكم الله ثمّ حكم رسوله، بل هو لازم بكلّ حال «1» .
وقال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: الكتاب (أي القرآن) هو المتّبع على الحقيقة، ومراتب النّاس بحسب اتّباعهم له. إنّ الله تعالى وضع هذه الشّريعة حجّة على الخلق كبيرهم وصغيرهم، مطيعهم وعاصيهم، برّهم وفاجرهم. لم يختصّ بها أحدا دون أحد، وكذلك سائر الشّرائع إنمّا وضعت لتكون حجّة على جميع الأمم الّتي تنزّل فيهم تلك الشّرائع، حتّى إنّ المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.
فأنت ترى أنّ نبيّنا محمّدا صلى الله عليه وسلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلّباته ممّا اختصّ به دون أمّته، أو كان عامّا له ولأمّته- فالشّريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلّفين، وهي الطّريق الموصّل والهادي الأعظم. ألا ترى إلى قوله تعالى:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (الشورى/ 52) . فهو عليه الصلاة والسلام أوّل من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثمّ من اتّبعه فيه، والكتاب هو الهادي، والوحي المنزّل عليه مرشد ومبيّن لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع. ولمّا استنار قلبه وجوارحه عليه الصلاة والسلام وباطنه وظاهره بنور الحقّ علما وعملا، صار هو الهادي الأوّل لهذه الأمّة والمرشد الأعظم، حيث خصّه الله تعالى دون الخلق بإنزال ذلك النّور عليه، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشريّة اصطفاء أوّليّا من جهة اختصاصه بالوحي الّذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن، حتّى قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وذلك لأنّه حكّم الوحي على نفسه حتّى صار في علمه وعمله على وفقه واقفا عند حكمه، فقد جاء بالأمر وهو به مؤتمر، وبالنّهي وهو منته وبالوعظ وهو متّعظ، وبالتّخويف وهو أوّل الخائفين، وبالتّرجية وهو سائق دابّة الرّاجين، وقد صارت الشّريعة المنزّلة عليه حجّة حاكمة عليه، ودلالة على الصّراط المستقيم الّذي سار عليه، فإذا كان الأمر كذلك، فسائر الخلق حريّون بأن تكون الشّريعة حجّة حاكمة عليهم، ومنارا يهتدون بها إلى الحقّ، وشرفهم إنّما يثبت بحسب ما اتّصفوا به من الدّخول تحت أحكامها، والأخذ بها قولا واعتقادا وعملا، فمن كان أشدّ محافظة على اتّباع الشّريعة فهو أولى بالشّرف والكرم، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشّرف المبلغ الأعلى في اتّباعها، فالشّرف إذا إنّما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشّريعة «2» .
(1) الرسالة للشافعي (85- 105) بتصرف.
(2)
الاعتصام (2/ 338- 340) باختصار.