الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
30 - اِسْتِحَالَةُ العَمَلِ بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ:
إن الذين قالوا إن أحاديث الآحاد تفيد وجوب العمل بها، ولا تفيد العلم الجازم، لا يريدون بذلك إنكار ما ورد بهذه الأحاديث أو رفض ما جاء بها، فمثلاً قد روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة بعد التشهد وقبل السلام، فيقول:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ» كما أورد الإمام مسلم هذا للدعاء في رواية لأبي هريرة فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ [التَّشَهُّدِ الآخِرِ]، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ» وذكرها.
فهذا الدعاء وغيره من الأفعال الواردة في سُنَّةِ الآحَادِ، يعمل به هؤلاء الذين يقولون إن هذه الأحاديث ظنية الثبوت ومنهم من يتوقف في الإيمان بعذاب القبر والمسيح الدجال، لأنه اعتقاد قلبي والعقيدة عندهم لا تثبت إلا بدليل من القرآن الكريم أو السنة النبوية المتواترة.
أما الذين يقولون بأن أحاديث الآحاد توجب العلم والعمل مَعًا فيرون استحالة القول بوجوب العمل فقط لأن المسلم لا يتعبد بشيء إلا إذا اقترن ذلك بصحة هذا العمل وصدق الدليل الذي جاء به، لأن الله تعالى يقول:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقد نهى تعالى عن القول بشيء لا يؤمن بصحته فقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1).
وفي هذا روى ابن تيمية أن أبا بكر المروذي سأل الإمام أحمد بن حنبل عن إنسان يقول: «إِنَّ الخَبَرَ يُوجِبُ عَمَلاً وَلَا يُوجِبُ عِلْمًا [فَعَابَهُ] وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا [هَذَا]» (2).
فهؤلاء يرون أنه من الصعب جدًا أو من المستحيل أن يكلف الله المسلم بدعاء التشهد وفيه التعوذ بالله من عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال، ثم يعمل المسلم ذلك وهو يعتقد أن الذي يستعيذ بالله منه أمر غير ثابت والعلم بصحته غير واجب شرعًا.
والجدير بالذكر أن الذين يقولون إن أحاديث الآحاد ليست حجة في العقائد، يستدلون على ذلك بأن العقيدة هي الجزم واليقين، وقد نهى الله عن اتباع الظن في العقائد فقال تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
ولكن يلاحظ أن الظن الوارد في هذه الآيات يتعلق بإثبات الألوهية لغير الله تعالى، وهذا يختلف تمامًا عن الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد، فالشرك مع الله تعالى يستند إلى ظن هو الوهم والخيال الكاذب الذي لا يوجد أدنى احتمال على صدقه.
(1)[الأعراف: 33].
(2)
" المسودة "[لآل] تيمية: ص 242.
أما أحاديث الآحاد فلا يقطع أحد بأنها من نوع الظن الكاذب فالغالب هو صحتها والاحتمال الضعيف هو عدم صحتها.
إن الظن قد يطلق على الوهم والكذب كما هو الحال بالنسبة لمعتقدات المشركين، وقد يطلق على اليقين كما في قول الله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخَاشِعِينَ، الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1).
ويطلق الظن كما جاء في معاجم اللغة العربية على إدراك العقل لشيء مع ترجيح ذلك، وهذا الترجيح يتفاوت حتى يصل إلى درجة اليقين.
والظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد هو من هذا النوع، ولا ارتباط بينه وبين النوع الأول من الظن والمشار إليه بالنسبة لمعتقدات المشركين.
إن الأمور التي ترد في أحاديث الآحاد وتوصف بأنها من العقائد، كالجنة والنار وفتنة المسيح الدجال وعذاب القبر، قد جعل بعض الفقهاء التصديق بها غير لازم لأنها أمور عقائدية لا تثبت إلا بالدليل القطعي كالقرآن والسنة المتواترة، بل منهم من قال بكفر من أخذ بهذا الخبر في مجال الاعتقاد لأنه لو جاز قبول خبر الآحاد في الرواية لجاز اتباع مدعي النبوة بلا معجزة (2).
ولكن يجب أن نفرق بين الإيمان بالله وبالرسل وهذا أمر لا يثبت إلا بالأدلة القاطعة، وبين الأوامر الصادرة من الرسول إلى أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه.
(1)[البقرة: 45، 46].
(2)
الإمام عبد الرحيم الأسناوي في كتابه " نهاية [السول] شرح منهاج الأصول في علم الأصول ": جـ 2 ص 239 (" المنهاج " للبيضاوي).