الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب مع الله- عز وجل في العبادة:
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى- سمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه الله يقول: من كمال أدب الصّلاة أن يقف العبد بين يدي ربّه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق.
ومن الأدب مع الله في العبادة: السّكون في الصّلاة، وهو الدّوام الّذي قال الله تعالى فيه الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (المعارج/ 23) . سئل عقبة ابن عامر عن قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أهم الّذين يصلّون دائما؟ قال: لا، ولكنّه إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.
قلت- ابن القيّم- هما أمران: الدّوام عليها والمداومة عليها. فهذا الدّوام، والمداومة في قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ وفسّر الدّوام بسكون الأطراف والطّمأنينة.
وأدبه في استماع القراءة: أن يلقي السّمع وهو شهيد.
والمقصود: أنّ الأدب مع الله تبارك وتعالى: هو القيام بدينه والتّأدّب بآدابه ظاهرا وباطنا «1» .
ثانيا: الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
أمّا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعني كمال التّسليم له، والانقياد لأمره، وتلقّي خبره بالقبول والتّصديق.
من مظاهر الأدب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم:
من الأدب مع الرّسول الكريم أن لا يتقدّم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرّف حتّى يأمر هو، وينهى ويأذن، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ، فالتّقدّم بين يدي سنّته بعد وفاته كالتّقدّم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.
قال مجاهد- رحمه الله: لا تفتاتوا «2» على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تقدّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي لا تعجلوا بالأمر والنّهي دونه. وقال غيره: لا تأمروا حتّى يأمر، ولا تنهوا حتّى ينهى.
ومن الأدب معه: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته. فإنّه سبب لحبوط الأعمال فما الظّنّ برفع الآراء، ونتائج الأفكار على سنّته وما جاء به؟ أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال. ورفع الصّوت فوق صوته موجب لحبوطها؟
ومن الأدب معه: أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره. قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
ومن الأدب معه: أنّهم إذا كانوا معه على أمر جامع- من خطبة، أو جهاد، أو رباط- لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتّى يستأذنه. كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله. بل
(1) تهذيب مدارج السالكين (450- 451) بتصرف.
(2)
قال مجاهد: أي في تفسيير الآية الكريمة.
تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصّه بقياس. بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه. ولا يحرّف كلامه عن حقيقته لخيال يسمّيه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول، وعن الصّواب معزول. ولا يوقف قبول ما جاء به صلى الله عليه وسلم على موافقة أحد. فكلّ هذا من قلّة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجرأة «1» .
ورأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم: كمال التّسليم له، والانقياد لأمره، وتلقّي خبره بالقبول والتّصديق، دون أن يحمّله معارض خيال باطل، يسمّيه معقولا أو يحمّله شبهة أو شكّا، أو يقدّم عليه آراء الرّجال، فيفرده بالتّحكيم والتّسليم، والانقياد والإذعان ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره، على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته، ومن يعظّمه، فإن أذنوا له نفّذه وقبل خبره، وإلّا أعرض عن أمره وخبره وفوّضه إليهم، وربّما حرّفه عن مواضعه وسمّى تحريفه: تأويلا، وحملا،. فقال: نؤوّله ونحمله «2» . ولأن يلقى العبد ربّه بكلّ ذنب على الإطلاق عدا الشّرك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال.
يقول ابن القيّم: ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله، لو قدّر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضا علينا أن نتّبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره كلامه ومذهبه، أم لا نتّبعه حتّى نعرض ما سمعناه منه على آراء النّاس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه.
فقلت: فما الّذي نسخ هذا الفرض عنّا؟ وبأيّ شيء نسخ؟ فوضع إصبعه على فيه. وبقي باهتا متحيّرا. وما نطق بكلمة.
وإذا كان من الأدب في حياته صلى الله عليه وسلم ألّا نرفع أصواتنا فوق صوت النّبيّ لقوله- عز وجل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ (الحجرات/ 2) فإنّ من الأدب معه ألّا نرفع الأصوات فوق صوته صلى الله عليه وسلم. فإنّه سبب لحبوط الأعمال فما الظّنّ برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنّته وما جاء به؟
هكذا يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالفة أمره وإشراك غيره ورفع الأصوات، وإزعاج الأعضاء بالصّلاة عليه والتّسليم، وعزل كلامه عن اليقين، عن أن يستفاد منه معرفة الله، أو يتلقّى منه أحكامه. إنّ الجهّال يعتمدون في باب معرفة الله على العقول المنهوكة المتحيّرة المتناقضة. وفي الأحكام على تقليد الرّجال وآرائها. والقرآن والسّنّة إنّما نقرؤهما تبرّكا، لا أنّا نتلقّى منهما أصول الدّين ولا فروعه. ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره، واستئصال شأفته «3» . بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ* حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ* لا تَجْأَرُوا
(1) مدارج السالكين (403- 406) بتصرف.
(2)
المرجع السابق (2/ 403) بتصرف.
(3)
يتحدث ابن القيم هنا عن طائفة ضلّت سبيل الحق وانتقصت من قيمة السّنّة المطهرة، وقد ظهر لهم أذناب في عصرنا الحاضر.