الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
48 - الوَحْدَةُ الوَطَنِيَّةُ بَيْنَ المَاضِي وَالحَاضِرِ:
لقد ظهر أخيرًا كتاب للشيخ الدكتور محمد عمارة، والكتاب باسم " الإسلام والوحدة الوطنية " الصادر عن دار الهلال في ربيع أول 1399 هـ - فبراير 1979 م، العدد 338. وفيه زعم أن الألوهية والعمل الصالح والحساب والجزاء هي أصول الدين الواحد، أما تعدد الأنبياء والرسل فهذه مناهج ووسائل للتدين لا تمنع دخول أصحاب هذه الديانات الجنة حتى لو ظلوا على شريعتهم بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الفارق بين المسلمين وأهل الديانات السابقة كالفارق بين العاملين بالكتاب والسنة وبين المبتدعين، وزعم أن الفوز بأجر الله وثوابه والنجاة من العذاب الذي تحدث عنه القرآن في وعيده الذي توعد به العصاة - كل ذلك حق وعد به الله سبحانه - لا المسلمين المؤمنين بالشريعة المحمدية فقط وإنما مطلق المؤمنين بالدين الإلهي سواء منهم الذين آمنوا بشريعة محمد أو موسى أو عيسى لقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
ثم قال: ولقد يحسب البعض وتلك قضية هامة أن هؤلاء المبشرين بالنجاة من أتباع الشرائع السماوية هم من عاشوا وماتوا قبل البعثة المحمدية، أما من أدرك هذه البعثة أو جاء بعدها فلن يمنعه الإيمان بالله والآخرة والعمل
الصالح إلا إذا هو آمن بشريعة محمد قد يحسب البعض هذا، ولكننا نجد في القرآن ما يقطع بأن اختلاف الشرائع السماوية حتى بعد البعثة المحمدية لن يحول بين فرائقها وبين النجاة: ص 113، 114.
كان للدكتور عمارة اجتهاد مماثل كالربط بين الحكم الإسلامي والحكومة الدينية في أوروبا ثم غير هذا الاتجاه فانتصر للإسلام ونقد الأدباء الذين تجاوزوا حدود الإسلام وظهر ذلك في كتبه " الإسلام وحقوق الإنسان "، " الصحوة الإسلامية "، " الدين والدولة "، ونرجو أن يعيد النظر في كتابه " الإسلام والوحدة الوطنية ".
اسْتِدْلَالٌ مَعْكُوسٌ:
والاستدلال المعكوس من الشيخ هو قوله: إن هذه الآية {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 84]، ومعناها شريعة عيسى التي جاءتهم وإن الآية تتحدث عن طائفة نصرانية ظلت على نصرانيتها وكانت علاقتهم بالمسلمين من طابع المودة والموالاة لهذا كانوا من أهل المثوبة بالخلود في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار: ص 115. أي على الرغم من عدم إيمانهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيما يلي الأدلة على أن استدلاله في غير محله.
مَوْطِنُ التَّحْرِيفِ:
إن القرآن الكريم والسنة النبوية لا يمكن أن يناقض بعضها بعضًا لأن مصدرها واحد وهو الله تبارك وتعالى الذي قال عن نبيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. وفي هذا روى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا [يَتَدَارَءُونَ]، فَقَالَ:«إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ، فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ» .
إن هذا الاجتهاد أراد أن يخدم أوضاعًا زائلة وأقوامًا لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، فحرف معنى الآية 62 من سورة البقرة والآية المماثلة لها وهي 69 من سورة المائدة، فجعلها تكذب باقي ما ورد في القرآن والسنة النبوية عن اليهود والنصارى.
فهذه الآية تبشر اليهود والنصارى وكل من آمن برسالة سابقة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأن {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
والمعنى الذي أجمع عليه المسلمون هو أن من صدق منهم برسالة محمد وآمن بها وعمل صالحًا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وهذا يؤكده قول الله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
ويؤكد ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].
فهذه الفئات هي نفسها التي قال الله عنها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
وهذا يشمل من آمن برسالة نبيه ومات قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن منهم بالقرآن الكريم وهذه الفئات يفصل الله بينها يوم القيامة.
عَلَامَاتُ التَّحْرِيفِ وَالاِفْتِرَاءِ:
إن المستقرئ للقرآن الكريم من غير المسلمين يتضح له أن الذين يقولون بالدين الموحد الذي يضم الإسلام واليهودية والمسيحية ويسوي بينهم في الجنة بدعوى اتفاقهم على الإيمان بالله تعالى، هؤلاء يحرفون الكلم عن مواضعه ويستدركون على الله ورسوله وعلى الناس جميعًا لأسباب لا تحصى، نذكر منها:
1 -
أن هذه الآية التي استشهد بها الشيخ محمد عمارة ويستشهد بها كل من يريد مجاملة اليهود والنصارى على حساب الله ورسوله والقرآن المنزل من عند الله تعالى وردت مرة أخرى في سورة المائدة برقم 69 مسبوقة بتحذير من الله لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى بأن يكفوا عن تحريف التوراة والإنجيل ويكون ذلك بالعمل بهما وبما أنزل إليهم بعدها وهو القرآن. قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 68، 69].
2 -
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة، الآيتان: 17 و 72].
3 -
الآيات التالية تؤكد كفر هؤلاء بسبب هذه العقيدة لأنهم بها يعبدون غير الله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 76، 77].
4 -
كما بين القرآن بعد ذلك أن الله قد سخط عليهم لموالاتهم المشركين ولعدم إيمانهم بالقرآن والنبي فقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 80، 81].
ثم أعقب ذلك مباشرة بالتفرقة بين اليهود والنصارى مبينًا أن من النصارى قسيسين ورهبانًا لا يستبكرون عن الحق المنزل على خاتم النبيين ويعلنون إيمانهم بما سمعوه من الرسول الذي أسمعهم القرآن (وليس الإنجيل) لهذا قال الله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة: 85، 86].
هذه الآيات 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86 من سورة المائدة هي التي يستشهد بها الدكتور محمد عمارة على إيمان أهل الكتاب وأنهم من أهل الجنة وهذا خطأ واضح.
5 -
من هذا يتضح تجاوز الدكتور عمارة حدود الاجتهاد في آيات القرآن الكريم بما زعم من أن النصارى الذين لا يؤمنون بالقرآن قد شهد القرآن لهم بالرضوان والمغفرة وأنهم أهل الجنة استنادًا إلى قول الله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ} [المائدة: 85]، والآية لم تحكم لهم جميعًا بهذا الثواب بل للذين صدقوا النبي.
كما فسر الدكتور عمارة آيات سورة المائدة السابق ذكرها فزعم أن قول الله: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} [المائدة: 83]، يراد به ما ورد في الإنجيل الموجود بين أيديهم وقت نزول الآيات وهو الإنجيل الوارد به عقيدة التثليث التي قال الله تعالى عنها:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73].
6 -
وهذا يؤدي إلى إغفال ما يبين أن هذا الحق هو القرآن لأنه مسبوق بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]. فالحق الذي عرفوا هو الذي سمعوا وهو ما أنزل الله إلى الرسول وهو القرآن وليس الإنجيل كما زعم الشيخ الوضاع.
وقولهم: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 84] مرتبط بما سمعوه من القرآن، فالإيمان هنا هو الإيمان بالقرآن والنبي وليس الإيمان بالإنجيل المحرف وما به من عقيدة التثليث.
7 -
إن الاجتهاد الذي تجاوز الأصول هو الزعم بأن الثواب لجميع النصارى وهو يعلم أن الله أثابهم على هذا الإيمان جنات خالدين فيها، ولو كان هذا الجزاء هو لإيمانهم بما جاء في كتبهم لكان هذا معارضًا صراحة لسياق هذه الآيات لأن ما جاء قبلها وبعدها يؤكد كفر أصحاب عقيدة التثليث وأن مصيرهم النار، وبالتالي فإن الجزاء الجديد وهو الجنة كان لشيء آخر غير الإيمان بهذه الكتب ألا وهو الإيمان بما سمعوه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو القرآن الكريم والذي فاضت أعينهم دمعًا مما جاء فيه من الحق الذي كانوا يختلفون فيه.
8 -
وأخيرًا وليس آخرًا فإن آيات القرآن الكريم الأخرى تؤكد هذا المعنى ونكتفي منها بقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
والجزية هي ضريبة سنوية تؤخذ من أهل الكتاب الذين يقيمون في الدولة الإسلامية وذلك مقابل عدم تجنيدهم في الجيوش ومقابل الدفاع عنهم.
وهذه ليست ضريبة رأس كتلك التي كانت تفرضها الجيوش على أهل البلاد التي اغتصبت واحتلت لأنها تفرق عنها في السبب سالف الذكر وفي أنها لا تفرض على النساء والشيوخ المسنين والصبيان الصغار كما يعفى منها غير القادرين من الرجال.
تَضْلِيلٌ آخَرَ:
ولكن مع هذا الاجتهاد قد يقدم منه اليهود والنصارى وجهات أخرى، زعم أن الآية التي فرضت الجزية على أهل الكتاب نزلت في طائفة خاصة من اليهود والنصارى ليسوا هم صنف أهل الكتاب أو جنسهم بل خاصة بفئة لا تدين بالتوحيد ولا تؤمن بالله واليوم الآخر، وأهل الكتاب لا تنطبق عليهم هذه الآية، فقد نزلت في أهل الروم في غزوة تبوك والغرض منها حث المسلمين على الرضا بآية منع المشركين من الحج وقد كانوا يجلبون الأموال والمنافع للمسلمين: ص 84.