الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - اسْتِقْلَالُ السُنَّةِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ:
إنَّ من وسائل إضعاف السُنَّة النبوية القول إنها مُفسِّرة للقرآن الكريم، ولا تستقل بالتشريع، وإنها كالمذكرة التفسيرية للقانون. وحتى تتَّضِحَ خطورة هذه الدعاوى نُبيِّنُ وضع السُنَّة النبوية:
1 -
فالسُنَّة قد تأتي تأكيداً لما جاء في القرآن الكريم وتُسَمَّى السُنَّة المؤكدة، من ذلك ما رواه البخاري بسنده عن النبي قال:«اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» فقد جاء ذلك مؤكداً لقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
2 -
والسُنَّة قد تكون مُبيِّنةً، وهي التي جاءت بأحكام مفصَّلة تُبَيِّنُ ما جاء في القرآن مُجملاً، فقد أمر الله في القرآن بالصلاة والصوم والزكاة والحج دون أنْ يفصل الأحكام العلمية، كما ورد مثل ذلك في المعاملات والحدود، فجاءت السُنَّة النبوية وبيَّنت الصلوات المفروضة وأوقاتها وأركانها كما فعلت ذلك في سائر الأحكام المجملة.
3 -
والسُنَّة قد توجب حُكماً جديداً سكت عنه القرآن الكريم مثل عقوبة الزاني المُحصن، فقد ورد في القرآن عقوبة الجلد مائة وأضافت السُنَّة الرجم لمن كان مُتزوِّجاً (1). وبالرجوع إلى مناهج الفقهاء نجد اختلافاً لا يعدو
(1) ورد حُكم الزنا على التدريج إذ قال الله {وَاللَاّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ =
أن يكون خلافًا في الاصطلاحات، فبعضهم كابن القيم في كتاب " الطرق الحكمية " يسمي النوع الأول السُنَّة الموافقة، بينما يسمِّي النوع الثاني بالسُنَّة المُفَسِّرَة، ونجد الخلاف يزداد في النوع الثالث فقد يراه بعضهم أنها سُنَّة زائدة عما في الكتاب، وَيُُسَمِّيهَا آخرون باِلسُنَّةِ المُوجِبَةِ، ولكن تختلف الأسماء بينما المُسَمَّى لا يختلف حكمه.
فالإمام الشافعي يقول (1): «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ مَعَ كِتَابِ اللهِ، وَسَنَّ فِيمَا لَيْسَ فِيه بِعَيْنِهِ نَصُّ كِتَابٍ وَكُلُّ مَا سُنَّ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اللهُ بِاِتِّبَاعِهِ» .
بينما نراه يصف هذه السُنَّة الجديدة وصفاً ينفي عنها أنها تنسخ القرآن، «أَنَّ السُنَّةََ لَا نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هِي [تَبَعٌ] لِلْكِتَابِ، بِمِثْلِ مَا نَزَلُ نَصًّا، وَمُفَسِّرَةٌ مَعْنًى مَا أَنْزَلَ اللهِ مِنْهُ جُمَلاً» .
ولكن مع وصفه السُنَّة بأنها لا ناسخة للقرآن يوجب الأخذ بحديث: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» الذي يراه غيره بأنه ناسخ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ
…
} [البقرة: 180].
يقول الإمام الشافعي: «وَجَدْنَا أَهْلَ الفُتْيَا وَمَنْ حَفِظْنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالمَغَازِي مِنْ قُرَيْشِ وَغَيْرَهَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَامَ الفَتْحِ: " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "» (2).
= حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [سورة النساء، الآية 15]، ثم ورد قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [سورة النور، الآية: 2]، ثم روى أحمد ومسلم وابن ماجه عن النبي قوله:«خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» .
(1)
و (2)" الرسالة " ص 98 وما بعدها
لهذا روى البيضاوي في " المنهاج " أنَّ للشافعي قولين في هذا قول يمنع نسخ القرآن بالسُنَّة مطلقاً وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد وعن أكثر الظاهرية عدا ابن حزم (1).
والقول الآخر للشافعي هو جواز النسخ وقد استنكر بعضهم ذلك عليه، ولكن الخلاف ليس في الحكم العملي، الوارد في الحديث النبوي «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، بل الخلاف بين الفقهاء والأصوليين هو في وصف هذا الحديث هل هو مخصص لحكم القرآن {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] أم هو ناسخ لهذه الآية والنتيجة العملية واحدة.
فالأحناف ومن معهم يرون أنَّ الحديث ناسخ للآية لأنه دليل منفصل عنها، وهو حديث مشهور ومتواتر في المعنى. فيصلح للنسخ عندهم. وغيرهم يرى أنَّ الحديث مُخصِّصٌ للآية.
والخلاف كما هو ظاهر لا أثر له على الحكم كما أنه خلاف في الاصطلاح فالنسخ والتخصص متشابهان «لأَنَّ النُّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الأَزْمَانِ وَالتَّخْصِيصُ تَخْصِيصُ الأَعْيَانِ، وَالمَعْنَى الذِي مِنْ أَجْلِهِ صَارَ النُّسْخُ يُصَارُ إِلَى التَّخْصِيصِ أَلَا وَهُوَ أَوَْلَوِيَّتُهُ عَلَى إِلْغَاءِ الحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَالإِتْيَانِ بُحْكُمٍْ جَدِيدٍ» (2).
والجدير بالذكر أنَّ النوع الأول والثاني من السُنَّة هما موضوع اتفاق الفقهاء، أما النوع الثالث فهو محل خلاف نظري.
فالسُنَّة التي أتت بحكم جديد، منهم من قال إنها لا تستقل بإثبات هذا الحكم وإنما تستند إلى نص عام في القرآن، تفرَّعت عنه، أو استقت منه
(1)" الإحكام ":جـ 4 ص 477، و" المُحلَّى ":جـ 1 ص 19 نقلاً عن " مناهج الاجتهاد ": ص 226.
(2)
" المحصول " للرازي: ص 561 نقلاً عن " مذكرات " الدكتور بدران أبو العينين بدران.
وبنيت عليه. ومنهم من قال إنَّ السُنَّة تستقل بتشريع الأحكام فتحريم غير الأمهات وحرمة الجمع بين البنت وعمَّتها والبنت وخالتها، وحرمة لحم الحُمُر الأهلية وكل ذي مخلب من الطير أو ناب من السباع. وغير ذلك من الأحكام التي لم ترد في القرآن إنما استقلَّت بها السُنَّة، لأنَّ الله تعالى أوجب طاعة الرسول، استقلالاً في قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
ووجه الاستدلال بالنص أنَّ طاعة الرسول جاءت استقلالاً، أما طاعة أولي الأمر فجاءت في حدود ونطاق طاعة الله ورسوله لأنها عطفت عليهما.
ولقد زعم بعض تلاميذ المستشرقين ممن انتسبوا إلى العلم بأنه يلزم عرض السُنَّة على القرآن، فإنْ أتَتْ بحكم ليس فيه فلا نأخذ به، وقد تبنى ذلك الشيخ أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية ".
ولكن الخلاف الواقع بين الفقهاء لا ينبغي أنْ يكون سندًا لهؤلاء المُغرضين، لأنه خلاف في المصطلحات والمناهج فحسب، فقد يراها البعض أمراً زائداً على ما جاء به الكتاب، بينما يراها آخرون مجرد بيان، ويراها البعض تأكيداً لما جاء به النص القرآني لا أكثر من ذلك، ويرجع هذا إلى مداخل وجوه البيان الناتجة عن دقة ملاحظة الفوارق بينها.
فالخلاف الواقع في صدر الأمَّة في هذا الشأن نظري. ولهذا فالنتيجة العملية أنَّ السُنَّة الزائدة عما ورد في القرآن، حُجَّةٌ يجب العمل بها وإنْ اختلفوا في وصف هذه السُنَّة، وفي هذا قال ابن القيم: «السُنَّة مع القرآن على ثلاثة أوجه إحداها أنْ تكون موافقة له من وجه، والثاني أنْ تكون بياناً لما ورد بالقرآن وتفسيراً له، والثالث أنْ تكون موجبة لحكم سكت القرآن
عنه أو بحرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام، فما كان فيها زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ يجب طاعته فيه ولا تحل معصيته» (1).
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرِّقُوا بين سُنَّة ورد فيها نص من القرآن وسُنَّة الحكم فيها يعتمد على الحديث وحده، لأنَّ الله تعالى قد قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وفي هذا قال ابن حزم: «لَوْ أَنَّ امْرِءًا قَالَ: لَا نَأْخُذُ إِلَاّ بِمَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافَرًا بِإِجْمَاعِ [الأُمَّةِ]» (2).
لقد انتهى عصر جمع السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وعصر تمحيصها وأصبح من اليسير معرفة وضع الحديث النبوي ودرجته من الصحة أو الضعف أو الوضع والبطلان، فلا يجوز والحالة هذه أنْ يضعِّف أحد من السُنَّة النبوية بالإقلال من منزلة أحاديث الآحاد، والتركيز على أنها ظنية الثبوت، لأنَّ هذا المصطلح كان لأسباب خاصة في تحديد من يجوز أنْ يتهم بالكفر في مجال رد الحديث النبوي.
وقد أجمعت الأمَّة على مر العصور، على أنَّ السُنَّة حُجَّة ويجب العمل بها كالقرآن الكريم، لا فرق في ذلك بين المتواتر منها والآحاد.
ولا يختلف مسلم مخلص اليوم على أنَّ من وسائل إضعاف الإسلام في نفوس المسلمين هو إبعاد السُنَّة كلها أو بعضها، وهذا يتحقق باستبعاد سُنَّة
(1)" إعلام الموقعين " لابن القيم: جـ 2 ص 228.
(2)
" الإحكام في أصول الأحكام ": جـ 1 ص 109.
الآحاد في الأمور الدستورية أو التشريعية أو الاقتصادية، وهذا ما قد ظهر في عصرنا استناداً إلى أنَّ هذه السُنَّة ظنية الثبوت، فهل يدرك من يتمسَّكون بهذا الاصطلاح الذي لا مبرِّرَ له في عصرنا إلَاّ أنْ يكون سنداً لأعداء هذه السُنَّة وهذا الدين أو لأصحاب الأهواء.
العقل العربي والتدوين:
لقد نشرت دار الطليعة بلبنان كتاب " تكوين العقل العربي " للدكتور محمد عابد الجابري، ادَّعى فيه أنَّ العقل العربي أخذ تصوراته عن الإنسان والكون والمجتمع من عصر التدوين الذي بدأ عام ثلاثة وأربعين ومائة للهجرة لأنَّ تدوين السُنَّة والفقه لا يخلو من وجود رأي للذي قام بالتدوين فلا بد أنه قام بحذف وتقديم وتأخير في المرويات مما يعد إعادة تشكيل الموروث الثقافي (ص 64)، وادَّعى أنَّ الرأي في التدوين يتضح من تعمُّد أهل السُنَّة السكوت عن التدوين عند الشيعة وكذلك سكوت مراجع الشيعة عن التدوين عند أهل السُنَّة (ص 96).
وهذا الكاتب قد تعمَّد تضليل المُثقفين الذين كتب لهم هذه المقدمات الكاذبة ليخول لنفسه حق تصحيح ما زعم أنه تناقضات في تكوين العقل العربي، بينما التناقض في عقله هو فيما يلي:
1 -
أنَّ تصورات العرب عن الإنسان والكون لم تؤخذ من عصر التدوين سالف الذكر بل مصدرها القرآن الكريم وهذا ما سجله الدكتور موريس بوكاي في كتابه " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " والمبين في الفصل الأخير.
2 -
أنَّ التدوين الرسمي العام بدأ سنة 99 هـ عندما تولى عمر بن عبد العزير الخلافة ومن قبله ومنذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك تدوين للأفراد وكل ذلك قبل بدء تدوين مذهب الشيعة وكتبهم ومُدوَّناتهم فقد بدأت بكتاب " الكافي " للكُليني والمتوفَّى سنة 329 هـ، فلا يقال إنَّ أهل السُنَّة عند التدوين أغفلوا مرويات الشيعة فلم يكن لهؤلاء وجود مرويات عند بدء التدوين.
3 -
إنه لم يكن للرأي دور في التدوين فقد نقل الراوي كل ما سمعه من السُنَّة أو أقوال الصحابة، والرأي ينحصر في شروط الراوي الممثلة في العدالة والضبط، ولا يمس النص في شيء ولكن المؤلف زعم أنهم أهملوا الرأي في المرويات بالحذف والإضافة فهذا لم يقل به أحد حتى المستشرقين حيث قرَّرُوا الواقع وهو لا يعني حذف شيء أو إضافته والمراجع تكذب المؤلف.