الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَوى [عنه] أبو بحرٍ يوسُفُ بن أحمدَ بن أبي عَيْشُون، وأبو جعفرٍ ابن الباذِش، وأبو العتاس ابن البَراذِعيّ؛ وكان مجوِّدًا للقرآنِ العظيم عارِفًا بآدابِه جيِّد القيام على قراءتِه، ذا مشاركة في النَّحو وفَهْمٍ وحُسن تصرُّف.
توفِّي بالمَرِيّة سنةَ أربعَ عشْرةَ، وقيل: سبعَ عشْرةَ، وخمس مئة، وهو لِدَةُ أبي الحَسَن ابن الباذِش، ووُلد أبو الحَسَن سنةَ أربعٍ وأربعينَ وأربع مئة.
47 - محمدُ بن أحمدَ بن فُطَيْس، غَرْناطيٌّ
.
رَوى عن شُرَيْح، وأبي محمد شُعَيْب بن عيسى، وأبي القاسم أحمدَ بن محمد ابن بَقِي.
48 - محمدُ بن أحمدَ بن فَوْز، مولى أميرِ المؤمنين، أبو عبد الله
.
أجازَ له أبو عَمْرو ابنُ الصَّيرَفي، حدَّث عنه بالإجازة أبو بكرٍ عبدُ الكريم بن غُلَيْب أبو عبد الله؛ رَوى عن أبي محمد بن سَعْدون.
49 -
محمدُ (1) بن أحمدَ بن قاسم بن الوليد الكَلْبيُّ، أبو الأصبَغ.
رَوى عنه أبو عبد الله بن عبد السّلام.
50 - محمدُ بن أحمدَ بن قاسم الأُمَويُّ، قُرطُبيٌّ
.
كان من أهل العلم والعدالة، حيًّا سنةَ تسعٍ وعشرينَ وأربع مئة.
51 -
محمدُ (2) بن أحمدَ بن محمد بن أحمدَ بن أحمدَ بن محمدِ بن أحمدَ بن عبد الله بن رُشْد، قُرطُبيٌّ، أبو الوليد، الحفيدُ.
(1) ترجمه ابن الأبار في التكملة (1060).
(2)
ترجمته مشهورة وسيرته مذكورة، وألف الكثير من الباحثين في سيرته، منها كتاب الدكتور محمد بن شريفة:"ابن رشد الحفيد - سيرة وثائقية". وترجمه الضبي في بغية الملتمس (39)، والمنذري في التكملة 1 /الترجمة 469، وابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء 530 (ط. الحياة)، وابن الأبار في التكملة (1523)، وابن سعيد في المغرب 1/ 104، والذهبي في المستملح (190)، وتاريخ الإسلام 12/ 1039، وسير أعلام النبلاء 21/ 307، والعبر 4/ 287، والصفدي في الوافي 2/ 114، وابن فرحون في الديباج 2/ 257، والنباهي في المرقبة العليا (111)، وابن تغري بردي في النجوم 6/ 154، وابن العماد في الشذرات 4/ 320 وغيرهم.
حدَّث عن أبوَي القاسم: أبيه وابن بَشْكُوال، وأبي جعفر بن عبد العزيز، وأبي الفَضْل عِيَاض، وأبي مَرْوان بن مسَرَّةَ. وأخَذ العربيّةَ عن أبي بكر بن سَمْحُون، والطبَّ عن أبي مَرْوان بن جريول البَلَنْسِيّ، ولقِيَ جماعةً وافرةً من أهل العلم أخَذَ عنهم؛ وأجاز له أبو عبد الله المازَرِيّ.
رَوى عنه أبو بكر بن جَهْوَر، وأبو الحَسَن سَهْلُ بن مالك، وأبو الرّبيع بن سالم، وأبو عامر بن نَذير، وآباءُ القاسم: عبدُ الرحيم بن إبراهيمَ ابن الفَرَس وابنُ عيسى ابن المَلْجوم والقاسمُ ابنُ الطَّيْلَسان ومحمد بن محمد بن عبد الرحمن ابن الحاجِّ، وأبو محمد عبدُ الكبير.
وكان متقدِّمًا في علوم الفلسفة والطبِّ منسوبًا إلى البراعةِ فيها وإدامةِ الفِكر وتدقيقِ النظر في معانيها، ذا حظّ وافر من علوم اللِّسان العَرَبي، كثيرَ الإنشاد لشواهدِ شِعْرَيْ حَبِيبٍ والمتنبِّي، والإيرادِ للحكاياتِ والأخبار؛ تنشيطًا لطَلَبة العلم بمجلسِه؛ واستُقضيَ بإشبِيليَةَ ثم بقُرطُبةَ فنظَرَ حينَئذٍ في الفقه وصنَّفَ فيه كتابَه المسَمَّى "بدايةَ المجتهد وكفايةَ المُقتصِد"، ونقَلتُ من خطِّ التأريخيِّ المُقيِّدِ المُفيد أبي العبّاس بن عليّ بن هارونَ ما نصُّه: أخبَرَني أبو عبد الله محمدُ بن أبي الحُسَين بن زَرْقُون: أن القاضيَ أبا الوليد بنَ رُشد استعار منه كتابًا مُضَمَّنُهُ أسبابُ الخلاف الواقع بينَ أئمة الأمصار، من وَضْع بعض فُقهاء خُراسان، فلم يُردَّهُ إليه وزاد فيه شيئًا من كلام الإمامَيْنِ أبي عُمرَ بن عبد البَرّ وأبي محمد بن حَزْم ونسَبَه إلى نفسِه، وهو الكتابُ المسَمَّى ببداية المجتهِد ونهاية المُقتصِد؛ قال أبو العبّاس ابنُ هارون: والرجُلُ غيرُ معروفٍ بالفقه وإن كان مقدَّمًا في غير ذلك من المعارِف.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: ومن مصنَّفاتِه سوى ما ذُكِر: "المسائِلُ الطِّبِّيّة"، "مناهجُ الأدِلّة في أصولِ الدّين"، "فَصْلُ المقال في بيانِ ما بينَ الشريعةِ والحِكمة من الاتّصال"، "مختصَرُ المُستصفَى"، "شرحُ العقيدة الحُمْرانيّة"، "مقالةٌ في الجَمْع بينَ اعتقادِ المشّائينَ والمتكلّمينَ من عُلماءِ الإسلام"، "مقالةٌ في كيفيّةِ
وجودِ العالَم في القِدَمِ والحدوث"، "مقالةٌ في الكلمة والاسم المشتَقّ"، "مقالةٌ في أنّ اللهَ تعالى يعلَمُ الجُزْئيّات"، "مقالةٌ في الوجودِ السَّرمَديّ والوجودِ الرَّبّاني"، "مقالةٌ في كيفيّة دخولِه في الأمر العزيز وتعلُّمِه فيه وما فَضَلَ من عِلم المَهْدي"، "الرّدُّ على الغَزّاليِّ في تهافتِ الفلاسفة"، "كيف يُدعَى الأصم إلى الدخولِ في الإسلام"، "الضّروريُّ في النَّحو"، "الجوامعُ في الفلسفة"، "الضّروريُّ في المنطِق"، "تلخيصٌ في السَّمَاع الطّبيعي" و"في السماءِ والعالَم" و"في الكونِ والفساد" و"في الآثارِ العُلْويّة" و"في كتاب النفْس" و"في المقالةِ الحاديةَ عشْرةَ من كتابِ الحَيَوان لأرسطاطاليس" -وذلكَ تسعُ مقالات- و"في الحسّ والمحسوس" و"في ما بعدَ الطّبيعة" و"في كتاب الأخلاط" و"في كتاب نيقلاوس" و"في شرح أبي نَصْر، المقالة الأولى من القياس للحكيم" و"في مدخلَ فرفوريوس" و"في كتاب أرسطاطاليسَ في المنطِق"، "جوامعُ سياسةِ أفلاطُون"، "مختصَرُ المجسطي"، "ما يُحتاجُ إليه من كتاب إقليدِس"، "في المجسطي"، "شرحُ السماءِ والعالَم"، "شرح السَّمَاع الطّبيعي"، "شرحُ كتاب النفْس"، "شرح كتاب البُرهان للحكيم"، "شرحُ ما بعدَ الطّبيعة"، "الكُلِّيّات في الطّبّ"، "مقالة في التِّريَاق"، "شرح أرجُوزةِ ابن سِينا الطِّبّية" له، و"في العِلَل والأعراض" له، و"في الأعضاءِ الآلِمة" له، و"في الحِمْيَات" له، و"في المقالاتِ الخمس من الأدويةِ المفرَدة" له، و"في المقالاتِ التِّسع من حِيلة البُرءِ" له، "شرح اتّصال العقل بالأسباب لأبي بكرٍ ابن الصائغ"، "شرح مقالة الإسكندَر في العَقْل"، "مقالةٌ على أوّلِ مَقُولةِ أبي نَصْر"، "مقالةٌ على قولِ أبي نَصْر للمدخَل والجِنس والفَصْل"، "مقالةٌ في الجِرْم السَّماوي"، مقالةٌ أخرى فيه"، "مقالة أخرى فيه"، "مقالةٌ في المَقُولِ على الكُلّ"، "مقالةٌ في عِلم النفْس"، "مقالةٌ أخرى فيه"، "مقالةٌ في المِزاج المعتدِل"، "مقالةٌ في مسألة من العِلَل والأعراض"، "مقالة في لزوم النتائج للمقايِس المختلِطة"، "مقالةٌ في المقدِّمة المطلَقة"، "مقالةٌ في المقايِس الشَّرْطيّة"، "تعليقٌ على بُرهانِ الحكيم"، "مقالةٌ على مسألةٍ من السّماءِ والعالَم"، "تعاليقُ على المقالةِ السابِعة والثامنة من السَّمَاع"،
"مقالةٌ له في الحَيَوان"، "مقالةٌ في البُزُورِ (1) والزُّروع"، "مقالةٌ في جوهرِ الفَلَك"، "مقالةٌ في المحرِّك الأوّل"، "مقالةٌ في حركة الجِرْم السَّماوي"، "مقالةٌ أخرى فيها"، "تعاليقُ على أوّل كتابِ أبي نَصْر"، "أخرى على أوّل بُرهانِ (2) أبي نَصْر"، "مقالةٌ في المسائل البُرهانية"، "تعاليقُ على كتاب النفْس"، "مقالةٌ في نَوْبةِ الحُمّى الثابتةِ بأدوار"، إلى غيرِ ذلك من التعاليق والمسائلِ المبثوثة.
وكان حَسنَ الخُلُق جميلَ المُداراة فصيحَ العبارة وَجَّادًا للكلام في المجالس السُّلطانية والمحافلِ الجُمهوريّة. قال أبو القاسم ابنُ الطَّيْلَسان: سَمِعتُ كلامَه بالمسجدِ الجامع من قُرطُبة وهو يَحُضُّ الناسَ على الجهاد والغَزْو في سبيل الله ويورِدُ ما جاء في فَضْلِه من كتابِ الله تعالى وسُنّة رسُول الله صلى الله عليه وسلم، بلسانٍ طَلْق وإيرادٍ مُستحسَن؛ قال: وخرَجْنا معَه يومَ ورود الخبرَ بهزيمة الرُّوم على حِصن الأركةِ صُحبَة عَلَاماتِ (3) الطاغية أذفونش، فلمّا اجتمَعْنا معَ الواصِلينَ به وشاهَدْنا عندَهم عَلَاماتِ العُداةِ منكوسة سجَدَ القاضي شكرًا، وسجَدَ جميعُنا عندَ سجودِه شكرًا لله تعالى؛ وحدَّثنا الحديثَ الذي أورَدَه أبو داودَ في "مصنَّفِه" بسندِه: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمرُ سرورٍ أو بُشِّر به خَرَّ ساجدًا شاكرًا لله تعالى، يَرويه القاضي أبو الوليد عن أبيه، عن أبي عليّ الغسانيِّ، عن أبي عُمرَ بن عبد البَرّ، عن أبي محمد عبد المُؤمن، عن أبي بكرٍ ابن داسُه، عن أبي داود. وكانت وَقيعةُ الأركةِ المذكورةُ ظُهر يوم الأربعاء لتسع خَلَوْنَ من شعبانِ أحد وتسعينَ وخمس مئة.
وكان على تمكُّنِ حُظوتِه عند الملوك وعِظَم مكانتِه لديهم لم يُنفِّقْ جاهَه قَطُّ في شيءٍ يخُصُّه ولا في استجرارِ منفعةٍ لنفسِه، إنّما كان يَقصُرُه على مصالح بلدِه خاصّة ومنافع سائرِ بلاد الأندَلُس عامّة.
(1) في م: "البروز".
(2)
في م: "فرسان".
(3)
علامات: جمع علم، وهو جمع مستعمل في العامية المغربية.
واستمرَّت حالُه على ما ذُكِر من تولِّي القضاءِ بقُرطُبة وصَرْف التهمُّم به والاعتناءِ بمآرِبِه إلى أنْ نُكِبَ النَّكبةَ الشَّنعاءَ في عام ثلاثةِ وتسعينَ وخمس مئة، وقد ألَمَّ أبو الحَجّاج بن غَمْر بذِكْرِها في "تاريخهِ" فقال: وأمّا أبو الوليد بن رُشد فكان قد نشَأ بينَه وبينَ أهل قُرطُبة قديمًا وَحْشةٌ جَرَّتها أسبابُ المُحاسَدة، ومُنافسةِ طُول المُجاوَرة، فانتَدَبَ الطالِبونَ لِنَعْي أشياءَ عليه في مصنَّفاتِه تأَوَّلوا الخروجَ فيها عن سَنَن الشريعة، وإيثارَه لحُكم الطبيعة، وحَشَروا منها ألفاظًا عديدة، وفصولًا ربَّما كانت غيرَ سديدة، وجُمِعت في أوراق، وقيل: إنّ بعضَها أُلِفيَ بخطِّه، ومشَى رافعوها إلى حضرة مَرّاكُش سنةَ تسعينَ، فشَغَلَ عن الالتفات إليها والوقوف عليها ما كانت الحالُ بسبيلِه من الاستعدادِ والنظرِ في مُهمّات الجهاد، فَنكَصَ الطالِبونَ على أعقابِهم، وقَنِعوا من الظفَر بسُرعة إيابِهم. ولمّا كان الوصولُ إلى الأندَلُس اشْتُغِلَ بما كان من أمورِ (1) الحركات، فكسَدت سُوقُ السِّعايات، وضُرِب عن كلِّ طالب ومطلوب، والأعداءُ -لا كانوا- لا يَسْأمُونَ من الانتظار، وَيرقُبونَ أوقاتَ الضِّرار؛ فلمّا كان التَلوُّمُ من المنصُور بمدينة قُرطُبة، وامتَدَّ بها أمدُ الإقامة، وانبسَط الناسُ لمجالِس المُذاكَرة، تجدَّدت للطالِبينَ آمالُهم، وقَوِي تألُّبُهم واستر سالُهم، فأدلَوْا بتلك الأُلْقِيَات، وأوضَحوا ما ارتَقَبوا فيه من شنيع الهَفَوات، الماحيةِ لأبي الوليد كثيرًا من الحَسَنات، فقُرئت بالمجلس وتُؤولتْ أغراضُها ومعانيها، وقواعدُها ومبانيها، فخَرَجت بما دَلَّتْ عليه أسوأَ مخرَج، وربّما ذَيَّلَها مكْرُ الطالِبين، فلم يُمكنْ عندَ اجتماع الملإِ إلّا المُدافعةُ عن شريعةِ الإسلام، ثُم آثَرَ الخليفةُ فضيلةَ الإبقاء، وأغمَدَ السيفَ التماسَ جميلِ الجزاء، وأمَرَ طلَبةَ مجلسِه وفقهاءَ دولته بالحضورِ بجامع المسلمين، وتعريفِ الملإِ بأنه مَرَقَ من الاين، وأنه استوجَبَ لعنةَ الضالّين، وأضيفَ إليه القاضي أبو عبد الله بنُ إبراهيمَ الأصُوليُّ في هذا الازدحام، ولُفَّ مَعه في خِرَق هذا المَلام، لأشياءَ أيضًا نُقِمَت عليه في مجالِس المُذاكَرة وفي أثناءِ كلامِه معَ توالي الأيام، فأُحضِرا
(1) هنا ينتهي الخرم المشار إليه في النسخة ب.
بالمسجد الجامع الأعظم بقُرطُبة، وتَكلَّم القاضي أبو عبد الله بن مَرْوان فأحسَنَ، وذكَرَ ما معناه: أن الأشياءَ لا بدَّ في كثير منها أن تكونَ لها جهةٌ نافعة وجهةٌ ضارّة، كالنارِ وغييى ها، فمتى غَلَبَ النافعُ على الضارّ عُمِل بحَسبِه، ومتى كان الأمر بالضِّدّ فبالضّدّ، فابتَدرَ الكلامَ الخطيبُ أبو علي بن حَجّاج وعرَّفَ الناسَ بما أُمِر به (1)، من أنّهم مَرَقوا من الدِّين، وخالَفوا عقائدَ المؤمنين، فنالَهم ما شاء اللهُ من الجَفَا، وتفرَّقوا على حُكم مَن يعلَمُ السرَّ وأخفى، ثم أُمِر أبو الوليد بسُكْنى اليَسَّانة، لقولِ من قال: إنه يُنسَبُ في بني إسرائيل، وأنه لا يُعرَفُ له نسَب في قبائل الأندَلُس، وعلى ما جَرى عليهم من الخَطْب فما للملوكِ أن يأخُذوا إلّا بما ظَهَر، فإليهما تنتهي البَراعةُ في جميع المعارِف، وكثير ممّن انتفَع بتدريسِهم وتعليمِهم، وليس في زمانِهما من هو بكمالِهما، ولا مِن نَسْجِ مِنوالِهما. وتفرَّق تلاميذُ أبي الوليد أيدي سَبَا.
ويذكرُ (2) أنّ من أسبابِ نكبتهِ هذه اختصاصَه بأبي يحيى أخي المنصُور والي قُرطُبة.
وأخبَرَ عنه أبو الحَسَن بن قَطْرَالَ أنه قال: أعظمُ ما طَرَأَ عليَّ في النَّكبة أنّي دخَلتُ أنا ووَلَدي عبدُ الله مسجدًا بقُرطُبة، وقد حانت صلاةُ العصر، فثار لنا بعضُ سَفِلةِ العامّة، فأخرَجونا منه.
وكتَبَ عن المنصُور في هذه القضيّة كاتبُه أبو عبد الله بنُ عَيّاش كتابًا إلى مَرّاكُشَ وغيرها يقولُ فيما يخُصُّ حالَهما منه: "وقد كان في سالف الدّهر قومٌ خاضوا في بحورِ الأوهام، وأقرَّ لهم عوامُّهم بشُفوفٍ عليهم في الأفهام، حيث لا داعيَ يدعو إلى الحَيّ القَيُّوم، ولا حاكمَ يفصِلُ بين المشكوكِ فيه والمعلوم، فخَلَّدوا (3) في العالَم صُحُفًا ما لها من خَلاق، مُسَوَّدةَ المعاني والأوراق، بُعْدُها
(1) تنظر خطبته في التحريض على ابن رشد في البيان المغرب 219.
(2)
علق في هامش ب بقصة الزرافة، وأنها من أسباب نكبته.
(3)
يشير ابن عياش في هذه الفقرة إلى فلاسفة اليونان.
من الشريعة بُعْدُ المشرِقَيْن، وتباينُها تبايُنُ الثَّقلَيْن، يُوهِمونَ أنّ العقلَ ميزانُها، والحقَّ بُرهانُها، وهم يتشعَّبونَ في القضيّةِ الواحدة فِرَقًا، ويسيرونَ فيها شواكلَ وطُرُقًا، ذلكم بأنّ اللهَ خَلَقَهم للنار وبعمَل أهل النار يعملون، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] ونشَأ منهم في هذه السَّمْحة البيضاءِ شياطينُ إنس {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] فكانوا عليها أضرَّ من أهل الكتاب، وأبعدَ عن الرَّجْعةِ إلى الله والمَآب؛ لأنّ الكِتابيَّ يجتهدُ في ضَلال، ويجِدُّ في كَلَال، وهؤلاءِ جهودُهمُ التعطيل، وقُصاراهمُ التمويهُ والتخييل، دبَّتْ عقاربُهم في الآفاقِ بُرهةً من الزمان، إلى أن أطْلَعَنا اللهُ سبحانَه منهم على رجالٍ كان الدّهرُ قد سالَمَهم على شدّةِ حروبِهم، وأغفَى عنهم سنينَ على كثرةِ ذنوبِهم، وما أُمْلِيَ لهم إلّا ليزدادوا إثمًا، وما أُمهِلوا إلّا ليَأخُذَهُم الله الذي لا إلهَ إلّا هو وَسِع كلَّ شيءٍ علمًا. وما زلنا -وصَلَ اللهُ كرامتَكم- نُذكِّرُهم على مقدارِ ظنِّنا فيهم، وندعوهم على بصير إلى ما يُقرِّبُهم إلى الله سبحانَه ويُدنيهِم، فلمّا أراد اللهُ فضيحةَ عَمَايتِهم، وكَشْفَ غِوايتِهم، وُقِفَ لبعضِهم على كُتُبٍ مسطورةٍ في الضَّلال، موجبةٍ أخْذَ كتابِ صاحبِها بالشِّمال، ظاهرُها موشَّحٌ بكتابِ الله، وباطنُها مُصرّحٌ بالإعراضِ عن الله، لُبِّسَ فيها الإيمانُ بالظُّلم، وجيءَ منه بالحرب الزَّبونِ في صُورة السِّلم، مزلّةٌ للأقدام، وسُمٌّ يدِبُّ في باطن الإسلام، أسيافُ أَهل الصليب دونَها مفلولة، وأيديهم عمّا ينالُه هؤلاءِ مغلولة، فإنّهم يوافقونَ الأُمّةَ في ظاهرِهم وزِيِّهم ولسانِهم، ويخالفونَهم بباطِنهم [وغَيِّهم](1) وبُهتانِهم، فلمّا وقَفْنا منهم على ما هو قَذًى في جَفْن الدِّين، ونُكتةٌ سوداءُ في صَفحةِ النُّورِ المُبِين، نَبَذْناهم في الله نَبْذَ النَّواة، وأقصَيْناهم
(1) زيادة من م، ولعلها "وغيبهم".
حيث يُقصىَ السَّفهاءُ من الغَواة، وأبغَضناهم في الله، كما أنَّا نحبَّ المؤمنينَ في الله، وقلنا: اللهمَّ إنّ دِينَك هو الحقُّ اليقين، وعِبادك هم الموصُوفونَ بالمتّقين، وهؤلاءِ قد صَدَفوا عن آياتِك، وعَمِيَتْ أبصارُهم وبَصائرُهم عن بيّناتِك، فباعِدْ أسفارَهم، وألْحِقْ بهم أشياعَهم حيث كانوا وأنصارَهم، ولم يكنْ بينَهم إلّا قليلٌ وبين الإلحام بالسيفِ في مجال ألسنتِهم، والإيقاظِ بحدِّه مِن غَفْلتِهم وسِنَتِهم (1)، ولكنّهم وقَفوا بموقفِ الخِزْي والهُون، ثم طُرِدوا من رحمة الله {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]. فاحذَروا -وفَّقَكمُ الله- هذه الشِّرذمةَ على الإيمان، حِذرَكم من السُّموم الساريةِ في الأبدان، ومَن عُثِر له على كتابٍ من كُتبِهم فجزاؤه النارُ التي بها يُعذَّبُ أربابُه، وإليها يكونُ مآلُ مؤلِّفِه وقارئه ومآبه، ومتى عُثر منهم على مُجرٍ في غُلَوائه، عَمٍ عن سبيل استقامتِه واهتدائه، فلْيُعاجل فيه بالتثقيفِ والتعريف:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [آل عمران: 22]{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16]. واللهُ تعالى يُطهّرُ مِن دنَس المُلحِدينَ أصقاعَكم، ويكتُبُ في صحائفِ الأبرارِ تظافُرَكم على الحقِّ واجتماعَكم، إنه مُنعِمٌ كريم".
وحدَّثني الشّيخ أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ رحمه الله قراءةً ومُناوَلةً من يده، ونقَلتُه من خطّه، قال: وكان قد اتّصَلَ -يعني شيخَهُ أبا محمد عبدَ الكبير (2) - بابن رُشد المُتفَلسِف أيامَ قضائه بقُرطُبة، وحَظِي عنده فاستكتبَه واستَقَضاه. وحدَّثني، رحمه الله، وقد جَرى ذكْرُ هذا المُتفَلسِف وما لهُ من الطّوامِّ في محُادّةِ الشريعة، فقال: إنّ هذا الذي يُنسَبُ إليه، ما كان يظهَرُ عليه، ولقد كُنْتُ أراه
(1) في م ب: "ومنتهم".
(2)
هو عبد الكبير بن محمد بن عيسى الغافقي، انظر برنامج شيوخ الرعيني:37.
يخرُجُ إلى الصلاةِ وأثَرُ ماءِ الوضوءِ على قدمَيْه، وما كِدتُ آخُذُ عليه فَلْتةً إلا واحدةً، وهي عُظمى الفَلَتات، وذلك حين شاع في المشرِق والأندَلُس على ألسِنة المُنجِّمة أنّ رِيحًا عاتِيةً تهُبُّ في يوم كذا وكذا في تلك المُدة تُهلِكُ الناس، واستفاضَ ذلك حتّى اشتَدّ جزَعُ الناس معَه واتَّخذوا الغِيرانَ والأنفاقَ (1) تحتَ الأرض توَقِّيًا لهذه الرِّيح؛ ولمّا انتشرَ الحديثُ بها وطَبَّقَ البلادَ استَدعَى والي قُرطُبةَ إذ ذاك طلَبتَها، وفاوَضَهم في ذلك، وفيهم ابنُ رُشد، وهُو القاضي بقُرطُبةَ يومَئذٍ، وابنُ بندود، فلمّا انصَرفوا من عند الوالي تكلَّم ابنُ رُشد وابنُ بندود في شأنِ هذه الرِّيح من جهة الطّبيعة وتأثيراتِ الكواكب؛ قال شيخُنا أبو محمد عبدُ الكبير: وكنتُ حاضرًا، فقلتُ في أثناء المفاوَضة: إنْ صحَّ أمرُ هذه الرِّيح فهي ثانيةُ الريح التي أهلكَ اللهُ تعالى بها قومَ عاد؛ إذْ لم تُعلَمْ ريحٌ بعدَها يعُمُّ إهلاكُها، قال: فانبَرى إليَّ ابنُ رُشد ولم يتَمالكْ أنْ قال: والله وجودُ قومِ عادٍ ما كان حقًّا، فكيف سببُ هلاكِهم! فسُقِطَ في أيدي الحاضِرين وأكبَروا هذه الزَّلةَ التي لا تَصدُرُ إلّا عن صَرِيح الكُفرِ والتكذيب لِما جاءت به آياتُ القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يدَيْه ولا مِن خَلْفِه.
وقال ابنُ الزُّبَير: كان من أهل العلم والتفنُّن، وأخَذ الناسُ عنهُ واعتَمَدوه، إلى أن شاع عنه ما كان الغالبَ عليه في علومِه منَ اختيار العلوم القديمة، والرُّكونِ إليها، وصَرْفِ عِنانِه جُملةً نحوَها، حتى لخَّص كتُبَ أرِسطو الفلسفيَّة والمنطقِيّة، واعتمَدَ مذهبَه فيما يُذكَرُ عنه ويوجَدُ في كُتُبِه، وأخَذ يُنحي على مَن خالَفَه، ورامَ الجَمْعَ بين الشريعة والفلسفة، وحاد عمّا عليه أهلُ السُّنة؛ فتَرَكَ الناسُ الرِّوايةَ عنه، حتى رأيتُ بَشْرَ اسمِه (2) متى وقَعَ للقاضي أبي محمد بن حَوْطِ الله إسنادٌ عنه؛ إذْ كان قد أخَذ عنه، وتكلَّموا فيه بما هو ظاهرٌ من كُتُبِه.
(1) وقع اضطراب هنا في أوراق النسخة ب، فجاءت تتمة الصفحة السابقة في الصفحة 18/ أ.
(2)
أي: حك اسمه.
وممّن جاهَرَه بالمُنابزة والمُهاجَرة: القاضي أبو عامر يحيى بن أبي الحُسَين ابن رَبيع (1)، ونافَرَه جُملةً، وعلى ذلك كان ابناه: القاضي أبو القاسم وأبو الحُسَين، ومنَ الناس مَن تعامَى عن حالِه، وتأوَّل مُرتكبَه في انتحالِه، واللهُ أعلمُ بما كان يُسِرُّه من أعمالِه، وحسبُنا هذا القَدْر. وقد كان امتُحِن على ما نُسِب إليه، وامتحانُه مشهور.
وقال الحاجُّ أبو الحُسَين بن جُبَيْر فيه وفي نَكبتِه [مخلع البسيط]:
الآنَ قد أيقَنَ ابنُ رُشدٍ
…
أنَّ تواليفَهُ تَوالف
يا ظالمًا نَفْسَهُ تأمَّلْ
…
هل تجِدُ اليومَ مَنْ يُوالفْ؟!
وله فيه [مخلع البسيط]:
لم تلزَمِ الرُّشدَ يا ابنَ رُشْدٍ
…
لمَّا عَلا في الزمانِ جَدُّكْ
وكنتَ في الدِّينِ ذا رِياءٍ
…
ما هكذا كانَ فيه جَدُّكْ
وله [السريع]:
الحمدُ لله على نَصْرِهِ
…
لفِرقةِ الحقِّ وأشياعِهِ
كان ابنُ رُشدٍ في مدى غَيِّهِ
…
قد وَضَعَ الدينَ بأوضاعِهِ
حتى إذا أوضَعَ في طُرْقِهِ
…
تَوى لفيهِ عند إيضاعِهِ
فالحمدُ لله على أخْذِهِ
…
وأخْذِ مَن كان مِنَ اتباعِهِ
وله فيه [الكامل]:
نَفَذَ القضاءُ بأخْذِ كلِّ مَرَمَّهٍ (2)
…
متفلسفٍ في دينِهِ مُتزَنْدقِ
بالمنطِق اشتَغَلوا فقيل: حقيقةٌ
…
إنَّ البلاءَ مُوَكَّلٌ بالمنطِقِ
(1) هو يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع (انظر ترجمته في التكملة رقم 3420، وشيوخ الرعيني: 72).
(2)
في حاشية ب: "لعله: مموه".
وله فيه [مخلع البسيط]:
خليفةُ الله أنت حقّا
…
فارْقَ من السَّعْدِ خيرَ مَرْقى
حَميتُم الدِّينَ من عِداهُ
…
وكلِّ مَنْ رامَ فيه فَتْقا
أَطلعَكَ اللهُ سِرَّ قومٍ
…
شَقُّوا العصا بالنِّفاقِ شَقَّا
تفَلْسَفُوا وادَّعَوْا علومًا
…
صاحبُها في المَعادِ يَشْقَى
واحتَقَروا الشَّرعَ وازدرَوْهُ
…
سَفاهةً منهمُ وحُمقا
أوسعتَهمْ لعنةً وخِزيًا
…
وقلتَ: بُعدًا لهمْ وسُحقا
فابْقَ لدينِ الإلهِ كَهْفًا
…
فإنهُ ما بقِيتَ يبقَى
وله [البسيط]:
خليفةَ الله دُمْ للدينِ تَحْرُسُهُ
…
منَ العِدى وتقيهِ شرَّ [كلِّ] فئهْ
فاللهُ يجعَلُ عَدْلًا من خلائفِهِ
…
مُطَهّرًا دينَهُ في رأسِ كلِّ مئهْ
وله [الطويل]:
بلغتَ أميرَ المؤمنينَ مدى المُنى
…
لأنكَ قد بلَّغتَنا ما نُؤَمّلُ
قصَدتَ إلى الإسلام تُعلي منارَهُ
…
ومقصِدُكَ الأسنَى لدى الله يُقْبَلُ
تدارَكْتَ دينَ الله في أخْذِ فِرقةٍ
…
بمنطِقِهمْ كان البلاءُ الموكَّلُ
أثاروا على الدّينِ الحنيفيِّ فتنةً
…
لها نارُ غَيٍّ في العقائدِ تُشعَلُ
أقمَتُهمُ للناس يُبرَأُ منهمُ
…
ووَجْهُ الهُدى من خِزْيِهمْ يَتهلَّلُ
وأوعَزْتَ في الأقطارِ بالبحثِ عنهمُ
…
وعن كُتْبِهمْ، والسَّعيُ في ذاك أجملُ
وقد كان للسّيفِ اشتياقٌ إليهمُ
…
ولكنْ مقامُ الخِزي للنفْسِ أقتلُ
وآثرْتَ دَرْءَ الحدِّ عنهمْ بشُبْهةٍ
…
لظاهرِ إسلام، وحُكمُكَ أَعدلُ