الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمام هذا نود أن يعيد الدكتور عمارة النظر في هذا الاجتهاد حيث أنه لا اجتهاد مع النص.
أ - فالآية التالية قد قطعت بفساد عقيدة أهل الكتاب والتي تجعلهم لا يعدون من المؤمنين بالله واليوم الآخر حيث قال الله تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
ب - فليس صحيحًا أن الآية نزلت في فئة خاصة ليست من صنف أهل الكتاب لأن القرآن صريح في أمره أخذ الجزية من أهل الكتاب بجميع طوائفهم والسبب الذي زعمه الشيخ عمارة لم يرد في أي حديث نبوي بل لم يدعيه أحد من المنافقين والكفار [" تفسير الطبري ": جـ 14 ص 198 و " تفسير البيان " للطوسي: جـ 5 ص 202].
ج - والجزية أخذها المسلمون من أهل الروم ومن غيرهم من أهل الكتاب فليست خاصة بفئة معينة.
49 - بِدْعَةُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ:
عندما كانت البلاد الإسلامية تحت الاحتلال الإنجليزي أو الفرنسي كانت تتردد في بعض الفترات بدعة التوفيق بين الإسلام والمسيحية وقد دعا إلى ذلك قديمًا «ويلفرد بلنت» وإسحاق تيلور الذي التقى بالشيخ محمد عبده، في دمشق سَنَةَ 1883 م وحاول إقناعه بهذه الفكرة هو وصديق له يدعى محمد
باقر، وقد روى الشيخ محمد رشيد رضا هذه القصة في كتابه " تاريخ الأستاذ الإمام " حيث أوضح أن محمد باقر كان مذبذبًا وتردد بين الإسلام والمسيحية وتنصر ثم عاد وأعلن توبته وعودته إلى الإسلام وأخذ يدعو للتوفيق بين الإسلام والمسيحية على أساس ما وجد عند الكنيسة الإنجيلية.
وقد ذكر الدكتور محمد حسين في كتابه " الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " تحت عنوان «دعوات هدامة» أن أحد الفرنسيين زار مصر في أوائل هذا القرن وأخذ يفاوض شيوخ الإسلام لتوحيد الأديان فأهمله الشيخ حسن الطويل ولم يرد عليه.
وفي مجلة " الهلال " عدد مارس سَنَةَ 1939 م (شهر المحرم سَنَةَ 1358 هـ) تحت عنوان «هل يمكن توحيد الإسلام والمسيحية؟» نقل عن القمص سرجيوس أن هذه الدعوة باطلة ولا يمكن تحقيقها. وفي عدد أغسطس من نفس العام كتب الشيخ الفيشاوي من علماء غزة أن التوفيق بين المسيحية والإسلام لا يكون إلا بدخول المسيحيين في الإسلام، فالأناجيل لو فهمت فهمًا صحيحًا لا تعارض الإسلام، وكل مسلم يؤمن بعيسى وسائر الأنبياء وفي الفترة الأخيرة ابتداء من سَنَةِ 1952 تولى بعض الأمريكيين المرتبطين بالصهيونية الدعوة إلى مؤتمرات للتوفيق بين الإسلام والنصرانية ولقد اختاروا أشخاصًا بذواتهم لحضور هذه المؤتمرات.
إِلْغَاءُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:
إن الغرض والهدف من هذا الاجتهاد الذي توصل إليه الدكتور محمد عمارة قد أفصح عنه في قوله: «فإن جمهور المتحدثين باسم الدين وجمهرة الباحثين فيه وعامة المسلمين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية على مجتمعات تضم رعايا غير مسلمين أي أنهم يدعون إلى تطبيق شريعة أمة محمد - عَلَيْهِ الصَلَاةُ
وَالسَّلَامُ - على غير أهلها
…
وهذا طلب يمثل خروجًا عن سنة الله في كونه وقانونه في خلقه» [" تعدد الشرائع الدينية لتعدد أمم الرسالات ": ص 64].
ولقد زعم أن هذا منهج الرسول والخلفاء، وقال:«إن المسلمين الأوائل على عهد الخلافة الراشدة عندما كانوا يفتحون البلاد ويضمونه إلى الدولة فإنهم كانوا يميزون بين قطاعين من التشريعات في تعاملهم مع هؤلاء الرعايا الجدد غير المسلمين» . «فبعد الفتح تدخل البلاد المفتوحة في إطار الدولة الواحدة التي تخضع جميعها لقوانين متحدة، تنظم أمور الحرب والسلم والأمن والمال
…
الخ. على حين لم يكن الأمر كذلك في مسائل الدين وأيضًا الشريعة، فلقد تركت الحرية للرعايا غير المسلمين في عقائدهم وفي شرائعهم الأمر الذي يشهد أن الشرائع من الدين وأنها متعددة وليست واحدة وأنه لذلك فلا حق لأبناء شريعة في فرض شريعتهم على أبناء الشريعة الأخرى ما داموا جميعًا أصحاب شرائع إلهية أي في إطار الدين الإلهي الواحد، الذين نسميهم أهل الكتاب»: ص 66.
ولقد استشهد الشيخ عمارة ببنود المعاهدات في عهد الخلفاء حيث إن بها (لا يحال بينهم وبين شرائعهم)، (لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وملتهم وشرائعهم، لا يغير شيء من ذلك هو إليهم): ص 67.
ثم «جعل الشيخ المعاملات من الأمور الدنيوية التي لا يحكمها دين ويوحدها الوطن وهو محور ولاء الجميع» : ص 189.
ولا توجد في شرائع أهل الكتاب تنظيم للتشريعات المالية والاجتماعية والجنائية بل ولا المواريث، فليس عندهم من الشرائع سوى نظام الزواج والطلاق وقد ضمن لهم المسلمون عدم المساس به لأنه من عقائدهم ولا إكراه في الدين.
مَوْطِنُ التَّضْلِيلِ:
هو أن الدين الإلهي الواحد قد ابتدعه بعض اليهود والنصارى لتحويل المسلمين عن دينهم ولو كان لدى أصحاب هذه الدعوى أدنى درجة من الصدق لاتبعوا الرسالة الخاتمة وتركوا مزاعمهم أن الله ثالث ثلاثة أو أن عيسى ابن الله أو أن عُزَيْرًا ابن الله أو أن اليهود أبناء الله وشعبه المختار.
كما أن ليس صحيحًا ما زعمه بأن الإنجيل تضمن شريعة في فقه المعاملات وكان يرجع إليها النصارى، فالإنجيل جاء خاليًا من أي تشريع في أمور الدنيا، ولهذا يتبع النصارى في كل دولة تشريع هذه الدولة عن طاعة وقناعة بل ذهب إلى السعودية في العام الماضي وفد من فرنسا على رأسه وزير العدل وصرح بأنهم يرغبون في أخذ نظام المعاملات والمواريث في الشريعة الإسلامية للعمل بها ونصارى مصر يطبقون هذه المواريث حيث لا بديل عنها.
وليس صحيحًا أن المعاملات من الأمور الدنيوية التي يحكمها دين لأنه لا خلاف بين المسلمين وأعدائهم في أن الإسلام تضمن تنظيم الشؤون الدنيوية في مجال المعاملات المالية والتجارية والأمور المدنية.
والثابت في السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أن النبي صلى الله عليه وسلم واجه عَدِيَّ بْنِ حَاتِمٍ وكان من علماء النصارى بحقيقة كفرهم في المعاملات المالية والدنيوية إذ روى عن " الترمذي " أنه عندما دخل على النبي ليعلن إسلامه قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. قَالَ عَدِّيٌّ: «مَا عَبَدْنَاهُمْ» . قَالَ النَّبِيُّ: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ الحَرامَ وَيَحَرِّمُوا عَلَيْكُمْ الحَلالَ فَتَتَّبِعُونَهُمْ؟» ، قَالَ عَدِّيٌّ:«بَلَى» ، قَالَ النَّبِيُّ:«فَتِلْكَ عِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونَ اللهِ» (*).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) الحديث كما ورد في " سنن الترمذي " كالآتي:
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ» ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» .
الترمذي، " السنن "، تحقيق الشيخ أحمد شاكر وآخرون (الشيخ إبراهيم عطوة عوض):(48) كتاب تفسير القرآن (10) باب «ومن سورة التوبة» ، حديث رقم 3095، الطبعة الثانية: 1395 هـ / 1975 م، 5/ 278، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان .....
إن قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. فقد فهم منه أخ عربي أن اليهود والنصارى في عصرنا ليسوا كفارًا، وأعلن ذلك في ندوة الحوار الإسلامي المسيحي بطرابلس (1)، ثم جاء عالم إسلامي وحاول إضفاء الشرعية على هذه النظرية فقال:«إِنَّ النَّصَارَى الذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالقُرْآنِ قَدْ شَهِدَ لَهُمْ القُرْآنُ بِالرِّضْوَانِ وَالمَغْفِرَةَ» (2).
واليهود والنصارى أنفسهم لم يفهموا هذا المعنى من هذه الآية أو غيرها من القرآن بل فهموا أنه قد قطع بكفرهم في ختام هذه الآيات كما أنهم يعلمون أن من أنكر رسولاً فقد كفر ولكن المنافقين مازالوا يحرفون معاني الآيات.
وأما معنى الآية السابقة فقد نقل ابن أبي حاتم بسنده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْتُ مَعَهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ، قال:«يَا سَلْمَانُ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ (3).
فكان إيمان اليهود أن من تمسك بالتوراة وسنة موسى حتى جاء عيسى فآمن به كان ناجيًا، ومن تمسك بالإنجيل وسنة عيسى حتى جاء محمد فآمن به كان ناجيًا، ومن لم يتبع عيسى ومحمدًا كان هالكًا لأن الله يقول:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
إن نصوص القرآن والآية التي يحرف معناها هؤلاء صريحة أن استحقاق الثواب والأمن في الآخرة مرتبط بالإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح وهذا يقتضي عدم الكفر بأي رسول من الرسل، فمن آمن منهم برسالة محمد له الأجر مرتان، ومن كفر بها فهو من أصحاب النار، أما من مات قبل هذه الرسالة فهو من أهل الجنة إن كان عمله صالحًا، وهذا ما تؤكده أسباب النزول.
(1) من كتاب " خطب وأحاديث القائد الدينية ": ص 100، 101.
(2)
من مزاعم الشيخ محمد عمارة في كتابه " الإسلام والوحدة الوطنية ": ص 112.
الحَقِيقَةُ الغَائِبَةُ:
لقد أورد ابن القيم فصلاً في كتابه " هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى "، تضمن من آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من رؤساء اليهود والنصارى فاختاروا الإسلام عن رغبة ولقد كان النجاشي ملك الحبشة أعلم النصارى بدينهم وكان عدي بن حاتم من كبار الرؤساء بل إنه الرئيس المطاع في قومه وكذا كان سلمان الفارسي من أعلم النصارى بدينهم، وقد أسلم هؤلاء كما أسلم غيرهم من اليهود والنصارى ولم يتطرق إلى أحدهم شيئًا مما يقول به بعض أصحاب النظرية الثالثة الذين يعلمون أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي دعوة جميع الرسل قبله، فالمكذب بها مكذب بدعوة الرسل كلهم كما صرح القرآن الكريم بذلك في آخر سورة البقرة، والغريب في أصحاب هذه النظرية أنهم يعلمون أيضًا أن اليهود ينكرون رسالة عيسى أيضًا وينتظرون أصحاب هذه النظرية أنهم يعلمون أيضًا أن اليهود ينكرون رسالة عيسى أيضًا وينتظرون مسيحًا آخر هو المسيح الدجال، والنصارى يؤمنون بمسيح زعموا أنه الله نزل إلى الأرض في صورة ابن وأنه ثالث ثلاثة، وهذا المسيح لا وجود له ولا يقبل به أي عقل سليم.
وأخيرًا فهم لا ينكرون ما رواه مسلم في " صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» .
وهذا كله يؤكد أن أصحاب هذه النظرية قد ردوا صريح السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ زاعمين أن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في العقائد وهو ما تم بيان زيفه وبطلانه، بدليل أنهم قد صرفوا حكم القرآن الكريم في اليهود والنصارى على النحو سالف الذكر.