الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
26 - مَدَى الشَكِّ فِي ثُبُوتِ السُنَّةِ وَسَبَبِ التَّفْرِقَةِ بَيِْنَهَا:
نظرًا لأن السُنَّةَ النَّبَوِيَّةَ ولا سيما الأحاديث القولية لم تدون كلها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن روايتها تعتمد على فقه الراوي وحفظه، فقد كان الصحابة يتحرون الدقة في رواية الأحاديث النبوية وقد تمثلت هذه الدقة في أمرين:
الأول - كان بعض الصحابة يتوقفون في قبول روايات مَنْ هُمْ محل شك في قدرتهم على الحفظ والنقل ويعرضون هذه الرواية على ما ورد في القرآن الكريم وفي السُنَّةِ النَّبَوِيَّةَ المنقولة عن الثقات في الحفظ والروية ومن الأمثلة على ذلك:
1 -
ما روته فاطمة بنت قيس من أن زوجها طلقها ثلاثًا وأن رسول الله لم يقض لها بالنفقة والسكن (1)، فقد أورد ذلك النسائي ولكن هذه الشهادة لم يطمئن إليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وَرَدَّهَا مُعَلِّلاً الرَدَّ بقوله:«لَا نَدَعُ كِتَاب رَبِّنَا وَسُنَّة نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ» . جاء هذا في " صحيح مسلم "، كما قالت عائشة:«يَا فَاطِمَةُ أَلَا تَتَّقِينَ اللهَ» (2)، فالرد للمرأة وليس لحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) رواه النسائي وصححه بعضهم، " السراج المنير " للمقريزي: ج 3 ص 379.
(2)
رواه البخاري: 9/ 477.
2 -
أيضًا ما رواه أبو داود عن معقل بن يسار (*) من أن النبي قضى في المرأة التي مات عنها زوجها قبل الدخول وقبل أن يسمي المهر بأن لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط.
ولكن الإمام علي رضي الله عنه لم يطمئن إلى هذا الراوي لوجود ما يعارض روايته وهو قول الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، ففهم الإمام من الآية أن من طلقها زوجها قبل التدخول وقبل أن يجعل لها مهرًا لا تستحق صداقًا لرفع الله الجناح عن الزوج ومثلها من مات عنها زوجها قبل الدخول وتحديد المهر ولقد فهم الصحابي عبد الله بن مسعود غير ذلك وعنه أخذ بعض الفقهاء ولكن الخلاف لم يكن حول قبول الحديث بل حول ثبوته.
الأمر الثاني - الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض نَصًّا في القرآن أو حُكْمًا ثابتًا للنبي صلى الله عليه وسلم فالدقة والأمانة جعلت بعض الصحابة يستوثق من صدق الراوي أو من حفظه خصوصًا إذا كان الحكم جديدًا على الصحابي الذي سمع الحديث.
ومن الأمثلة على ذلك:
1 -
أن خليفة رسول الله أبا بكر الصديق رفض أن يعطي الجدة ميراثًا من تركة حفيدها لأنه قال كما جاء في " سنن أبي داود " و " الترمذي ": «مَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى [شَيْءٌ]، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا» ، ولكن لما عارضه المغيرة بن شعبة وقال:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهَا السُّدُسَ» ، احتاط أبو بكر فسأله:«هَلْ مَعَكَ أَحَدُ الشُّهُودِ بِذَلِكَ؟» ، قَالَ:«مَعِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ» ، فلما اطمأن أبو بكر أخذ بهذه السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وقضى بها للجدة.
ومن الأمثلة على الدقة في الرواية:
2 -
الإمام علي قال: «كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ [مِنْهُ]، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ» (1).
3 -
ومن الأمثلة على رد الرواية للشك في حفظ الراوي ما رواه الإمام مسلم أن عائشة رضي الله عنها قد ذكر لها أن عبد الله بن عمر روى حديثًا فيه: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ» ، فقالت عائشة:«يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ» إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ:«إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» (2).
وإن كانت أم المؤمنين رضي الله عنها قد حفظت هذه الرواية ورجحتها بقول الله تعالى: {وَََلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ومن ثم نسبت الخطأ أو النسيان إلى ابن عمر رضي الله عنهما ولكن ثبت أيضًا أن البخاري ومسلمًا رَوَيَا عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ» وفي رواية «بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» (3)، ولا يوجد تناقض بين الروايتين فقد قال ابن جرير الطبري وانتصر له ابن تيمية أنه يعذب بمعنى يتألم ويحزن لبكاء أهله عليه أو نياحتهم، وفسرها آخرون بمعنى يعاقب (وهذا يكون إذا صدرت منه وصية بذلك، وقد أخرج البخاري حديثًا آخر عن عائشة رضي الله عنها ونصه: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ» (4).
(1)" مناهج الاجتهاد في الإسلام " للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور: ص 552، قد نقل هذا عن " تذكرة الحفاظ ": جـ 1 ص 9.
(2)
" مختصر صحيح مسلم " للمنذري: جـ 1 ص 126، الحديث 465.
(3)
و (4)" نيل الأوطار " للشوكاني: جـ 4 ص 116، و" اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ": جـ 1 كتاب الجنائز، ص 186.
طَبِيعَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الآحَادِ وَالمُتَوَاتِرِ:
إن هذا التثبت ليس رَدًّا لحديث قد ثبت عن النبي بل هو مراجعة على الراوي، وهذا يشمل كل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينص أحد على التفرقة بين الحديث المتواتر وحديث الآحاد، لأن الاصطلاح لم يظهر في عصر الصحابة حتى يقال إنهم كانوا يتقبلون الأحاديث المتواترة ويردون أحاديث الآحاد أو يضيقون نطاقها، بل كانوا جميعًا يقبلون الحديث النبوي متى اطمأنوا إلى الرواية على النحو الذي سبق ذكره، وظل هذا خلال عصر التابعين بل والعصر الذي يليه (1).
وفي هذا قال ابن حزم: «إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا» (2) وقال أيضًا: «القرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض وهما شيء واحد في أنهما من عند الله - ومن جاء بعده خبر عن رسول الله يقر أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صح مثل ذلك الخبر في مكان آخر، ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أو لقول فلان أو فلان، فقد خالف أمر الله ورسوله» (3).
لقد جاءت عصور فيها وضع العلماء مصطلحات ظنها المتأخرون قواعد شرعية، وهي ليست من القرآن ولا من السنة ولا من آثار الصحابة رضي الله عنهم، ولكن كان الغرض من هذا المصطلح هو التفرقة في الحكم بالكفر
(1)" وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة " للشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
(2)
و (3)" الإحكام في أصول الأحكام ": جـ 1 ص 88، 97، 124.