الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنّ الاختلاف فيها يسبّب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشّرع، وما زالت الصّحابة- رضوان الله عليهم- يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون «1» .
وقال ابن كثير- رحمه الله: أمرهم الله- عز وجل في الآية الكريمة بالجماعة ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعدّدة بالنّهي عن التّفرّق والأمر بالاجتماع والائتلاف، وقد ضمن الله لهم (أي للمسلمين) العصمة من الخطا عند اتّفاقهم (واجتماعهم) ، وخيف عليهم (الخطأ) عند الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمّة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنّة ومسلّمة من النّار، وهم الّذين على ما كان عليه محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه «2» . وقال أبو حيّان: نهي المسلمون (في هذه الآية الكريمة) عن التّفرّق في الدّين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنّصارى، وقيل: عن إحداث ما يوجب التّفرّق ويزول معه الاجتماع «3» .
أهمية الاجتماع وحث الإسلام عليه:
قال الشّافعيّ- رحمه الله: وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصّلاة: صلّوا فرادى، ولا أحبّ أن يصلّوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه. وإنّما كرهت ذلك لهم لأنّه ليس ممّا فعل السّلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم.
قال الشّافعيّ: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنّما كان لتفرّق الكلمة، وأن يرغب الرّجل عن الصّلاة خلف إمام جماعة فيتخلّف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصّلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرّق كلمة «4» .
قال الشّيخ أحمد شاكر- رحمه الله معلّقا على كلام الشّافعيّ: والّذي ذهب إليه الشّافعيّ من المعنى في هذا الباب صحيح جليل، ينبيء عن نظر ثاقب، وفهم دقيق، وعقل درّاك لروح الإسلام ومقاصده، وأوّل مقصد للإسلام، ثمّ أجلّه وأخطره-: توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غاية واحدة، هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية. والمعنى الرّوحيّ في هذا اجتماعهم على الصّلاة وتسوية صفوفهم فيها أوّلا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم» ، وهذا شيء لا يدركه إلّا من أنار الله بصيرته للفقه في الدّين، والغوص على درره، والسّموّ إلى مداركه، كالشّافعيّ وأضرابه. وقد رأى المسلمون بأعينهم آثار تفرّق جماعاتهم في الصّلاة، واضطراب صفوفهم، ولمسوا ذلك بأيديهم، إلّا من بطلت حاسّته، وطمس على بصره. وإنّك لتدخل كثيرا من مساجد المسلمين فترى قوما يعتزلون الصّلاة مع الجماعة، طلبا للسّنّة كما زعموا! ثمّ يقيمون جماعات أخرى لأنفسهم،
(1) تفسير القرطبي (4/ 159) .
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 397) .
(3)
البحر المحيط (3/ 21) ، وقد ذكر آراء أخرى في تفسير هذه الآية، تنظر هناك.
(4)
الأم (1/ 136- 137) .
ويظنّون أنّهم يقيمون الصّلاة بأفضل ممّا يقيمها غيرهم، ولئن صدقوا فقد حملوا من الوزر ما أضاع أصل صلاتهم، فلا ينفعهم ما ظنّوه من الإنكار على غيرهم في ترك بعض السّنن أو المندوبات. وترى قوما آخرين يعتزلون مساجد المسلمين، ثمّ يتّخذون لأنفسهم مساجد أخرى، ضرارا وتفريقا للكلمة، وشقّا لعصا المسلمين. نسأل الله العصمة والتّوفيق، وأن يهدينا إلى جمع كلمتنا، إنّه سميع الدّعاء.
وهذا المعنى الّذي ذهب إليه الشّافعيّ لا يعارض حديث الباب «1» ، فإنّ الرّجل الّذي فاتته الجماعة لعذر، ثمّ تصدّق عليه أخوه من نفس الجماعة بالصّلاة معه- وقد سبقه بالصّلاة فيها- هذا الرّجل يشعر في داخلة نفسه كأنّه متّحد مع الجماعة قلبا وروحا، وكأنّه لم تفته الصّلاة. وأمّا النّاس الّذين يجمعون وحدهم بعد صلاة جماعة المسلمين فإنّما يشعرون أنّهم فريق آخر، خرجوا وحدهم، وصلّوا وحدهم.
وقد كان عن تساهل المسلمين في هذا، وظنّهم أنّ إعادة الجماعة في المساجد جائزة مطلقا-: أن فشت بدعة منكرة في الجوامع العامّة، مثل الجامع الأزهر والمسجد المنسوب للحسين- رضي الله عنه وغيرهما بمصر، وبلاد أخرى، فجعلوا في المسجد الواحد إمامين راتبين أو أكثر، ففي الجامع الأزهر- مثلا- إمام للقبلة القديمة، وآخر للقبلة الجديدة، ونحو ذلك في مسجد الحسين- رضي الله عنه؛ وقد رأينا فيه أنّ الشّافعيّة لهم إمام يصلّي بهم الفجر في الغلس، والحنفيّون لهم آخر يصلّي الفجر بإسفار، ورأينا كثيرا من الحنفيّة من علماء وطلّاب وغيرهم ينتظرون إمامهم ليصلّي بهم الفجر، ولا يصلّون مع إمام الشّافعيّن، والصّلاة قائمة، والجماعة حاضرة، ورأينا فيهما وفي غيرهما جماعات تقام متعدّدة في وقت واحد، وكلّهم آثمون، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا، بل قد بلغنا أنّ هذا المنكر كان في الحرم المكّيّ، وأنّه كان يصلّي فيه أئمّة أربعة، يزعمونهم للمذاهب الأربعة، ولكنّا لم نر ذلك، إذ لم ندرك هذا العهد بمكّة، وإنّما حججنا في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرّحمن آل السّعود- يرحمه الله- وسمعنا أنّه أبطل هذه البدعة، وجمع النّاس في الحرم على إمام واحد راتب، ونرجو أن يوفّق الله علماء الإسلام لإبطال هذه البدعة من جميع المساجد في البلدان، بفضل الله وعونه، إنّه سميع الدّعاء «2» .
[للاستزادة انظر: صفات: الألفة، الإخاء، التناصر، الاعتصام، التعاون على البر والتقوى، التعارف، حسن العشرة، حسن المعاملة.
وفي ضد ذلك انظر صفات التفرق، التخاذل، التنازع، التعاون على الإثم والعدوان، الفتنة، سوء المعاملة، سوء الخلق] .
(1) المراد الحديث الذي أورده الترمذي في فضل صلاة الجماعة.
(2)
انظر: سنن الترمذي، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر (1/ 431. 432) .