الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شمولية الإحسان واتساع دائرته:
من تأمّل الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الواردة في الإحسان يتّضح بجلاء أنّ الإحسان يشكّل مع العدل- جوهر العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنّ دائرة هذا الإحسان تتّسع لتشمل النّفس والأسرة والأقارب ثمّ المجتمع والإنسانيّة عامّة فالإحسان إلى النّفس وهي الدّائرة الأولى فى مجموعة الدّوائر الّتي يدور الإحسان في فلكها تتضمّن إخلاص العبادة وكمال الطّاعة، قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها (الإسراء/ 7) .
أمّا الدّائرة الثّانية فتشمل الوالدين، قال تعالى:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (الإسراء/ 23)(وانظر أيضا الشّواهد 17، 20، 22) والأحاديث الشّريفة (1، 15) .
وفيما يتعلّق بالأقارب وهي الدّائرة الثّالثة- فإنّها تشمل قرابة النّسب وقرابة الجوار وقد ورد الحثّ عليها في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ (البقرة/ 83) ، (وانظر أيضا الشّاهد القرآنيّ 20)، أمّا في الحديث الشّريف فقد ورد الحثّ على الإحسان إلى الجار في قوله صلى الله عليه وسلم:«وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما» (الحديث 16) وانظر أيضا الحديث رقم (7) .
أمّا الدّائرة الرّابعة وهي أوسع من سابقاتها فإنّها تضمّ المجتمع الّذي يعيش فيه الإنسان والإحسان هنا ينصبّ أساسا على الجانب الضّعيف في المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السّبيل ومن على شاكلتهم، يقول الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (النساء/ 36) .
أمّا الدّائراة الخامسة وهي الأوسع والأرحب في العلاقات الإنسانيّة فتشمل الإحسان إلى المخالفين في العقيدة بالصّفح عنهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة/ 13)«1» .
ويمكننا أن نضيف إلى ذلك دائرة أكثر شمولا من العلاقة السّابقة، ألا وهي دائرة الحياة بكلّ ما فيها من نبات أو حيوان أو جماد وإلى ذلك يشير قول الله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (الأعراف/ 56)، وانظر أيضا الحديث الشّريف:«إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء» الحديث رقم (4) .
ميادين الإحسان كما جاءت في القرآن الكريم:
أمّا الميادين الّتي تتطلّب الإحسان بمعناه العامّ فقد فصّلها القرآن الكريم والسّنّة المطّهرة تفصيلا
(1) أشار ماجد الكيلاني إلى هذه الدوائر الخمس بإيجاز في «فلسفة التربية الإسلامية ص 141.
يصعب حصره أو تحديده، ذلك أنّ الإحسان مطلوب في جميع الأحوال والأوقات، ومن أهمّ الميادين الّتي تتجلّى فيها علاقة الإحسان:
1-
مواجهة الملمّات بالصّبر عليها، قال تعالى:
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (هود/ 115) .
2-
أداء الدّية لوليّ القتيل، وذلك قوله تعالى:
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ (البقرة/ 178) .
3-
معاملة المطلّقات أو من ينوى طلاقهنّ، قال تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
…
مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 236)، وقوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ (البقرة/ 229) .
4-
الحرب والجهاد، وذلك قول الله تعالى:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت/ 69) . وقوله سبحانه وتعالى:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) .
يقول الشّيخ الغزاليّ: هنا يذكر القرآن الكريم معنى آخر للإحسان، فالأمم لا تخدم رسالتها بالبخل وكراهية الإنفاق في سبيل الله، والحروب قديما وحديثا تتطلّب مالا كثيرا
…
والعرب والمسلمون مكلّفون بمعرفة هذه الحقيقة، ولن يسلم لهم دينهم وتبقى لهم بلادهم (حرّة أبيّة) إلّا إذا توسّعوا في الإنفاق الحربيّ، وأحسنوا تهيئة كلّ شيء لكسب المعركة، ويشهد لذلك ما جاء في آيات أخرى عن حقيقة الإحسان، ودائرته الرّحبة، فهي تتطلّب الصّمود والبسالة إلى الرّمق الأخير، يقول المولى عز وجل: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/ 147- 148)«1» .
5-
مجاهدة النّفس بكظم الغيظ ومحاربة الشّحّ وكبح شهوة الانتقام، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/ 134) . وتتضمّن هذه الآية الكريمة الإحسان إلى المسيء بالعفو عنه، يقول الشّيخ الغزاليّ: كظم الغيظ مرتبة عالية، ولكنّ المرتبة الأعلى هي العفو عند المقدرة، وتلك درجة الإحسان «2» .
6-
الحوار الفكريّ والتّواصل الثّقافيّ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ (الإسراء/ 53) .
7-
التّحاور بين المسلمين وأهل الكتاب، قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت/ 46) .
8-
الخصومة والخلافات، يقول الله تعالى:
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (فصلت/ 34) .
(1) المحاور الخمسة (193) بتصرف.
(2)
المرجع السابق ونفسه، والصفحة نفسها.
9-
معاملة اليتامى والضّعفاء، يقول سبحانه:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
(الأنعام/ 152) .
10-
العلاقات السّياسيّة والحربيّة، قال تعالى:
قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً* قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى (الكهف/ 86- 88) .
11-
العلاقات الاجتماعيّة وخاصّة ما يتعلّق بتبادل التّحيّة وردّ السّلام، يقول تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها (النساء/ 86) .
12-
العلاقات الاقتصاديّة، يقول المولى عز وجل في قصّة قارون: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (القصص/ 77)، ويقول الله سبحانه وتعالى:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) . لقد تمّ الرّبط في هذه الآية الكريمة بين الإنفاق وهو المظهر الاقتصاديّ للإحسان وبين التّهلكة (خراب المجتمع)، وسبب ذلك كما يقول بعض الباحثين: إنّ المجتمعات الّتي تقوم على الاستغلال والاحتكار تفرز الطّبقيّة، وتبذر بذور الصّراع الاجتماعي في الدّاخل، وتؤدّى إلى الصّراعات العالميّة في الخارج، وينتج عن ذلك شقاء الفريقين جميعا، المستغلّون والمستغلّون، فالطّبقة الأولى تقع فريسة للغربة والعزلة من ناحية وفقدان المحبّة وشيوع النّفاق من ناحية أخرى، كما أنّه يتولّد لديها الشّعور بالخوف وعدم الأمان من ناحية ثالثة، أمّا طبقة المستضعفين فإنّها تقع فريسة لمجموعة من الأخطار أهمّها: كره الطّبقات العليا المحتكرة والحقد عليها من ناحية ثمّ الإحساس بالغبن والإحباط من ناحية ثانية، وأخيرا فإنّها تميل إلى الجريمة والاستعداد للعنف من ناحية ثالثة.
إنّ تمكّن هذه الآفات الاجتماعيّة فى كلتا الطّبقتين هو التّهلكة الّتى تشير إليها الآية الكريمة وتحذّر منها وتدعو إلى معالجتها بالإحسان والإنفاق «1» .
وهكذا نرى الإحسان يشمل الفرد والمجتمع والدّولة والحياة بأسرها وأنّه لن تقوم تربية راشدة إلّا إذا غرسنا معنى الإحسان في النّفوس على أنّه من محابّ الله تعالى، وقد تضمّن الإحسان كما رأينا النّوايا والمقاصد والعبادات كما تناول الأقوال والأفعال ليس هذا فحسب وإنّما شمل أيضا الإحسان إلى المخلوقات كافّة من حيوان وجماد ونبات.
[للاستزادة: انظر صفات: الإيمان- الإسلام العبادة- الإخلاص- الإنفاق- بر الوالدين- البر حسن العشرة، حسن المعاملة- التقوى- السخاء- السماحة- الصدقة- الزكاة- العدل- العفو- الكلم الطيب.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإساءة- الأذى- سوء المعاملة- سوء الخلق- الشح- عقوق الوالدين- الكنز- التفريط والإفراط- الإعراض- اتباع الهوى- المن بالعطية- البخل- الغش] .
(1) باختصار وتصرف عن: فلسفة التربية الإسلامية ص 143.