الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولي بصريحِ الحُبِّ فيه وسيلةٌ
…
بها جانبي مما أَخافُ منيعُ
وحُبِّ ضجيعَيْه بتُربةِ طَيبةٍ
…
فلله مدفونٌ بها وضجيعُ
فيا ربِّ سوِّغْني رضاكَ بحبِّهمْ
…
فأنت مُجيبٌ للدعاءِ سميعُ
وقولُه، وحضَرَتْه الوفاة، وآنسَه بعضُ أصحابِه بترَجِّي الشّفاءِ من مرَضِه وإطالةِ عُمُرِه [مخلع البسيط]:
أيرتجي الخُلْدَ مَنْ عليهِ
…
دلائلٌ للرَّدى جَليّهْ
أوّلُه مُخبِرٌ بثانٍ
…
ذاك مَنِيّ وذي مَنِيّهْ؟!
وقد قال في هذا المعنى الباخَرْزِيّ [الوافر]:
أرى أَولادَ آدمَ أطَرتْهم
…
حُظوظُهمُ من الدُّنيا الدَّنِيّهْ
فلِمْ بَطِروا وأوّلُهمْ مَنِيٌّ
…
إذا نُسِبوا وآخِرُهم مَنيَّهْ؟!
توفِّي الأستاذُ أبو بكر بنُ مَيْمونِ، عفَا اللهُ عنه، على خير عمل بمَرّاكُشَ يومَ الثلاثاءِ لاثنتَيْ عشْرةَ ليلةَ بقِيت من جُمادى الآخِرة سنةَ سبع وستينَ وخمس مئة، ودُفن بمقبُرة باب تاغزوتَ داخلَ مَرّاكُشَ وقد قارَبَ السّبعينَ أو بَلَغَها.
837 - محمدُ بن عبد الله بن هارونَ بن عُمر
.
له إجازةٌ من أبي العبّاس العُذْريّ.
838 - محمدُ بن عبد الله بن هارون
.
رَوى عن أبي مَرْوانَ عبدِ العزيز الباجِيِّ.
839 - محمدُ بن عبد الله بن يَبْقَى بن عِصام
.
رَوى عن أبي عليّ بن سُكّرة.
840 -
محمدُ (1) بن عبد الله بن يحيى بن فَرْح بن الجَدِّ الفِهْريٌّ، إشبيليٌّ لَبْليُّ أصلِ السَّلَف، أبو بكر، ابنُ الجَدّ، بجيم مفتوح وقال، وفَرْحٌ في نَسَبِه: بفاءٍ مفتوح وراءٍ ساكن وحاءٍ غُفْل.
أخَذَ العربيّةَ والآدابَ واللُّغاتِ عن أبي الحَسَن بن الأخضَر، وسَمع الحديثَ على أبوَي القاسم: ابن منظور الهَوْزَنيِّ وأبي محمد بن عَتّاب، ولقِيَ أبا بحرٍ وشُرَيْحَا، ومالكَ بن وُهِيْبٍ واختَصَّ به، وأبوي الوليد: ابن رُشْد -وناوَلَه من مصنَّفاتِه: "البيانَ والتحصيل في شَرْح العُتْبِيّة" و"المقدِّماتِ على مسائل المُدوَّنة"- وابنَ طَرِيف، وأجازوا له. وجالَسَ أبا بكرٍ ابن العَرَبيّ، وأبا القاسم الزَّنْجانيَّ، وأبا مَرْوانَ الباجِيَّ.
رَوى عنه أبو إسحاقَ بن عبد الله بن قَسُّوم، وآباءُ بكر: ابنُ أحمدَ بن كَبير وابنُ طلحةَ وابنُ أبي العبّاس بن خَليل وابنُ قَنْتَرال، وأبو جعفرٍ ابنُ السَّرّاج، وأَبو الحَسَن بن قُطْرال، وأبَوا الحَسَن: ابنُ عَظِيمةَ وهَمّامُ بن إبراهيم، وأبو الخَطّاب عُمرُ بن الجُمَيِّل، وأبو ذَرّ بن أبي رُكَب، وأبو الرَّبيع بن سالم، وأبو زَيْد بن خليل، وأبو سُليمانَ بن حَوْطِ الله، وأبو عبد الله بن خَلْفُون، وأبَوا العبّاس: ابنُ خَليل وابن الرُّوميّة، وأبو عليٍّ ابن الشَّلَوْبِين، وأبو عَمْرو بن غَيّاث، وآباءُ القاسم: ابنُ عبد الرّحيم بن إبراهيمَ ابن الفَرَس وابنُ المَلْجوم وابن يحيى بن حَكَم، وآباءُ محمد: ابن جُمهُور وابنُ حَوْطِ الله وابنُ القُرطُبيِّ وعبدُ الحقِّ بن إبراهيم، وأبو مَرْوانَ الباجِيُّ الخَطيبُ الحاجُّ وعبدُ الرّحمن بن يحيى بن عبد الرّحمن ابن حَكَم، وغيرُهم لا يُحصَوْنَ كثْرةً، وقد جَرَى ذكْرُ أكثرِهم في هذا الكتاب.
(1) ترجمه المنذري في التكملة 1/الترجمة 123، وابن الأبار في التكملة (1495)، وابن سعيد في المغرب 1/ 343، والذهبي في المستملح (173) وتاريخ الإسلام 12/ 822 وسير أعلام النبلاء 21/ 77 أو العبر 4/ 258، والصفدي في الوافي 3/ 335، واليافعي في مرآة الجنان 3/ 432، وابن فرحون في الديباج 2/ 245، وابن تغري بردي في النجوم 6/ 112، وابن العماد في الشذرات 4/ 286، والمراكشي في الأعلام 4/ 21.
وكان فقيهًا حافظًا، نَحْويًّا بارعًا، خَطيبًا مُفوَّهًا بليغًا، وكان أوّلَ طلبِه مائلًا إلى العربية راغبًا في الاقتصارِ عليها والتدريس لها، ولمّا رأى شيخُه أبو عبد الله مالكُ ابن وُهَيْب نفوذَه وإدراكَه وتحقّقَه بالنَّحو رَغَّبَهُ في الإكباب على العلوم الشَّرعية، وكذلك حَرَّضَه عليها أبو الوليد ابنُ رُشْد، فأقبَلَ على دَرْس فروع المذهبِ المالكيِّ، واشتَدَّت عنايتُه به حتى اتَّسعَ حِفظُه، وتُحُدِّثَ عنه بأشياءَ غريبةٍ في ذلك.
وقال فيه أبو القاسم ابنُ المَلْجوم -وقد ذكَرَه في شيوخه-: حافظُ أهل المغربِ غيرَ مُدافَع، بحرٌ يَغرِفُ من محيط. وكان الحاجُّ أبو بكر بنُ عليّ يقول: هو أحفَظُ منَ ابن القاسم صاحبِ مالك؛ وقال أبو محمد طلحةُ: سألتُ أبي عنه فقال: هو البَحْر.
وقُدِّم للشُّورى والفُتْيا معَ أبي بكرٍ ابن العَرَبيّ ونُظَرائه بإشبيلِيَةَ، وأبو القاسم بن وَرْد قاضٍ بها، سنةَ إحدى وعشرينَ وخمس مئة. ولم يُعْنَ بالتأليف على استبحارِ حِفظِه واضطلاعِه بالتحقُّق، والإشرافِ على الرَّقائق والخِلاف، ما خلا كتابًا مختصَرًا في الزّكاة أملاهُ في صِغَرِه (1).
ويُذكَرُ من حفظِهِ: أنه ما طالعَ شيئًا فما إلا حَفِظَه، ولا حَفِظَ شيئًا فنَسِيَه، وقال أبو الحُسَين بن زَرْقُون: ذكَرْتُ يومًا بمحضَرِه مسألةً من الفقه فقال لي: أين رأيتَها؟ فقلت: في كتاب "عُيون الأدلّة" لإبن القَصّار، تنقيح أبي محمدٍ عبد الوهّاب، فقال: ما رأيتُه قَطُّ، سُقْهُ إليّ حتى أراه، فحمَلتُه إليه ومَكَثَ عندَه ليلةً أو ليلتَيْن، ثم صَرَفَه إليّ، وبقِيَ بقيّةَ عُمرِه إذا أورَدَ المسائلَ وذكَرَ الأقوالَ ونَسَبَها على عادتِه يرُدُّ رأسَه إليّ متى حضَرتُ، ويقول لي: وقال صاحبُ كتابِك، هكذا في كلِّ الأحيان ما أُنسِي شيئًا منهُ بعدُ.
وكان معَ اتّساع حِفظِه للفروع، وحضورِ ذكْرِه لها، واقتدارِه على جميع مُفترِقاتِ الأقوالِ في المسائل، وبَصَرِه بالفَتْوى في مُعضِلاتِ النّوازل، ذاكرًا للآدابِ
(1) توجد منه نسخة خطية بالخزانة العامة بالرباط.
واللُّغاتِ والأنساب، تأريخيًّا حاضرَ الذِّكْر معَ الكَبْرة، متوقِّدَ الخاطِر سديدَ النظَر حارَّ التندير، عارفًا بأخبارِ أهل الأندَلُسِ عمومًا وبأخبارِ أهل بلدِه خصوصًا؛ وشاهَدَ عجائبَ من حوادثِ الدّولة اللَّمْتُونيّة وأحوالِها، فكان يَأثُرُها ويُجيدُ مَساقَها، وكان خَطيبًا عند ملوكِ عصرِه من اللَّمْتُونيِّينَ والمُؤْمنيِّين، وإن كان قد نالَتْه مِحنةٌ في كائنةِ لَبْلة، فقيِّد وسُجن ثم سُرِّح، وعرَفَه أبو يعقوبَ بنُ عبد المُؤْمن أيامَ إمارتِه بإشبيلِيَةَ، فكان يَبَرُّه ويُكرمُه وَيعرِفُ حقَّه ويؤْثرُه على غيره من طلبةِ مجلسِهِ، ثم استدعاهُ إلى مَرّاكُشَ لمّا صار الأمرُ إليه، فحَظِيَ عندَه وعَظُمَ جاهُه وأثْرى واتّسعت أحوالُه، وكان يُصغي إلى حديثِه ويَستحسنُ كلامَه وَيستطرفُ ما يأتي به في جميع ما يَشفَعُ فيه من أمورِ أهل بلدِه وسواهم، واستمرَّت كذلك حالُه عندَه في ترقِّي الرُّتبة ونَماءِ الحُظْوة إلى أن توفِّي أبو يعقوبَ وخَلَفَه ابنُه المنصُور، فزادت حُظْوتُه لديه وإحسانُه إليه وإجلالُه إياه.
وهَمَّ المنصورُ وهُو بإشبيلِيَةَ بانتزاع الأملاكِ التي بأيدي أهلِها بإقطاع أبيه وجَدِّه إيّاها لهم، وتقَدَّم إليهم في إحضارِ الصُّكوك التي تَسوَّغُوها بها، فاشتَدَّ قلقُهم لذلك، واستَشْعَروا خَلَلَ أحوالِهم؛ إذْ كانوا كلُّهم أو أكثرُهم قد عُنيَ بما صار إليه منها، فشَيَّدوا المبانيَ وأحكموا الغِراسات، ومنهم من صارت لهُ إرثًا عن بعض سَلَفِه، فقَصَدوا الحافظَ أبا بكرٍ ابنَ الجَدّ ورَغِبوا منه النظَر في دَفْع هذه النازِلة عنهم، فأشار عليهم بإحضارِ مَناشيرِهم بذلك، وجَمْعِها عندَه، والتفويضِ إليه في أمرِها، فبعضُهم وثقَ برأيِه وعمِل على إشارته، وبعضُهم توقَّف ولم يثقْ بباطن الحافظ، ثم أجمَعوا على التّسليم إليه فيما رآه، ودَفَعوا إليه صُكوكَهم -وكانت كثيرةً- فحَمَلَها من الغدِ إلى مجلس المنصُور للنّظَر في ذلك، فاستَدعى المنصُورُ تلك المكتوباتِ يتصفَّحُها أو تُتصفَّحُ بين يدَيْه، فوَضَعَها الحافظُ أمامَه، ثم قال المنصورُ مُستفهِمًا ابنَ الجَدّ والحاضِرينَ من أهل العلم: هل يجوزُ للإمام نَقْضُ حُكم مَن تقَدَّمَه من الأئمّة؟ فتوقَّف الفقهاءُ عنِ الجواب قليلاً، فأشار على الحافظ بالإجابة، فقال له: ذلك جائزٌ
للإمام إذا سجَّل على نفسِه بتجويرِ من تقَدَّمه فيما فَعَلَه، فكفَّ المنصورُ عن النَّظرِ في ذلك، وأمَرَ بصَرْفِ تلك الظّهائرِ إلى أربابِها، وتمكينِهم من أملاكِهم، فدَفَعَ الحافظُ إلى كلِّ واحدٍ منهم ما كان هو قد دَفَعَ إليه منها.
ولمّا أخرَجَ المنصورُ -سنةَ إحدى وثمانينَ وخمس مئة- دينارَهُ الكبيرَ المنسُوبَ إليه، البخاري عليه اسمُ "اليعقوبيِّ" إلى الآنَ، وحضَرَ الحافظُ عندَه بعضَ مجالسِه بقصرِ مَرّاكُش، فلمّا انصَرفَ أتْبَعَه بعضَ فِتيانِه بقِرطاسٍ فيه مئتا دينارٍ منها، وقال للفتى: قل للحافظ: هذا من البركةِ التي خرَجَت في هذا الوقت، وقد أرَدْنا أن تكونَ أولَ موصُول بشيءٍ منها، فلمّا صارَ القِرطاسُ بيدِه أخَذَ طَرَفَ إحرامِه الذي كان عليه، وأفرَغَ القِرطاسَ فيه وصَرَفَه على الفتى وقال له: اردُدْه على سيِّدِنا وقيل لهُ: إنّ فلانًا -يعني نفْسَه- مبالِغٌ في شُكرِ إحسانِكم، وقد صَرَفَ هذا القِرطاسَ لِما اشتُهِر عند الناس وعلى ألسنةِ العامّةِ والخاصّة من قولِهم:"إمساكُ الظُّروف يقطع المعروف"(1)، فلمّا أنْهَى الفتى القِرطاسَ ومقالةَ الحافظ إلى المنصور تَبسَّم، واستَطْرَفَ ما صَدَرَ عنهُ في ذلك، وملأَ القِرطاسَ بمئتَيْ دينارٍ أُخْريَيْنِ، وأمَرَ الفتى أن يَلحقَه بالقِرطاسِ ويقولَ له: أمسِكْهُ، ولا يَليقُ بنا أن نَقطعَ معروفَنا عنك؛ وقد كان الحافظُ تباطَأَ في مَشْيِهِ ارتقابًا لِما يكونُ من المنصور على أثَرِ إلقاءِ الفتى إليه كلامَ الحافظ، فلَحِقَه الفتى وهُو لم ينفصلْ عن القَصْر، فدَفَعَ إليه القِرْطاسَ الثانيَ، وأبلَغَه مقالةَ المنصُور، فسُرَّ بها وشَكَرَ عليها وأخَذَ القِرطاسَ منه انصَرفَ. ولم يزَلْ جَليلَ المكانةِ عند المنصُور، كبيرَ القَدْر مسموعَ القول مقبولَ الشَّفاعة، إلى أن توفِّي بإشبيلِيَةَ ليلةَ الخميس رابعةَ عشْرةَ شوّالِ ستٍّ وثمانينَ وخمس مئة، ومولدُه بلَبْلةَ في ربيعٍ الأوّل سنةَ ستٍّ وتسعينَ وأربع مئة.
(1) ينظر هذا المثل في كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أمثال العوام في الأندلس 2/ 172، وأورده الزجالي بلفظ: حبس الظروف يقطع المعروف.