الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكل الطيبات
أكل الطيبات لغة:
الأكل معروف وهو ما يطعمه الإنسان من صنوف الأغذية وغيرها.
والطّيّب خلاف الخبيث، قال ابن سيدة:
طاب الشّيء طيبا وطابا: لذّ وزكا. وطاب الشّيء أيضا يطيب طيبا وطيبة وتطيابا، وطعام طيّب للّذي يستلذّ الآكل طعمه.
وقد تكرّر في الحديث ذكر الطّيّب والطّيّبات، وأكثر ما يرد بمعنى الحلال. ويقال أرض طيّبة للّتي تصلح للنّبات، وريح طيّبة إذا كانت ليست بشديدة، وطعمة طيّبة إذا كانت حلالا، وامرأة طيّبة إذا كانت حصانا «1» عفيفة، ومنه قوله تعالى: الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ (النور/ 26) وكلمة طيّبة إذا لم يكن فيها مكروه، والكلمة الطّيّبة: شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله. وليلة طيّبة أي آمنة كثيرة الخير، ومنه قوله تعالى بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (سبأ/ 15)«2» .
واصطلاحا:
قال الكفويّ: الطّيّب: ما أفتاك قلبك أن ليس فيه جناح، وقيل: الطّيّب ما يستلذّ من المباح. وقيل:
الطّيّب ما لا يعصى الله في كسبه ولا يتأذّى حيوان
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
17/ 9/ 8
بفعله.
وقال الرّاغب: «وأصل الطّيّب ما تستلذّه الحواسّ وما تستلذّه النّفس، والطّعام الطّيّب في الشّرع ما كان متناولا من حيث ما يجوز وبقدر ما يجوز ومن المكان الّذي يجوز» «3» .
الطيب من كل شيء مختار الله:
قال ابن القيّم رحمه الله: «اختار الله- سبحانه وتعالى من كلّ جنس من أجناس المخلوقات أطيبه، واختصّه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنّه تعالى طيّب لا يحبّ إلّا الطّيّب، ولا يقبل من العمل والكلام والصّدقة إلّا الطّيّب، فالطّيّب من كلّ شيء هو مختاره تعالى.
من سمات الطيبين أكل الطيبات:
وأمّا خلقه تعالى، فعامّ للنّوعين، وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته، فإنّ الطّيّب لا يناسبه إلّا الطّيّب، ولا يرضى إلّا به، ولا يسكن إلّا إليه، ولا يطمئن قلبه إلّا به. فله من الكلام الكلم الطّيّب الّذي لا يصعد إلى الله- تعالى- إلّا هو، وهو أشدّ شيء نفرة «4» عن الفحش في المقال، والتّفحّش في اللّسان والبذاء «5» ، والكذب والغيبة،
(1) حصان: هي المرأة العفيفة وجمعها حصن.
(2)
لسان العرب (1/ 563) .
(3)
الكليات للكفوي (2/ 252) ، والمفردات للراغب (38) .
(4)
النّفرة مصدر النفور ومعناها هنا الابتعاد.
(5)
البذاء: الفحش في القول.
والنّميمة والبهت «1» ، وقول الزّور، وكلّ كلام خبيث.
وكذلك لا يألف من الأعمال إلّا أطيبها، وهي الأعمال الّتي اجتمعت على حسنها الفطر السّليمة مع الشّرائع النّبويّة، وزكّتها العقول الصّحيحة، فاتّفق على حسنها الشّرع والعقل والفطرة، مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبّب إليه جهده وطاقته، ويحسن إلى خلقه ما استطاع، فيفعل بهم ما يحبّ أن يفعلوا به، ويعاملوه به، ويدعهم ممّا يحبّ أن يدعوه منه، وينصحهم بما ينصح به نفسه، ويحكم لهم بما يحبّ أن يحكم له به، ويحمل أذاهم ولا يحمّلهم أذاه، ويكفّ عن أعراضهم، ولا يقابلهم بما نالوا من
عرضه، وإذا رأى لهم حسنا أذاعه، وإذا رأى لهم سيّئا كتمه، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة، ولا يناقض لله أمرا ولا نهيا.
وله أيضا من الأخلاق أطيبها وأزكاها، كالحلم، والوقار، والسّكينة، والرّحمة، والصّبر، والوفاء، وسهولة الجانب، ولين العريكة»
، والصّدق، وسلامة الصّدر من الغلّ والغشّ والحقد والحسد، والتّواضع، وخفض الجناح لأهل الإيمان، والعزّة والغلظة على أعداء الله، وصيانة الوجه عن بذله وتذلّله لغير الله، والعفّة، والشّجاعة، والسّخاء، والمروءة، وكلّ خلق اتّفقت على حسنه الشّرائع والفطر والعقول.
وكذلك لا يختار من المطاعم إلّا أطيبها، وهو الحلال الهنيء المريء الّذي يغذّي البدن والرّوح أحسن تغذية، مع سلامة العبد من تبعته.
وكذلك لا يختار من المناكح إلّا أطيبها وأزكاها، ومن الرّائحة إلّا أطيبها وأزكاها، ومن الأصحاب والعشراء إلّا الطّيّبين منهم، فروحه طيّب، وبدنه طيّب، وخلقه طيّب، وعمله طيّب، وكلامه طيّب، ومطعمه طيّب، ومشربه طيّب، وملبسه طيّب، ومنكحه طيّب، ومدخله طيّب، ومخرجه طيّب، ومنقلبه طيّب، ومثواه «3» كلّه طيّب. فهذا ممّن قال الله تعالى فيه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (النحل/ 32) ومن الّذين يقول لهم خزنة الجنّة:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (الزمر/ 73) وهذه الفاء تقتضي السّببيّة، أي: بسبب طيبكم ادخلوها. وقال تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ (النور/ 26) وقد فسّرت الآية بأنّ الكلمات الخبيثات للخبيثين، والكلمات الطّيّبات للطّيّبين، وفسّرت بأنّ النّساء الطّيّبات للرّجال الطّيّبين، والنّساء الخبيثات للرّجال الخبيثين. وهي تعمّ ذلك وغيره، فالكلمات، والأعمال، والنّساء الطّيّبات لمناسبها من الطّيّبين، والكلمات، والأعمال، والنّساء الخبيثات لمناسبها من الخبيثين، فالله- سبحانه وتعالى جعل الطّيّب
(1) البهت: من بهت الرجل يبهته إذا قال عليه ما لم يفعله.
(2)
العريكة: الطبيعة. وليّن العريكة: أي سلس..
(3)
مثواه: المثوى المنزل.
بحذافيره في الجنّة، وجعل الخبيث بحذافيره في النّار، فجعل الدّور ثلاثة: دارا أخلصت للطّيّبين، وهي حرام على غير الطّيّبين، وقد جمعت كلّ طيّب وهي الجنّة، ودارا أخلصت للخبيث والخبائث، ولا يدخلها إلّا الخبيثون وهي النّار، ودارا امتزج فيها الطّيّب والخبيث وخلط بينهما، وهي هذه الدّار، ولهذا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هذا الامتزاج والاختلاط، وذلك بموجب الحكمة الإلهيّة، فإذا كان يوم معاد الخليقة، ميّز الله الخبيث منالطّيّب، فجعل الطّيّب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأمر إلى دارين فقط: الجنّة وهي دار الطّيّبين، والنّار، وهي دار الخبيثين، وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم فجعل طيّبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هي عين نعيمهم ولذّاتهم، أنشأ لهم منها أكمل أسباب النّعيم والسّرور، وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عين عذابهم وآلامهم، فأنشأ لهم منها أعظم أسباب العقاب والآلام، حكمة بالغة، وعزّة باهرة قاهرة، ليري عباده كمال ربوبيّته، وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته، وليعلم أعداؤه أنّهم كانوا هم المفترين الكذّابين، لا رسله البررة الصّادقون. قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (النحل/ 38- 39)
والمقصود أنّ الله- سبحانه وتعالى جعل للسّعادة والشّقاوة عنوانا يعرفان به، فالسّعيد الطّيّب لا يليق به إلّا طيّب، ولا يأتي إلّا طيّبا ولا يصدر منه إلّا طيّب، ولا يلابس إلّا طيّبا، والشّقيّ الخبيث لا يليق به إلّا الخبيث، ولا يأتي إلّا خبيثا، ولا يصدر منه إلّا الخبيث، فالخبيث يتفجّر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه، والطّيّب يتفجّر من قلبه الطّيب على لسانه وجوارحه. وقد يكون في الشّخص مادّتان، فأيّهما غلب عليه كان من أهلها فإن أراد الله به خيرا طهّره من المادّة الخبيثة قبل الموافاة. فيوافيه يوم القيامة مطهّرا، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنّار، فيطّهّر منها بما يوفّقه له من التّوبة النّصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفّرة، حتّى يلقى الله وما عليه خطيئة، ويمسك عن الآخر موادّ التّطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادّة خبيثة، ومادّة طيّبة وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النّار طهرة له وتصفية وسبكا، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث، صلح حينئذ لجواره، ومساكنة الطّيّبين من عباده. وإقامة هذا النّوع من النّاس في النّار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، فأسرعهم زوالا وتطهيرا أسرعهم خروجا، وأبطؤهم أبطؤهم خروجا، جزاء وفاقا، وما ربّك بظلّام للعبيد. ولمّا كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذّات، لم تطهّر النّار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثا كما كان كالكلب إذا دخل البحر، ثمّ خرج منه، فلذلك حرّم- الله تعالى- على المشرك الجنّة. ولمّا كان المؤمن الطّيّب المطيّب مبرّءا من