الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامسة: التّضرّع والخشوع للمألوف «1» .
الألفة وصلاح الإنسان:
ذكر الماورديّ: أنّ الألفة الجامعة هي إحدى القواعد المهمّة الّتي يصلح بها حال الإنسان، وذلك أنّ الإنسان مقصود بالأذيّة، محسود بالنّعمة، فإذا لم يكن آلفا مألوفا تخطّفته أيدي حاسديه، وتحكّمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدّة، فإذا كان آلفا مألوفا انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت نعمته منهم، وصفت له مدّته «2» عنهم، وإن كان صفو الزّمان عسرا وسلمه خطرا «3» .
الألفة والعلاقات الاجتماعية:
يقول الدّكتور عليّ خليل: هذه الألفة الجامعة بين الأفراد من خواصّ الجانب الاجتماعيّ في الشّخصيّة المسلمة باعتبارها تجاذب يشدّ الفعل الاجتماعيّ المختار، والعلاقات والتّفاعلات الاجتماعيّة بعضها إلى بعض، وهي تؤدّي إلى القوّة في التّرابط والصّحّة في التّوافق، والمتعة في التّضام، وهي الّتي تشدّ بناء الجماعة المسلمة بعضه إلى بعض.
ووظيفتها الاجتماعيّة مهمّة، لأنّها داعية إلى التّماسك الاجتماعيّ، واستقرار بنائه، ولها أهمّيّتها الخاصّة لكلّ من الفرد والجماعة لما فيها من داع إلى التّناصر والسّلامة الاجتماعيّة، ولما توفّره من جوّ اجتماعيّ سليم صحيح لنموّ الشّخصيّة الاجتماعيّة، وقد حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الألفة لأنّها كما يقول الإمام الماورديّ:«تجمع الشّمل وتمنع الذلّ «4» » .
أسباب الألفة ودواعيها:
أسباب الألفة خمسة، وهي: الدّين، والنّسب، والمصاهرة، والمودّة، والبرّ.
فأمّا الدّين: فلأنّه يبعث على التّناصر، ويمنع من التّقاطع والتّدابر.
وبمثل ذلك وصّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فروى سفيان عن الزّهريّ عن أنس- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا. وكونوا عباد الله إخوانا، لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» هذا وإن كان اجتماعهم في الدّين يقتضيه، فهو على وجه التّحذير من تذكّر تراث الجاهليّة، وإحن «5» الضّلالة، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعرب أشدّ تقاطعا وتعاديا، وأكثر اختلافا وتماديا، حتّى إنّ بني الأب الواحد كانوا يتفرّقون أحزابا، فتثور بينهم بالتّحزّب والافتراق أحقاد الأعداء وإحن البعداء، وكانت الأنصار أشدّهم تقاطعا وتعاديا، وكان بين الأوس والخزرج من الاختلاف والتّباين، أكثر من غيرهم، إلى أن أسلموا، فذهبت إحنهم، وانقطعت
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 114) ، ومن الواضح هنا أن الألفة المقصودة لا تكون إلّا مع جناب المولى- عز وجل.
(2)
المدة هنا بمعنى معيشة الإنسان وأيام حياته.
(3)
أدب الدنيا والدين (148) .
(4)
قراءة تربوية في فكر أبي الحسن البصري الماوردي للدكتور علي خليل مصطفى (296- 297) .
(5)
الإحن: جمع إحنة وهي الحقد في الصدر.
عداوتهم، وصاروا بالإسلام إخوانا متواصلين، وبألفة الدّين أعوانا متناصرين، قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (آل عمران/ 103) يعني أعداء في الجاهليّة فألّف بين قلوبكم بالإسلام، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (مريم/ 96) يعني: حبّا، وعلى حسب التّأليف على الدّين تكون العداوة فيه، إذا اختلف أهله، فإنّ الإنسان قد يقطع في الدّين من كان به بارّا، وعليه مشفقا. هذا أبو عبيدة بن الجرّاح وقد كانت له المنزلة العالية في الفضل، والأثر المشهور في الإسلام. قتل أباه يوم بدر طاعة للهّ- عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حين بقي على ضلاله، وانهمك في طغيانه، فلم تعطفه عليه رحمة، ولا كفّه عنه شفقة، وهو من أبرّ الأبناء، تغليبا للدّين على النّسب، ولطاعة الله تعالى على طاعة الأب. وعلّة ذلك أنّ الدّين والاجتماع على العقد الواحد فيه لمّا كان أقوى أسباب الألفة، كان الاختلاف فيه من أقوى أسباب الفرقة.
وأمّا النّسب: وهو الثّاني من أسباب الألفة، فلأنّ تعاطف الأرحام، وحميّة القرابة، يبعثان على التّناصر والألفة. وتمنعان من التّخاذل والفرقة، أنفة من استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقيّا من تسلّط الغرباء الأجانب. ولذلك حفظت العرب أنسابها، لمّا امتنعت عن سلطان يقهرها، ويكفّ الأذى عنها لتكون بها متضافرة على من ناوأها، متناصرة على من شاقّها وعاداها، حتّى بلغت بألفة الأنساب تناصرها على القويّ الأيد، وتحكّمت فيه تحكّم المتسلّط المتشطّط.
وأمّا المصاهرة: وهي الثّالث من أسباب الألفة، فلأنّها استحداث مواصلة، وتمازج مناسبة، صدرا عن رغبة واختيار، وانعقدا عن خبرة وإيثار، فاجتمع فيها أسباب الألفة، وموادّ المظاهرة، قال الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (الروم/ 21) يعني بالمودّة المحبّة، وبالرّحمة الحنوّ والشّفقة، وهما من أوكد أسباب الألفة. وفيها تأويل آخر، قاله الحسن البصريّ- رحمه الله: إنّ المودّة النّكاح، والرّحمة الولد. وقال تعالى:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً (النحل/ 72) .
ولم تزل العرب تجتذب البعداء، وتتألّف الأعداء بالمصاهرة، حتّى يرجع النّافر مؤانسا، ويصير العدوّ مواليا، وقد يصير للصّهر بين الاثنين، ألفة بين القبيلتين، وموالاة بين العشيرتين.
حكي عن خالد بن يزيد بن معاوية: أنّه قال:
كان أبغض خلق الله- عز وجل إليّ آل الزّبير، حتّى تزوّجت منهم «رملة» فصاروا أحبّ خلق الله- عز وجل إليّ.
وأمّا المؤاخاة بالمودّة: وهي الرّابع من أسباب الألفة، فلأنّها تكسب بصادق الودّ إخلاصا ومصافاة، وتحدث بخلوص المصافاة وفاء ومحاماة، وهذا أعلى مراتب الألفة، ولذلك آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، لتزيد ألفتهم، ويقوى تضافرهم وتناصرهم.